شؤون الايمان والشرع المصون ونتائج العمل به أو مخالفته في الدارين

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في اختتام الدورة الصيفية الثالثة والعشرون في رباط الحبيب حسن بن إسماعيل الحامد في منطقة عينات، وادي حضرموت، ليلة السبت 4 ذي الحجة 1446هـ بعنوان:

شؤون الايمان والشرع المصون ونتائج العمل به أو مخالفته في الدارين

يتحدث في المحاضرة عن أهمية العلم الشرعي في حياة المسلمين، وفضل تعليم الأولاد كلام الله وسنة رسوله ﷺ والفقه في الدين، مبيناً أن ذلك هو زاد الحياة والوسيلة للدرجات في الجنة، ويُبيّن تاريخ انتشار العلم في وادي حضرموت وسيرة الشيخ أبي بكر بن سالم وفضله، وكيفية تأسيس الرباط على يد الحبيب حسن بن إسماعيل الحامد، كما يذكر أهمية استعداد المسلم للآخرة من خلال العلم النافع والعمل الصالح، وضرورة وقاية الأهل من النار بتعليمهم أمور دينهم، وختم المحاضرة حول فضائل أيام العشر من ذي الحجة وآداب عيد الأضحى، وما يستحب فيها من أعمال وأذكار.

نص المحاضرة مكتوب:

الحمدُ للهِ على هذهِ النِّعمةِ وعلى هذا التَّوفيقِ، وعلى هذا التَّيسيرِ من حضرةِ اللَّطيفِ الخبيرِ جلَّ جلالُه، فيما قامَ بكم وبينكم مِن تعليمِ هؤلاءِ الأولادِ وأخذِهم النَّصيبَ من كلامِ اللهِ وكلامِ رسولِهِ، والفقهِ في دينِ اللهِ جلَّ جلالُه، والآدابِ الكريمةِ النَّبويَّة.

ثمار تعاليم الشرع المصون:

وهذا هو حقائقُ زاد الحياةِ والوفاةِ والبرزخِ ويومِ الموافاةِ، والوسيلةُ للدَّرجاتِ في الجنَّة.

ومِن غيرِهِ لا تصلحُ الحياةُ، ولا تستقرُّ، ولا يطمئنُّ أصحابُها؛ لأنَّه بفقدِنا لآدابِ نبيِّنا ولتعاليمِهِ ولشؤونِ الشَّرعِ الَّذي جاءَ بهِ نكونُ في المُعرِضينَ عن ذِكرِ اللهِ إذا فقدنا ذلك، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا).

فلا تصلحُ حياتُهُ، يكونُ ربَّ أسرةٍ، يكونُ مع كونه ربَّ الأسرةِ مدرِّسًا أو عاملًا أو مهندسًا أو طيَّارًا أو وكيلًا أو رئيسًا أو وزيرًا أو إلى غيرِ ذلك.

إذا كانَ مُعرِضًا عن ذِكرِ اللهِ فالعيشةُ الضَّنكُ لازمٌ له، لا بدَّ أن يعيشَ عيشةً ضنكًا. والأمرُ ما يقتصرُ على هذا، المصيبةُ الأكبرُ أيضًا الوفاةُ وما بعدَها، (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، والعياذُ باللهِ تعالى.

ولكن قالَ اللهُ: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) والهُدى هو هذا: الوحيُ المُنزَّلُ، القرآنُ والسُّنَّةُ الغرَّاءُ والفقهُ الشرعٌ مصونٌ والآدابُ النَّبويَّةُ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى).

لا يضلُّ ولا حوله من الضَّلالِ ولا من الشَّقاءِ في حياتِهِ، عندَ وفاتِهِ، في برزخِهِ، في يومِ القيامةِ.

النية الصالحة في طلب العلم:

ولا يمكنُ أن تُكتَسَبَ الدَّرجاتُ في الجنَّةِ إلَّا من خلالِ هذهِ التَّعاليمِ، من خلالِ هذهِ الشَّريعةِ والعملِ بها، بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ.

ولا يتمُّ ذلك إلَّا بهذهِ الوسائلِ والوسائطِ، ويترتَّبُ عليها درجاتُ الجنَّةِ، حتَّى يُخبرُ النَّبيُّ ﷺ في مهمَّةِ طلبِ العلمِ إذا اقترنَ بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ الكُبرى.

ما النِّيَّةُ الصَّالحةُ الكُبرى؟ أن يُحيِيَ الإسلامَ، يُحيِيَ الإسلامَ في نفسِهِ وأسرتِهِ وبيتِهِ وبلدِهِ والعالمِ. قالَ ﷺ: "مَن جاءَهُ الموتُ وهو يطلبُ العلمَ ليُحيِيَ بهِ الإسلامَ فبينَهُ وبينَ الأنبياءِ في الجنَّةِ درجةٌ واحدةٌ".

تحتَ النَّبيينَ مباشرةً، يطلعُ في الدَّرجاتِ إلى وراءِ الأنبياءِ والمرسلينَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، أعلى درجاتِ أهلِ الصِّدِّيقيَّةِ الكُبرى يحوزُها مَن كانَ عندَهُ قلبٌ فيهِ نيَّةٌ أن يُحيِيَ الإسلامَ وآخذًا للوسيلةِ، والوسيلةُ طلبُ العلمِ الَّذي بُعِثَ بهِ نبيُّ اللهِ محمَّدٌ ﷺ.

سبب انتشار الخير للعالم

هذا المسلكُ الَّذي قامت عليهِ حياةُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وقامت بهِ خيراتُ العالمينَ في الشَّرقِ والغربِ.

الرَّحمةُ الَّتي أنزلَها اللهُ بنبيِّهِ محمَّدٍ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

فكلُّ خيرٍ في اليمنِ أو في الشَّامِ أو في مصرَ أو في المغربِ أو في أفريقيا أو في إندونيسيا أو في غيرِها من بقاعِ الأرضِ، ما وصلَ إليهم إلَّا من هذا الطَّريقِ وأثرِ شرعِ المصطفى محمَّدٍ ﷺ.

أثرُ القرآنِ الَّذي نزلَ عليهِ، أثرُ السُّنَّةِ الَّتي بيَّنت القرآنَ، أثرُ الآدابِ والأخلاقِ؛ فكلُّ الخيرِ في العالمِ هذا مصدرُهُ وهذا أصلُهُ.

وانتشرت الخيراتُ، وخصَّ اللهُ تعالى يمنَكم ثمَّ حضرموتَكم بنصيبٍ وافرٍ من عهدِ النَّبيِّ وأيَّامِ حياتِهِ من الصَّحابةِ الأكرمينَ.

حتَّى جاءَ التَّابعونَ وتابعو التَّابعينَ، ثمَّ شرَّفَ اللهُ حضرموتَ والواديَ بمجيءِ أخيارٍ من عترتِهِ ﷺ ومن سلالتِهِ ومن ذريَّتِهِ، بمجيءِ الإمامِ المهاجرِ إلى اللهِ أحمدَ بنِ عيسى، وتمَّت النِّعمةُ على الواديِ وآلِ الواديِ، وعظُمت شؤونُ مدرسةِ واديِ حضرموتَ وكملت قوَّتُها بهذا الجمعِ العجيبِ بينَ أبناءِ الصَّحابةِ وأبناءِ مَن أسلموا في عهدِ المصطفى محمَّدٍ ﷺ، من مختلفِ القبائلِ في الواديِ وأبناءِ المصطفى عليه الصلاة والسلام.

آثار  الشيخ أبو بكر بن سالم

وقامت حقائقُ من هذا الخيرِ بها أشرقَ النُّورُ في عينَات، وبها جاءَ بحرٌ من أبحرِ أنوارِها وأسرارِها اسمُهُ أبو بكرٍ بنُ سالمٍ. سيِّدُنا الشَّيخُ أبو بكرٍ بنُ سالمٍ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ السَّقَّافِ عليهِ رضوانُ اللهِ ورحمتُهُ.

مع ما أخذَ من العلمِ والسَّندِ عن أبيهِ وأبي أبيهِ وجدِّ أبيهِ وأبي جدِّ أبيهِ وجدِّ جدِّ أبيهِ وهكذا.. واحدٌ بعدَ الثَّاني عالمٌ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ بنُ عالمٍ، إلى الفقيهِ المقدَّمِ، إلى المهاجرِ إلى الحسينِ بنِ عليٍّ، إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فاطمةَ الزَّهراءِ، إلى مدينةِ العلمِ، إلى محمَّدٍ ﷺ.

عالمٌ بنُ عالمٍ معهُ هذهِ الخصوصيَّةُ، معهُ هذهِ التَّربيةُ، وزادَ فوقَ ذلك كلِّهِ عناياتٌ إلهيَّةٌ ربَّانيَّةٌ رعتهُ وصيَّرتهُ محلَّ نظرِ الرَّحمنِ ورسولِهِ.

واختارَ الحقُّ لهُ هذهِ البقعةَ أن يسكنَ فيها وأن يعيشَ فيها وأن يُؤدِّيَ الأمانةَ فيها، وأن يقصدَهُ الصَّادقونَ والمُخلصونَ من شرقِ الأرضِ وغربِها.

وجاءَ عليهِ رحمةُ اللهِ تعالى وقضَّى تلك السِّنينَ في عينَات، وتحوَّلت عينَات إلى روضةٍ من رياضِ الجنَّاتِ.

وتحوَّلت عينَات إلى مظهرٍ من مظاهرِ جودِ الرَّحمنِ وسرِّ القرآنِ وأسرارِ المصطفى من عدنانَ ﷺ، وكانَ ما كانَ من تلكمُ الخيراتِ الكبيرةِ. 

وعلى ضوءِ ذلكم جاءَ تأسيسُ هذا الرِّباطِ وإقامةُ هذا المسجدِ على يدِ الحبيبِ حسنَ بنِ إسماعيلَ الحامدِ ابنِ الشَّيخِ أبي بكرٍ بنِ سالمٍ، أعلى اللهُ درجاتِهِ وجمعَنا بهِ في أعلى جنَّاتِهِ.

كانَ قويَّ الصِّلةِ بشيوخِهِ بمن تلقَّى عنهم العلمَ في تريمَ أو في سيئونَ وبقيَّةِ الواديِ الميمونِ.

وكانَ على تربيةٍ وعلى هِمَّةٍ ونيَّةٍ، في إرادةِ نفعِ النَّاسِ وأداءِ الأمانةِ، بصدقٍ، بإخلاصٍ، بتواضعٍ، بزُهدٍ، بورعٍ، بخشيةٍ، بإنابةٍ.

واجتمعت هذهِ الصِّفاتُ فيهِ وقامَ على يدِهِ هذا الرِّباطُ الَّذي مُدَّت بهِ حبالُ ارتباطٍ لكثيرٍ ممَّن مشى على سواءِ الصِّراطِ، عليهم رحمةُ اللهِ ورضوانه. 

الموت والاستعداد للآخرة

ومضَوا جيلًا بعدَ جيلٍ، وهكذا تمرُّ الحياةُ بالنَّاسِ على ظهرِ الأرضِ، يتغيَّبونَ واحدًا بعدَ الثَّاني حتَّى لا يبقى على ظهرِ الأرضِ أحدٌ.

عندما تقومُ السَّاعةُ، ومن ماتَ فقد قامت قيامتُهُ، ساعةُ كلِّ واحدٍ وقتُ وفاتِهِ، لا ينتظرُ إلى ما تقومُ السَّاعةُ، تقومُ السَّاعةُ جمعٌ كبيرٌ، ولكن أنتَ انتقالُكَ من العالمِ إلى العالمِ وظهورُ الحقائقِ لكَ من لحظةِ وفاتك.

خرجتَ من هذهِ الدُّنيا ومن جميعِ ما فيها ووصلتَ إلى الحقيقةِ، كيفَ كنتَ في الدُّنيا فعليها يقومُ الأمرُ.

فلا سبيلَ إلى النَّجاةِ في القيامةِ ولا إدراكِ الدَّرجاتِ في الجنَّةِ إلَّا من خلالِ هذهِ التَّعاليمِ الَّتي يجبُ نُعظِّمُها ويجبُ نعرفُ قدرَها، ويجبُ نشجِّعُ أولادَنا عليها ونُرغِّبُهم فيها ونحثُّهم.

الواحد منكم إذا درَسَ ولدَهُ في الرِّباطِ، ودرَسَ ولدَهُ في حلقةٍ من حلقاتِ الخيرِ أو في الدَّورةِ، كلَّما جلسَ معهُ في البيتِ: يا ولدي ماذا استفدتَ في كذا؟ اذكر لنا مسألةً، اذكر لنا حديثًا، اذكر لنا فروضَ الوضوءِ، اذكر لنا أركانَ الصَّلاةِ.. واجعل أسرتَكَ كلَّهم يعلمونَ قدرَ هذا العلمِ.

 إن كنتَ تعرفُ معنى الخطابِ الرَّبَّانيِّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، كيفَ قُوا أنفسَكم وأهليكم نارًا؟ تحضر لهم بصلًا وطماطمَ وتحضر لهم خضرةً؟ هل تقيهم النَّارَ بهذا؟

تحضر لهم تلفزيون؟ تحضر لهم فرشًا في الدَّارِ؟ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، علِّمهم، بيِّن الخير، عظِّم الحقَّ تعالى في قلوبِهم وعظِّم رسولَهُ محمَّد، وعظِّم أمرَ هذا الدِّينِ. (قُوا أنفسَكم وأهليكم نارًا) ، احفظوا أنفسَكم وأهليكم من النَّارِ، اجعلوا وقايةً بينَكم وبينَها.

استمرار الخير في الرباط

بحمدِ اللهِ تباركَ وتعالى مضى أولادُ الحبيبِ حسن عليه رحمةُ اللهِ تعالى واحدًا بعدَ الثَّاني، وتوالوا على القيامِ بهذا الرِّباطِ وهذا الارتباطِ وهذهِ الخدمةِ، مع صلاتِهم وآدابِهم بمن في البلدةِ ومن في الواديِ الميمونِ وأهلِ الخيرِ في شرقِ الأرضِ وغربِها.

ومضَوا واحدًا بعدَ الثَّاني عليهم رحمةُ اللهِ وجمعَنا بهم في أعلى الجنَّةِ، إنَّهُ أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الرَّاحمينَ.

ومسكَ الآن حبيبُنا أحمدُ بنُ عليٍّ أعانَهُ اللهُ وأخذَ بيدِهِ. 

أهمية إيصال العلم الشرعي

والأمرُ مَنوطٌ بنا كُلنا، لأنَّها أماناتٌ ومسؤوليَّاتٌ وواجباتٌ ومهمَّاتٌ، يُسألُ الكلُّ عنها في تعاونِهم على إقامتِها على الوجهِ الَّذي يرضونَ بهِ ربَّهم الَّذي خلقَهم، ورسولَهُ الَّذي اختارَهُ لهم هاديًا وإمامًا ومعلِّمًا وشفيعًا ﷺ.

كما أنَّ جميعَ دركاتِ النَّارِ لا يمكنُ الوصولُ إليها إلَّا بمخالفةِ هذا العلمِ، إلَّا بمخالفةِ هذا الشَّرعِ، إلَّا بضعفِ الإيمانِ، إلَّا بتركِ الصَّلاةِ، إلَّا ببطلانِ الصَّلاةِ وصاحبُها يظنُّ أنَّهُ يصلِّي.

قالَ سيِّدُنا عمرُ: إنَّ الرَّجلَ ليشيبُ عارضاهُ في الإسلامِ - يشيبُ يبلغُ 50، 60 سنةً - وما كُتِبَت لهُ في الإسلامِ صلاةٌ. هو يصلِّي طولَ اللَّيلِ وطولَ النَّهارِ كلَّ يومٍ، قالَ 50 سنةً ولا صلاة واحدة، لأنَّهُ يفعل مبطلًا من مبطلاتِ الصَّلاةِ وهو لا يدري، مبطلًا من مبطلاتِ الوضوءِ وهو لا يدري، "مَن يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يفقِّهْهُ في الدِّينِ" يقولُ نبيُّنا ﷺ.

وكيفَ إذا كانَ مع هذا كلِّهِ غافلَ القلبِ ولا حضورَ ولا خشوعَ مع اللهِ تعالى، والرَّحمنُ يقولُ لهُ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) وهكذا أوصافُ المؤمنينَ.

بفقدِ أوصافِ الإيمانِ، بمخالفةِ الشَّرعِ تأتي الدَّركاتُ في النَّارِ وتترتَّبُ على ذلك.

ولا سبيلَ للوصولِ إلى النَّارِ إلَّا الكفرُ والفسوقُ والجهلُ بالدِّينِ ومخالفةُ الشَّريعةِ.

ما أحد يدخلُ النَّارَ إلَّا مخالفٌ للشَّريعةِ، إلَّا مضيِّعٌ لأمرِ اللهِ تباركَ وتعالى، وإلَّا حتَّى مَن لم تبلغْهُ الدَّعوةُ ما يدخلُ النَّارَ.

(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). لكنَّ الَّذي دعوةُ اللهِ ورسولِهِ بينَ يديهِ وهو مُعرِضٌ عنها ولا ينتبهُ منها ويخالفُ.. 

واجبٌ عليكَ كذا؛ يعمل كذا، حرامٌ عليكَ كذا؛ يفعله.. ويصير إلَّا أريد! هوى ونفس، لا أنتَ خلقتَ نفسَكَ ولا الهوى خلقَكَ، ربُّكَ الَّذي يختبرُكَ بهذهِ الأعمالِ والأحوالِ، مرجعُكَ إليهِ وبيحكمُ سبحانَهُ وتعالى بينَ عبادِهِ فيما كانوا فيهِ يختلفونَ.

قالَ نبيُّنا: "لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواهُ تبعًا لما جئتُ بهِ". لابدَّ يخضعُ للشَّريعةِ. (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

بحمدِ اللهِ قامت هذهِ الدَّورةُ، اللهُ يباركُ فيها وفي القائمينَ عليها وفي الدَّارسينَ فيها بركةً تامَّةً كبيرةً، يجنونَ ثمرَها في الحياةِ وعندَ الوفاةِ وفي البرزخِ ويومَ القيامةِ وفي دارِ الكرامةِ، اللهمَّ آمين.

أيام العشر وعيد الأضحى

بقيَ استثمارُ هذا ودوامُ الخيرِ، والرِّباطُ بحمدِ اللهِ مفتوحٌ عندَكم في طوالِ العامِ، طوالَ السَّنةِ؛ ونحنُ الآن في أيَّامٍ القلوبُ فيها متوجِّهةٌ إلى علَّامِ الغيوبِ بموسمٍ جعلَهُ سنويًّا سبحانَهُ وتعالى، فيهِ تنزُّلاتٌ وتجلِّياتٌ ما تكونُ في غيرِهِ.

اجتماعُ حجَّاجِ بيتِ اللهِ من شرقِ الأرضِ وغربِها عربٍ وعجمٍ، ممَّن شهدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، حولَ بيتِ اللهِ وحولَ ضريحِ النَّبيِّ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ في مسجدِهِ الكريمِ، وكلُّهم متوجِّهونَ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالى ومتوسِّلونَ برسولِهِ، أن يصلحَ اللهُ البلادَ والعبادَ والأمَّةَ وأن يثبِّتَهم على الخيرِ ويميتَهم عليهِ، ويرفعَ البلايا هذهِ الَّتي نزلت بنا والشَّدائدَ الَّتي حلَّت بنا، اللهُ يحوِّلُ الأحوالَ إلى أحسنِها.

في هذهِ أيَّامِ العشرِ. جاءت ختمُ الدَّورةِ عندَكم في اللَّيالي العشرِ الَّتي أقسمَ بها ربُّكم في القرآنِ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، وهي من أوَّلِ ليلةٍ إلى ليلةِ النَّحرِ ليلةِ العيدِ.

لا يأتينا الأسبوعُ الآتي إلَّا وقد كملت علينا اللَّيالي العشرُ ودخلنا في الأيَّامِ المعدوداتِ، يقولُ (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).

وهذهِ السُّنَّةُ كلُّ مَن رأى جملًا أو بقرةً أو غنمةً في بيتِهِ وإلَّا في الشَّارعِ وإلَّا في السُّوقِ أن يكبِّرَ: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ. كلَّما يرى شيءٌ من الإبلِ أو البقرِ أو الغنمِ، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).

وهذا التَّكبيرُ معناهُ أخرجُ من قلبي كلَّ تعظيمٍ لنفسي ولهوايَ ولأيِّ أحدٍ غيرِ اللهِ تعالى، ولا أقدِّمُ شيئًا على اللهِ، اللهُ أكبرُ! 

اللهُ أكبرُ: أمرُهُ مقدَّمٌ وشرعُهُ مقدَّمٌ والطَّاعةُ لهُ قبلَ نفسي وقبلَ كلِّ أحدٍ في الوجودِ. اللهُ أكبرُ، هذا معنى اللهُ أكبرُ.

ترسخُ فيكَ الإيمانُ وتعظيمُ أمرِ الرَّحمنِ جلَّ جلالُهُ وتعالى في علاه.

وهكذا إلى أن تأتيَ اللَّيالي الَّتي يستحبُّ إحياؤها ليلةُ التَّرويةِ ليلةُ ثمان.

وهي مساءُ الثُّلاثاءَ القادمَ ليلةَ الأربعاءِ، ليلةُ عرفةَ مساءَ الأربعاءِ ليلةَ الخميسِ، وليلةُ النَّحرِ.

"مَن أحيا ليلتي العيدينِ لم يمت قلبُهُ يومَ تموتُ القلوبُ في القيامةِ"، ليلةُ عيدِ الأضحى وليلةُ عيدِ الفطرِ.

وفي عيدِ الأضحى يُسنُّ من بعدِ أن يطلعَ الفجرُ لا يتناولُ أكلًا ولا شرابًا ويكونُ مثلَ الصَّائمِ إلى أن يصلِّي، فلا يتناولُ شيئًا إلَّا بعدَ الصَّلاةِ. 

ومن كانَ أكرمَهُ اللهُ بأضحيَّةٍ ويقدرُ عليها ففضلُها عظيمٌ، لمن قدرَ على الأضحيَّةِ تكونُ كفَّارةً لذنبِهِ عندَ أوَّلِ قطرةِ دمٍ تخرجُ منها.

وتوضعُ في ميزانِهِ تُضاعف سبعينَ ضعفًا في حسناتِهِ يومَ القيامةِ بأظلافِها وعروقِها ودمِها وجلدِها وشعرِها، تُضاعف في الميزانِ يومَ القيامةِ، هذا ثوابُ الأضحيَّةِ. 

فمن كانَ عندَهُ أضحيَّةٌ فالأفضلُ أن يفطرَ بكبدِ أضحيَّتِهِ بعدَ ما يرجعُ من العيدِ، وإلَّا فالأفضلُ يفطرُ بتمرٍ. بخلافِ عيدِ الفطرِ، عيدُ الفطرِ من رمضانَ يأكلُ تمرًا قبلَ أن يذهبَ إلى صلاةِ العيدِ.

أمَّا في عيدِ الأضحى فلا يتناولُ مفطرًا من بعدِ الفجرِ حتَّى يصلِّيَ أوَّلًا، لا يأكلُ ولا يشربُ من عندَ ما يؤذِّنُ الفجرُ حتَّى يصلِّيَ صلاةَ العيدِ، ثمَّ يفطرُ بعدَ صلاةِ العيدِ.

فضائل العيد والختام

وشرعَها اللهُ تعالى اجتماعَ قلوبِ المؤمنينَ وتوجُّهَهم إلى الرَّحمنِ الرَّحيمِ، والمسلمونَ في شرقٍ والغربِ يستثمرونَ ويستمطرونَ الرَّحماتِ الَّتي نزلت في عرفاتٍ يومَ أمسٍ.

فيأتونَ في اليومِ العاشرِ مجتمعينَ متوجِّهينَ للرَّحمنِ في المحصولِ، ما المحصولُ معكَ من الَّذي حصلَ من التَّجلِّي أمسِ؟ فيجتمعونَ على هذا المحصولِ الغالي الثَّمينِ، محصول تجلِّي الرَّحمنِ سبحانَهُ وتعالى على أهلِ عرفةَ، ومن خلالِهم للمؤمنينَ المتوجِّهينَ إليهِ في شرقِ الأرضِ وغربِها.

لذا وجدتم في عاداتِ سلفِكم تراتيبَ حسنةً في أيَّامِ العيدِ وأيَّامِ العشرِ وكثرةِ الذِّكرِ للهِ.

كما أمرَنا ﷺ: "فأكثروا فيها من التَّهليلِ والتَّحميدِ والتَّكبيرِ" يقولُ ﷺ.

اللهُ يباركُ لنا في هذهِ اللَّيالي ويباركُ لنا في هذا الشَّهرِ، ويباركُ لنا في هذا العيدِ، ويباركُ لنا في أولادِنا هؤلاءِ، ويجعلُهم قرَّةَ عينٍ، ويجعلُهم سببًا لرفعةِ درجاتِ أهلِهم في الجنَّةِ إن شاءَ اللهُ تعالى، ويجمعُ الجميعَ في دارِ الكرامةِ ومستقرِّ الرَّحمةِ، ويجمعُ الكلَّ منَّا في دارِ الكرامةِ وأنتَ راضٍ عنَّا يا حيُّ يا قيُّومُ.

واجزِ المتقدِّمينَ عنَّا خيرَ الجزاءِ، وكنَّا في مناسبةِ هذا الرِّباطِ عددٌ كبيرٌ قد فقدناهم كانوا يحضرونَ معنا، اللهمَّ ارحمهم وأعلِ درجاتِهم وأدخِل عليهم في قبورِهم روحًا منكَ وسلامًا منَّا.

وباركْ في أولادِهم وفي أحفادِهم وفي أسباطِهم، لا ينقطعونَ عن الإقبالِ عليكَ والوجهةِ إليكَ وعن التَّمسُّكِ بالأخلاقِ والآدابِ. 

اللهُ يجعلُها ساعةً من أبركِ السَّاعاتِ، ويمنُّ علينا بالتَّوباتِ ويصلحُ الظَّواهرَ والخفيَّاتِ، ويجعلُنا من أوفى النَّاسِ نصيبًا من هذهِ اللَّيالي ومن هذهِ الأيَّامِ الباهياتِ الزَّاهراتِ المنيراتِ.

ولا يحرمُنا خيرَ ما عندَهُ لشرِّ ما عندَنا، ويزيدُنا من فضلِهِ ما هو أهلُهُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

تاريخ النشر الهجري

03 ذو الحِجّة 1446

تاريخ النشر الميلادي

30 مايو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية