(236)
(536)
(575)
كلمة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الاحتفال بالذكرى الثامنة والعشرين - 28 - لافتتاح دار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ظهر يوم الجمعة 29 ذو الحجة 1445هـ
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
الحمد لله الذي كتب جمع المؤمنين مع النبيين والمرسلين والصِّدِّيقين والشهداء في دار الكرامة، وكتب جمع المنافقين والكافرين وأعدائه وأعداء رسله في دار المَهانة والانتقام والعذاب الأليم، وتِلكمُ الغاية التي يُؤولُ إليها جميع المُكلّفين، لا يتخلَّف منهم أحد، ولا يُنسى منهم أحد، ولا يفلت منهم أحد، ولا يغيب منهم أحد (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، فيجتمع الكل، وكلُّ نفسٍ، وإما أن تكون في هذا الاجتماع أو في هذا الاجتماع، إما في الجنة وإما في النار، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
وإن لهم في هذه الدنيا اجتماعات، ولهم في هذه الدنيا صِلات تجمعهم وتوصلهم إلى الجنات، كما أنَّ أسباب دخول النيران اجتماعات في وِجهات، وفي آراء، وفي مقاصد خبيثة مُنحطَّة تنحصر وراء لَذّات الفرج، ولَذّات البطن، ولَذّات الظهور والشهرة والحكم بين الناس، وفيها كم مِن رأسٍ كُسِر في هذه المَهاوي ليكون في الهاوية -والعياذ بالله- في الآخرة، وفيه أكثر أهل هذا العالم.
ويرحم الله من يشاء من الأنبياء وأتباع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، ويقومون بالصدق مع الإله الرحمن في السر والإعلان، ويتحملون كل ما نازلهم، ويشكرون الله تبارك وتعالى على السراء وعلى الضراء، فما أعجبهم في مقام الصبر! وما أعجبهم في مقام الشكر! وما أعجب وأعجب وأعجب ما وفّقهُم ثمّ ثبّتهم، ثم وهب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، -جل جلاله وتعالى في علاه-، فجوده أعظم من كل ما جادوا، ومن كل ما عملوا، وما جادوا ولا عملوا إلا بجوده، فاعجب لهذا الرب وما يجود به على مَن إليه تقرّب، وهو القائل: "مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا فَقَدْ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا فَقَدْ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"، فما أعجب هذا الجود من حضرة البر الودود! جل جلاله.
وفتح لنا أبوابه زين الوجود ﷺ، وقام بصبره وقام بشكره، فهو الصبور صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله، وهو بحق الصبر ﷺ القائم في مقام: "أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ سَأَلْتُ اللَّهَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُ اللَّهَ" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قائلاً: "إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ" وقائم في محراب الشكر يقول:"أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"
وهو بِحَقِّ الشكر ما أولاهُ ** إذ قام حتى وَرِمَت رِجلاهُ
وواصل الصوم وقد أولاهُ ** مولاهُ أَولى الفضل والإفضالِ
ثم تترتّب جميع مراتب أهل الجنة على درجات تنتهي إلى القرب من هذه الغاية، سيد أهل البداية والنهاية محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وعلى قدر ما أحبّوه، وعلى قدر ما تابعوه، وعلى قدر ما ارتبطوا به، حتى مَن قبله مِن النبيين صلوات الله وسلام عليهم، وهو القائل: "وخبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي في يوم يَلُوذُ بي فيه الناس حتى إبراهيم وموسى" صلوات الله وسلامه عليهم، وجأء أنه يقول له آدم: "أنا أولى بك وأنا أبوك"، ويقول له عيسى: "أنا أولى بك وليس بيني وبينك نبي ونصرت شريعتك"، وكُلٌّ يتقرّب إلى هذا الجناب الأشرف، والقرب منه بصدق الإيمان وحُسن المتابعة.
وما وفّقكم له الرحمن من هذه الوِجهة، وهذه الاجتماعات التي نرجو أن تتّصل باجتماعات النبيين والصدقين والشهداء والصالحين واجتماعات أهل الجنة
يا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلًا وإحسانًا ومَنًّا منك يا ** ذا الجود والفضل الأتم الأوسعِ
عسى ينصرف العام وتنصرف عنا البلايا والهموم والغموم، والشدائد والمصائب، وعن أمة الحبيب الأعظم ﷺ، ويختمه لنا بخير، ونحمده على ما أتانا فيه من النعم، ونستغفره لما عملنا فيه من التقصيرات والسيئات والخطيئات ظاهراً وباطناً، فاغفرها يا خير الغافرين، وما وفقتنا له من الخيرات أثبته لنا عندك وضاعفه إلى ما لا نهاية.
