محاضرة في افتتاح ملتقى الدعاة السنوي (التاسع عشر)

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في افتتاح ملتقى الدعاة السنوي (التاسع عشر) تحت عنوان: (حقيقة العقل وحُسن استعماله ومهمته في العدل بين الشهوات والغضب والحُكم في المحسوسات الماديّة والغيبيّات المعنوية وأثر كل ذلك على اتجاه ووجهة الافراد والجماعات والشعوب والدول) 

ليلة الخميس 1 محرم 1447هـ

للاطلاع على تقرير الجلسة الافتتاحية ومشاهدتها كاملة (اضغط هنا) 

نص المحاضرة:

الحمد لله العليم الحكيم، جامعنا على هذا الخير العظيم، واتّباع السبيل القويم والصراط المستقيم، بعد أن خلقنا مِن العدم، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة؛ لنشكره بأن نُحسِن استعمال تلك الآلات، ونقوم على ظهر الأرض بمقصود خلقنا وإيجادنا، وما يُحبه خالقنا وموجدنا جلّ جلاله.

هو الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، اصطفى النبيّين والمرسلين وختمهم بمحمد أعقلهم وأجملهم وأفضلهم في كل حال، صلوات ربنا وسلامه عليه وعلى آله خير آل، وعلى أصحابه الماشين والناسكين على خير منوال، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان إلى يوم المآل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مظاهر العقل في البريّة، الذين أقامهم الله مقام الهداية والتبيين والتعليم والإرشاد، والإنقاذ من أنواع الزيغ والفساد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

مقدمة عن العقل ومِنّة الله به

أما بعد، فقد استمعتم في مُفتتح هذا اللقاء - وهو أيضاً مُفتتح العام الجديد من أعوامنا - من أحبابنا ما أشاروا به إلى مِنّة الله تعالى على العقلاء، وهم الإنس والجن والملائكة.

ثم إنّنا معاشر الإنس نُدرك الفرق الكبير بين من يعقل ومن سُلِب منه العقل أصلاً، ولماذا كان يُسمّى فينا المجانين، ومن ينكر وجود العقل فنقول: إنكارك قام بعقل أو بغير عقل؟ فإن أنكرتَ بغير عقل فأنت واحد من هؤلاء، وإن كان إنكارك يرجع إلى العقل فقد أثبتَّ العقل.

ومن ذا لا يُفرِّق بين المجنون والعاقل في الحياة، من مختلف أصناف الاتجاهات والمبادئ والأديان والمِلل والنحل؟ مَن هذا الذي لا يفرّق بين عاقل ومجنون! إذن فما من واحد من المكلّفين من بني آدم إلا وقد أوتي بفضل الخلاّق جلّ جلاله ومِنّته من العقل ما يُدرك به أنه مخلوق، وأنه لا بدّ للمخلوق من خالق، وأنه والوجود وما حواليه المتغيّر له مُدبّر وله مُقدّر وله منشئ ومخترع.

استعمال العقل وأدنى ما يدرك

الكلّ عندهم ما يستطيعون أن يُدركوا به هذه الحقيقة، لكن كما سمعتم، إذا أحسنوا استعمال هذه العقول، فإذا واجهها ما يُبطِلها ويَحرِف استعمالها جاءت المناكرة وجاءت المعاندة، وجاءت التغطية التي حال أهلها حال من يريد أن يُغطّي على ضوء الشمس، ومهما حاول واستعمل فالشمس ساطعة، ولكن قد يُدخِلَك في مكان منع أشعّة الشمس من دخول شيء من الحواجز أو الحواجب، فليس ذلك دليل على زوال الشمس وعدم وجودها، ولكن على حجاب قام بينك وبينها حتى صِرتَ في الظلمة، فهذه الحُجُب التي تقوم كان من مُهِمّات رسل الله وأنبيائه أن يُزحزحوا ويُزيحوا هذه الحُجُب التي تَحُول بين العقول وإدراك الحقيقة.

مع ذلك نقول: إنّ أدنى ما يحصل للعاقل، مَن معه أدنى مُسكة من عقل، إذا حجبه عن إدراك أن له إلهاً وأن إلههُ لا بدّ أن يكون من العظمة والحِكمة في الشأن الذي يدلّه عليه كل ما في الوجود، إذا حجبهُ أيّ حاجب من هوى أو من عصبيّة أو غيرها، فلا يمكن أن يحجب عقله شيء أنّ الأفضل للناس في الحياة أن لا يتظالموا، وإلا الظلم أفضل؟

لا أقلّ مِن أن يعرف أن الظلم وَخِيم، وأنه لا ينبغي أن يظلم بعضهم بعضاً، أن يُحسِنوا التعايش ويُحسنوا الجوار، أن لا يعتدي بعضهم على بعض، هذا أقلّ ما كان، ما مِن عاقل في الوجود يغيب عن ذهنه هذا ويغيب عن إدراكه هذا.

خطاب الأنبياء والتعايش السلمي

ولذا جاء خطاب الأنبياء والرسل أيضاً لمن لم يستعدّ بلفظ الغبار وإبعاد الحواجز والحواجب عن عقله في إدراك عظمة الله والخضوع له، لا أقلّ مِن أن لا تعتدي ولا تظلم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)، يعيشون معكم بأيّ شيء كانوا وهم في هذا المستوى؛ لا يؤذون ولا يظلمون ولا يعتدون ولا يمنعون الناس من الخير، ويتركون للناس مكانتهم ومِيزتهم وحُرِّيَّتهم في ما يدخل تحت دوائر عدم الإخلال بحقوق الغير ولا الاعتداء ولا الظُّلم.

هذا أقلّ القليل، وهو الذي يُخاطِب به أهل الإسلام مَن على ظهر الأرض: إن لم تؤمنوا بالله تبارك وتعالى فلا أقلّ من أن تؤمنوا أنه يضرّنا الظلم، ويضرّنا اعتداء بعضنا على بعض، ويضرّنا تقصُّد بعضنا البعض بالإيذاء، ويضرُّنا أن لا نرضى بالتعايش وحُسن الجوار بيننا. مَن ينكر هذا؟

غلبة الأهواء وسوء استعمال العقل

ومع ذلك كُلّه، فما ذكرنا مِن غلبة الأهواء وغلبة شرور النفوس والكيد الشيطاني الذي يكون في باطن الإنسان ما ترك الناس إلا في وحشيّة وفي ظُلم مُنظّم ومُقنّن وأشدّ مما يُشاهد بين الوحوش من الحيوانات في الغابات! واللوم عليهم إذ أوتوا ما لم تُؤتَ تلك الحيوانات، فصار مِن الخلل في استعمال الأسماع والأبصار والعقول نزولهم عن رُتبة البهائم.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا)، ما معنى هذا؟ ما أحسنوا استعمال لا الأبصار ولا الأسماع ولا القلوب.

العدل وكف الظلم

فإنّ من انتظام وحسن استعمال البصر والسمع والذهن والعقل لا بدّ من أن تهتدي، أقلّ شيء أن تكفّ ظلمك عن الناس كما تُحبّ أن لا يصلك ظلم الغير. بهذا كُلّه جاء ما جاء مِن قواعد المُصالحة والصُلح والذِّمّة في شريعة الله تبارك وتعالى، وحماية العَدل بين أفراد بني آدم، حتى قال: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ولم يقل بين المسلمين، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) مِن الوحي وما خصّك به من العقل الذي لم يبلغ ذُراه عاقل غيرك.

فإنّ الله واهب العقول جعل أكبر العقول عند من اصطفى من الأنبياء، وجعل أكبرها عند أكابرهم مِن أولي العزم، وجعل الحظّ الأكبر عند محمد بن عبد الله، فهو الأعقل الذي يُدرك عن الله تبارك وتعالى وأسرار خطابه وعظمته ما لم يدركه غيره.

