(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مجلس الوعظ والتذكير الكبير في مجلس رسول الله، في ميدان موناس، بجاكرتا عاصمة إندونيسيا بعنوان : نِعمَةِ الاجتماعِ مِن أجلِ الله والعملِ بمنهاجه
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنَّما ابتدَأْنا بالسَّلامِ اغتِنَامَا لهذَا الجمعِ الكريمِ الَّذِين مِن كلِّ مُسلمٍ مِنهم تعودُ السَّلام والبَركةُ ومعهُم الملاَئِكةُ الكِرام، فتعودُ بركاتُ كلِّ سلامٍ بالألوف المؤلَّفةِ إلى كُلِّ فردٍ من الحاضِرين.
والحمدُ للهِ الَّذي جمعَكُم بِفَضلِه، وسُبحانَ الَّذي وَفَّقكُم وَلَهُ الحمدُ، وسُبحَانَ الَّذي أَحضَرَكُم ولَه الحَمد، قَد يَجمَعُ كثيرًا مِن العِبادِ لَكن لَا على إرادةِ وجهِهِ الكَريم، وَلا على قَصدِ رِضاهُ، ولا علَى اتِّباعِ نبيِّه، كَم مِن فَرقٍ عَظيمٍ بينَ الجَمعِ والجَمع، وَإذا أُسِّسَ على سَندٍ واتِّصالٍ ونيّاَتٍ صالحةٍ تضَاعفتْ بركَةُ الجَمعِ ونظرُ اللهِ إلى أهلِه.
ولقدْ عظُمَ آثارُ مَجالِس الذِّكر وثَوابُها عندَ اللهِ تباركَ وتعالى حتى جاءَتنا فيها الآياتُ والأحاديثُ الكريمة، وأوحى اللهُ إليه (واصْبِر نفسَكَ مع الذِينَ يَدعُون ربَّهم بالغَدَواة والعَشِيِّ يُريدونَ وجهَه) وروى الإمامُ أحمدُ في كتاب الزهد عن سيدِنا سلمانِ الفارسي رضي الله تعالى عنه، قال: "كنا في عُصابةٍ نذكرُ اللهَ تعالى فمرّ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسلّمَ علينا وجلسَ بينَنا وسكتْنَا، فقال : "ما أجلَسَكُم؟"، قالوا : "جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى"، قال : "أما إنِّي رأيتُ الرَّحمة تنزِلُ عليكُم فأحببتُ أن أشارِكَكُم فيها".
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "كُنَّا في جماعةٍ نذكرُ اللهَ فأقبل علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسلَّمَ علينا"، فقال : "ما أجلسَكم ههنا ؟" قالوا : جلسنا نذكرُ اللهَ ونحمدُه على ما هدانا إلى الإسلام بك، قال : "آللهِ ما أجلسكُم إلا ذلك ؟" قالوا : "يا رسولَ الله واللهِ ما أجلسَنا إلا ذلك"، قال : "أما إني لم أستَحلِفْكم تُهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريلُ آنفاً وأخبرني أنَّ اللهَ يباهِي بكم الملائكة".
الحمد لله الذي وفَّقكم وجمعَكم، وهذه الألوف مِن أُمَّةِ حبيبِه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم اجتمعت على الوِجهةِ إلى الله بمنهاجِ النبيِّ محمد بن عبدِ الله، فما أعظمَ ما مَنَّ اللهُ به علينَا، العظيمُ الجليلُ الكريمُ إذا جمَعَ مَاذا يصنعُ؟ إنه الغنيُّ عن العالمين والخَلقِ أجمعين، فإذا جمعَ طوائفَ مِن عبادِه على الوِجهةِ إليه ووفَّقَهم لذلك فماذا ترونَه يريدُ أن يصنَعَ بهم؟
يا أهلَ مجمعِ المحبَّة: لولا محبةُ اللهِ لعبادِه ما ظهر النبيُّ محمدٌ فينا، ولا ظهرَ فينا أصحابُه وأهلُ بيتِه بهذهِ الهِمَمِ والنوايا والصدق، ولا تكاثرَ في الأمةِ العلماءُ والأولياءُ والأتقياءُ والصالِحُون، ولا سَاق اللهُ سبحانه وتعالى مُنذر بن فؤاد المساوى أن يرغبَ في طلبِ العلم ويخرجَ إلى حضرمَوت، ولا أن يأتيَ فيُقذف في قلبِه رحمةُ العباد والرغبة في ربطِهم بالله جلَّ جَلالُه، ثمَّ يُؤسِّس مثلَ هذه المجالس فتستمرُّ وتتزايدُ في حياته وبعد وفَاته، وَلا أَوصَلَ دينَه الحقَّ إلى بلدة إندونيسيا فهيَّأ قلوباً تفقهُ عظمةَ هذا الدِّين وتتخلَّقُ بأخلاقِه، كلُّ ذلك تَمِّ بمحبة الله، لولا محبةُ الله لِخَلْقِه ما ظَهَر شيءٌ مِن هذا.
