(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: مواصلة شرح أحاديث باب الاعتصام بالكتاب والسنة
الأربعاء: 25 ذو القعدة 1444هـ
"باب الاعتصام بالكتاب والسنة"
"وكان ﷺ يقول : "من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله تعالى يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [ طه: 123]"
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة .
وكان معاوية بن قرة يقول في قوله تعالى : ( فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) [المائدة:14]، ما أرى الإغراء في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة، والخصومات في الدين.
وكان ﷺ يقول : "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفَراشُ وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فها أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها".
وكان ﷺ يقول : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ".
وكان ﷺ يقول : "ما ضلَّ قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، يعني: إذا أراد الله إضلالهم أعطاهم الجدل بالمعقول .
وكان ﷺ يقول : "كل كلامي لا يَنسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً".
وكان ﷺ يقول : "إن أحاديثي ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن".
وكان ﷺ يقول : "من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كثيراً ما يقول : اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : كثيراً ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ﷺ بقي على حاله الأول، قيل : ولا الصلاة؟ قال : ولا الصلاة أليس صنعتم ما صنعتم فيها؟
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا يؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ﷺ كانوا أفضل هذه الأمة أبرَّها قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه محمد ﷺ، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم رضي الله عنهم أجمعين.
وكان ﷺ يقول : "أصحاب البدع كلاب النار".
وكان ﷺ يقول : "إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة و كلها في النار إلا واحدة"، وفي رواية : "كلها في الجنة إلا واحدة".
كان ﷺ يقول : "آخر الكلام في القدر لشرار أمتي آخر الزمان".
وكان ﷺ يقول : "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ألا ليقم خصماء الله وهم القدرية".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يهدم الإسلام ثلاث زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين .
وكان رضي الله عنه يقول : سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل. وكان رضي الله عنه يقول : إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم، فقالوا : كيف يكون منافقاً عليماً؟ فقال : عالم اللسان جاهل القلب والعمل .
وكان ﷺ يقول : "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسنة رسوله، ثم تعمل بالرأي، فإذا عملوا بالرأي ضلُّوا وأضلوا"
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : سيأتي عليكم زمان تصير الفتنة فيه سنة فإذا تركت يقال قد تركت السنة، فقالوا : متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : إذا كثرت جهالكم، أو قلت علماؤكم، وكثرت خطباؤكم وأمراؤكم وقلت أمناؤكم وتفقه الناس لغير الدين والعمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة .
وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن تعلم التوراة والإنجيل ويقول : آمنوا بكتب الله، والزموا ما أنزل الله على نبيكم محمد ﷺ فإنه هدي جميع الأنبياء صلى الله وسلم عليهم أجمعين."
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3 مرات)
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة والدين، وبيانها على لسان عبده وحبيبه الأمين سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه في كل وقت وحين، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين، وعلى جميع آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين.
ويواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالاعتصام بالكتاب والسنة، رزقنا الله الاعتصام بهما والعمل عليهما إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ويروي لنا حديث "من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب يوم القيامة وذلك أن الله تعالى يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [ طه:123]" وفيه بيان الاتصال بالقرآن وأخذ الهدي منه، قال ربنا (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9] وجاءنا أيضًا في الحديث "من ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله" من ابتغى الهدى في غيره أضله الله والعياذ بالله تبارك وتعالى، فقل إن الهدى هدى الله، (..قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ..) [البقرة:120]، فحقيقة النور والخير والصواب والحق في كتاب الله الذي أنزله على نبيّه المصطفى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. يقول: "من اتبع كتاب الله…" واتباعه مع الإيمان واليقين والتصديق، فهم المعنى والاستسلام الكامل التام، "فمن اتبع هداي" ما أنزله سبحانه وتعالى على أنبيائه، والقرآن أعظم الكتب المنزلة فلا يضلّ في الحياة الدنيا "هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب يوم القيامة" (وَلَا يَشْقَى) مشيرًا إلى: أن الشقاوة الكبرى بخسران يوم القيامة وهلاك يوم القيامة والعذاب يوم القيامة، قال: "ووقاه سوء الحساب يوم القيامة".
