(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي بدار المصطفى بتريم، ظهر الإثنين 25 ربيع أول 1440هـ بعنوان: القيادة النبوية.. مكانتها وأخطار مخالفتها.
الحمد لله على هذا التفضُّلِ الإلهي والجُودِ الرَّحماني، والدعوةِ إلى الاستمساكِ بقيادةِ المصطفى محمد، وأن تَتبوَّأَ القيادةُ مكانَها الذي أراده عالمُ الغَيبِ والشهادة، الذي أراده مُوجِدُ الوُجودِ ومُكوِّن الأكوان، خالقُ الإنسان، الرحيمُ الرحمن، أراد أن تكونَ القيادةُ في جميعِ هذه الأمة، بل في جميعِ الخلقِ على العموم، ولكن مِن بعدِ بُروزِه إلى هذا العالم وإرسالِه إلينا أن تكونَ قيادةُ هؤلاء المكلفين على ظهرِ الأرض قيادة تامة كاملة لمحمد بن عبدالله وحده، لا ينافسُه فيها أحد، ولا ينازعُه فيها أحد { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }النور63.
فمن اشتكَى مِن فتنة أو عذاب قل له: سببُها مخالفةُ مَن أنزل عليه الكتاب، فما كانت فتنةٌ ولا كان عذابٌ إلا بمخالفةِ سيدِ الأحباب، إلا بمخالفةِ محمدِ بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. وعلى كلِّ مؤمنٍ أن يدركَ معنى هذه القيادة وكرامتَها، وأنه يجبُ أن تتولى قيادةَ عقلِه ورأيِه وفكرِه وعِلمِه وعَملِه وسيرتِه ومعاملتِه وحركتِه وسكونِه وأخذِه وعطاه، يقوده محمدُ بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }النساء80.
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولا يكفِي هذا {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} يوقنون أنَّ ما قضيتَ أفضلُ وأجملُ وأكملُ ولا يوجد أحسنُ منه عند عقلِ شرقيٍّ ولا غربي، ولا إنسِي ولا جِنِّي، ولا صغيرٍ ولا كبير، قضاؤك أجمل، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} وتمام ذلك: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65، وقد أظهر هذا النموذجَ في الامتثالِ الرعيلُ الأولُ عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، والتفُّوا حولَ القيادة فحازُوا حقائقَ السعادة، في الغيبِ والشهادة، في الدنيا وفي الآخرة، هم أسعدُ الخلقِ والله العظيم الذي خلقَنا وخلقَ كلَّ شيء، أهل حُسنِ الانقياد لهديِ خير العباد.
وقد ذُكِّرتم في المجمع المبارك بحقيقةِ الوعيِ والإدراك لهذه القيادة، التي زاحمَ عليها وتطاولَ عليها إبليسُ وجندُه من الإنس والجن، ليقودُوا الناسَ في معاشِهم أو في أخلاقِهم أو في مسالكِهم أو في أفكارهِم في الحياة، ولا حقَّ لهم، ولكنها قيادة تحتَ لواءِ غدرٍ وبُغضٍ وسوءٍ، قال الله عنه على لسانِ صاحبِه إبليس: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }الأعراف17، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }الحجر40، ومَن العبادُ المخلصون؟ العباد المخلصون: الأنبياء وأتباعُهم، ومن أحسنَ اتِّباعَهم فقط، هؤلاء الذين لا يقدرُ عليهم إبليس.
وكلُّ مَن خالفَ الأنبياءَ في قولٍ أو فعلٍ أو معاملةٍ أو تجارةٍ أو صناعةٍ أو زراعةٍ أو أخذٍ أو عطاءٍ فهو واقعٌ تحت قيادةِ الخبيثِ إبليس، خارج عن أن يسلِّم القيادةَ لحيث أراد الله وحيث اختار الله جل جلاله وتعالى في علاه، وقام تحت تلك القيادة – قيادة إبليس – الذي قال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} اتجاهاتٌ وأفكارٌ، وما سمِّي بحضارات وأحزاب، قامت كلُّها تحت تلك القيادة تحتقرُ شرعَ الله، تحتقر منهجَ الله، تحتقر محمدَ بن عبدالله، تحتقرَ الكتابَ المنزَّل، تظنُّ أنَّ عند أحدٍ مِن هؤلاء ما هو أجملُ مِن حكمِ الرب؟، ومَن هو أعقلُ مِن حبيبِ الإلهِ السيد الأطيب؟، ولا والله لا أحكمَ من الله، ولا أرحمَ ولا أقومَ في خلقِ الله من محمدِ بن عبدالله.
فلتقُم قيادتُه على الوجهِ المَرضي الذي يُرضي الربَّ جل جلاله، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }آل عمران31، هذه دعوةُ الله ودعوة رسوله تتلقَّاها القلوب في كلِّ الأزمنة على ما سبقَ في القضاء مِن درجاتٍ ينالها أهلُ الزمن في القربِ من الله، والأعداد الذين يريدُهم الله في أيِّ زمن أن يقربُوا منه، وأن ينالوا رضاه يستجيبون لهذه الدعوة، تستجيب قلوبُهم ويوقَظون مِن غفلات قلوبهم ونومات قلوبِهم، فيحتكمُوا الاحتكامَ التام لخيرِ الأنام، يقودُهم ونعم القيادة قيادته، يقود بيوتَهم، يقود أسرَهم، يقود عاداتِهم، حتى لما تأمَّل الإمامُ أحمد بن حسن العطاس عاداتِ السلف في هذه البلدة وهذا الوادي قال: مُلحَقة عندَنا بالعبادات، وما وجدت لهم عادةً ارتضَوها وقاموا بها إلا وجدتُ لها أصلاً في الكتاب والسنة. قومٌ أحسنُوا الاقتياد، وخضعوا للقائدِ على الوجهِ المرضِي لله سبحانه وتعالى. قال سيدنا الإمام الحداد: ما مِن سُنةٍ سنَّها رسولُ الله إلا وأرجو أني قد عملتُ بها.
هذه القيادةُ العُظمى، قيادةُ محمد صلى الله عليه وسلم تتمثَّل في هذه الأمة فيمَن تنقَّوا عن أهوائهم وشرورِ نفوسِهم، وائتُمِنوا على حقائقَ مِن أسرار الوحيِ والتنزيلِ فكانوا مِن الخلفاء الراشدين، أو كانوا مِن أهل الذكرِ العلماءِ العاملين، فكانوا مرجعَ الناس إليهم، يقول سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم..}التوبة100، ويقول جل جلاله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ}لقمان15، أربابُ القلوبِ المُنيبة التي ظهرَ أثرُ الإنابة من قلوبهم على أحوالهم في المعاملات والأخذِ والعطاء، أرباب العلم النافع، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }التوبة119، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}النساء83.
وهؤلاء كلُّهم في قياداتِهم في تبعيَّةٍ مطلقةٍ لخيرِ البريَّة، قال عنها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((لو كان موسى حياً ما وسعَه إلا اتباعي))، لو كان موسى بن عمران كليمُ الله حيّاً ما وسعَه على ظهرِ الأرض أن يسلكَ مسلكاً أو يعمل عملاً إلا في تبعيَّةِ حبيبِ الرحمن، يشيرُ إلى أنَّ القياداتِ في هذا المجالِ مُنطويةٌ في بعضِها البعض خيرَ انطِواء، وداخلةٌ في بعضِها البعض، يرجعُ بعضُهم إلى بعض، وينطوِي بعضُهم في بعض، إلى الرأس، والرأسُ خيرُ الناس محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إذا اجتمعت قياداتُ الحقِّ التي ارتضاها الله استظلَّت بلِواءِ الحمدِ يومَ القيامة.
سمعتم كلام الحبيب مشهور ، يقول: ما أحد يقدر، ملَك ولا إنسي ولا جنِّي مِن الأولين أن يقول: أنا لها، إلا النور، إلا بدر البدور، إلا بن عبدالله بن عبدالمطلب، إلا أبو فاطمة البتول الزهراء، إلا أبو القاسم محمد، إلا من شُرِّفتُم به، إلا من اجتمعتُم من أجلِه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هو الذي يقول: ((أنا لها)) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فمَن ظنَّ أن عملاً أو عقلاً أو علماً أسمَى وأرفعَ مِن وجاهةِ هذا المصطفى فهو الأخبَل البليدُ البعيد، ولن تكونَ الشفاعةُ العظمى في القيامةِ لجهادِ المجاهدين، ولا لقيامِ القائمين، ولا لصيامِ الصائمين، ولا للكعبة ولا للمساجد، ولا للعَرش ولا للكرسي عند ربِّ العرشِ والكرسي إنما لذاتِ محمد، لذاتِ محمدٍ هي الشفاعة العظمى وحدَها؛ للمساجد شفاعة، للكعبةِ شفاعة، للأولياءِ شفاعة، للأنبياءِ شفاعة، للصلاةِ شفاعة، للشهادةِ في سبيلِ الله شفاعة، لكن دونَ الشفاعةِ العظمى، وكلُّ هذه الشفاعاتِ لا يبرزُ منها ذرَّةٌ حتى يفتحَ البابَ سيدُ الأحباب، حتى يسجدَ لربِّ الأرباب، فاندرجتِ الشفاعاتُ في الشفاعةِ العظمى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }الإسراء79، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أدخلَنا الله في دائرتِه.
هذه القياداتُ التي تقومُ على هذا الصدقِ والإخلاصِ، قال سيدنا الإمام الحدادُ عليه الرضوان: ما نطلب أحداً ليصلُح لنا، ما نطلب مِن أحد ليصلحَ لنا ولا حتى نفوسنا، حتى نفوسنا لا نريدها تصلح لنُفوسنا، قال: إلا ليصلحُوا لربهم، فإذا صلحُوا لربِّهم صلحُوا لنا، ولا عكس. قال: وهذا الفرق بين أهل القلوب وأهل النفوس؛ أهل النفوس يقولون: يصلحون لنا وبعدين يصلحون للرب، قال هو: لا ، حتى نفسي لا أريدها تصلُح لنفسي، قال: أريدها تصلح له، أريدها تصلح لهذا الرب، ولا أريد من أحد ثاني يصلح لي، أريدهم يصلحون لربهم، قال: فإذا صلحوا لربِّهم صلحوا لنا ولا عكس، عليه رضوان الله، هؤلاء القادة، ما بقي عندهم هوى، إن قالوا قالوا بِقَوله، وإن فعلُوا فعلُوا بفِعلِه.
ولأجل ذلك رأى الرائي سيدَ الوجود على هذا الجبل، ينادي أهلَ البلدة: ((يا أهلَ هذه البلدة إن لنا عندكم وديعة، مَن أرضاها أرضانا، ومَن أغضبَها أغضبنا))، من احتلوا مرتبةَ القيادةَ في تبعيتِه، مِن دون هوى، ومن دون إرادةٍ أخرى عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وهذا شأنُ العلماءِ العامِلين ، والمخلصِين الصادقين، كان يقول الحبيب عبدُالله بن عمر الشاطري: لا يظنُّ أحدٌ مِن الطلاب إنه يجيب لي هدية وإلا يقدم لي شيء أني أحبه أكثر. قال: أنا أحب أكثر الذي يخشع ويخضع، ويجد ويجتهد في طلبِ العلم، ويواظب على الدروس، هو هذا الذي أحبه أكثر، ليس الذي يجيب لي هدية أو الذي يقدم لي شيء. يحبون لله، ولا يحبون إلا لله، وبذلك نفعَ الله بهم، وبذلك أعطاهم الله العطايا.
كما سمعتم في كلام الحبيب مشهور، قال: تريد منزلة أو مكانة وين ثمنها؟، عندك سلمتَه وإلا باتقفز عليها؟!، الأماكن عند الله مُصانة عن أن يُقفَز عليها، ما أحد يقدر يقفز عليها، ما يُدخل فيها إلا بالإذن، وإلا مَن يريده جل جلاله، وإلا مَن يصدُق معه، وهكذا.
وإذا صدقتَ مع هذا الإله بوَّأك المراتب: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }السجدة24، إلى عند رأسِ القيادة الذي طاعتُه طاعةُ الله وغضبُه غضبُ الله، يقِف في المواقف ويسأل السؤال وينتظر اليوم واليومين والثلاثة منتظر الوحي ينزل، محمد زين الوجود، ويجي بعض الناس بعُقولهم يقول: بدِّله، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ} قل لهم: عُوا معنى النبوَّة والرسالة، عُوا معنى الإسلام والإيمان الذي سمعتم الحديث عنه: انقياد واستسلام، ما هي عبقرية ولا قيادة أقودكم بهَواي ولا أريد منزلة عندكم، {قُل}، قل لهم يا محمد {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ} قال: أنا أخاف إن عصيتُ هذا الإله، أنا أعرفُ الخلقِ به وأنا أفزعُ إذا خالفتُ إلهي، ما أقوى على مخالفتِه، هذه رأس القيادة، ومَن بعد كلهم على الخوف وعلى الخشية من الله جل جلاله وتعالى في علاه، ولهذا سمعتهم يقولون: ما نطلب أحدا يصلح لنا، ما بغينا أحد يصلح لنا، بغيناهم يصلحُون لربهم، إذا صلحوا لربهم صلحوا لنا، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وسمعتم:
ومضَوا على قصدِ السبيل إلى العلا ** قدماً على قدمٍ بجدٍ أوزع
آداب نبوية توارثُوها في الأسر وفي الديار وفي المنازل، ونشأت وقامت بينهم على الخير، واليوم القيادة في العالم سُلِّمت لمن؟!، الكفار شأنُهم وأمورهم، مَن مات منهم على الكفر فهو إلى النار، وفي قلوبنا حُرقة عليهم أن يدخلُوا النار، وعبادة لله بطلبِ أن ينقذَهم مِن النار إلى الجنة، ومِن الكفر إلى الإسلام، لكن المسلمين! المؤمنين سلَّموا القيادةَ لمن؟!، سلَّمُوا الزعامة لمن؟!، مَن يقودهم اليومَ في أفكارِهم؟!، مَن يقودُهم اليوم في عاداتِهم؟!من يقُودُهم اليوم في معاملاتهم؟! سلَّمُوها لمن؟!، أبعدُوا مَن وجابُوا مَن؟!، تنكَّرُوا لمن وخضعُوا لمن؟!، هذا حال الأمة المشتكى فيه إلى الله، وإذا رجعوا إلى هذه القيادة فالسعادة ثم السعادة ثم السعادة، والله يرزقنا حسنَ الاقتداءِ بهذا الحبيب، والاهتداء بهديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. يقول سيدنا الحداد عليه رضوان الله تبارك وتعالى:
واعلم بأنك لا تُفضي إلى غرضٍ ** من دون أن تقتفي في الوِرد والصدَرِ
زينَ الوجود
كنا في الصباح في قبة سيدنا العيدروس أحد القيادات التي برزت في أمة محمد، وفي عترتِه، على البرِّ والتقوى، ما دعا أحداً إلى نفسه، ما دعا أحداً إلى اسمِه، ما دعا أحداً إلى مظهرِه، ولكن كما قال: كنتُ أستمدُّ مِن الكل، حتى نظرَ الله إليَّ وجعل الكلَّ يستمدُّ مني، فضلاً مِن فضلِ ربه جل جلاله وتعالى في علاه، في اقتداء في اهتداء.
قال سيدنا الحداد: انكشفَ له من أسرار الطريقة ما لم ينكشِف لغيره مِن رجالِ الطريقةِ وأئمتها عليهم رضوان الله. ولذا قال ولدُه الإمام أبوبكر العدني:
له تحكيمنا وبه اقتَدينا
لأنه في الأرض قوم إذا اقتديتَ بهم اقتديتَ بمحمد، إذا أحببتَهم أحببت محمداً، وإن با يرتفع مشهدُك.. انظر إليهم فستنظر إلى محمد، صلى الله عليه وصحبه وسلم، مِن أوائلهم قال: ((حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً))، وجاء حسين في هذه المنزلة الكريمة عند الرب جل جلاله وتعالى في علاه وعند هذا المصطفى، وما تنكَّر لأدبِه ولا لخضوعِه إلى أواخر عمره، وآخرُ عمره لما رأى القومَ قد خانوا العهد وأرادوا غير ما كتبوا إليه، ورأى أنها فتنة قائمة، عرضَ عرضاً، قال: يا قوم، أعرضُ أحدَ ثلاثة أشياء، ماذا عندك؟، قال: دعوني أرجع مِن حيث أتيت، قالوا: لا، قال: اجمعوا بيني وبين يزيد أتفاهم أنا وإياه مباشرة، قالوا: لا، قال: دعوني أذهب إلى ثغرٍ مِن ثغور الإسلام أذبُّ عن المسلمين وأقاتل في سبيل الله هناك، ماذا تريدون؟!، لا يريدون إلا الفتنة؛ لأن هذا تبع قيادة علوية، وهؤلاء تبع قيادة سفلية، وقيادة الأهواء والأنفس.
ليُحقِّق اللهُ تعالى ما سبقَت به الأقضيةُ منه، وأخبرَ به رسولُه صلى الله عليه وسلم، وسلَّم بنفسه عليه الصلاة والسلام تربةً لأمِّ سلمة، قال: ((جبريل جاءني))، دخلت عليه وهو يبكي، قالت: ما بالك يا رسول الله؟!، قال: ((أخبرني جبريلُ أنَّ أمتي تقتلُ ابني هذا))، وكان على حِجرِه الشريف، ((وأتاني بتربة مِن محلِّ مقتلِه كربلاء))، تربة حمراء أعطاها إياها، قال لها: ((يوم يُقتل تتحول دم)) وضعتها عندها في قارورة، وكان الأمر كما قال، حتى انكتبَ الدم على ظهرِ الأرض سطر:
أترجو أمةً قتلت حسيناً ** شفاعةَ جدِّه يومَ الحسابِ
نفذ قضاءُ الله، وأولاده كلهم قُتِلوا معه، ولم يبقَ إلا علي بن الحسين، ومع ذلك فكَّرت بعضُ عقول السوء في أن تتناوله، وأردوا أخذَه لقتلِه، فقامت زينب بنت علي عمته أخت الحسين، قالت: با تقتلون هذا الطفل وهو مريض؟!، اقتلوني معه، اقتلوني قبلَه، رقُّوا لها وتركوه، ولكن جاءت الذرية ذي كلها منه، وكان في صُلبه الفقيه المقدم، وكان في صُلبه أحمد بن عيسى المهاجر، ما يقدرون يقتلونه، لتعرف أن قيادات السوء على الأرض مهما تطاولت لن تتجاوز حدَّها ((اخسأ فلن تعدوَ قدرَك))، لأنَّ هذه القيادة لهم رعاية مِن فوق، تعرف معنى فوق؟!، رب العرش العظيم جل جلاله.
مرَّ عدد في بلدكم هذا من يقول: لا كذا ولا كذا، وبعد كذا وبنعمل كذا، وراحوا، وبقيت هذه الخيرات، وبقيت هذه الألوية، للبيتِ ربٌّ يحميه، وعليكم أن تشكرُوا اللهَ في مثلِ ذا البلدان، وأيام الفتن ترحَّموا لإخوانكم، أنتم تمسون وتصبحون على سماع الأناشيد، وعلى سماعِ المدحِ لله ورسولِه، وبعض إخوانكم يُصبحون ويمسُون على سماعِ القذائف وسماعِ الصواريخ وسماعِ ضربِ الرصاص، وسماع التفجيرات، يا رب فرج عليهم، يا رب اكشف كربهم، يا رب ادفعِ السوءَ عنهم، تشمُّون الدخونَ يُدار عليكم في المجالس، ويشمُّون الباروت، مساكين، يا رب فرِّج عليهم، وأنتم اشكروا الله الذي أنعمَ عليكم بذي النعمة، هي بزيد وإلا بعمرو وإلا بصغير وإلا بكبير؟!، وعزَّة ربي إنها بأحباب ربي، بأهلِ القُرب من ربي نِلنا هذا الخير، ما نلناه بمُعسكرات ولا بجنود ولا بدُول، نلناه بأحبابِ الرب جل جلاله، وعسى يتم النعمةَ، ويديم لنا الأمن والاستقرار ويحوِّل الحال إلى أحسنه.
ومهما اشتدَّت الفتن، فاليمنُ موعود بخير، والخيرُ مقبل على اليمن وعلى الشام، وعلى أهل الأرض، ومهما عملُوا فتناً تزيد هنا وهناك، وأيام وليالي وسيصبح اليمن والشام مأوى مِن فتنِ بقيةِ العالم، ولن يخلفَ اللهُ وعدَه، ولكن انظروا في شأن هذه القيادة، والاقتداءِ به، وتسليمِ الزمام له.
قام سيدنا سعد بن معاذ يقول له: رسول الله، وهو شاب، تعنينا معشرَ الأنصار في تردِيدِك الكلام ((أشيروا علي أيها الناس))، تستفسر ماذا في قلوبنا نحوك، ونحو ما جئت به؟، رسولَ الله.. اترك ما قلنا لك في يوم البيعة: نحن برئا حتى تصل إلى بلادنا، اليوم قد عرفناك وعرفنا من أنت، بلادنا وغير بلادنا، والشرق والغرب عندها سواء، أنت حبيب الرب ومرسولُه ونحن وراك، لا يهمُّك شيء مِن أعراف العالم وقوانين العالم، واتجاهات العالم، وقبائل العالم، واصِل حبالَ مَن شئت واقطَع حبال مَن شئت، ما عاد بقينا مأسورين لعُرف ولا لقبيلة ولا لشيء من قوانينا، ولا خائفين من الروم ولا من فارس بعد أن عرفنا أنك جئت مِن عند ربِّهم، وجئت من عند إلههم، ما عاد بقي في قلوبنا خوفٌ من أحد، ولا استسلام لقانون أحد ولا لاتجاه أحد، أنت أمامَنا وأنت إمامَنا، وأنت قدوتُنا، حارِب مَن شئت وسَالم مَن شئت، ونحن أمرنا تبع لأمرك، إنا حربٌ لمن حاربت وسلمٌ لمن سالمت، وخُذ من أموالنا ما تشاء، واترك منها ما تشاء، والذي تأخذ أحبُّ إلينا مِن الذي تترك، قال الذي تأخذه مِن المال أحبُّ إلينا، نفرح ونطمئن بالذي تأخذ، خذ من أموالنا ما شئت، هذا مقام السعد، مقام السعادة.
يستاهل إذا جاء يوم الموت واهتزَّ عرشُ الرحمن، مَن هذا الرجل الصالح، يقول سيدنا جبريل للحبيب: (من هذا الرجل الصالح الذي اهتز لموته عرش الرحمن؟!))، قال: سعد بن معاذ الآن فاضت روحه؟ قالوا: نعم، وخرج مِن بيته الشريف إلى الخيمة في المسجد التي فيها يمرض سعد، وجدَه حين فاضت روحه، قال: ((جبريل الآن أتاني وقال أنه اهتز لموته عرش الرحمن؛ فرحاً بقدوم سعد))، سعد الذي قال للحبيب هكذا، سعد الذي عرف حق القيادة، وترك كلَّ شيء وقدَّمَ روحَه، قال له ذا الكلام وعاده في زهرة العمر في الشباب!، وين طيش الشباب؟!، وين نهمة الشباب؟!، في شيء وثلاثين في عمرِه لما يكلِّم النبي بهذا الكلام!، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وحازَها عليه رضوان الله.
تكلَّم المنافقون، وكان هكذا كلامهم دائماً، قالوا: الجنازة حقه خفيفة، قالوا: أنه خفيف الوزن وقد يقول بعض الناس، بلغ النبي الخبر وغضب عليهم، قال: ((إنَّ سبعين ألفاً من ملائكة السماء لم ينزلوا إلى الأرض قبل هذا، نزلوا لتشييع جنازةَ سعد))، وكانوا يحملون الجنازة ما عاد شعر الناسُ بحملها، الملائكة شاركوا وأذن الله لهم، فلما ظهرت مشاركةُ الملائكة صار خفيفاً على أعناق الرجال ما عاد حسوا بثقلِ سيدِنا سعد عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وتوفي وهو في ثمان وثلاثين سنة عليه رحمة الله، بعد غزوة الخندق، والكلام قد تقدم في غزوة بدر، عليه رضوان الله، الله يرفع له الدرجات، ويجمعنا بأولئك القوم، وأولئك الصدور، وأولئك الوجوه.
يا ربِّ لا فرقتَ بيننا وبينهم، قائدُهم قائدُنا، وهاديهم هادينا، وإمامُهم إمامُنا، وضعُفت بنا هِمَمُنا، وضعف بنا صدقُنا، وضعفت بنا نياتُنا، فبحقِّهم عليك قوِّ ما ضعفَ فينا مِن نية وعزيمة وصدقٍ وهمة في الاتباع، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به هذا الحبيبُ المحبوب، وفرِّج عنا الكروب، وأصلِح شئونَ أمتِه كلهم، وادفع البلاءَ عن أمَّتِه كلهم، وعجِّل بتفريجِ الكربِ عن أمَّته كلهم، يا محوِّل الأحوال حوِّل حالَنا إلى أحسن حال، ولا تجعلْ واحداً مِن أهل الجمع، ولا من يسمعنا يظلُّ اليومَ إلا وقد ربطتَ حبلَه بحبلِ الحبيب، وجعلتَه في خواصَّ أهلِ صدقِ المتابعة، يقودُنا في كلِّ شيء، اجعل هوانا تبعاً لما جاء به، واجعَلنا مُقتدِين به في كلِّ حركةٍ وسكون، وقولٍ وفِعل، يا مجيبَ الدعوات، يا قاضيَ الحاجات.
ولأهل الجمع ومن ورائهم وللأمة حاجات منها ما يعلمونها ومنها ما لا يعلمونها، وأنت علمتَ بها، والأكفُّ مرفوعةٌ إليك يا قاضيَ الحاجات أن تقضيَ لنا جميعَ الحاجات، وأن تدفعَ عنا جميعَ الآفات، وأن تُنيلَنا مِن فيضِ فضلِك فوقَ الطَّلبات، وفوقَ المُرادات مما أنت أهلُه يا مُعطيَ الجزيلات، يا كافيَ المهيلات، يا ربَّ الأرض والسموات، دعانا محمدٌ أن نؤمنَ بك لا نشركَ بك شيء، ولا نعتمد إلا عليك، ونستندُ إلا إليك، وهذه حاجاتُنا مطروحةٌ بين يديك، فارحمَنا يا رحمن، والطُف بنا يا لطيف، وزِدنا مِن فضلِك ما أنت أهلُه، وادفع عنا الشرَّ وأهلَه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
25 ربيع الأول 1440