كلمة في الجلسة الختامية لملتقى الدعاة السنوي (19)
كلمة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الجلسة الختامية لملتقى الدعاة السنوي (التاسع عشر)، بعنوان: (حقيقة العقل وحُسن استعماله ومهمته في العدل بين الشهوات والغضب والحُكم في المحسوسات الماديّة والغيبيّات المعنوية وأثر كل ذلك على اتجاه ووجهة الافراد والجماعات والشعوب والدول)
ليلة السبت 3 محرم 1447هـ
للاطلاع على جميع فعاليات ملتقى الدعاة السنوي (19) اضغط هنا
نص الكلمة:
الحمد لله، جئنا إلى ختام هذا الملتقى، والذي نرجو أن يكون له معنى في اللقاء المعنى المعنوي لا ينقطع أبداً، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
حمل الأمانة العظيمة
وهي عبارة عن أمانة عظيمة مِن التي عُرِضت على السماوات والأرض (فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، أن نعود إلى ما اختُطِف علينا، وإلى ما أُخذ من بين أيدينا، وإلى ما صُرِفت به عقول ومدارك كثير من أبناء أمتنا رجالاً ونساءً، عرباً وعجماً، في شرق الأرض وغربها، حتى استُبدِلَت لهم أغلى البضائع وأعلى الصِّفات وحقائق السعادة وموجبات السعادة الكُبرى، أُخذت منهم واستُبدِلت لهم بما يوجب الانقطاع والبُعد والغفلة والشقاء.
ووقع في هذه الورطات الكثير منهم، غاب عن أذهانهم أنهم بِحُكم إيمانهم وانتمائهم لخاتم الرسل أعقل الخلائق، هم يحملون أمانة الإله الذي خلق لإرشاد العباد؛ ومعنى إرشاد العباد: أن يتحلّوا وأن يأخذوا ما جاءهم عن الله بقوة، ثم يحملونه إلى من وراءهم، "ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب".
مهمة الأمة في إرشاد العالم
فهم في المعنى الذي قاله سيدنا ربعي بن عامر: "الله ابتعثنا"، الله ابتعثنا، الله ابتعثنا! ومن يستشعر أن الله ابتعثه.. كيف يبيع نفسه لشرقي أو غربي أو لفكرة أو لتنظير من ذا ومن ذاك؟ وصاروا في مشاعر الكثير من المسلمين هم القادة وهم المُنقذون وهم الأسوة! كيف ننحطّ إلى هذا المستوى؟
وبذلك ما جاء أيضاً في كلمة الحبيب علي الجفري ما كتب الشيخ أبي الحسن الندوي عليه رحمة الله: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" خسر العالم خسائر كبيرة لمّا انحطَّ المسلمون من شرف العبودية والأدب والرفعة والحكمة وحمل الأمانة، إلى التبعية والأهواء والشهوات، وأُغرُوا بها! ولا يزال العمل على ذلك على الكثير منهم.
ولكن الحق تعالى وعد نبيه أن يُجدِّد هذا الدين، مع ما يُبقي مستمراً من غير انقطاع مِن كل خلفٍ عدوله، وطائفة على الحق لا يضرهم من ناوأهم، لكن مع ذلك في ظهوره على وجه العموم مهما حصل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
صفات القوم الذين يحبهم الله
غاية ما يوصل إليه العقل ويتحصَّل عليه من المغانم الكُبرى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ونريد يُلحقنا الله بهذا الصنف الذين أثنى عليهم في كتابه: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وأشار في الآية إلى أنه هو الذي يعتني بهم، وبخالص عنايته ورعايته يبرزون في الوجود، يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وإنما يأتي بهم الله بواسطة المجالس والمحاضر والمنازل والاجتماعات هذه، ويأتي بهم الحق تعالى!
(يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وهذه أوصافهم فيما تحكَّمت عليهم عقولهم فصاروا: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، وقد يكون مقتضى الطبع غير هذا، لكن قال هذا مقتضى العقل، وما يؤدي إليهم عقولهم.
(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)، بعدها قال: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، إذا آتى أحداً هذه الأوصاف فلا يُحيط عقلٌ بما يتفضّل به عليه، (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) جل جلاله.
وأقام الركيزة في ذلك: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، وقطع بالنتيجة وحَسَم في القضية: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، اللهم اجعلنا منهم وألحُقنا بهم.
الأمانة الكبيرة والدعوة للتعاون والعمل
فنحن الآن أمام هذه الأمانة الكبيرة في إحياء هذا النور الإلهي، واستعمال هذه العقول التي آتانا الله إياها بهذا الصفاء والنقاء والتجرُّد، وأن نُحسن استعمالها لنقطف عظيم الثمار، لمن عقل عن الله وعن رسوله ﷺ، ونقوم بالتعاون بيننا البين كما سمعتم في كلام المشايخ والمتحدثين من الدعاة وأحبابنا.
نقوم بذلك بيننا وأوساطنا وفي مدارسنا وفي أماكننا، ونُخاطب بذلك أيضاً عُقلاء العالم، كل من يعقل من العالم، وبما أقدرنا الله عليه وبما استطعنا، وهو إذا قمنا به على وجهه فليس بقليل وليس بيسير، وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعقل، وحبّة إذا بارك المولى تُلقِّي حبوب، وإذا أراد أمراً هيّأ أسبابه.
فنحن أمام هذه المهمة والأمانة الكبيرة لحمل هذه الحقائق، في إدراك: "الله ابتعثنا، لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا" - ضيق الدنيا: ما هُم فيه من هذا الانحطاط الذي تنكّروا فيه حتى لعقل التمييز الآن.
الدعاء والختام
الله يُحوِّل الأحوال إلى أحسنها، الله يُنقِذنا والمسلمين، وتظهر لنا آثار رحمته ببعثة النبي الأمين فيما يُجدِّد لنا من إقامة أمره على الوجه الذي يرضاه جلّ جلاله وتعالى في علاه.
اللهم تقبّل مِنا ومن جميع الوافدين والحاضرين والمشاركين والقائمين بالخدمة، والمساهمين والمستمعين والمشاهدين، ومَن سيستمع ومن سيشاهد ومن سيتابع، اجعل في الجميع بركة ينالون بها أحسن القَبول منك، وكمال الرضا منك والرضا عنك، والمحبّة منك والمحبة لك ولرسولك، حتى ندخل في دائرة قوم تُحِبّهم ويحبونك، أذِلة على المؤمنين أعِزة على الكافرين، يُجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
ذلك فضلك يا متفضل، فآتِنا ذلك الفضل يا واسع يا عليم، وزِدنا من نوالك ما أنت أهله، وثبِّتنا على الصراط المستقيم.
جزاكم الله خيراً وقَبِلَ منكم، وجعل لنا وإيّاكم السعي المشكور والعمل المبرور، وعمارة العمر القصير بما يوجِب سعادة الأبد والخُلد في الملك الكبير، اللهم آمين في لُطف وعافية ورحمة.
واجعل هذا العام مِن أبرك الأعوام على أمة حبيبك خير الأنام، في كل خاص وفي كل عام، برحمتك يا ذا الجلال والإكرام والفضل والإنعام.
والحمد لله رب العالمين.
02 مُحرَّم 1447