(228)
(536)
(574)
(311)
كلمة الحبيب عمر بن حفيظ ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف 1446هـ في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى
ليلة الأحد 12 ربيع الأول 1446هـ
الحمد لله، الواحد الماجد الأحد المبدئ المعيد، الخالق البارئ الفاطر الفعّال لما يريد، من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع كل شيء، خلق الخلق لِحكمة وطوى عليها علمه،
وأبرز لنا سبحانه وتعالى من علمه في هذا الخلق والإيجاد أن الحكمة الكبرى والنعمة العظمى وجود معرفته وعبادته، والذي يختص به سبحانه وتعالى من سبقت له السابقة من الإنس والجن والملائكة، الذين هم روح هذا العالم وأشرف ما في هذا الوجود وأكبره قدرًا، وأتمّه تأهيلًا لنيل نصيب من المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وجعل الأمر فيما حكم به من أبديْة الأرواح وأبدية الجنة والنار وأبدية العرش والكرسي، وما شاء أن يؤبده سبحانه وتعالى وأن يبقيه بإبقائه جل جلاله وتعالى في علاه، جعل الأمر كله يدور على سر هذه المعرفة والعبادة له سبحانه وتعالى في البطون والظهور، وجعل سر هذه العبادة والمعرفة به دائرة على نبوة ورسالة وتفهيم ودلالة، خصّص بها الأنبياء والمرسلين واختصّهم جل جلاله، وجعل الرأس والأساس في ذلك خير الناس، من به شُرِّفنا، ومن به عُرّفنا، ومن به أُكرمنا، ومن به أُتحِفنا، ومن به صُفّينا، ومن به اصطفينا، ومن به هُدينا، ومن به تميزنا عن الأمم، ومن به سُدْنا في القِدَم وفي الأبد، ومن به كنا خير أمة أُخرجت للناس، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله.
فلا والله لم يجعل المُوجِد في الوجود وجود هذا العبد كوجود سواه، ولم يجعل المُصَوِّر في الأكوان كلها صورة كصورة مصطفاه، ولم يجعل المُنشِئ منشئًا في الحس والمعنى كمنشئ عبده محمد بن عبد الله، ولا جعل في الاصطفاء اصطفاءً كاصطفائه، ولا في الأصفياء صفيًا كسيد أصفيائه، فهو المُميَّز، وهو المعرَّز، وهو المُكرَّم، سرت الكرامة إلينا من كرامته، والكرامة التي سرت من كرامته حيّرت عقول الملأ الأعلى فمن دونهم من أولي الألباب، فكيف بالذات التي سرت منها الكرامة، فكيف بالذات التي خُصّصت بالفضل الأعظم من رب العباد حاكم يوم القيامة جل جلاله وتعالى في علاه.
فما أعظم الساعة التي أنتم فيها مُتصلة بروح الوجود وسر الوجود وخَلْقه، وعجائب الاصطفاء من الحق سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده، فليحتفل من يحتفل في شرق الأرض وغربها بأي شيء وبأي أحد، لا والله لا مرتبة ولا منزلة عند الله لاحتفال كاحتفال بعبده محمد، وما عدا ذلكم فما من خير في شيء منها إلا ما اتصل به بوجه من الوجوه، وما انقطع عنه فهو محل البعد ومحل الظلمة ومحل الحجاب، وسبب العذاب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فالحمد لله على هذه المنة، والحمد لله على هذه الكرامة التي أكرمكم بها الرحمن سبحانه وتعالى، وجمعكم في ذكرى إبرازه لنبيه، إذنه بأن يبرُز في عالم الشهادة، وأن يظهر في عالم الحس، وأن يجيء إلى هذا القالب الذي رَكّبنا فيه من عالم الدنيا، فكان اليوم السعيد الأغر.
ليلة المولد التي كان للدين سرور بيومها وازدهاءُ
يوم نالت بوضعه ابنة وهبٍ من فخار ما لم تنله النساءُ
وأتت قومها بأفضل مما حملت قبل مريم العذراءُ
أيها المؤمنون بالإله الحق الحي القيوم الذي مرجعنا إليه، وما نعدّ غنيمة في الحياة إلا ما تهَيّأنا به لحسن لقائه ولحسن الرجوع إليه جل جلاله وتعالى في علاه، إن الحق تبارك وتعالى لا يقبل إيمانًا من مُدّعي إيمان يشهد أن لا إله إلا الله ويدّعي الإيمان به ثم يُكذب بواحد من رسله، أما بمحمد فالمُكذب به في أسوأ درجات الكفر بعيدًا عن الرب لا نصيب له في رضاه ولا في جنته، ولو ادّعى أنه يشهد أن لا إله إلا الله لكان تكذيب حقيقتها إنكاره لشهادة أن محمدًا رسول الله، ولا تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله وتُقبل عند الله إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله.