والعام المقبل وفِّقنا فيه، وأطل لنا الأعمار فيما ترتضيه، وأدخلنا في دوائر من تُقرِّبه وتُدنيه، وترفعه وتعليه، مِمن أنصت إلى خطابك بلسان سيد أحبابك، فتأدّبَ بالآداب ففتحتَ له الأبواب، ووسّعتَ له الرحاب، وصببتَ عليه من العطاء المُنساب، بِثجّاج شاهد (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ذلكم جود الكريم الوهاب جل جلاله
وبه وفَّق سيدي الوالد -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- لإيثاره تعالى على ما سواه، وللثبات على قول الصدق والحق، وهو في أول الستين من عمره كان اختطافه، وإذا تأملت ما جرى على يديه من الأعمال في حياته رأيت عجبًا في هذا السنّ يُحقِّق كل هذا، ثم إذا تأملت ما أحدثهُ الله بعده من الآثار التي أنتم في شيء منها، عجبت وعلمتَ أن الجبار الأعلى حَسن المعاملة لمن صدق معاه، ودخل في دوائر هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله، وجادَ بروحه كما سمعتم كما جاد من قبله من الأكابر، إلى جده الحسين بن علي الذي ذِكراه تأتي في هذه الأيام أيضًا، وفي أوائل العام في شهر المُحرّم عليه رضوان الله ورحمته، وقبله سُمَّ أخوه الحسن، وقبله قُتِل أبوهم علي بن أبي طالب، وقبله قُتِل عثمان بن عفان، وقبله قُتِل عمر بن الخطاب، وقبله مات مسمومًا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وكُل ذلكم آثار من أثر الذي وُضِعَ السلاّ على ظهره، وآثار من آثار الذي رُمِيَتْ قدماه بالحجارة حتى سال الدم من العقبين، مِن آثار الذي رَبط الحجر على بطنه من الجوع، فهو قدوتهم وهو إمامهم، وخيراته فيهم تنتشر، وتقوم وتظهر، ويختار الله تعالى لها من يشاء.
وفي ختام هذا العام أيضًا، في ختام العام الهجري، كان انتقال إمام الطريقة سيدنا الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم محمد بن علي، وكان انتقال سيدنا فخر الوجود الشيخ أبو بكر بن سالم، وكان انتقال حبيبنا أبو بكر بن علي المشهور عليه رحمة الله تبارك وتعالى في مثل هذه الأيام في أواخر العام الهجري، المُذكّر لنا بهجرة المصطفى ﷺ، والتي تدفعنا إلى التحقُّق بحقائق الهجرة، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، ونخرج من هذا الغش الذي غُشّ به كثير من المسلمين في تبعية الكفار والفجار والأشرار، في الأفكار أو في الأخلاق أو في اللباس أو في النظُم وما إلى ذلك، وقد أُكرموا بخطاب من قبل الإله فيه سعادة الحياتين وخير الدارين.
والله يجعل آذان قلوبنا صاغية لنداء الرب، ندخل في دوائر من قالوا من أولي الألباب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، ارحم اللهم حبيبنا محمد وولده الحبيب علي المشهور، خليفته والقائم بعده بالمسلك المبارك على الصدق والإخلاص والورع، ومشايخهم وتلامذتهم، ومن اتصل بهم، واغفر اللهم بالمغفرة الواسعة، وارحم الرحمة الكبيرة العظيمة مَن تقدموا معنا في هذه الذكريات، وحضروها سنين بعد سنين، ومضوا على قصد السبيل إلى العُلا، ارفع درجاتهم واجمعنا بهم في أعلى الجنة، يا حي يا قيوم.
وارحم هذه الأمة، وأذَنْ بكشف الغمة، وأجْلِ كل ظلمة، وثبِّت قلب وقدم كل حاضر وكل سامع وكلّ مُحب على ما تُحب كما تُحب، حتى تُدخله فيمن تُحب، وتحشره مع من تُحب، ومع أحبّ من تُحب، حتى ننال فوق ما رُمنا، وأعظم مما رجونا، وما لا يبلغه رجاء أهل السماوات والأرض، فإن في خزائنك ما لا ينتهي إليه رجاء راج في الأولين والآخرين، لا إله إلا أنت، وقد رجوناكَ فحقِّق سؤلنا.
وأذن اللهم لنا بفتح أبواب الفضل وفتح خزائن الجود التي خزنتها لزين الوجود ﷺ، بما به تدفع البلايا والهموم والغموم، وتُفرِّج على إخواننا في مختلف الأقطار، واخْصُص اللهم أهل بيت المقدس، وأهل الضفة الغربية وأهل غزة وأهل رفح، وأهل السودان وأهل الصومال وأهل ليبيا وأهل الشام وأهل اليمن، بتعجيل الفرج ورفع الضيق والحَرَج، وانظر إلى الأمة أجمع
نظرة تزيل العَنا ** عَنا وتُدني المُنى ** مِنا وكلّ الهنا **نُعطاه في كل حين
وأمتِعنا بعلماءنا ومناصبنا وصُلحائنا وأهل السر فينا، وارزقنا الأدب معهم والمدد منهم، وثبِّتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، وبارك في الوفود التي وفدت، وفيمن جاء من أهل العلم وأهل التعلم، وأهل الحلم وأهل الإقبال وأهل النية، وانشر الخيرات هذه في الأمة المحمدية، وأحيِي ما مات ورُدّ ما فات، وزِدنا زيادات، وأسعِدنا بأعلى السعادات، يا مجيب الدعوات وعالم الظواهر والخفيات، والحمد لله رب العالمين.
07 مُحرَّم 1446