أَلا وكُلُّ مَن عقَل في هؤلاءِ الخَلقِ عظمةَ مِنَّةَ الخالقِ وجُودِه أحبَّهُ لا مَحَالة، وإذا أكرَم اللهُ عبدًا مِن عِبادِه بِمحبَّتِه وعلَّمَهُ كيفَ يُحبُّه فقد تمَّت عَلَيه النِّعمَة، وعلى أيدِيهم يُنصَرُ اللهُ وتُنصَرُ الشريعةُ ويُنصرُ الدين، إنه دُين المحبَّة، وإنَّ اللهَ يعطي الدنيا مَن يُحبُّ ومَن لا يُحب ولا يُعطِي الدينَ إلاَّ لمن يحبُّ، فإِن أعطاهُ الدِّين فقد أحبَّه.
مَن الذي قَذَفَ في كلِّ قلبٍ مِن هذه القُلوبِ الإيمانَ بِه، والتَّصدِيقَ بِعَبدِه وحبيبِه، والمصدِّقُ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم مصدقٌ بجميعِ الأنبياءِ والمرسلين، ومصدِّقٌ بجميعِ الكُتبِ المنزَلَة مِن الله، والتي جعلَ خاتمتَها القرآنَ الكريم، وتولَّى تعالى حفظَه فهو بينَنا يُقرأُ كما نطقَ به سيدُنا المصطفى، ومَن جعلَه أمامَه قَادَه إلى الجَنَّة، ومَن جعَله خلفَ ظهرِه ساقَه إلى النَّار.
جئتُم مُؤمنين باللهِ وبهذا الرسولِ والكتابِ الذي أُنزلَ عَليه، وبجَميعِ الأنبياءِ والمرسلين والملاَئكةِ، وباليومِ الآخِر، وأنَّ جميعَ الأمور تَجرِي بقضاءِ الله وَقَدَرِه، مِن أين اكتسبتُم هَذا الإِيمان؟ لولا محبةُ اللهِ وجُودُه ما عرفَ قلبٌ مِنكم الإيمانَ، (وما كان لنفسٍ أن تُؤمِنَ إلَّا بإذنِ الله وَيَجْعَلُ الرِّجسَ عَلى الَّذِينَ لَا يَعقِلُون)، وكلُّ مَن لم يهتدِ لِلإيمان لم يعقِلِ الحقيقةَ، ولو كان يطلَعُ إلى الفضاء ويجلس مِن شَهرَين وثَلاثة ثم يعودُ إلى الأرضِ يتأمَّلُ الكواكبَ الكثيرة، ويتعرفُ على الكواكبِ والفضاءِ ولم يَعرِفْ خالِقَها، ولم يَعرفْ ما الحكمةُ مِن خَلقِها، ولكنَّ المؤمنَ يعرفُ خالقَها، ويعرِفُ الحكمةَ مِن خَلقِها، فالمؤمنُ هُو العاقل، والمؤمنُ هو الـمُبصِر، ومَن لم يُؤمنْ فهو الأَعْمَى، واسمعُوا كلامَ ربِّكُم جلَّ جَلَاله، يقول: (أفَمن يعلمُ أنَّما أُنزلَ إليكَ مِن ربِّك الحقُّ كَمن هُو أعمَى؟ إنَّما يتذكَّرُ أولُوا الألبَاب)، فجعَلكم مُبصِرِين البصر الذي ينفعُ في الدنيا والبَرزخِ ويومَ القيامة، وجعلَكُم تعقِلُونَ الحقيقةَ وأسرارَ وحيِه سبحانه وتعَالى، بِمحبَّتِه أعطَاكُم ذَلك، وكيفَ لا تحبُّونَه وقد أحبَّكم قبلَ أن تُحِبُّوه.
ولمَّا أكرمَ اللهُ سبحانه بالبَصَر وبهذا العقلِ أخَاكم مُصعب - مِن بريطانيا- الذي سمعتُم حديثَه توجَّه إلى الله بأن يَصلَ هذا العقلُ والنورُ والبصرُ إلى قومِه وجماعتِه في بريطانيا وإلى الأرضِ شَرقِها وغربِها، وكذلك يتمنَّى كُلُّ مَن عقَل وأَبصَر، وقد حَضَر مَعَنا مجمَعاً في حضرَموت من المَجامعِ التي تفرَّعَ عنها هذا المجمعُ، وجاء وقتُ الدعاءِ والتَّضرُّع إلى الله فدَعا اللهَ بإِسلامِ أَبيه وأُمِّه وأُسرَتِه، وأُكرِمَ بذلك، وفي هَذا المجمعِ نَتوجَّهُ لبقيَّة أسرَتِه وأعدادًا كبيرةً في بلدِه وأوروبَّا وأمريكا ورُوسِيَا والشرقِ والغربِ أن يَهديَهُم اللهُ للحقِّ ودِينِ الهُدى. اللهُمَّ انشرْ دِينَ الحقِّ والهدى في مشارِقِ الأرضِ ومَغَاربِها.
وكَان مِن مَظَاهِرِ النِّعمةِ مِن الله عليكم أن أعادَ إقامةَ هذا المحفَل في هذه البُقعةِ والمجمعِ الذي تكون فيه المجامِعُ الكَبِيرة، وكَان هذا مِن توفيقِ الله تبارك وتعالى لهذا الـمُحَافِظ بَاسوِيدَان، فاللهُ ينفعهُ بذلك ويعيدُ عليه عوائدَ الخَير، لأنَّ ]كُلَّ مَن خدمَ الدينَ عاد الخيرُ إليه وعادَ الفضلُ إليه مِن هذا الدِّين[، ومَاذا استفَادَ من مَنَع قيامَ مثلِ هذا المحفلِ في مثلِ هذا المكان بُرهةً مِنَ الزَّمن؟ زَمانُ كل واحدٍ منهم يفنَى وينتَهِي، ولكن زمان دينِ الله يبقَى إلى الأبد، ولكننا نقول لهم: إنَّه دِينُ المحبَّة، فنتمنَّى لهم الهدايةَ والرُّجوعَ إلى طريقِ الهدى والصَّواب، وصاحبُ الرسالةِ يدعُو "اللهم اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمُون"، وهكذا كلُّ مَن أرادَ أن يُخضِعَ هذا الدينَ ويُذلَّه فيكونُ هو الذي يخضَع، فإن سبَق له مِن الله رحمةٌ تابَ وأنابَ ورجَع، وإن ماتَ على مُعاداةِ الدينِ أُذيقَ العذابَ المهِين، نسألُ الله أن يحييَنا ويميتَنا على محبةِ دينِه.
يا أيها المجتمعون على المحبَّة، والمنتسبُون لسيِّد الأحبَّة: لما استشارنا السيدُ منذرُ عليه رحمة الله أن يسمِّيَ المجلسَ مجلسَ رسولِ الله قلنا: أذنَّا لك بذلك، لأنه منتسبٌ إليه في محبَّتِه واتِّباعِ سنَّتِه ونُصرةِ شريعتِه، فكلُّ ما أُقيمَ على سنَّتِه ومحبَّته فهو مِن مَجالسِه، كيف وإلههُ الذي أرسلَه يقولُ في الحديثِ القدسي: "أنا جليسُ مَن ذكرني"، ونادانا بقولِه: (فاذكرُوني أذكرْكم).
إنَّ العظيم لم يجمعْكُم على المحبةِ والتَّعظيمِ إلا لأمرٍ عظيم، وهو الذي لا يتَعاظَمُهُ شيء، فكلُّ مَطلبٍ عظيمٍ طُلِبَ منه فهو عليه يَسيرٌ، وعندنا مِن اللهِ وعدٌ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلَّم للمُجتمعِين على ذكرِ الله إذا أرادُوا وجهَه الكريم، ومِن طَلبِنَا لله تبارك وتعالى في هذا المجمَعِ أن يُحقِّقَ لنا ما وَعدَ على لسانِ رسُولِه، جاء في الحَديثِ بالسندِ الصحيحِ عن نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: "لا يقعدُ قومٌ يذكرون الله تعالى لا يُريدون بذلك إلا وجهَه إلَّا ناداهم مُنادٍ مِن السماء، أن قُومُوا مغفورًا لكم قد بُدِّلَت سيئاتُكم حسناتٍ". يا ربِّ حقِّق لنا ذلك، وأنجِز لنا وعدَك على لسانِ رسُولِك.
في صحائفِنا ذنوبٌ كثيرةٌ صغائرُ وكبائِر، ولا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنت، وقد قذفتَ في قُلوبِنا طمعناَ ورجاءنا في مَغفرتِك، وحضر الجمعُ يستغفرُك ويرجُو كَرمَك، فأكرِمنا يا كريم، وارحَمنا يا رحيم، واغفِر لنا الذَّنبَ العظيم، فإنَّه لا يغفرُ الذنبَ العظيمَ إلا العظيمُ، وإذا أكرمَنا اللهُ بإنجازِ هذا الوعدِ، فقد طلعَ علينا نجمُ السَّعد، فإنَّ مَن غُفِر له وبُدِّلت سيئاتُه حسنات يصفُو حالُه مع عالمِ الخفيَّات، ويستقيمُ على سَديدِ الأقوالِ وحميدِ الأفعالِ ومحمودِ الصِّفات، ويعودُ الأثرُ على أهلِه وأولادِه وأسرتِه والذُّرِّيات، وبذلكُم تندفِعُ البلايا المُهِيلات، والمصائبُ العَظِيمات، فإنَّ الذي يقدرُ على دفعِها بارِئُ الأرَضِين والسَّموات، هل على ظهرِ الأرضِ دولةٌ تستطيعُ منعَ الأرضِ مِن الزَّلزَلة، هل مِن حضارةٍ تمنعُ الأرضَ مِن أن تَتزلزلَ؟ هل مِن تكنولُوجيا تمنعُ الأرضَ أن تَتزلزَل؟ إذا جاءتْ في مكانِ التكنولوجيا فسدَت وفسدَ أهلُها في لحظات! سبحان ربِّ الأرضِ والسماء، سبحان مَن هو القادرُ ومَن سواه العاجز، يغترُّ الناسُ بما يُؤتَونَ مِن قُوةٍ محدودةٍ محصُورةٍ قابلةٍ للذَّهابِ والزَّوال، وينسَوْن أنَّ حقيقةَ القُوَّةِ للكبيرِ المُتعال، والمغترُّ بالقُوَّةِ أوَّلُه نطفةٌ وعلقةٌ ومضغةٌ، وآخرُه جِيفةٌ قذِرة، وهو في وقتِ استعمالِه للقُوةِ لو طُمسَ بصرُه أو أخَفقَ قلبُه أو ضَرب له عِرقٌ يُوجعُه بَطل استعمالُه للقوَّة، (ولو يرَى الذين ظلمُوا إذ يَرونَ العَذابَ أنَّ القوَّةَ لله جميعا).