وكفى ذلك بيانًا لكم ما أراد المبدئ المعيد منكم، ما أراد الخالق الفاطر المنشئ الموجد منكم، في شأن الإيمان به وفي شأن توحيده جل جلاله؛ أن تتخلّوا عن انحراف مشاعركم وعواطفكم إلى شهوات أو أهواء أو اعتبارات غير ما أحب وما أراد، والذي أحب وأراد مُبَيَّن في الآية الكريمة: مشاعر وأذواق ووجدان وعاطفة ومواجيد، تُبرِز في عالم الحس حسن السلوك وخير المسار.
قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) ، (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ذوق ووجدان وشعور وإيمان، مترجم في سلوك: (وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ)
فلا يجوز أن نحب شيئًا قبل الله ورسوله والجهاد في سبيله جل جلاله، ومحبة الله جل جلاله هي عين الارتباط بمحمد بن عبد الله؛ فما رأينا ملكًا يحب الله لا يحب محمدًا، ولا رأينا نبيًا يحب الله لا يحب محمدًا، ولا رأينا جنيًا يحب الله ولا يحب محمدًا، ولا رأينا جمادات ولا حيوانات تحب الله ولا تحب محمدًا، فمحمد مقرون اسمه باسم الخالق المنشئ الفاطر الموجد، على قوائم عرشه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت هذه الحقيقة التي نحدثكم عنها، قال صاحب الرسالة في إنبائنا بها وبيان بعض شأنها: "إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه"، ثم يأمر جبريل أن ينادي في أهل السماء: "يا أهل السماء" هذا دين أهل السماء، هذه عبادة أهل السماء، هذا توحيد أهل السماء، هذا إيمان أهل السماء: "إن الله يحب فلان بن فلان فأحِبوه"، فيدينون الله ويُعبّرون عن إيمانهم بملائكة السماء، يعبرون عن إيمانهم بالله ويعبدون الله بمحبة هذا الإنسان المحبوب، هذه أخبار أهل السماء حدثنا عنها سيد أهل الأرض والسماء، حبيب رب الأرض والسماء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا دينهم، هذا توحيدهم، هذا إيمانهم، هذه عبادتهم، هذا مسلكهم: "إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه"، ومن فلان بن فلان وفلان بن فلان وفلان بن فلان عند محبة الله لسيد الأكوان صلوات ربي وسلامه عليه.
وجب على الأمة أن تستيقظ من غفلاتها الكبيرة وتعاود سر صلتها بسيد الحضيرة، وهذا الذي خُصّصوا به وكانوا خير أمة علائقهم، به صِلاتهم به، عليهم أن يراجعوا أنفسهم فيها، ويقيموا حقائق إيمانهم وتوحيدهم على ما أحب المُوحد المعبود الخالق الواحد الأحد، في تعظيمه وتعظيم أمره وتعظيم أنبيائه ورسله.
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وأراد الله تعالى أن يذكر فضل جبريل فقال: أنا اخترته لينزل كلامي على قلبك يا حبيبي، فإنه نزّله على قلبك بإذن الله، بإذن من عندي نزل إلى قلبك، كيف لا يُعرَف قدره وقد اخترت أن يوصل إلى قلبك سرّ وحيي، (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)،
ثم قال الله جوابًا على أولئك اليهود الذين قالوا جبريل عدونا: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)، معاداة المَلَك كفر، معاداة النبي كفر، معاداة الولي كفر، والعياذ بالله تبارك وتعالى، توجب وتقتضي محاربة الجبار الأعلى سبحانه وتعالى.
فيجب أن نعود إلى ذوق حقائق الإيمان، وننظر إلى صلتنا بمن أُنزل عليه القرآن سيد الأكوان، وحقائق محبتنا له، حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ، ونحيا على حبه ونموت على حبه، ونقَوّي شريف الصلة بهذا الجناب الأعلى فيما نقول ونفعل، وفيما ننوي ونعتقد، وفيما نُقبل به على الله جل جلاله، ونقابله به سبحانه وتعالى، ولتحسن صلتنا بهذا المقتدى، بهذا الهادي إلى الهدى والصراط المستقيم صلى الله عليه وآله وسلم.
في صلواتنا: وقد جعل الله تعالى فيها السلام عليه صلى الله عليه وسلم، وجعلها من أولها إلى آخرها مجال قدوة به، اقتداء به واهتداء بهديه: "صلوا كما رأيتموني أصلّي"، يقول صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا في قراءاتنا وعباداتنا وفي أسرنا وفي عاداتنا، فلنراجع صِلاتنا بهذا المصطفى.
