(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في معهد الفخرية بجاكرتا عاصمة إندونيسيا، ليلة الأحد 27 محرم 1440هـ، بعنوان :
عظمةِ الرِّسالة ومَقصدها وحقيقةِ انتماءِ المؤمنين
الحمد لله الملكِ الحق المُبين الواحدِ الحي القيوم العظيم، ربُّ كلِّ شيء، وإلهُ كلِّ شيء، بيدِهِ مَلَكُوتُ كلِّ شيء، وهُو القَديرُ على كلِّ شيء، منه المُبتدأ وإليه المَرجِعُ والمآب، (إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض إلا آتِي الرَّحمَنِ عبدًا * لَقد أحصَاهُم وَعدَّهُم عَدَّا * وكلُّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فَردًا).
ونشهد أن لَّا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، عزَّةُ كلِّ مخلوقٍ على قَدرِ ذِلَّتِه للهِ العَزيز، وشرفُ كُلِّ مخلوقٍ على قدرِ خُضوعِه لله العَلِيّ، لَا يذلُّ مَن والاه، ولا يَعِزُّ مَن عَادَاه، ولا يظنُّ غيرَ ذلك إلاَّ أهلُ الوهمِ الذي قريبًا ينزاح ويَنزَاحُ بِناه، (وللهِ العزَّةُ ولِرَسولِه ولِلمؤمنينَ، ولكنَّ المُنافقين لا يعلَمُون)، اللهم علِّمْنَا هذا العلمَ النَّافِعَ، ولا تُبقِ في قلبِ حاضرٍ ولا سامعٍ أثرًا مِن أثرِ النِّفاق، حتى نَعلمَ ما علَّمتَ أحبَابَك يا خلّاق، وندركُ الحَقِيقَة، ونتَّصِل بخيرِ الخَلِيقَة.
ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيُنِنا ونورَ قُلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ونَبِيُّه وصفيُّه وحبيبُه وخليلُه، أَرسلَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ، لِيُظهرَه عَلى الدِّين كُلِّه، ولو كرهَ المشركون..
دعانا إلى حقٍّ بحقٍّ مُنزََّلٍ ** عليه من الرحمن أفضلَ دعوةِ
أجَبنا قَبِلنَا مُذعِنين لأمرِه **
اللهم إنَّ قلوبًا كثيرةً أخرَّها عن الإذعانِ لأمرِ نبيِّك هَواها وشَهواتُ نفوسِها، وظنونٌ وأوهامٌ مِن إرادةِ غيرِك، فانْقَطَعَتْ عن حقيقةِ الخُضوعِ لأمرِ نبيِّك، فنَسْألُكَ أن لاَ تُبقِ في قلوبِنا وقلوبِ مَن يسمعُنا ذرَّةً مِن هذا الانقِطاعِ، وارزُقْنا كمالَ الإذعَانِ لما جاءَ به حبيبُك المُطَاع، لِيَصِحَّ لِكُلٍّ منَّا أن يقولَ :
أجَبنا قَبِلنَا مُذعِنين لأمرِه ** سَمِعنا أَطَعنَا عَن هُدًى وبَصيرةِ
"فيَا ربِّ ثبِّتْنَا على الحقٍّ والهُدَى ** و يَا رَبِّ أَقبِضْنَا على خيرِ مِلَّةِ
وعُمَّ أُصولاً والفروعَ برحمةٍ ** وأهلًا وأصحابًا وكلَّ قرابةِ
وسائرَ أهل الدين من كلِّ مسلمٍ ** أقامَ لك التوحيدَ مِن غير ريبةِ
وصل وسلِّمْ دائمَ الدهرِ سرمدًا ** على خيرِ مبعوثٍ إلى خيرِ أمَّةِ
محمدٍ المخصوصِ منكَ بِفَضلِكَ ** العظيمِ وإنزالِ الكتابِ وحكمةِ
وعَلى آلِه الأطهار، وأهلِ بيتِه المقتَرِنِين بالقرآن لَن يتفرَّقا، وعلى أصحابِه الأخيار، المهاجرين والأنصار، سادةِ أهلِ التُّقى، وعلى مَن تَبِعَهم بإحسان، وأحبَّهم ووالاهُم، واقتدَى بهم في السرِّ والإعلان، وعلىَ آبائهِ وإخوَانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وآلِهم وصحبِهم أجمعين، وعلى الملائكةِ المقرَّبِين، وعلى جميعِ عبادِك الصالحِين، وعلينا معهم وفيهم، بِرَحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، فيا من أُكرِمتُم بالحضور، أَضيفُوا إلى هذا الحضور قوَّةً في حُضورِ القُلوب، هَيبةً لعلَّامِ الغُيوب، ورجاءً في عطائه الذي لَا حَدَّ له، وطلبًا لِرِضوانِه الأكبَر، واتِّباعاً لحَبيبِه، واقتداءً بالإمامِ الأكبر، مُستَمطِرِين لرَحماتِ الرحمَن، مُتَلَقِّين لِفَائضَاِتِ الامتِنان.
إنَّها مجامعُ عُقِدَتْ على أَيدِي سَادَاتِها، وَأَئِمَّتِها وقاداتِها، ومَن هُم إلاَّ خلاصةٌ مِن كُبارِ علماءِ العِتْرَة الطاهرَة، بِأَسانيدِهم القَويّةِ الصحيحةِ المتَّصِلة المتَكَاثرةِ، المتَّصلةِ بأهلِ الصِّدقِ والإخلاصِ مِن جَميعِ صُلحاءِ الأمَّةِ على مَدى القرونِ في تلكَ الدائرة، المُنتهيةِ إِلى إمامِهم الأكبر، وسيِّدِهم الأفخَر ،حبيبِ اللهِ الأعظمِ الأطهَر، وصَفوةِ الله مِن مُضر، فرجعَ عقدُها إليه، فَهُو الداعِي بإِذنِه إليه، وهو الدَّالُّ بِفَضلِه عليه، فلتَتأمَّلْ قلوبُكم خِطابَ اللهِ إياه، (يا أيها النبي إنَّا أَرسَلْنَاك)، إنَّا أرسلناك، إنَّا ، فيِ أُلوهيَّتِنا، في رُبوبيَّتِنا، في عظمتنا، في رَحمانيَّتِنا، في خَلقِنا لكلِّ شيء، في قُدرتِنا على كلِّ شَيء، (إنَّا أرسلناك)، لا تَنتهِي إلى استنادٍ إلى شيءٍ مِن الكائنات، ولا تعوِّلُ على أرضٍ ولا سموات، مصدرُ إرسالِك ربُّ الكائنات، فليَفقَهْ أتباعُك معنَى الانتماءات، وأسرارَ الولاءات، إذا دعتْهُمُ النُّفوسُ والأهواء، أو دعاهُم الغافلُون وأهلُ الإغوَاء، إلى انتماءٍ واستنادٍ إلى أيِّ شيء، مِن أفرادٍ وجماعات، أو شعوبٍ أو حُكومات، أو غيرِهم مِن جميعِ الكائنات، استحيَوا مِن عظمتِنا أن يستَبدِلُوا الانتماءَ إلينا بالانتماءِ إلى مَخلوقٍ لنا، فيَرفُضونَ إلاَّ أن يكونُوا في تبعيَّتِك، ويأبَوْنَ إلا أن يكونوا داخلِين على حضرتِنا مِن حضرتِك.
(إنا أرسلناك)، لا إنس ولا جنّ ولا ملائكة، ولا حضارات ولا هيئات، ولا عرب ولا عجم، ولا دول صغرى ولا كبرى، فوقَ ذلك كلِّه، أعظمُ مِن ذلكَ كلِّه، أكبرُ مِن ذلك كلِّه، (إنا أرسلناك، شاهداً، ومبشِّراً، ونذيراً، وداعياً إلى الله) تُحَرِّرُ مَنِ استجابَ لك مِن نفسِه، وتُحَرِّرُهُ مِن الأسرِ للإنسِ والجنِّ، وتحرِّرُه وتخلِّصُه مِن الأسرِ للشُّعوب أو للحُكومات، وتطهِّرُه مِن الخُضوعِ للأغنياء أو الفقراء، لِيَكونَ عبدًا خالصًا واحدًا لواحدٍ، (ودَاعيًا إلى الله بإذنه)، باختيارِه، بإرادتِه، باصطِفائه، بانتِقائِه، ليس بنظرِ أحدٍ غيرِه، ولا باختيار مَلكٍ ولا إنسيٍّ ولا جنٍّي.
(وسراجاً منيرا) إذا أشرقَ سَنًا مِن شُعاعِ هذا السراج في قلبِك استنارَ نوراً يعظُمُ شأنُه في السمواتِ والأرض، بل يعظمُ عندما تتبدَّلُ السمواتُ والأرضُ، (يوم لا يخزِي اللهُ النَّبيَّ والذين آمنُوا معه، يسعى نورُهم بين أيدِيهم وبأَيمانِهم، يقولون ربَّنا أتمِم لنا نورَنا، واغفرْ لنَا إِنَّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ)، أتمِم لنا نورَنا، فلا تبقَى ذرَّةٌ مِن ظُلمةِ الهوى، ولا تبقَى ذرَّةٌ مِن ظُلمةِ الشَّهوات، ولا تبقى ذرَّةٌ مِن الاعتماد على غيرك، ولا تبقَى في قلوبِنا ذرَّةٌ مِن ظلمةِ الغَفلةِ عنك، ( أتمِم لنا نورَنا واغفر لنا) حتى لا تبقَى في صحائفنا سيِّئَة، ولا ذنبٌ ولا خطيئة، ولا معصية، لا صغيرة ولا كبيرة، لا سِرِّية ولا جَهريَّة، لا قلبيِّة ولا عُضويَّة، مغفرةً واسعة، مغفرةً كاملة، مغفرةً شاملة، مغفرةً عظيمة، ( واغفر لنا، إنّك على كل شيء قدير )
وليعلمِ الحاضرون من هذه المعاني ما هي انتماءاتُهم، ما يجِبُ أن تكونَ عليه ولاءَاتُهم، مَنِ اجتمعَ مِن أهلِ الاهتمامِ بالدعوةِ إلى اللهِ تعالى مِن الأساتذةِ والمعلِّمين ومَن حضرَ معَهم، إنّ مَا اجتمَعنا عليه همٌّ مِن هُمومِ سيدِنا المصطفى، إنَّ ما اجتمَعنا عليه هديٌ مِن هديِ حبيبِ الرحمن، إنَّ ما اجتمعنا عليه مُهمةٌ من مُهمَّاتِ زينِ الوجود، فهل يمكنُ أن يجتمعَ في الأرض عربيٌّ أو عجميٌّ على شيءٍ أعظمَ مِن ذلك ؟ أو أغلى مِن ذلك ؟ أو أرفعَ مِن ذلك ؟ ما هوَ ؟ أيُّ شيءٍ في الوجود ؟ أشيءٌ مِن هذه الأشياءِ التي تنزاحُ عمَّا قريب ؟ وتهلكُ ويَهلكُ أصحابُها عمَّا قريب ؟ وتزولُ ويزول أصحابُها عمَّا قريب ؟ ثم يتعرَّضون لندامةٍ أبديِّة ؟ وحسرةٍ سرمديَّة ؟ (يوم يعضُّ الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا)، لا يوجدُ في القيامةِ مَن يقول: ليتني اتَّخذتُ مع دولةٍ من دول الأرض سبيلا، لا يُوجد في القيامة مَن يقولُ ليتَنِي اتخذتُ مع حزبٍ من أحزابِ الدنيا سبيلا، لا يوجَدُ يوم القيامة من يقولُ ليتني اتخذتُ مع رئيسٍ أو وزيرٍ سبيلا، لكن ( مع الرسول) فقد ظهرتِ الحقيقة، وعُرف مقدارُ خيرِ الخليقة، ومَن هُو الأكرمُ عندَ الله، ومَن هُو الأعظمُ عند الله ، ومن هو الأجلُّ لدى الله. رزقَنا اللهُ وإياكم قوَّة السَّبيل، مع هذا الرسولِ، تزدادُ هذه القوَّةُ في كُلِّ ليلة، وفي كلِّ يومٍ من أيامِ أعمارِنا، حتى نكونَ على أقواها ساعةَ الموتِ، ولحظةَ الخروجِ مِن هذه الحياة، واسقِنَا من سَلْسِبيلِه، وأدخِلنا في دَائرته، وأَحضِرْنَا في حضرتِه، وشرِّف أعيُنَنَا برُؤيةِ طلعتِه، ومُشاهدَةِ غُرَّتِه، والتمتُّعِ بِجمالِه، لنتهيأَ بذلك للنَّظرِ إلى وجهِك الكريم يا كريم..
وإذْ علمتُم سرَّ الانتماءِ إلى سيِّدِ أهلِ الأرضِ والسماءِ فأرُوا ربَّ الأرضِ والسماءِ مِن قلوبِكم ما يُرضيهِ عنكم، والَّذي يُرضيه بأن تكبِّرَه قلوبُكم فلا يكونُ فيها أكبرُ مِن الله، والذين يقولون "الله أكبر" كثير، والذين تتحقَّقُ قلوبُهم بـ "الله أكبر" قليل، يا ليت كلَّ مَن قالَها تحقَّقَ بها، لكنَّ حقيقتَها شأنٌ عزيزٌ عند الله، لا يعطيهِ إلا مَنِ ارتضاه، ومَن أرادَ حُلولَه في جنَّتِه، ومرافقتَه لخَيرِ بَرِيَّته.
ولقد نادى اللهُ أعظمَ قلبٍ تحقَّقَ بهذه الحقيقة، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (ولا تَجْهرْ بصلاتِكَ ولا تُخَافِت بها وابتغَِ بينَ ذلك سبيلا * وَقُلِ الحمدُ لله الذي لم يتَّخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملكِ ولم يكن له وليٌّ مِن الذلِّ وكبِّرهُ تكبيرا) ونشهدُ أنَّ أصدقَ مَن قالَ "الله أكبر" عبدُ الله محمَّد، ونشهدُ أنَّ أعظمَ قلبٍ تحققَ بِسِرِّ "الله أكبر" قلبُ النَّبي محمد، لم يطَّلع مِن عظمةِ الله تعالى قلبٌ في الأرضِ والسماء على ما أطلعَ اللهُ عليه قلبَ نبيِّه محمد، فكان تكبيرُه أكبرَ تكبير، ولذلك كان صاحبَ المقامِ المحمود، اللهم حَنِّن روحَه علينا، اللهم عطِّف قلبَه علينا، أَنْهِضْ مِنَّا العزائمَ لنقتدِيَ بِه، ونَثبُتَ على دَربِه، ونتَعاونَ على نُصرتِه، بِكلِّ ما نَملِك، فَإنَّنَا أصلُنا عدمٌ لَسنا بشيء، وأنت الذي خلقتَنَا فنحن وما نملكُ مِن خلقِك ومُلكِك، فاحفَظنا مِن إساءةِ الأدبِ أن نبذلَ ما ملَّكتَنَا في ما عنه نهيتَنا، وبعد ذلكَ أكَّدتَ علينا العهدَ ونحن مُلكُك فقلت: ( إنَّ اللهَ اشترَى مِن المؤمنينَ أنفسَهم وأموالَهم) نسبتَها إلينا مجازاً وهي مُلكُك ثم جعلتَنا بائعين وأنتَ تَشتري، ما أعظمَ كرمَك! وويلٌ لمن بذلَ نفسَه لِغَيرِك، وويلٌ لمَن بذلَ مالَه في غيرِ مَرضاتِك، خلقَتَه وملَّكتَه، ثم اشتَريتَ منه!!؟ ثم خانَ ذلك كلَّه وعصاكَ بنفسِه أو مالِه!! ما أسوأه مِن عبد! ما ألْأَمَهُ مِن مخلوق ! نسيَ الخالق ! نسيَ المعطي ! نسيَ المشتري ! وفوقَ شرائهِ أعطانا عهداً إن قُمنا بالواجب كما يحبُّ أن يُدخلَنا جنَّتَه، (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة)، هل تعرفُ قدرَ هذا الجزاء ؟ وعظمةَ هذا العطاء؟ (بأنَّ لهمُ الجنَّة)، فكيف يَفُونَ بعهدِ الله ؟ (يُقَاتِلون في سبيلِ الله فيَقتُلُون ويُقْتَلُون وعدًا عليه حقًّا في التوراةِ والإنجيلِ والقرآن ومَنْ أوفَى بِعَهدِه مِن الله) ؟ يَعِدونكُم ويَمُنُّونَكم ثم يُخلِفُون، ولكنَّ اللهَ لا يُخلفُ الميعاد، (ومن أوفى بعهدهِ مِنَ الله، فاستَبشِرُوا بِبَيعِكُم الذي بايعتُم به وذلك هو الفوزُ العظيم) اللهم اجعَلنا مِن أهلِ الفَوزِ العظيم، وألحِقنا بأهلِ الفَوزِ العظيم, وحقِّقنا بحَقائقِ الفَوزِ العظيم.
قال في الآية الأخرى : (ليدخل َالذين آمنُوا وعملُوا الصالحات جناتٍ تجرِي مِن تحتِها الأنهار خالدين فيها ويكفِّرَ عنهم سيئاتِهم , وكان ذلك عندَ اللهِ فوزًا عظيما)،
فما هي صفاتُ المُوفِين بِعَهدِ الله ؟ تأملْهَا فقد ذكرهَا ربُّك بنفسِه:
(التَّائبون) حقَّقَنا اللهُ بحقائقِ التوبة، ورفعَنا في مراتبِ التَّوبة، وجعلَنا من التوَّابين، وجعَلنا مِن المتطهِّرين، وجعَلنا مِن عبادِه الصالحين، وسيدُ أهلِ التوبةِ سيدُ المعصُومِين، ما كَانَ مُجَردَ تائب، ولكنَّه توَّابٌ كثيرُ التوبة، يُعدُّ له في المجلسِ الواحد مائةَ مرة مِن قولِ "ربِّ اغفِر لي وتُب عليَّ إنَّك أنتَ التواب الرحيم"، يسمعونها منه أول مرة وثاني مرة في مجلس واحد إلى مائة مرة وهو يكرر: "ربِّ اغفِر لي وتُب عليَّ إنَّك أنتَ التوابُ الرحيم", فحقِّق التوبة، وجدِّد التوبة، وكن توَّاباً بالليل والنهار، حتى تدخلَ دائرةَ محبةِ الله.
(التائبون العابدون)، يحبُّون العبادة، يَصدُقُون في العبادة، يُخلِصُون في العبادة، تَحضرُ قلوبُهم مع المعبُود، يحبُّون الصلاة، تبعَ مَن قال: "وجُعِلت قرةُ عينِي في الصلاة"، يؤدُّون الفرائض بإحسان، ويحرِصونَ على الوترِ والرَّواتِب والضُّحى، وصلاةِ التراويح وأنواعِ ما ندبَنَا اللهُ إليه من صلاةِ العِيدين وغيرها، ومَن واظَبَ على صلاة الضحى أغناه الله ولم يفتقرْ أبدا، حتى قال علماءُ الأمَّة : " لا فقرَ مع ضحى"، بل قَالوا إن الله يُمدُّه مِن الحفظِ ما لا يقدر عليه جنيٌّ و لا شيطانٌ حتى إنَّ نَفَسَهُ يَحرِق الشياطين، ومع التوبةِ والعبادةِ يلهَجُون بِحَمدِ المحمود، يشهدُون فضلَه وإحسانَه، وجودَه وامتنانَه. (التائبون العابدون الحامدون)
(السَّائِحُون) يحقِّقُون الحمدَ بمواصلةِ الاجتهاد، فيَسِيحُون بفِكرِهم في عظمةِ الله، ويسيحُون بالدعوةِ إلى الله في أرضِ الله وخلقِ الله، ويسيحون بالقيامِ بالجهادِ الصحيحِ في سبيلِ الله، ويَسِيحونَ بسَرائرِهم في شهودِ الله، وبأَرواحِهم في محبَّةِ الله، وبِقُلوبِهم في معرفةِ الله.
ثمَّ خَصَّ مِن جميعِ هذه العبادات أمرَينِ عظيمَين لمكانتِهما وعظَمةِ منزلتِهما، فقال (الراكعون الساجدون)، كان يقول الحبيبُ علِي الحبشِي: أُحِسُّ في الركوعِ بلذَّةٍ لولَا المأمومون خلْفِي لم أرفَعْ من الركوع، وقال الحبيبُ عبدُ الله الشاطري عليه رحِمَهُ الله لبعض المشائخ: إنِّي أُحِسُّ في السجود بلذَّةٍ لولا المأمومون خلفي لن أقوم من السجود. اللهم حقِّقنا بحقائقِ الركوع، وحقِّقنا بحقائقِ السجود.
ثم أظهر تعالى اختياراتِهم في المسلك في حركةِ الحياة، فقال (الآمِرُون بالمعروفِ والنَّاهُون عَنِ المنكر)، لا يرضَونَ بمعصيةِ الله، ولا يُقِرُّون أنفسَهم ولا أهلَهم ولا أولادَهم ولا أصحابَهم عليهَا.
وفوقَ ذلك كلِّه حرصٌ أن لا يتجاوزُوا حدودَهم ولا يُضيِّعوا واجباتِهم، فقال (والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين).
وأنتم بهذه المعاني تَعلَمون السُّموَّ الصادقَ مع اللهِ عن التأثُّر بتأثيراتِ الخلقِ وطبائِعِهم، إنْ مَدَحَهُ مَادِحٌ لَا يَغْتَرُّ بمَدحِه ولا يتكبَّر، ويزيدُه ذلك خضوعاً وتواضعاً واجتهاداً، وإن سبَّه سابٌّ لم يحقدْ ولم يحسد ولم يغضبْ، وقَابلَ السيِّئةَ بالحسنة، لأنَّ مُرَادَه كبير، ومقصودَه عظيمٌ.
وقد تجرَّأَ قليلُ أدبٍ مرَّ على سيدِنا عمر بن عبد العزيز في أيامِ خلافتِه، قابلَه وواجَهَهُ بالسَّبِّ والشَّتم، فقال له سيدُنا عمرُ بنُ عبدِ العزيز: أتريدُ أن آخُذَ منكَ اليومَ ما تَأخُذُهُ منِّي يومَ القيامة ؟ اذهبْ فأنتَ في حلٍّ. أتريد أن تبعثَ غضبي لأجلِ هَيبةِ الخلافة والغُرورِ بها، فتنال مني غداً ما لا أنالُه منكَ اليوم !؟ لا أُمكِّنَك مِن ذلك، قد عفوتُ عنك. هذا الذي قصدَ العظيم.
فتَعلمونَ مِن خلال كلِّ ما ذكرنا أنَّ السائرَ إلى الله في الطريقِ القويمِ يبقى على صلةٍ بالذكرِ وعلى حقيقةِ وصلٍ بالعبادة وعلى مُلازمةٍ للقرآنِ والأذكار، اسمع ما وصفَ اللهُ بِه أنبياءَ مِن أنبيائه ورُسله الكرام، والرسل سادةُ الدُّعاة، قال (إنهم كانوا يدعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا، وكانوا لنَا خاشعين).
وقال عن جماعةٍ مِن أولادِ سيدِنا إبراهيم عليه السلام: (وجعلنَاهُم أئمةً يهدُونَ بِأَمرِنا وأوحَينَا إليهِم فعلَ الخَيراتِ وإقامَ الصَّلاة وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لنَا عَابدِين)، هذه صفات النَّبيِّين، فلابد أن نعلم معنى دعوَتِنا لِربِّنا رغَبًا ورهَبًا، وخشوعِ قلوبِنا لعظَمتِه، وفعلِ الخيرات، وإقام الصلاة، وأسرارِ العبادة للمعبود، وتاجُ ذلك كلِّه المبرهنُ عن صدقِ صاحبِه حسنُ معاملتِه مع الخلقِ وصَبرِه عليهم وتلطُّفُه في تقريبِهم إلى الربِّ .
أكرمَنا الله وإياكم بتلكَ الصفاتِ الحسنة، وسَار بنا في تلكُم الطريقةِ المستحسَنة، وأيقَظَ قلوبَنا مِن كلِّ غفلةٍ وسِنَة، ورزقَنا حُسنَ اتّباع السُّنة.
إنها ساعةُ فضلٍ من المتفضِّل، وجودٍ وطَولٍ مِن المتطوِّل، فتوجَّهُوا إليه، واخشعُوا له، وتذلَّلُوا بين يَدَيه، وادعُوه رَغَبًا ورهَبًا، ورجاءً وخَوفًا وطمَعًا، واسأَلُوه، ونادُوه، واطلبُوه، وارجُوه، فهو أقربُ إليكم، أقربُ إلى كلٍّ مِن حبلِ الوَريد، وهو الناظرُ إليكم، والمطَّلعُ عليكم، والمراقبُ ما في صدورِكم، (واعلمُوا أن الله يعلمُ ما في أنفسكم)، فلا تجَعلْ في نُفوسِنا إلا ما يُرضِيك، وجميع الحاضرين والسامعين، وإليكَ نتوجَّه، وبحبيبِك محمدٍ نتوسَّل، وبصحابتِه وأهلِ بيتِه، وأهلِ حضرتِه أجمعين، زدِ المؤمنين في إندونيسيا إيمانًا وتقوًى، كمَا حسُنَ ارتباطُ أجدادِهم مِن قبلُ بالصالحين وأهلِ البيتِ الطاهرِ فقوِّ رابطةَ هَؤلاء، وإن وجدت دعوةُ نبيِّك محمد أرضاً خصبةً في قلوبِهم فوسِّعِ اللهم لأنوارِ وأسرارِ هذه الدعوة، وعُرِفُوا على مدى قرونٍ سابقةٍ بحسنِ الأخلاق، واللُّطفِ وحُسنِ المعاملة، نمَّاها فيهِم دعوةُ نبيِّك محمد، وانتشارُها بالأولياء التسعة ومَن قبلَهم ومَن جاءَ بعدَهم، فارفَعْ درجاتِ المُتقَدِّمِين وأيقِظ قلوبَ الحَاضِرين.
اللهمَّ إنَّ جميعَ دُولِ الأرض لا تستطيعُ أن تدفعَ عنهم زلازلَ ولا فيضانَاتٍ مُغرقَة، ولكن أنتَ بِقُدرَتِك تقدرُ، وقدِ اقتَضَت سُنَّتُك أن تجعلَ هذه القدرةَ جاريةً بإرادَتِك لمن أنابَ إليكَ وخشَعَ وَخَضَع، ولِحَبِيبِك اتَّبَع، فأعطِنا في قلوبِنا وجوارِحِنا ذلك النُّور، وادفَع عنَّا هذه الأضرارَ في البُطونِ والظُّهُور، نشُكُو إليكَ زلزلةً في الأرضِ وزلزلةً في القُلوب، ونشكُو إليكَ غرقًا بالماءِ للأجسادِ وغرَقاً بظُلمات الشرِّ للأفكار والعُقول، ومَن يُخلِّصُنا مِن كلِّ ذلك؟ ومَن يدفعُ عنا شرَّ ذلك؟ لا أحدَ غيرُك يا مَلِكَ الممالِك، فالطُفْ بنَا وأهلِ إندونيسيا، وادفَع جميعَ الآفاتِ عنهم.
وخُذْ بأَيدِي أحبابِنا هؤلاءِ الدُّعاة، وارزقهُم الصدقَ والإخلاص، وأذِقْهم لذةَ المُناجاة، وارزقهُم الصفاءَ والمصافاة، واقبَلهم يا الله، وأجرِ لهم وعلى أيديهم الخيراتِ الكَثيرات، ولا تَصرِفْنا مِن الَمجمَعِ إلا بِغُفران، وتَطهيرٍ عن الأدران، وتَوبةٍ مِنَ العصيان، وشِفَاءٍ مِن الأَمْرَاض، وسلامةٍ مِن كُلِّ شرٍّ، وصلاحٍ لما بطَنَ و ما ظهر، يا أرحم الراحمين.
وضاعِف خيراتِ هذه الفخريَّة وهذه المباني الزهيَّة بمضاعفاتٍ لا غايةَ لها، وسُرَّ بذلك قلبَ الحبيبَ سالِمَ بن أحمد بن جندان، وولدَه نوفل، وإخوانَهم وأصولَهم وفروعَهم إلى فخرِ الوجود الشيخ أبي بكر والإمام عبد الرحمن السقاف إلى الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم، إلى المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، إلى علي زين العابدين إلى الحسين والحسن إلى علي بن أبي طالب، إلى فاطمة الزهراء إلى أبيها، إلى والدها، إلى أصلِها، إلى مَنْ قال لَها يا أمَّ أَبِيهَا، بِما بَينَك وبينَهُ حقِّقْ لَنَا المُرَاد، وارزُقنا المحبةَ والوِداد، وألحِقنا بخيارِ العِباد، وأعِد علينا عوائدَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعَلِي، وأهل بيعةِ العقَبة وأهل بدر وأهل أُحد، وأهل بيعةِ الرضوان، وسائر الصحبِ الأكرمين، وأهلِ البيت الطاهرين، والأنبياء والمرسلين وأتباعهم أجمعين، والملائكة المقربين، وقُطبِ زمانِنا، وجميع الأولياء والصالحين، وجميع المؤمنين، يا أرحم الراحمين،اقبل ذلك، واستجِب لنا في ذلك، وحقِّق لنا ذلك، يا الله، يا الله، يا اللهُ، يا اللهُ، يا الله ... يا قريبُ يا مجيبُ وزِدنا مِن فضلك ما أنتَ أهلُه، واصلِح لنا الشأنَ كلَّه، واختِم لنا بالحُسنى وأنت راضٍ عنَّا. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
27 مُحرَّم 1440