وإذا صدقتُم في الوِجهةِ في هذا المجمعِ فقد توجَّهتُم إلى القَوِيِّ، فمَا كان للضُّعفاءِ أن يغلبُوكم وقد توجَّهتُم إلى القويِّ، فنسألُ اللهَ القويَّ أن يدفعَ الزلازلَ عن أرضِ إِندُونِيسِيا، وأنَ يرزُقَنا الاعتبارَ والادِّكَارَ، فَما يَظهَرُ مثلُ هذا إلا بعدَ انتشارِ مَعاصٍ مِن الكبائرِ يُتَجاهرُ بها، كَأمثالِ المَيسِر والدَّعَارة، والمعصِيةُ إذا عُمِلَت خُفيةً لم تَضرَّ إلاَّ فاعلَها، فإذا تُجُوهِر بها ولم تُنكَر عَمَّ ضَررُها كلَّ مَن لم يُنِكر، ثم يكون فيها تذكرةً للعِبادِ لِيَرجِعُوا، قال تعالى (ولنُذِيقنَّهُم مِنَ العَذابِ الأدنى دونَ العذابِ الأكبرِ لعلَّهم يرجعُون ) وقال تعالى (فلَولا إذ جاءَهم بأسُنا تضرَّعُوا).
ونحن نتضرَّعُ إلى الله أن يرحمَنا وجميعَ أهلِ إندونيسيا خاصَّة والمسلمينَ عامَّة، نستغفرُكَ لنا وللمُؤمنين، ونؤمنُ أنَّكَ القَويُّ المتين، وأنَّه لا طاقةَ لأحدٍ بِعذَابِك، ونسترحمُك ونَستعطِفُك، ونشهدُ عظمتَك ونشهدُ ضعفَنا وعجزَنا، ونسألكَ أن تغفرَ لَنا وترحمَنا، وأن ترزقَنا الادِّكارَ والاعتِبار، فإنَّ هؤلاءِ المُتضرِّعِين عند البأساءِ يرحمُهم اللهُ ويرحَمُ بهم عبادَه، ولَكِن مَن لم يستفدْ مِن هذه التَّذكِيراتِ وهذه الآياتِ فُتِحَ عليهِ بابُ بلاءٍ مِن نوعٍ آخر حتى يكونَ مصيرُه العذابَ الأكبرَ والنَّدامةَ الدائمَة. قال تعالى عن هؤلاء الذين لا يعتبرُون ولا يتذكَّرون، (ولكن قسَت قلوبُهم وزيَّنَ لهم الشيطانُ ما كانوا يعملُون) فما نوعُ البلاءِ الثاني؟ (فلمَّا نسُوا ما ذُكِّروا به فتحنَا عليه أبوابَ كلِّ شيء) ابتلُوا بتَيسيرِ أسبابٍ ظاهريَّةٍ ومادَّةٍ كثيرة، (حتى إذا فرحوا بما أوتُوا أخذناهم بَغتةً فإذا هم مُبلِسُون * فقُطِعَ دابرُ القَومِ الذين ظَلمُوا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين) وَكم قد حصلَ مِن أمثالِ ذلك في شرقِ الأرضِ وغَربِها، والمعتَبِرُون قليلٌ، والمغترُّونَ بمَظاهِر المادَّةِ كَثِير، والحقُّ يقولُ عن هؤلاءِ الغافلين المُصرِِّين على تكذيبِ الرُّسل (أيحسَبُون أن ما نُمدُّهُم به مِن مالٍ وبنينَ نُسارعُ لهم في الخَيراتِ بل لا يشعُرون).
إنما يكونُ المالُ نعمةً لمن اتَّقى اللهَ فيه، وأخذَه مِن حِلِّهِ، وصَرفَه في محلِّه، ومَن وجد المالَ مِن غيرِ حِلِّه أو صَرفَه في غير ما يجوزُ له فليس المالُ نعمةً له، وإنما هُو بلاءٌ يؤدِّيه إلى بلاءٍ أكبر، وليس البَنونُ نِعمةً إلا لمن ربَّاهم وربطَهم بإلههِم الذي خلَقهُم، وهيَّأهم ليكُونُوا نافعينَ للناس ومُصلحِين في مجتمَعاتِهم، ومَن رُزِقَ الأولادَ فأهمَلَهم وأهملَ تربِيتَهم وتسبَّبَ في مشيِهِم وراءَ السُّوءِ والفسادِ والضُّرِّ بالناس فأولادُه نقمةٌ عليه وليسُوا بنِعمَة، قال تعالى (وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتي تقرِّبُكم عندنا زُلفَى إلا مَن آمنَ وعملَ صالحاً)
الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ التي وصلَتْكم، وقد وصلَتْكم على مَنهجٍ قويم، وصراطٍ مُستقيم، منهجِ أهلِ السنَّة والجماعة، منهجِ المحبةِ الصَّحيحةِ لله، ومن أَجلِ الله أحبَّوا أنبياءَه وملائكتَه أجمعين، ولم يُفرِّقوا بين أحدٍ مِن رُسلِه، وأحبُّوا المؤمنِين أجمعِين، وخصُوصًا خاصَّتهم مثل الصحابةِ وأهل البيتِ الطَّاهرين، منهج هُدىً لا يَعرِفُ سبَّ أحياءَ ولا أَموات، ويحذرُ من أن يَضُرَّ حيوانًا، فضلاً عن أن يضرَّ إنسانًا، فضلاً عن أن يضرَّ مُسلِمًا، كان مِن مذاهبِ أهلِ السُّنة والجماعةِ الَّتي انتشرتْ في بلادِكم مع الإيمان مذهبُ الإمامِ الشافعي مُحمَّد بن إدريس في أَحكامِ الشَّريعَة، واعتِقادُ الصحابة والتابعين الذي حافظَ عليه وعلى بَيانِه الإمامُ أبو الحسن الأشعري، والتَّزكيةُ للنَّفس والتَّطهيرُ كما مضى عليه خيارُ التابعين وتابعيهم بإحسان وأبرزُهم الجنيدُ بن محمَّد صاحبُ بغداد، ينفَعُون ولا يضرُّون، ويُجَمِّعُون ولا يفرِّقُون، ويُظهِرون جمالَ دينِ الله وشريعتِه فيما به يتعَاملُون، ويَبرُزُ نورُ جمالِ الشَّرعِ فيمَا يقولُون وما يفعلون. ثبَّتَ اللهُ أقدامَنا على ذلك الطريقِ القَويم.
ألا فاحمَدُوا ربَّكُم اللهَ العظيم، واعلمُوا أنه بالدعاءِ والتضرُّعِ والقيامِ بالإيمان والتقوى تندفِعُ البلايا عنِ البلادِ وتنزلُ البرَكَة، قال تعالى (ولو أنَّ أهلَ القُرى آمَنُوا واتَّقوا لفتَحنَا عليهم بَركاتٍ مِن السَّماءِ والأرض) فكُونُوا عناصرَ وأسباباً لِفَتحِ البركاتِ مِنَ السماء والأرض، بِتَقويةِ الإيمان والقِيامِ بالتَّقوى، وفوقَهُ وعدٌ ممَّن لا يخلفُ الميعاد (لفَتحنَا عليهم بركاتٍ مِن السماءِ والأرض) جعلكمُ الله أسبابًا للخَير ومفتاحاً للخير، وجعلكم اللهُ مغاليقَ للشَّرِّ، فاصدُقُوا مَع الله، وانوُوا أَن تَتَّقُوهُ فِي أعضَائكم والأجهزةِ الَّتِي تَستَعمِلُونَها.
ونسألُ اللهَ بالجَمعِ في هَذا المكَانِ والبُقعةِ أن يلطفَ بإندونيسيا في أيامِها المُقبِلةِ وما يجري فيها مِن انتخاباتٍ وغيرِها يجنِّبهمُ الشرَّ والضرَّ والفَساد، وندعُو المؤمِنين إلى أن يتمسَّكُوا بحقائقِ إيمانِهم، والعزَّةُ للهِ ولرسُولِه وللمُؤمنين، وأن لا يتصرَّفُوا بالضُّرِّ ولا بالإيذاء، ولكن يأتُون البيوتَ مِن أبوابِها، وندعُو العُقلاءَ مِن غيرِ المؤمنين أنَّ استعمالَهم للأساليبِ السِّيئة يضرُّهم ولا ينفعُهم، ونقولُ لهم: لَن تَجِدوا نِظامًا تعيشونَ في ظلِّه وكَنَفِه أحسنَ لَكُم مِن الإِسلام، فَلا تُؤذُوا المسلمين ولا تتَعَرَّضُوا لدِينِهم فيعودُ الضرُّ عليكم .