وفي أعضائنا: لا يجوز أن نُطلق شيئًا منها في معصية الله، ولنقوِّم صلتها بمحمد بن عبد الله، الهادي إلى الله، عينيّ وأذنيّ ولساني ويدي وبطني وفرجي ورجلي، لا يجوز أن أصرفها في مخالفة ربي منصرفًا عن هدي حبيبه، حبيب قلبي صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وقلوبنا: لا يجوز أن نعصي بها الله، لا بِشكٍّ ولا بسوء ظن، ولا بكبر ولا برياء ولا عجب وغرور، ونحسن صلتها بالأصفى الأنقى الأتقى، الأطهر الأنور محمد بن عبد الله.
فيا رباه تدارك أمته، وأغث أمته، وعجّل بتفريج كروب أمته، وأصلح قلوب أمته، واجمعها على محبتك ومحبته، حتى تكون أنت ورسولك أحب إلى كل فرد من رجالنا ونسائنا وصغارنا وكبارنا مما سواكما، من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ ومن كل شيء في الوجود، يا بر يا ودود، حتى تقوم لنا حقائق الجهاد في سبيلك على الوجه الذي ترضاه يا الله.
تدارك أمة النبي محمد بن عبد الله، أصلح قلوب أمة النبي محمد بن عبد الله، وطهِّرها عن الأدران والشك والوسواس والريب، وما يجتهد عليها عدوك إبليس وجنده، فيزيغونهم ويحرفونهم عن سواء السبيل، ويحومون على القلوب بأنواع الظلمات والشبهات والتشكيكات.
اللهم انظر إلى قلوب أمة حبيبك محمد، يا مقلب القلوب والأبصار، واخصُص من في مجمعنا ومن يسمعنا بنظرة من عندك تُنقِّي بها قلوبهم عن جميع الأكدار وعن جميع الظلمات والشوائب، يا كريم يا غفار، حتى تتجلى لنا في الدنيا قبل الآخرة صورة حبيبك المختار، وندخل في دائرته، ونحضر في حضرته، ونسعد بالنظر إلى طلعته ومشاهدة غُرّته، ونحظى بخطابه، ونتخلق بأخلاقه، ونتأدب بآدابه، يا الله، يا من أرسلته إلينا رحمة ارحمنا به رحمة تدرجنا به في دوائره، وتحضرنا بها في محاضره، وتجعلنا من المقتفين لآثاره والمقتبسين لأنواره.
يا من أرسلته إلينا بالرحمة أسعِدنا به أعلى السعادات في الغيب والشهادات، واجعلنا من أسعد أمته برؤيته، ومن أسعد أمته بشفاعته، ومن أسعد أمته بمتابعته، ومن أسعد أمته بِقُرّة عينه، ومن أسعد أمته بسرور قلبه، ومن أسعد أمته بخدمته وخدمة شريعته، وخدمة أهل بيته وصحابته وخدمة أمته.
اللهم ارزقنا نصر ما جاء به، واجعلنا من خواص أنصارك وأنصاره، في ظاهر الأمر وإسراره، يا واهب المواهب، يا دافع المصائب، يا معطي المواهب والعجائب، يا رب القلوب والقوالب، يا الله، أغِث أمة النبي محمد بن عبد الله، واجعلنا في أنفعها لها وأبركها عليها، وانفعنا بهم عامة وبخاصتهم خاصة، يا حي يا قيوم، يا رحمن يا رحيم، يا ذا الجلال والإكرام، يا الله.
أكرمنا بجمع على حوضه المورود، أكرمنا بجمع تحت ظل لوائه المعقود، أكرمنا بجمع في جنات الخلود، يا بر يا ودود، يا حي يا قيوم، يا معبود، يا موجود، يا مشهود، يا الله، يا الله، يا الله.
حنّن علينا هذه الروح، وافتح علينا بأكبر الفتوح، وتولنا بما أنت أهله، يا قدوس سبوح، وأصلح شأننا كله، وعجّل بتفريج الكرب يا رب عن أهل فلسطين، وعن المسلمين في مشرق الأرض ومغربها ويمنها وشامها، يا حي يا قيوم، يا مغيث أغثنا، وداركنا وأدركنا وأنقذنا، وأصلح حسنا ومعنانا، وظواهرنا وخفايا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ونسألك لنا ولأمته من خير ما سألك منه عبدك ونبيك المصطفى محمد ﷺ، ونعوذ بك لنا ولهم من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك المصطفى محمد ﷺ، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.
12 ربيع الأول 1446