وذكّرنا أيضًا بقول "سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه يقول: كونوا للعلم رعاة،" الصواب رعاة ليست دعاة، إذا عندكم دعاة صححوها إلى رُعاة؛ أي: مراعين لحقّه قائمين بواجب حسن فهمه وحسن العمل به، هذه رعاية العلم أن تأخذه عن أهله بسنده، وأن تُحسن فهمه وتتعمّق في دلالته ومعناه، وأن تحسن تنفيذه وتطبيقه والعمل بمقتضاه، هذه رعاية العلم "كونوا للعلم رعاة.."، تقصدون به وجه ربّكم وتتقّربون به إلى مولاكم وتُحسنون العمل به، "..ولا تكونوا له رواة" تقولوا عندنا وعندنا وعلمنا وروينا وأخذنا، أي: مُبلبلين بألسنتكم، تُظهرون هذا العلم وتدّعون المكانة فيه مع غفلتكم عن حقائق معنَاه والعمل بمقتضاه، فهذا مجرد رواية! "كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة" فراوي العلم كالآنِية والوعَاء للعلم لكن ليس بعالم، ليس بعالم إلا من أوصله علمه إلى خشية الرحمن جل جلاله وقام بحق هذا العلم هو العالم، وتعمق في معناه فبنى على أساسه واستنبط منه؛ هذا هو العالم، ويزداد بعلمه خشية من الله..
فالعلمُ بالأعمال يزكوا بالأحوال
وليس بالأقوالِ وكثرة الجدالِ
العلم خشية كلّه يُعرف بذاك أهله
"وكان معاوية بن قرة يقول في قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة : 14]" والعياذ بالله تعالى جزاء ما خالفوا الأنبياء وحرّفوا في الكتاب، يقول: "ما أرى الإغراء في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة، والخصومات في الدين"، تحبط الدين وتحبط الأعمال والعياذ بالله تبارك وتعالى، "وأبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصِم" فحذّرنا مما وقع بين من قبلنا ممن اؤتمنوا على كتب الله فلم يقوموا بحقها ولم يؤدوا واجبهم نحوها من أهل الكتاب (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة:14] من هذه الخصومات التي يجعل الشيطان لبسة الدعوة والظنّ أنها من النصرة للدين والغضب لدين الله تعالى؛ وهو إنما يتحامل عليه لمخالفته في فهمه وفي رأيه ويظن أنه ينتصر للدين وهو ينتصر لهواه، ويظن أنه يغضب لله وهو يغضب لنفسه فيقع بينهم عداوة وبغضاء والعياذ بالله تبارك وتعالى تقطعهم عن رحمة الله.
ويقول ﷺ: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفَراشُ وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فها أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" هكذا جاء في لفظ البخاري في روايته لهذا الحديث، وهذه الدواب ترى هذه النار فتظنّ أنها كوّة ومنفذ.. فتريد أن تمضي فيه، يعني: تتصوّر الأمر على غير ما هو عليه، وهكذا الناس تميل أنفسهم إلى ما يضرّهم وإلى ما يهلكهم ويظنون فيه لذّتهم أو راحتهم؛ فبذلك يرمون أنفسهم في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، ورسول الله بتنبيهه وتوجيهه وتعليمه ورحمته ورأفته وبكائه ودعائه وبلاغِه آخذٌ بالحُجَز أن لا نقع في النار، والحُجزة: معقد الإزار من الإنسان في وسط الإنسان، ولا أسلمَ عند سقوط الإنسان من له من الأخذ بحُجزته؛ فإنه لو أخذ بيده ربما انكسرت أو انقطعت أو برجله أو برأسه، ولكن إذا أخذ بالحُجزة سَلِم وعاد سالمًا بجميع أجزاء بدنه، فهكذا مثَّلَ حُسن عنايته ﷺ بإصلاح أمته بالذي يأخذ المنهمك أو الساقط أو الهاوي بالنار بحُجزته ليَسلم وليُحسن نجاته ويتلطف في إصلاح حاله.لا إله إلا الله..
فالناس بمختلف أهوائهم وشهواتهم وأفكارهم المنحرفة يرمون أنفسهم في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، وما من منقذٍ إلا إصغاء القلوب واستماعها إلى إرشاد النبي الهادي ﷺ يقول سبحانه وتعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) [آل عمران: 103] ﷺ.
وحذّر من اتخاذ الجدل عادة أو قاعدة أو أن يُتوهم ويُظن أن به يُنصَر الدين، بل أخبرنا أنه إنما يكون ذلك سبب الضلال؛ كإحداث ما ليس من الدين باستحسان الأهواء والآراء وتصديق أهل الفسوق فيما يقولون أو يحكون أو يحلّلون به الأشياء أو ينسبون به الأشياء (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه) [الأنعام: 116]، ولهذا قال لنا "من أحدث في أمرنا هذا…" أي: ديننا، الأمر هو الدين "...ما ليس منه فهو ردّ" ردٌّ عليه؛ لأنه ليس له عاضدٌ ظاهرٌ أو خفي، ملفوظٌ أو مُستنبط من كلام الله وكلام رسوله "فهو رد" مردود على فاعله لبطلانة، ويقول: ما عضدَهُ عاضد، بأن شهد له من أدلة الشرع أو قواعده فليس برد بل مقبول، كما قال في اللفظ الآخر "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" ليس عليه أمرنا، أي: لم يقم على أساسٍ في هذا الدين الذي تبيّن فيه الخبيث من الطيب، وأُحلّ الطيب وحُرِّمٍ الخبيث، وجاءت قواعد الشرع يُبنى عليها، ويستنبط المستنبطون من الشرع ما يبنون به على أسسِ هذا الدين.
وحذّر من تحويل الأمر إلى جدال وهو: الإعتراض على كلام الغير وإرادة رد كلامه وإسكاتِه أو محاجّته، فيتعلّق بهذا الأهواء ويترتب عليها النزاعات والخصومات المُشار إليها بما تقدم من الآية (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة:14] فأُمرنا أن ننتهي عن هذا الجدل، أن نبعد عن الجدل العقيم الذي ليس بالتي هي أحسن فيُراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل وبيان الهدى والسنة؛ وذلك بحسن التوضيح للدليل الصحيح والصريح من دون سبٍّ ولا شتمٍ ولا إثارة نفوسٍ ولا إرادةٍ لغير وجه الله جل جلاله.
يقول: "يعني: إذا أراد الله إضلالهم أعطاهم الجدل بالمعقول"، أي: بحجج ما تنتهي إليه عقولهم ويشتغلون بذلك وينمقّون فيه الكلام، ويبعدون عن الاتباع والاهتمام، ويهيمون في نصرِ أهوائهم مع من هام، ويخرجون عن مسلكِ خيار الأنام.
وكان ﷺ يقول : "كلُّ كلامي لا يَنسخُ كلام الله-جل جلاله وتعالى في علاه-، وكلام الله ينسخُ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً"، وكان ﷺ يقول : "إن أحاديثي ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن" أي: أنه يكون من الحكمة إظهار حكمٍ في أمر ثم يُغيّر ذلك إلى حكمٍ آخر، ليستقر الأمر في الشريعة على ما هو أنسب لمجموع الأمة إلى أن تقوم الساعة، وكان من الحكمة أن يُبتدأ فيها بحكم آخر يكون أنسب للحال والوقت والزمان والناس الذين كانوا فيه، ثم تتهيأ الأمة لإكمال هذا الدين، ويتهيأ إرساء قاعدة ما يستقيم عليه الحكم إلى يوم القيامة، وهذا أيضًا من الحكمة الربانية في توالي الأنبياء بشرائع تختلف في ظاهر الأحكام بعضها عن بعض في كثير من التحليل والتحريم، مع أن كله دين واحد وهو دين الإسلام من آدم عليه السلام إلى النبي محمّد ومن تبعه، كلهم مسلمون (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) [المائدة: 44].
دين الإسلام هو دين الأنبياء وأتباعهم بإحسان أجمعين، ومع ذلك فكانت أزمنة وكانت أحوال وظروف تطرأ على الخلائق من قرنٍ إلى قرنٍ، فاقتضت حكمة الله أن يكون في الأحكام تغييرٌ وتبديلٌ ونسخٌ، وأن يُورُدَ على كل قومٍ في كل زمانٍ ما هو أنسب لهم وأصلح لشأنهم، وتوالت هكذا الأنبياء لا يختلفون في شيءٍ من الأصول، ولا يخرجون عن الأسس فكلّهم مجمعون على توحيد الحق جلّ جلاله، والإيمان بأسمائه وصفاته والرجوع إليه، وهناك منكراتٌ وخبائث كلهم حُرّمت على أيديهم لبني آدم فلم تُبَح في شريعة قط، كمثل الزنا والربا واللواط وأمثال هذه القبائح لم تُحَل في شريعة قط من عهد آدم إلى أن جاء النبي الخاتم ﷺ:
فكانت هناك ثوابت
وكانت هناك بعد ذلك ضوابط وقواعد
وكان هناك مجال استنباط أو مجال تغييرٍ ونسخٍ على أيدي الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم، والدين واحد إلى أن جاء الخاتم.
وكان من مظهر كماله أن كان مصورًا و مقيمًا أحوال الأنبياء أجمعين، فكما وقع النسخ من شريعة إلى شريعة فيما تقدّم وكلها شريعة واحدة ودينٌ واحد، فرسول الله ﷺ وقع في حياته نسخُ أحكامٍ ليستقرّ الأمر على ما أراد الرحمن وعلم أنه الأصلح والأنجح والأفلح للعباد على مختلف بلدانهم وأوقاتهم وأزمانهم إلى أن تقوم الساعة؛ لأنها شريعة الخاتم الذي لا نبي بعده ﷺ.
وللعلماء نظرٌ واختلافٌ في نسخ الكتاب بالسنة من حيث أن السنة هي المبيّنة لمقصود الكتاب، وإذا حُقّق الأمر رجع الخلاف إلى ما يُقال أنه لفظي، وأما القرآن جميعه متواتر، وما تواتر من السُنّة فهو في محل حُسن البيان للكتاب العزيز، وما هناك من الأصول والأمور الواضحات ما نُسخ بسنّةٍ قط، وهكذا باقي المسائل في فرعياتٍ أو بياناتٍ جزئياتٍ، فيكون ﷺ مبيّنًا لما أُنزِل، فيكون كلامه مع توضيحه أيضًا قد يُعلم فيه ما كان من تغيير حكمٍ أو تبديله.
فصحّ الوجهان: أنه لا تنسخ السُنّة الكتاب، وصحّ الوجه الثاني أن نسخها مقيّدٌ ببعض شؤون في مسائل فرعية عُهد إليه ﷺ في بيانها للخلق. ومع ذلك كله فلا يزال الأصل قائمًا على أن القرآن الكريم المتواتر هو الأساس في فهم خطاب الله وأحكامه ولكن ذلك كما تقدّم معنا لا يتم استبيانُه ويتوضّح شأنه إلا بالسنّة الغراء، رزقنا الله العمل بها.
يقول: "من فارق الجماعة…" جماعة المسلمين؛ ما أجمعوا عليه باتفاق مجتهديهم في أي زمن؛ فإذا اتفق مجتهدوا الأمة في كل زمن سواءًا زمن الصحابة أو زمن التابعين أو زمن تابعي التابعين إذا اتفقوا واجتمعوا على مسألة فهي الحق والصواب، "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
"من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام…" يعني: عقده وعهده وميثاقه "...ربقة الإسلام من عنقه" خلع عهد الإسلام وعقده وميثاقه، أي: تخلّى عنه والعياذ بالله تبارك وتعالى، وخرج منه بمفارقته الجماعة. لا إله إلا الله..
وجاء مطوّلًا في سنن الترمذي يقول: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطيء بها، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمّا أن تأمرهم أو أنا آمرهم، قال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسف بي أو أُعذّب، أراد: أن يُسارع إلى أمر الله تعالى وأعتذر عمّا كان من التأخير، قال: فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشُرَف، فقال: إنّ الله أمرني بخمس كلماتٍ أن أعمل بهنّ وآمركم أن تعملوا بهنّ، أولهنّ: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وإنّ مَثَل من أشرك بالله كمَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِق، فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدِّ إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ الله وحده خلقنا؛ ونقوم نعبد ونخضع للأهواء والشهوات والآراء، سيدك الذي خلقك بقدرته لم يُشركه أحد في خلق سمعك ولا بصرك ولا روحك ولا جسدك هو الذي كوّنك -جل جلاله- فلا يجوز أن تشرك به شيئًا، يقول: "وإن الله أمركم بالصلاة…" هذا الأمر الثاني، وفي كل شريعةٍ على يد كل نبي جاءت الصلاة "...فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا فإنّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته مالم يلتفت، وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك مثل رجل في عصابة معه صرّة فيها مسك فكلهم يَعجَبُ أو يُعجبهُ ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدا نفسه منهم" وكذلك الصدقة "تطفئ غضب الرب" وتفدي صاحبها من النار، قال: "...وآمركم أن تذكروا الله"؛ هذه الخمس، الخامس ذكر الله، قال: "...فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ" (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36].
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: وأَنا آمرُكُم بخَمسٍ اللَّهُ أمرَني بِهِنَّ، السَّمعُ والطَّاعةُ والجِهادُ والهجرةُ والجمَاعةُ، فإنَّهُ مَن فارقَ الجماعةَ قيدَ شبرٍ فقد خلَعَ رِبقةَ الإسلامِ من عُنقِهِ إلَّا أن يراجِعَ، ومن ادَّعى دَعوى الجاهليَّةِ فإنَّهُ من جُثى جَهَنَّم، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ وإن صلَّى وصامَ؟ فقالَ: وإن صلَّى وصامَ، فادعوا بدَعوى اللَّهِ الَّذي سمَّاكمُ المسلِمينَ المؤمنينَ، عبادَ اللَّهِ" فنعوذُ بالله من الخروج عن الجماعة ومفارقتهم ونعوذ بالله من دعوى الجاهلية، وأصل الربقة: ما يُجعل في عنق الدابة كالطوق يُمسكها لئلا تشرد.
وقال: " من خرج عن طاعة الجماعة فارقهم في الأمر المُجمع عليه فقد ضلّ وهلك"، وذكر لنا عن سيدنا علي بن أبي طالب: أنه لما ولي الخلافة عليه الرضوان كرِه أن يظنّ الناس اختلافًا وفرقًا بينه وبين من قبله من الخلفاء؛ مع سعة علمه ورسوخ قدمه قال -في فقهه وأدبه وتواضعه-: "اقضوا كما كنتم تقضون.."؛ أي: أمضوا في الأمور على ما كنتم عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، اقضوا كما كنتم تقضون؛ "فإني أكره الخلاف،" يعني: أن يظنّ ظانّ أو يتوهّم متوهمٌ أن بيني وبين من قبلي بُونٌ أو بُعدٌ أو تنازعٌ أو خلافٌ "حتى يكون الناس جماعة،" يعني: أجتهد حتى تجتمع كلمة المسلمين "أو أموت كما مات أصحابي" على الوفاء بعهد الله تبارك وتعالى ولله الأمر في عباده؛ يجمع ويُفرّق، ولكن الواجب السعي في جمع الشمل ولمّ الشعث، والأمر لله من قبل ومن بعد.
وهكذا يقول سيدنا أنس بن مالك: كثيرًا ما أعرف شيئًا مما كان على عهد رسول الله ﷺ بقي على حاله الأول؛ قالوا: يا أنس حتى الصلاة؟" قال: أليس ضيّعتم ماضيّعتم فيها؟، وذلك كما جاء في لفظ: "صنعتم ما صنعتم فيها"؛ أنه من الأمراء الذين جاءوا من بعد الخلفاء الراشدين منهم من كان يؤخر الصلاة؛ ومنهم من كان يتعمد الإسرار بالتكبير في الانتقالات، ومنهم أيضًا من يُطيلها زيادة على المعهود ومنهم من يُسرع فيها ويُقصّرها زيادة على المعهود، قال: حتى الصلاة ما أبقيتموهَا على وجهها ولا تركتموها على الحال الذي كنا نعهده في عهد النبي والصحابة. ومن الأمراء من جاء وقدّم الخطبة في العيد على صلاة العيد! والحاصل ما تركوا الأمر على ما ينبغي وعلى حُسن الاقتداء، فأنكر ذلك سيدنا أنس وهو من الصحابة -لا إله إلا الله- وكان آخر الصحابة موتًا بالبصرة، ومات بالبصرة سيدنا أنس -عليه الرضوان- خادم المصطفى ﷺ. "ما أعرف شيء مما كنّا عليه على عهد النبي" يقول في رواية الترمذي. قلت: أين الصلاة؟ قال: أولم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟ ما أعرف فيكم اليوم شيئًا كنت أعهده على عهد رسول الله ﷺ، ليس قولكم لا إله إلا الله؛ فقط هذا الذي ما زلتم تقولونه! قلت: يا أبا حمزة الصلاة؟ قال: قد صليتم عند غروب الشمس أَفكانت تلك صلاة رسول الله ﷺ؟ قال: فقال: على أنّي لم أرى زمانًا خيرًا لعاملٍ من زمانكم هذا إلا أن يكون زمانًا مع نبي؛ فالمُستمسك بالسنّة يعظُم أجره ويتضاعَف ثوابه؛ وقال: هذا مهما فسد الزمان فلا فرصة أكثر لمضاعفة الحسنات من الثبات في ذلك الزمان. لا إله إلا الله! جاء في رواية قالوا: فالصلاة يا أبا حمزة؟ قال: جعلتم الظهر عند المغرب أفتلك صلاة رسول الله ﷺ؟ يعني: أخّروها عن الوقت المستحب.
وهكذا جاء "عن ابن مسعود: من كان مستنًا فليستنَّ بمن مات،" يعني: من قد مات من السابقين الأولين، "فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة" تأثّره بالأوضاع والمصالح وما إلى ذلك، أولئك أصحاب محمدٍﷺ الذين تربّوا على يده؛ ماذا قال فيهم؟: "أولئك أصحاب محمدٍ كانوا أفضل هذه الأمة أبرّها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلّها تكلفًا؛ اختارهم الله لصحبة نبيه محمد وإقامة دينه،" وهذا اختيار ربّاني محض، لأنه ما في أحد من البشر اختار زمانه ووقته ولا مكانه، فأوجدهم الحق تعالى في زمان نبيّه وفي مكان نبيّه، وهداهم إلى الإيمان بنبيّه؛ هذا من أين يجيء فيه الاختيار؟ فالذين أدركوا زمانه واتّقوا وأحسنوا هم خيار الأمة الخيّرة؛ ومن أدرك زمانه وعانَد وكذّب وخالف فهو من شرار هذه الأمة، من شرّ الخلق أجمعين -والعياذ بالله تعالى-. من كان مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات أولئك أصحاب محمدٍﷺ كانوا خير هذه الأمة أبرأ قلوبًا وأعمقهم علمًا وأقلها تكلّفًا قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه فتشبّهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمدٍ ﷺ كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة، رضي الله عنهم كما جاء في رواية.
وحذّر من الاستحسان بالهوى، وأوردَ ما جاء في أخبار قزوين لعبد الكريم الرافعي قوله ﷺ: "أصحاب البدع كلاب أهل النار"؛ لأنهم بإسم الدين يتحدّثون وهم للسنّة يخالفون. وكان ﷺ يقول: "إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وكلّها في النار إلا واحدة" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وفي رواية: "كلها في الجنّة إلا واحدة" فرواية كلها في النار إشارة إلى أمة الدعوة؛ فأمّة الدعوة أي: الذين أُرسل إليهم وهم جميع الخلق، هؤلاء كل من خرج عن الإسلام منهم فهو في النار بفرقهم، وأمّا أمّة الإجابة قال كلها في الجنّة إلا واحدة الذين شَهِدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهم بِفرقِهم آئِلون إلى الجنة إلا واحدة وهي التي أنكرت معلومًا من الدين بالضرورة وخرجت عن الإسلام بمقتضى صحيحٍ صريحٍ يشهد بخروجها عن أصل الإسلام؛ هؤلاء فقط وإن كانوا يتظاهرون كما جاء في الحديث: "وإن صلى وصام". لا إله إلا الله.. يقول: "آخر الكلام في القدر لشرار أمتي آخر الزمان" لا إله إلا الله.. اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله، وقد تقدّم معنا أن إنكار القَدَر هدمُ ركنٍ من أركان الإيمان بالله، وإن الله تعالى قدّر الأشياء قبل خلقها، وفي رواية: "أُخّر الكلام في القدر لشِرار أمّتي في آخر الزمان، ومراءٌ في القرآن كفر" والعياذ بالله تبارك وتعالى، "أُخّر الكلام في القدر لشِرار أمتي".
"إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم خصماء الله وهم القدرية" الذين يُنكرون القدر -نعوذ بالله من غضب الله تبارك وتعالى- أي: ينفون القدر ويزعمون أن العباد هم خالقين لأفعالهم، فقد تجرأوا على مقام الربوبية والألوهية ونسبوا الجبّار إلى العجز فهم خصماؤه.
وبعد ذلك بيّن من يتسبب في هدم الإسلام، هدم حقيقة الدين والانحراف عن مسلكه القويم المبين، يحصل كما قال سيدنا عمر بثلاثة: "يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم.." يزل ويصرّ ويستكبر أن يرجع إلى الحق فيتبعه من يتبعه على تلك الزلة، وفي زلة العالم يَزِلّ عالَم فعلماء السوء وعلماء خطباء الفتنة هم من أقوى أسباب هدم الدين، والعياذ بالله تبارك وتعالى "أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال، قالوا: ما هو؟ قال: من الأئمة المضلّين" فهذا سبب هدم الإسلام.
الثاني: "جدال المنافق بالكتاب" منافق ويصلّح جدال: كتاب الله وسنة… وهو منافق، ويقول هذه الآية كذا… ويتطاول ويأتي بمعاني خارجة عن نسق ونطاق موضع الآيات من الكتاب العزيز ويُؤولها بغير تأويلها وهذا سبب هدم الدين.
والثالث: "حكم الأئمة المضلين" يتولّون الحكم والرقاب فيضِلّون ويُضلّون الناس ويدعونهم إلى آرائهم. "وكان رضي الله عنه يقول: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسُّنن" لأن فيها البيان "فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل".
ويروى عنه عن سيدنا عمر "يقول: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم، فقالوا : كيف يكون منافقاً عليماً؟ فقال : عالم اللسان جاهل القلب والعمل." والعياذ بالله تبارك وتعالى، يخطب خطبة طويلة عريضة ويَهتز ويهز وكأنه مَلَك من الملائكة، عليم لسان وهذه وهذه وأصلها ودليلها ونحن وإنّا… لسان فيه علم، لكن قلب فيه جهل وفيه نفاق والعياذ بالله فهو منافق عليم، قال: فهؤلاء يهدمون دين الله، خافهم سيدنا عمر على الدين ثلاثة: زلة عالم وجدال مُنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم.
وعنه ﷺ يقول: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسنة رسوله، ثم تعمل بالرأي…" ويتركون الكتاب والسنّة من أصلهما والعياذ بالله تعالى وربما باسم القرآن والسنّة لكنه رأي؛ فيقدّم رأيه ويقول برأيه ويعمل برأيه والعياذ بالله تبارك وتعالى، فعندئذٍ يضلّون وينحرفون عن سواء السبيل، ويقول: "...فإذا عملوا بالرأي ضَلّوا وأضلّوا".
"وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : سيأتِي عليكم زمان تصير الفتنة فيه سُنّة" ويُقيمونها ويحرصون عليها حتى إذا تُركت يقال: تُركت السنة، أيّ سنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم! "متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : إذا كثرت جهالكم، و قلّت علماؤكم، وكثرت خطباؤكم وأمراؤكم وقلت أمناؤكم وتفقّه الناس لغير الدين والعمل،" بل لأجل الظهور ولأجل الوظائف ولأجل كسب المال "والتُمست الدنيا بعمل الآخرة"، فتصير البدع هي السنن، حتى يقول من يقول من أهل البدعة: كفّر إن ما كفّرت فأنت مثلهم مبتدع وأنت كافر! فلا بد تُكفّر! وإذا ترك التكفير يقول: هذا خرج من السنة! بسم الله الرحمن الرحيم السنّة تكفير خلق الله بلا بينة؟! يقول: من لم يُكفّر كافر؛ فهو كافر، والناس كفّار إلا أنا وآل رأيي! نعوذ بالله من غضب الله، وكم وكم بعد ذلك حتى يُنكر المعروف ويُعرّف المنكر إلى غير ذلك ممّا حصل في الأمة، والله يحول أحوال المسلمين إلى أحسن حال.
"وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن تعلم التوراة والإنجيل ويقول : آمنوا بكتب الله"، لماذا؟ لأنهم حرّفوا وبدلوا فيها وإن كان بقي منها ما بقي، وتعلّم هذا سيدنا عمر من أنه لما حمل مرّة ورقةً من التوراة من بعض اليهود قال له ﷺ: "ألم آتكم بكتاب الله لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي"، فلهذا نهى سيدنا عمر لأنهم خلطوا فيها كلام الله بكلامهم وحرّفوا وبدّلوا فما يُمكن نأخذها عنهم، "والزموا ما أنزل الله على نبيكم محمد ﷺ فإنه هدي جميع الأنبياء صلى الله وسلم عليهم أجمعين"، مصدّقًا لما معهم أجمعين وخاتمًا لهم أجمعين وجامعًا لما جاؤوا به من الخير أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، أرسل الله الرسل.
ثم أتانا خاتم الرسالة *** بكل ما جاؤوا به من حالة
فعمّ كل الخلق بالدلالة *** وأشرقت مناهج الكمالِ
فكلّه فضلاً أتى ورحمة *** وكلّه حكمه هدى وحِكمة
وهو إمام كل ذي مهمة *** وقدوة في سائر الخصالِ
وهو بحق الشكر ما أولاه *** إذ قام حتى ورمت رجلاه
وواصل الصوم وقد أولاه *** مولاهُ مولى الحق والإفضالِ
وسلوةً لمعسر مسكينِ *** إذ صحّ لم يشبع ولا يومينِ
وقد أبى جبالها من عينِ *** زهدًا ومن جوعٍ طوى ليالي
وأسوة المكروب في اصطبارِ *** في كل ما قاسى من الكفارِ
حتى رُمي بالفرث والاحجارِ *** وما دعا إلا على رجالِ
ولم يزل للحق في اجتهادِ *** وبعد فرض الغزوِ والجهادِ
ما قرّ في ظلٍّ ولا بلادي *** إلا على الكفار في قتالِ
وما مضى حتى أقام الدين *** وصار سهلاً واضحًا مبينا
فلم تخف أمّته فتونًا *** بل عُصموا في الجمع عن ضلالِ
والخلفاء بعده والعِترة *** بهم مع القرآن مستمرة
ملّته محفوظةٌ من فترة *** على الهدى دأبًا بلا انفصالِ
وصحبه فيهم لهم نجوم *** منه عليهم فاضت العلوم
كلٌّ له مقدّرٌ مقسوم *** من ظاهر أو باطن أو حالِ
اللهم ارزقنا حُسن متابعته، وفهم ما أرسلته به وما بلّغنا عنك ووعي ذلك والعمل بمقتضاه، واجعلنا يارب من رفقائه، وأظلّنا بظل لوائه، واجمعنا به في أعلى درجات دار الكرامة و فردوسك الأعلى وساحة النظر إلى وجهك؛ وأنت راضٍ عنّا من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب بسِرَ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
26 ذو القِعدة 1444