ونجمعُ همَّتَنا في مجمعِنا، ونتوجَّه إلى ربِّنا، الذي أكرمَنا بالإيمان، ووفَّقنا للاجتماع، وأكرَمَنا بالتَّوجُّهِ إليه.. أوَّلُ الأوَّلين، وآخِرُ الآخِرِين، ذو القوةِ المتين، راحمُ المساكين، أرحمُ الراحمين، عالمُ السر وأخفى، مَن بِيده ملكوتُ كلِّ شَيء، وإليهِ يَرجع كلُّ شَيء، القادِرُ القويُّ، جلَّ جَلاله وَتَعالى في علاه، نتوجَّهُ إليه، نَدعُوه، نَسأَلُه، نطلُبُه، ولنا العِزُّ والشَّرف، إنِ امتدَّت أيادي كثيرةٌ إلى غيرِه فنحنُ نمدُّها إلى وجهِه الكريم، يا ربِّ إنَّ قلوباً في الأرض مُعتمِدةٌ على غيرِك، وقد أكرمتَنا بالاعتمادِ عليكَ فلكَ الحمدُ، كم صرفتَ مِن رجالٍ ونساءٍ إلى أبوابِ غيرِك، إلى أبوابِ الأهواء، إلى أبوابِ الشَّهوات، إلى أبوابِ بعضِهم البَعض وجمعتَ هؤلاء على بابِك، فكما أوقفتَنا على بابِك بكَرمِك فافتَح لنا الباب، واجعل دعاءَنا في الدعاءِ المُستجاب، يا ربَّنا لا تبقَى خطيئةٌ ولا ذنبٌ في صحيفةِ أحدٍ منا، مِن الكبائرِ ولا مِن الصغائر، بدِّل ذنوبَنا حسنات، بدِّل سيئاتِنا حسنات، وتُب علينا توبةً نصوحا، إنكَ تختارُ أقوامًا لنُصرتِك ونُصرةِ رسولِك فاجعَلنا منهم، رجالَنا ونساءَنا، جمعتَنا الآن في هذا المكان في هذه الليلة فهل تُفرِّقُ بيننا يومَ القيامة؟ نعوذُ بوَجهِك مِن ندامةِ يومِ القيامَة، نعوذُ بِوَجهِكَ مِن خِزيِ يَومِ القيامَة، نعوذُ بِوَجهِكَ مِن ظُهُورِ الفَضائحِ يومَ القِيامة، نعُوذُ بوَجهِك مِن خِفَّةِ المِيزانِ يومَ القيامة، ففِي زُمرةِ رسُولِك اجمَعنا، وعلى حَوضِه المورُودِ أورِدنا، وفي زُمرةِ حبيبِك اجمَعنا، وعلى حوضِه المَورُود أورِدنا، ففِي زُمرةِ حبيبِك فاجمَعنا، وعلى حوضِه المورودِ فأورِدنا، يا الله، يا الله، يا الله.
ولينادِ الجَمعُ ربَّهم، وليسألوا إلههَم، فاتح الأبواب، بالغَيثِ السكَّاب، والجُودِ الـمُنسَاب، ربَّ الأرباب، مسبِّبَ الأسباب، الكريمُ الوهاب، وقولُوا جميعا : يا الله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله .. بالصدقِ توجَّهُوا إليه، وبالخُضوعِ تَذلَّلُوا بينَ يدَيه، يعزُّكم ويقبلكُم، إنه يسمعكُم، ولكم الشرف في التوجه إليه، إنه الله يا أحبابَنا، إنه الله يا إخوانَنا، إنه الله يا أصحابَنا، إنه الناظرُ إلينا، إنه المطَّلعُ علينا، إنه الذي بيدِه أمرُنا، يا الله يا الله.
أصلِح كلَّ قلبٍ منَّا، فلا ينصرف منَّا رجلٌ ولا امرأةٌ إلا وقد أصلحتَ قلبَه، يا مُقلِّبَ القُلوبِ والأبصارِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك، يا مصرِّف القلوبِ والأبصارِ صرِّف قلوبَنا على طاعتِك، نستودِعُكَ الإيمانَ حتى تتوفَّانا عليه، فارزُقنا كمالَ حُسنِ الخاتمة، لا يزيغ قلبٌ مِن هذه القلوبِ عند الموتِ، ثبِّتنا بالقولِ الثابت، وإذا وصل كلٌ إلى قبرِه كل واحدٍ منَّا فاجعله يلقى روضة من رياض الجنة، ولا تجعل قبرَ أحدٍ منا حفرةً مِن حُفرِ النار، وانظر إلى قبورِ مَن مات من آبائِنَا وأمهاتِنا ومَن له حقٌّ علينا، اجعلها رياضاً مِن رياضِ الجنَّة.
من هذا الذي تنادونَه؟ مَن هو هذا الذي تدعونَه، مَن هذا الذي تسألونه؟ الله، الله، الله، الله، الله، الله، تعالى في علاه، اصبب وأطل رحمة على قبرِ عبدِك منذر بن فؤاد المساوى، وسرَُّ قلبَه وأفرِح قلبَه بما تجودُ في هذه المجالس، وضاعفِ البركةَ لوالدتِه وأخيه نبيل وإخوانهم، وأقرِّ الأعينَ بأولادِه، وبلِّغنا فيهم فوقَ آمالِه وفوقَ آمالِنا، ارحمنا ساعةَ العَرضِ عليك، والطُف بنا ساعةَ الوقوفِ بين يدَيك، وثبِّت أقدامَنا على الصِّراطِ، واجمَعنا في أعلى الجنة، واجعل مستقرَّنا فِردَوسَك الأَعلى، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين.
ونجدِّد عهدَنا معَه، ونجدِّد إيمانَنا به، فنقولُ في تبعيَّةِ النبيِّ محمد، وفي الاقتداءِ به، وفي استرضاءِ ربِّنا، نقول جميعاً : لا إله إلا الله، خير ما قال نبيُّنا محمدٌ والنَّبِيُّون مِن قبلِه، فنقولُ جميعاً وراءَه : لا إله إلا الله. قال بعضُ الصحابة : "من مدَّها تعظيمًا غفرَ اللهُ له أربعة آلاف ذنب"، وقال نبينا : "إذَا قَالها المؤمِنُ تَذْهَبُ إلى صحِيفَتِه فتَمحُو مَا بِها مِن سيِّئَة حتَّى تجدَ حسنَةً فتَجلِسَ إلى جنبِها"، فنقول جميعاً تعظيماً ومحبةً وخشية : لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صلَّى اللهُ عليه، وعَلى آلِه، وصحبِهِ وسلَّم، في كلِّ لحظةٍ أبدًا، عددَ خلقِه، ورضَا نفسه، وزنةَ عرشه، ومداد كلماته .
اللهم أحيِنا عليها، وتوفَّنا عليها، وابعَثنا عليها، واجعلنا عندَك من خواصِّ أهلِها، آمين، يا ربَّ العالمين، واجزِ خيرا ًمن تكلَّموا في هذا المجلس ومن خدمُوا ومَن قاموا وضاعف لهم الخيرات، وأرنا وأسمعنا في إندونيسيا خاصّة وفي المؤمنين عامَّة ما تقرَّ به العُيون ويرضَى به الأمينُ المأمُون . واجعل هذا العامَ الأربعين بعد أربعمائة وألف عام فرَجٍ للمسلمين وغياثٍ للمؤمنين، وجمعاً لشَملِهم، ودفعاً للبلايا عنهم.
بارِك لنا في خاتمةِ شهرِ محرم، وبارِك لنا في صفر، وضاعفِ البركةَ في شهر ميلادِ نبيِّنا محمد، وارزقنا حسنَ استقبالِه، وأطِل أعمارَنا في طاعتِه، واكتب لنا كمالَ حُسن الخاتمة، بوجاهةِ نبيِّك محمد، والمحبوبين لك ، وكتابِك الكريم، وأسمائك وصفاتِك ، يا أرحمَ الراحمين..
وبسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم,, الفاتحة .
29 مُحرَّم 1440