التفكّر الصحيح

وذلك أن هذه العقول، والحقّ تبارك وتعالى - في مساعدتنا لأن نُحسِن استعمالها لأهمّ شيء في الحياة وهو إنقاذنا مِن موجبات الفساد والخلود في النار - قال لنبيّه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا).

يعني جنِّبوا عقولكم ما يحجبها عن حُسن الإدراك بحسن الاستعمال، ابعدوا عن الضوضاء هذه والأمور الهوجاء والمقابلات بالجماعات، وذا يقول كذا وذا يقول كذا، وذا يقول كلمة وذا يقول كلمة، وذا يقول ما قلت وذا يقول أنا قلت.. قال اهدؤوا، اجلسوا اثنين اثنين وواحد وحده، استعمل العقل، انظر (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ). كا الجنون الذي في الإنسان هذا؟ في منطقه؟ في عمله؟ في معاملته؟ في سعيه؟ في زيّه؟ أين مكمن الجنون عند هذا الإنسان؟ (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).

خطر الهوى على العقل

ولكن عندما تكون جمهرة ومجموعة وناس.. يريد أن ينتصر حتى على باطل، باطل! وهو يعرف أنه باطل، وتدخُل الأشياء في بعضها، قال: اجلس وحدك أو استعن بواحد، (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ).

فإنَّ مجال الفِكر الذي هو عمل العقل يَصلُح ويستقيم إذا بَعُد عن هذه الأهواء، وإلا فإنّ قطرة من الهوى تُخَمِّج بحراً من العلم. 

واعلم هُديتَ وخير العلم أنفعه ** أن اتّباع الهوى ضربٌ من الخَبَلِ

معنى الخَبَل: إبطال مجال العقل أو البُعد عن حُسن استعماله،.. نوع من الخَبَلِ.

فكم وكم ضلّ بالأهواء وطاعتها ** من عاقل جامع للعلم والعملِ!

 يعني عنده نصيب من العقل لكن ما أحسن استعماله، بل وتعمَّد أن لا يُحسن استعماله من أجل الهوى، فما عاد نفعه العقل الذي أوتيه ولا العلم الذي عنده لدخول الهوى عليه.

الغرور بالعلم

وإذ قال الله تعالى عن المغترّين المعجبين بأهوائهم: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ)، فرحوا بما عندهم من العلم! وهذا من مُقتضيات سوء استخدام العقل.

فإن العاقل كُلما علم وكلما ازداد علماً يوقن بأن ما لم يعلم أكثر مما علم، ويوقن أن وراء ما علم علماً، وكلما اتّسع اتّسع عنده هذا الإدراك، لذا قال في الحديث: "فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل".

وهؤلاء لمّا كانوا بهذه المثابة، ومنهم الذين في زماننا، ومنهم الذين قابلوا الأنبياء من قبل، (فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ)، يعني ما أحسنوا استخدام العقل، فاغترّوا بما عندهم، ورأوا أن ما عندهم كأنه كل شيء، وأنه ما أحد ممكن يجيء فوقهم ولا يجيء أعلى منهم.

وهذا تسمعونه في منطقهم، أو صاروا من الهوى بحيث لا يتقبّلون من أحد أن يكون أقوى منهم حُجّة ولا دليلاً ولا أعرف منهم بحقيقة، ما يتقبّلون ذلك! ولذا وجدتموهم في سوء استعمال العقل ما يمكن يتفاوضون معك من أجل قِيَم ولا من أجل فضائل ولا من أجل عَدل، لكن المصالح وهواها، إلا إذا جئتهم بقوّة ماديّة رادعة يقفون عندها، ممكن يتخاطبون معك! فهذا تبطيل لحسن استخدام العقل أصلاً.

وربما تبجَّحوا بها في كلامهم من الألفاظ، والأغرب منها يقول بعض الذين يتعلّمون مجال التجارة والتسويق، وحضر دراسة في فرنسا، في درس من الدروس أعجبه، قال جاء وذكر مسألة النصح والصدق والوفاء بالوعد والعهد، تكلّم عنه.. قال: والله هذا الشيء اللذي جاء به الإسلام عندنا يتحدّثون عنه هؤلاء الجماعة!

قال: قبل ختام الدورة دخلوا، قال: كل الذي سمعتم في هذه القيَم، هذا أمر تتظاهرون به، أما من يطبّقها فستبطل شركته ولا سيكون تاجراً ولا يمكن يمضي في التجارة. قال: كيف؟ قال: هذه خلّوها صورة وشماعة، والواقع مصلحة التجارة مُقدَّمة، لا رحمة ولا عدل ولا صدق ولا وفاء بعهد، المصلحة الذي فيها مصلحة الشركة هو الذي تنطلق فيه!

الوصول الإنساني لهذا المستوى المُتردّي مِن سوء استخدامه، وإلا ما أحد منهم خالٍ عن عقل لو أحسن تشغيله لاستنكرَ هذا ولا ما رضي به لا لنفسه ولا لغيره.

مراتب استخدام العقل 

ومع ذلك فالذين أحسَنوا استخدام العقول هم على مراتب، وليست العقول على درجة واحدة، ولذا نقول لمن هُدي بفضل الله وأدرك بعقله أنه خَلْق وأنه عبد، وأنه صَنعة وأنه مُكوَّن له مُكوِّن خالق فاطر مُبدئ، وآمنَ بهذا الإله جلّ جلاله وتعالى في علاه، وواصلَ حُسن استخدام العقل إلى أن الإله لا يمكن يكون له شريك، ولا يمكن أن يكون ثالث ثلاثة، ولا يمكن أن يكون له ولد، وهذا الذي جاء به جميع الأنبياء والمرسلين إلى خاتمهم ﷺ.

هؤلاء الذين هُدوا إلى هذا هُم على درجات بعد ذلك في وعي خطاب الله على حسب عقولهم، وبذلك صارت الدرجات في الجنة، ولكن ما يحوز به الإنسان المُكلّف ومثله الجِنّ المكلّف؛ النجاة من النار ودخول الجنة موهوب لكل أحد، لكل عاقل.

ولهذا الذي فقد العقل خرج عن المخاطبة وعن المحاسبة وعن المعاقبة ورُفع عنه القلم، لكن ما دام عنده أيّ مسكة للعقل فعنده ما يكفيه لأن ينجو من النار ويدخل الجنة، أمّا أن يرتقي في الدرجات فلا، إنما لمن توسَّع عقله وإدراكه حتى وعى مِن أسرار الخطاب ما يُرفع به في مراتب الاقتراب.

ولذا سُمِّي الذين لم يرتقوا بعقولهم إلى تلك الدرجات "البُله"، و"أكثر أهل الجنة البُله، وعِلّيّون لأولي الألباب" الذين عظمت عقولهم وحسن استعمالهم لها فارتقوا بذلك، ووعوا عن الله تعالى.

التقرّب إلى الله بالعقول

ما كان يقوله سيدنا علي: "إذا تقرَّب الناس إلى الله بأعمالهم فتقرّبوا إليه بعقولكم". وما معنى عقولكم؟ وعيها أسرار صفاته وأسمائه وعظمة ذاته، واختيارها لما هو أحبّ إليه في الأقوال والأفعال والمعاملات والحركات والسكنات، تمييزها بين خير الخَيرَين وأفضل الفضلَين، هؤلاء المُتقرّبون إلى الله بعقولهم أعظم من الذين تكثر أعمالهم وهم لا يعون أسرار الأدب مع الله واختيار الأفضل في الأحوال المختلفة.

نصيب العقل من معرفة الله

بهذا جعل الله تعالى أيضاً لهذه العقول الموهوبة مِن حين سنّ التمييز إلى الخامسة والعشرين من السنين، ثم ما يكون مجال لتوسيعها وزيادتها إلا بِحُسن استعمالها ودِقّة الفكر فيها، والتأمُّل للتجارب وما إلى ذلك.

وهذا القدر الذي يُعطاه الإنسان من العقل يُقابله نصيب إذا أحسن استخدامه واستعماله من معرفة الله تعالى، ولذا يجد آل العقول أنّ لا غرض لهم في المُقام في الدنيا ولا البقاء في الحياة الدنيا إلا ما تتّسع به معارفهم. فإذا رأوا أنهم الموهوب لهم قد انتهى إلى هذا الحدّ تحوَّل حبّ اللقاء واستعجاله عندهم وتقديمه على محبّة الحياة في الدنيا، هذا شأن أهل المعرفة والعقول.

أما غيرهم فإنه يُحِبّ الحياة لأجل مُتَعها ولأجل شيء من فانياتها، ويكره الموت أيضاً لأنه يقطعه عنها، وما لهم سموّ لهذا الأمر الذي يصير به مَن عَقَل مُحِبّاً للقاء الله جلّ جلاله ويحبّ الله لقاءه.

اللعب بالعقول وأهل التزكية

من هذه المعاني والميادين كان لعب الكثير مِن إبليس وجنده على هذه العقول، وما تسمعونه من غسل الأدمغة وما إلى ذلك، على دائرة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، حتى صاروا يوحون إليهم في سوء استخدام العقل ما ليس بمعقول أنه معقول، وهناك تختلّ الموازين.

ولا بدَّ من إقامة الميزان وحسن الاستخدام لهذا العقل، الذي به هؤلاء المخصوصون تأتي لهم مجاهداتهم وما سمعتم في العنوان الحديث عنه من العدل بين الغضب والشهوة، وكيف يتمكَّن العاقل المؤمن مِن أن لا يستجيب لداعي غضب ولا لداعي شهوة إلا حيث تأتيه إشارة العقل والشرع، ولا يمكن أن يغضب بغير إشارة العقل والشرع، ولا أن يتّبِع شهوة من غير إشارة العقل والشرع. 

هؤلاء أهل التزكية الذين زكت نفوسهم وزكت عقولهم، وإليهم الإشارة: "حتى يكون هواهُ تبعاً لما جئت به"، وهناك كمال الإيمان والارتقاء في مراتب حسن استعمال العقل، بعطايا واسعة كبيرة يخصّ الله بها من يشاء (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

الدعاء والختام

ارزقنا اللهم حسن الوعي لأسرار الوحي، وارزقنا زكاء العقول واتّساع مفاهيمها لإدراك ما أوحيتَ، وبلِّغنا اللهم الرتب العُلى من وعي ما أوحيت إلى خاتم الأنبياء، وارزقنا اللهم حُسن النظر فيما يرضيك عنّا، وبارك في هذا الملتقى وما يأتي من جلسات المحاورات في النقاط المُتعلّقة بهذا العنوان الذي هو في كِبَره نداء الرسالة المحمّدية، وهو ما كان يحمله الأنبياء قبل إكمال النبوّة والرسالة بنبيّنا محمد، ثم جاء الكمال والتمام على يد خاتم الأنبياء ونِعْم الختام ﷺ.

وأُنعِم على هذه الأمّة بهذه الأنوار الشارقة التي تستضيء بها العقول فتُدرِك حسن التهيّؤ للقاء الحقّ والتزوّد من العمر القصير ما يوجب سعادة الأبد.

اللهم انظر إلينا وإلى الأمّة، اللهم زَكِّ لنا العقول وارزقنا حسن مُتابعة أعقل خلقك وأوعاهم لما أوحيتَ ولما بيّنتَ لخلقك وعبادك، وما وهبتَ مِن خصائص معرفتك والفهم عنك يا حيّ يا قيّوم.

اللهم وهَيِّئ لنا ولهذه الأمّة أمراً رشداً، هيّئ لنا وللأمّة أمراً رشداً، اللهم ربّنا هيّئ لنا من أمرنا رشداً، واجعلنا للمتّقين إماماً، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيّك ظاهراً وباطناً، وارزقنا حسن الخدمة للأمّة بأوسع العقول وأوعاها لما هو أحبّ وأطيَب، في ميزانك وميزان رسولك الأكرم ﷺ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

01 مُحرَّم 1447

تاريخ النشر الميلادي

26 يونيو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية