حقيقة النجاح والسعي المشكور وشأن الرابطة ببدر البدور
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الإمام حسن بن عبد الرحمن السقاف بحارة الخليف، مدينة تريم، ليلة السبت 25 ربيع الأول 1446هـ بعنوان:
حقيقة النجاح والسعي المشكور وشأن الرابطة ببدر البدور
نص المحاضرة:
الحمد لله على إمداد عطايا الإله، وتهيئة السبيل لمن يرجو قُربه ورِضاه، وأن يقتدي بنبيه محمد ويهتدي بِهُداه، وعلى هذه الخيرات جمعكم الله على ذكره وذكر رسوله ﷺ، تسمعون الصفات وتسمعون الشمائل، تسمعون النثر وتسمعون الشعر، في ذكر الحق ورسوله وذكر أخبار الدار الآخرة، وتسمعون تذكرة المُذكّرين وموعظة الواعظين.
يجمعكم كل ذلك على سر صِلة، وعلى سر إقبال، وعلى سر وِجهة؛ تثمر معاني القرب وتثمر حقائق القرب، وتثمر حقائق المعرفة الخاصة، وتثمر حقائق المحبة، وتثمر حقائق الرضوان الإلهي الذي لا حد له ولا غاية، ولا ألذ منه ولا أحلى منه، ولا أجمل منه ولا أكرم منه، ولا أحسن منه ولا أعلى منه، ورضوان من الله أكبر.
حقيقة النجاح والشرف:
يقول الحق جل جلاله وتعالى في علاه: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ).
وكل عمل ومسعى ما يوصلك إلى جنة الله ورضوانه فما هو بشيء، هذا ميزان يجب تحمله وأنت المؤمن بالله والمُصدِّق بهذا الرسول، يحرم أن تُغَش مع المغشوشين أنّ هناك شيء كبير وأمر منقطع عن الجنة ومنقطع عن دخولها، ما هو هذا؟ ماذا يُعَدّ نجاحاً؟ ماذا يُعَدّ شرفاً؟ ماذا يُعَدّ كراماً وهو منقطع عن الجنة، ما يوصل إلى الجنة؟ ما هو هذا؟ إذا اعتقدت في شيء أنه فيه كرامة وشرف وهو لا يوصلك إلى الجنة، مِن باب أولى إن كان يقطعك عن الجنة ويبعدك منها ويدخلك النار، ما يجوز أن تعد هذا كرامة ولا شرفاً ولا رفعة ولا إنجازاً، ما عندهم من المشاريع وما عندهم من الحركة في الحياة إذا هي منقطعة عن الإيمان بالله لا يجوز أحد يغبطهم عليها ولا يجوز أحد يتمناها.
السعي المشكور الموصل إلى الجنة:
قال الله تعالى في قارون: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ)، وهؤلاء قوارين الزمان الذين أمامكم! كم من واحد مسلم يقول يا ليت لي مثل ما أوتي قارون، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)، ما هناك سعي مشكور إلا السعي الموصل إلى جنات العزيز الغفور، ومرافقة حبيبه بدر البدور محمد ﷺ؛ هذه المساعي المشكورة.
هذه المساجد التي أسسوها لكم أهل النور وأهل الصدق، هذه المجالس وهذا الخير، هذه الأعمال التي ورثناها من سيدنا محمد ﷺ:
- العلم النافع
- والطهارة وإحسانها وأداؤها،
- وإقام الصلاة على وجهها،
- وإيتاء الزكاة على وجهها،
- والرغبة في الصدقة ولو بما يتيسر في كل يوم، وإن البلاء لا يتخطى الصدقة، "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة"،
- وكذلك أمر الصيام المفروض في رمضان والمسنون بعد ذلك في الأشهر وفي الأيام الفاضلة في خلال السنة وفي خلال الأسابيع لكل من وُفق،
- والسعي في تطهير هذا القلب وتنقيته،
- وكذلك ما يتعلق ببر الوالدين أو صلة الأرحام أو الإحسان للجيران،
- ثم ما يتعلق بحسن الخلق مع الكبير والصغير،
-
واجتناب الحرام في المنظورات وفي المسموعات وفي الأقوال؛
هذا السعي المشكور الموصل إلى الجنة، هذا السعي الذي يُغبط أهله.
والمؤمنون إنما اعتلت درجاتهم بهذا الإيمان والعمل الصالح، الحق تعالى في القرآن يُكرِّر لنا: "آمنوا وعملوا الصالحات"، والإيمان والعمل الصالح هو الذي به الشرف والمزية والكرامة والرفعة.
فالحمد لله على امتداد هذه الخيرات إلينا، والله يرزقنا معرفتها، كما سمعتم في كلام السيد حسن يُبين لنا أن الشرف والكرامة في اغتنام الليالي والأيام في مرضاة الملك العلام، وفي العمل بالشريعة المطهرة، وفي الاقتداء والاهتداء بنبي الهدى محمد ﷺ.
وكل ما أتى به الرسولُ ** فحقه التسليم والقبولُ
يقول جل جلاله في بيان أن السعي المشكور هو هذا: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) هؤلاء غيره مشكور سعيهم وكثير على ظهر الأرض (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) العطاء الصغير والحقير في الدنيا منه، والكبير والعظيم في الدنيا والآخرة منه، كله منه (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، قال واعتبروا (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)، فارغبوا في الدرجات في حياة الأبد والدوام إن كنتم تعقلون.
صلتنا برسول الله ﷺ:
هذا الذي يدعونا إليه احتفالنا واحتفاؤنا بمولد نبينا محمد ﷺ، يدعونا لأن نُعد العدة للقائه ولمرافقته ﷺ، وذلك مما يبدو لكثير من المُوفقين عند الموت وفي البرزخ وفي القيامة، ولكن يعجل لكثير من سبقت لهم السوابق وهم في هذه الدنيا يشعرون بصلاتهم بهذا الجناب، ويشعرون بارتباطهم بهذه الذات، ويشعرون بمشاهدة أنوارها وسواطع ضياها، ويشعرون بالتبعية والانطواء في هذه الذات المُقدسة الشريفة؛ ذات المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ومن سار في دربه وعلينا معهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وإليهم أشار في الحديث الذي قال فيه: "وإخواني قوم يأتون من بعدي آمنوا بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بنفسه وماله". فعجيب من إيمان هؤلاء، وهؤلاء يعيشون على محبته ويعيشون على ذكره.
كما قال الحبيب علي الحبشي عليه رحمة الله تعالى:
حاولتُ أن أصف الحبيب ببعض ما ** فَهِمَ الفؤاد من الثنا القرآني
فوجدتُ قولي لا يفيءُ بذرة ** من عُشر معشار الأمر الرباني
من أين يعرب مِقوَلي عن حضرة ** عن مدحها قد كلَّ كل لساني
من بعد ما جاء الكتاب به فما ** مقدار مدح العالَم الإنساني
أثنى عليه رب العرش العظيم، ومدحه الإله الخالق الكريم، ومدحه الرحمن الرحيم، ومدحه العليم بكل شيء الله! فما مقدار مدح العالَم الإنساني والملكي والجني والخلق كلهم؟ ماذا يساوي مدحهم عند مدح الإله؟!
من بعد ما جاء الكتاب به فما ** مقدار مدح العالَم الإنساني
فسألتُ من ربِّ الثبات على الذي ** قد خصّني والصدق في إيماني
وكما أفاد القلب سِرّ تعلُّقي ** بحبيبهِ يملأ بذاك جناني
فأعيش في ذكر الحبيب مُنعَّماً ** بالذكر منبسطاً جميع زماني
فأعيش في ذكر الحبيب مُنعّماً بالذكر، يا خير نعيم حصلوا عليه، لا يوجد في مستودعات أمريكا، لا يوجد في مستودعات أوروبا، لا يوجد في مستودعات روسيا، لا يوجد في مستودعات الصين، وهم بعيدون منه وغالٍ عليهم إلا من آمن وصدق واتبع، وفيهم من يؤمن وفيهم من يَرِد هذه الموارد ويجيء إلى هذه الأماكن، من أجل يشرب من هذا المعين ويدرك نصيبه من هذا الخير، وأما بطغيان أهل الطغيان منهم هؤلاء وأهل التمرد فما عندهم شيء من هذا، ولا يدركون شيئاً من هذه الخيرات ولا من الهناء في الدنيا قبل الآخرة.
شأن الصادقين مع الله:
فأعيش في ذكر الحبيب مُنعّماً ** بالذكر منبسطاً جميع زماني
وأفوز في الأخرى برؤية وجههِ ** ورضاهُ عني في أجل مكاني
هكذا شأن الصادقين مع الله، والله يلحقنا وإياكم بالصادقين.
يحصل لنا صدق في إسلامنا وصدق في إيماننا وصدق في إحساننا، وصدق في وجهتنا إلى مولانا جل جلاله، في محكمة القيامة ما عاد شيء ينفق إلا الصدق، قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وإذا أردت الصدق فقد جاء به حبيب الحق (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ما يكفيك ربك؟ :
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ما يكفيك ربك؟ تريد غيره! ترجع إلى غيره، تلتفت إلى غيره، تعتمد على غيره؟ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ).
اللهم اهدنا فيمن هديت، من يهد الله ما له من مضل، ما يقدر عليه إبليس ولا تقدر النفس بتلبيساتها وتدليساتها، هداه الله، هداه الله، ما عاد تقدر عليه من كذا ولا من كذا، كلما صدرت منه سيئة جاءته توبة واستغفار وكفّرت كل الأوزار (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) وما يقدرون عليهم.
وقال سبحانه وتعالى: (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ) جل جلاله وتعالى في علاه.
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) يعني هذا منطق كل عاقل على ظهر الأرض، عربي عجمي، صغير كبير، في أي قرن من القرون، من خالق السماوات والأرض؟ ما يجدون جواباً صحيحاً إلا يقول الله، لا هم خلقوا ولا جماعتهم الذين خلقوا ولا مؤسساتهم خلقت شيئاً! (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) ما أحد له شيء إلا هو، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ) سبحانه وتعالى، (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) لا إله إلا الله.
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وإذا كان خالقها الله، كيف ما نعبده؟ كيف ما نطيعه؟ وهل خلقنا عبثاً أو لِحكمة؟ وهو الحكيم جل جلاله؟ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
نعمة الارتباط بأهل السند المبارك:
فنعمة الإيمان هذه ونعمة الإسلام نعمة كبيرة أنتم فيها، وارتبطتم بأسانيد أجاويد من خيار العبيد، أرباب أهل حقيقة التوحيد، أهل الصديقية الكبرى، أهل الولاية العظمى، أهل الخلافة العظمى عن رسول الله ﷺ، كلهم مسلسلين في سندنا هذا المبارك، التي تشرفت به معاهدنا ومنازلنا ومساجدنا المباركة النويرة، ما يدخل الداخل إلا وأحس بالسكينة فيها، إلا وأحس بتنزُّل رباني فيها، مثل الذي ينزل عند الكعبة، مثل الذي ينزل في الحجرة، مثل الذي ينزل في الروضة، مثل الذي ينزل في بيت المقدس، تحسّه القلوب، لأن مؤسسيها أهل القلوب في حضرة الرحمن دائم، حاضرة ومتلقية لسحائب جوده الماطرة (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ).
فلا تُضيِّع نفسك، وخذ لك نصيباً من هذا الخير الذي امتد من حضرة النبوة حتى وصل إلى عندك على يد الأكابر، خذ نصيبك:
- بصدق الوجهة وحسن الأدب،
- وأخذ العلم على وجهه والعمل بمقتضاه،
- والتخلق بالأخلاق الفاضلة
- ومعاملة الرحمن بما يرضاه سبحانه وتعالى منك،
- وإحياء سنة هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام، التي كانوا حرصوا عليها في أقوالهم وفي أفعالهم، وفي ألبستهم وفي طعامهم وفي شرابهم.
قالوا لسيدنا الشيخ علي بن أبي بكر: لماذا تتجنب أكل البطيخ؟ قال: ما حضرتني الكيفية التي أكل بها ﷺ، ما أدري هل رفعه مع القشر وأخذه بفمه، أو قُشِّر له أولاً وأنا رأيتكم تُقشِّرونه أولا، وخفت أن يكون هذا ما هو بالطريقة التي أكل بها الحبيب، ويضرّنا في عدم أكله، أحسن لي ما أكل شيء ولا أريد أكل إلا على سنته! ما هو الحضور هذا؟ وما هو الانطواء هذا في الجناب الشريف حتى في مطعماتهم كلها؟ عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
بهم شرّف الله الوادي والنادي ولا يزال هذا هو الشرف، ويفتخر به ويعتبر في البرازخ وفي يوم القيامة إلى الأبد، وما عدا ذلك تبع مما يسّر الله من لطف، أو يسر الله سبحانه من أمن، أو يسر الله من خير، أو يسر الله سبحانه وتعالى من شيء من الرفق في هذا العالم، أو ييسّر كما يحصل للأمة تسخير كثير من الأسباب، ولكن كلها ما هي شيء عند ما يحصل في البرزخ ثم في القيامة، هناك الملك الكبير، هناك العطاء العظيم.
النجاح الحقيقي:
ولهذا قال سبحانه وتعالى في بشارة المؤمنين والذين أخذوا التجارة عن رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
هذا الشيء الكبير، الثاني بعد ذلك ذكره في ملمح عتابي: (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا) من الأشياء المُقدّمة في الدنيا (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، على كل حال، حصّلوا أو ما حصّلوا في الدنيا لكن هذا المذخور لهم شيء كبير وشيء عظيم، وإن كانت درجاتهم مختلفة فيه فليس السعي إلا ما أوصل إلى الجنة، وليس النجاح في عمل ولا قول ولا مشروع إلا ما رفع الله به درجاتك في الجنة، وما عدا ذلك إيش من شرف فيه وإيش من كرامة فيه! وإيش من فضل فيه وإيش من نجاح فيه؟ ما فيه شيء إلا متاع الغرور كما قال الله سبحانه وتعالى: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ).
المرجع إلى الله والحساب على الله سبحانه وتعالى، ونرجو عفوه ونرجو مغفرته ونرجو جوده علينا، وننصبغ بصبغة هذه المجالس بما فيها من العطايا النفائس، الواردة من البحر الكبير على يد الكبار أهل معادن الأنوار عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
سيدنا حسن بن عبد الرحمن السقاف الذي يُنسب إليه هذا المسجد كان مِمن يفرّ منهم الشيطان، من عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، حتى محلاته التي يبنيها يهرب منها الشيطان، وما يحاول الدخول إليها إلا بواسطة أحد من الساقطين معه أو من الهابطين (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ).
آثار مجالس الصالحين:
فالله يختم لنا ربيع الأول بخير إن شاء الله، ولا يجعله آخر العهد منه، ويعيدنا إلى أمثاله في صلاح أحوال المسلمين، وفي رفعة الهدى والدين وظهوره وعلى الأقطار كلها وإعلاء كلمة الله، وأخذ الجميع أهل العدوان والطغيان والبغي، اللهم يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.
وانظر إلى أهل مجمعنا ومجلسنا ولا تصرِف أحداً إلا مربوطاً بالنبي بدر الكمال، باهي الجمال، ذي الهيبة والجلال، ربطاً ما له من انحلال، وصِلة ما لها ضعف ولا اختلال ولا انقطاع، تدوم حتى نجتمع معه في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا.
ونفوز في العقبى برؤية وجهه ** ورضاه عنا في أجل مكاني
فيا رب واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
ندخل مع طه وآله في الصفوف الأولات ** معهم وفيهم دائما في الدار ذه والآخرات
برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين.
وإن دعيت أهل ودك للعطايا السنية
فادعنا مثلهم نعرف حقوق المعية
في كنفهم ومعهم في الجنان العلية
عند طه النبي المختار خير البرية
بختنا بالنبي هو كنزنا والخبية
لي تعكّت تجيء في الحال منه بتية
عجباً لمجالس في البقعة هذه أو في البقعة هذه ولكنها مذكورة، مذكورة في الحجرة الطاهرة، مذكورة في الدرجات الفاخرة، مذكورة في البرازخ، مذكورة عند العرش، مذكورة في البيت المعمور، يا ما أعجبها! وهي عندكم في الدنيا ترونها! والله يوفر حظنا وإياكم من المنن والمواهب هذه، ولا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا.
يقول الحبيب علي الحبشي:
أفيدك أنني جالست قوماً ** حدوني بالمقال وبالفعال
رجال ما رأيت لهم مثيلاً ** يزعزع حدوهم صم الجبال
فحرك حدوهم قلبي فأبدى ** غراماً منه في حب الجمال
وصار الشأن شأن! إن شاء الله نقسم بالحظ الوافر من خاتمة الربيع ووجاهة الشفيع، وجاهه وسيع عند الرب جل جلاله، ويربطنا به ربطاً لا ينحل، وأهلنا كلهم وأولادنا كلهم وأهل بلداننا وطلابنا وأصحابنا والأمة، قوِّ رابطتها بحبيبك ونبيك في معتقداتهم ونياتهم ومقاصدهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، وخلِّصهم من تبعيّة الفسّاق والأشرار والكفار والفجار، وأصلح لنا السر والإجهار، واحفظ علينا في بلداننا سنة النبي المختار، وهدي الصالحين الأخيار، يا قريب يا مجيب يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
26 ربيع الأول 1446