(536)
(235)
(575)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الجامع بمنطقة صيف بوادي دوعن، ليلة الأربعاء 13 ربيع الثاني 1446هـ بعنوان:
أقم وأحسن صلاتك تصفُ حياتك وتتحقق نجاتك
الحمد لله، الملك الحيِّ القيُّوم الواحد الباقي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه المرجع، ويعلم كل المُكلَّفين ذلك، مؤمنُهم وكافِرُهم حين تبلُغ النفوس التراقي، ثم يحكمُ بين الأولين والآخرين في يوم التلاقي، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، صفوة الخلق من بريَّته، وخيرة الرحمن من خليقته، جعله سيد الأولين والآخرين وأكرمهم عليه تبارك وتعالى، وأول شافع ومُشفّع يوم الدين، ختم به النبيين وجعلنا به خير أمةٍ أُخرجت للناس بين العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك الحبيب المختار سيدنا محمد، أكرم من صلَّى وزكَّى وصام وقام بحق العبودية أتمَّ قيام، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغُرِّ الكرام، وعلى من والاهم وأحبهم فيك واتبعهم إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الملك العلام، وآلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، أيها الأحباب، أيها الإخوان في الله، أيها الحاضرون في هذا المحضر المبارك، نحمد الرحمن الذي جمعنا وإياكم بالفضل والإحسان والجود والامتنان في هذه الساعة بين المغرب والعشاء، لنتذكَّر شؤونًا تتعلَّق بأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
فأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة، التي عند فرضها أسرى الله بنبيه ومصطفاه، ولم ينزل الأمر بها كبقية الفرائض من السماء إلى الأرض، بل أُسري برسول الله ﷺ وعُرج به، وفوق السماوات العُلى وفوق سدرة المنتهى وعلى عرش الرحمن كان فرض الله للصلاة على أمة النبي محمد ﷺ في خطابه للنبي محمد ﷺ، وجاءنا بهذا الخير العظيم من الله.
وأمة هذا النبي ﷺ في مختلف الأزمان والقرون إنما يحوزون حقائق العز والكرامة وطمأنينة القلوب والأمن والسلامة والدرجات الرفيعة، والقرب من الرب، والسعادة المُعجلة المُتصلة بسعادة الأبد؛ يحوزون كل ذلك على حسب اتباعهم لهذا النبي واقتدائهم به، وتنفيذهم لما جاء به عن الله، وتطبيقهم لشريعته، وحرصهم على سنته؛ بذلك ينالون محبة الخالق الذي خلق، وتطوَّل ورزق، ووحده للعبادة استحق، جل جلاله وتعالى في علاه.
على قدر هذا الاقتداء والاهتداء والاتباع يكون الارتفاع ونيل المحبة من رب العالمين، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) جل جلاله.
وقال ﷺ: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، للاتباع في هذا الركن الأعظم بعد الشهادتين، ركن الصلاة، أول ما يُسأل عنه العبد من الواجبات في قبره ثم في يوم القيامة، فإن وُجدت تامة - أي الصلوات المفروضة - قُبِلت وسائر عمله، وإن وُجدت ناقصة رُدَّت وسائر عمله والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فشأن الصلاة عظيم، جاء بفرضها نبينا محمد ﷺ عن الإله في ليلة معراجه وإسراه، ثم لم يزل يُذكِّر بها وبمكانتها وفضلها حتى لحظة خروجه من هذه الدنيا ومفارقة هذه الحياة إلى حياة أكرم وحياة أقوى وحياة أعظم وحياة أهنأ وحياة أشرف: حياة البرزخ.
ولقد كان ﷺ حيًّا في عالم الأرواح وحياته تفوق حياة كل روح وتعلو على حياة كل روح، ثم كان حيًّا في عالم الدنيا من حين ولدت به أمه آمنة، فكانت حياته في الدنيا أعلى حياة وأقوى وأشرف وأعمق حياة، ثم هو حي في البرزخ أعلى حياة لأهل البرزخ وأشرف حياة لأهل البرزخ، ثم هو حي في القيامة، وحياته تفوق كل حي من الخلق في القيامة، ثم هو حي في الجنة، وحياته تفوق حياة كل حي في الجنة التي يُمِدُّ الله أهلها بالبقاء فيبقيهم فلا يموتون أبدًا.
وأول ما يُقابل به الداخل إليها أن يقال له: "إن لكم فيها أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وأن تصِحوا فلا تمرضوا أبدًا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وأن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا" وهذه حقائق السعادة الكبيرة الدائمة في الحياة الآخرة التي لا نظير لها في هذه الدنيا.
ليس في الدنيا من يحيا فلا يموت، ليس في الدنيا من يشِب ولا يهرم، ليس في الدنيا من يصح ولا يمرض، ليس في الدنيا من ينعم ولا يبأس، بل مخلوط حلوها بمرها، ورخاؤها بشدتها، وصحتها بسقمها، ونعيمها بعذابها، ولم يزل الأمر كذلك في هذه الحياة الدنيا.
قال عنها الجبار: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، فإن أتباع النبي محمد ﷺ من المسلمين في كل زمان شرفهم وكرامتهم وسعادتهم وأمنهم وطمأنينة قلوبهم بقدر اتباعهم لهذا النبي المصطفى، الذي قال الله عنه حالفًا بربوبيته مخاطبًا له لِنفقَهَ مكانته عنده: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
إذا علمنا ذلكم فإنّ تأملنا لشؤون الصلاة أساسٌ في استقامتنا وارتباطنا بالله وبرسوله، وأساس في نيل السعادة المعجلة في الدنيا، والسعادة المعجلة في الدنيا: طمأنينة في القلب مربوطة بالذكر، لا تُكسب بالمال ولا باللعب، ولا بتناول المخدرات والمسكرات، ولا بالطعام ولا بالشراب، لا يُكسب طمأنينة القلب بشيء من ذلك، ولكن بِوَهب من مُقلّب القلوب، قال عنها: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
ولذا فإنّ مَن على ظهر الأرض ممن لا يذكر الله على الوجه الذي يُحبه الله ويرضاه، مؤمنًا به وبرسله أجمعين وملائكته أجمعين وكتبه كلها، خاضعًا خاشعًا مستغفرًا، من لم يذكره على هذا الحال وهذا الوصف فلا يذوق الطمأنينة، وإن كان رئيسًا وإن كان وزيرًا، وإن كان قائد جيش وإن كان ثريًا، وإن كان مليونيرًا، وإن كان ما يكون على ظهر الأرض، لا يُحَصِّل الطمأنينة في القلب ولا يقرُّ بقلبه الطمأنينة حتى يدخل دائرة الذكر لله على الوجه الذي يرضاه.
مفتاحها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهي الشهادة التي تؤَكَّد لنا في كل صلاة إذا صلينا، فنقول في خواتيم الصلاة بعد أن نُحيِّي ربنا بما هو أهله ونقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله"، ونُحَيّي نبينا ونسلم عليه: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، ونؤكد صلتنا بصالح عباد الله من أهل أرضه وسمائه: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". فُنجدِّد العهد الذي ندخل به في دوائر الصالحين ونلقى به سيد المرسلين ونُدرِك به رضا رب العالمين، فنقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله".
وفيه رواية في السنة الكريمة: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، والرواية الثالثة في السنة: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله"، نُجدِّد هذا العهد مع الله في كل صلاة ليقوى إيماننا ويقوى يقيننا بإلهنا.
فما أعظم الصلاة وما شملت، وما حَوَت من عجائب وغرائب في القرب من الله والفهم عن الله ونيل رضوان الله، والاتصال بمصطفاه وبأصفياه! فنبتدئها في القيام بذكر الإله وعظمته والمآل إليه، ثم ذكر أئمة دينه وأولهم الأنبياء ثم أتباعهم.
فنحمده تعالى بعد أن نُسمِّي باسمه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ومن قال هكذا في الصلاة قال الله: "حمدني عبدي"، إذا قال: (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، قال الله: "أثنى عليَّ عبدي"، فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، قال الله: "مجَّدني عبدي"، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال الله: "هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، قال الله: "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
ففي القيام في كل صلاة نسأل الحق الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم قال لنا ربنا تعرفون معنى هذا الصراط؟ هذا صراط أحبابي الذين أنعمت عليهم؛ فاتصلوا بهم، ادخلوا في دوائرهم، وكونوا منهم وكونوا معهم، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ومَن هم؟ هم المذكورون في الآية الأخرى التي بشّرت أهل المحبة.
وقال ثوبان المحب لسيدنا المصطفى ﷺ عندما سأله نبينا: "ما لي أراك اصفرّ لونك ونحُل جسمك؟" قال: "محبتك يا رسول الله"، "ما بال محبتي؟" قال: "إني قد أذكرك وأنا بين أهلي وولدي فلا أصبر حتى آتي وأنظر إلى وجهك، - أقوم من بين أهلي وولدي- وإني ذكرت أن الدنيا مُنقضِية وأن أمامنا حياة الآخرة الأبدية، فقلت: إن أنا لم أدخل الجنة لم أرك، وإن أنا دخلتها كنت في منزلة دون منزلتك فلا أراك"، لا أراك، لا أراك!" فهذا الذي كدر علي عيشي وحال بيني وبين طعامي وشرابي ومنامي يا رسول الله"، ما عاد قادر يأكل ولا يشرب ولا ينام، فاصفرّ لونه ونحل جسمه.
سكت النبي ﷺ وإذا بالوحي يرفرف وجبريل ينزل بالآية: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا).
هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، الصراط صراطهم منسوب إليهم، لا تحسب أنك تستقيم على الصراط المستقيم وأنت لا تحب هؤلاء، لا تحسب أنك يمكن أن تثبت على الصراط المستقيم وأنت لا توالي هؤلاء من أجله، الصراط أضافه الحق إليهم ونسبه إليهم وهو صراطه، ولكنهم هم القائمون فيه وهم الأئمة فيه فأضافه إليهم وقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).
مع أنه أضافه إلى نبيه سيدهم ﷺ، أمره يقول لنا: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، مع أنه في الحقيقة لا بابتكار واختراع من النبي محمد ﷺ ولا من بقية النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكنه إرادة الله ونظام الله واختيار الله، فهو صراط الله، فنسبه على الحقيقة إلى نفسه أيضًا في القرآن، وقال مخاطبًا نبينا محمدًا ﷺ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ).
صراط الله، بعد ذلك يقول: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ما هو واحد ثاني، إنما هو نفسه الصراط، ليس صراطًا ثانيًا معهم، هو هذا صراط الله، صراط الله لأنه أوامر الله ونواهيه ونظامه للمُكلفين على ظهر الأرض يمضون عليه، من الله حمله الأنبياء وبلّغوه فهم سادة أهل هذا الصراط وتبعهم الصديقون والشهداء والصالحون، فالصراط صراطهم، سيدهم محمد ﷺ فهو صراطه: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)، ثم بقيتهم: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
وكان من هدايته لنا إلى الصراط المستقيم أن أكَّدَ شأن الصلاة وحُسن أداءها في طيلة حياته إلى عند وفاته، وقبيل لحظات خروج روحه الشريفة ولحوقه بالملأ الأعلى يقول: "يا عباد الله، الصلاة وما ملكت أيمانكم"، ما ملكت أيماننا سواء من الرقاب أو من الأموال، أو من مسؤوليتنا عمن نربيهم من أهالينا وأولادنا، "الصلاة وما ملكت أيمانكم"، فتوفي وهو يحثنا على الصلاة.
فيا ويل الغافلين عنها والساهين الذين هُدِّدوا في القرآن بالويل: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)، وقد فسَّر النبي محمد ﷺ الساهين عن الصلاة من هم؟ بيَّن لنا وقال: "الذين يؤخرونها عن وقتها"، يؤخرون الصلاة عن وقتها! فكيف بمن يتركها كلها؟ الذي يؤخرها عن وقتها مُهدد بالويل، فويل! والتهديد ما هو من إنسان ولا من ملك ولا من جان، من مُكوِّن الأكوان، من القوي القادر القهار جل جلاله (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ).
حتى جاء في الحديث: "إذا أخَّر العبد فريضة عن وقتها - فريضة واحدة - كُتِب اسمه على باب النار: فلان بن فلان لا بد له من دخول النار، فإن تاب وصدق مُحي اسمه، وإلا فاسمه على باب النار"، والعياذ بالله تبارك وتعالى، بترك فريضة واحدة، فكيف بفرائض كثيرة؟
إنها أول ما يُحاسَب عنه العبد في قبره ويوم القيامة: الصلاة، لذلك كانت لإقامتها على وجهها، سمعنا في الآيات التي تُليت: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، عند زوال الشمس هو دلوكها، ذهابها إلى جهة المغرب وقت الظهر، (إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ): مغرب وعشاء، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، دلوك الشمس يأتي فيه صلاة الظهر والعصر، (إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ): المغرب والعشاء، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ): صلاة الفجر، (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) ما معنى مشهودًا؟ مشهوداً: تشهده ملائكة كثير، تشهده تحضره، مشهودًا محضورًا، تحضره الملائكة، (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أي تحضره ملائكة كثيرون، في إشارة من الله أنه إذا كثر حضور الملائكة كثرت إمداداته وكثرت عطياته، وكثرت إسعاداته جل جلاله (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
ثم بسط بساط النافلة والمسنونات، يقول لنبينا: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي قُم صلِّ بعد نوم، والتهجد ترك الهجود، والهجود هو النوم، ومعنى التهجد ترك الهجود أي القيام من النوم، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)، صلى الله على صاحب المقام المحمود، وقرّبنا منه في ذاك اليوم الموعود، وأظلّنا بظل لوائه المعقود، وأوردنا حوضه المورود، آمين اللهم آمين.
فالذين يحافظون على الصلوات جديرٌ بأن يردوا الحوض في أوائل الواردين، حوض سيد المرسلين، وكل نبي له حوض يقوم عليه، يرِد عليه من مات على الإيمان من أمته، فيتباهون أيهم أكثر ورودًا، فيكون نبينا محمد ﷺ، "فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة" صلوات ربي وسلامه عليه، أورِدنا اللهم على حوضه المورود.
في شأن هذه الصلاة وعظمتها عبَّر الله في مختلف آيات القرآن بالإقامة، ولم يقُل بمُجرد: صلِّ، ولا: صلوا، أقيموا الصلاة، (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، إقام الصلاة، لأن الإقامة ليس مجرد أداء للصلاة ولكن إتقان وإحسان، أدائها على الوجه التام، إقامة: لا تقيمها حتى تؤديها على الوجه الأتم، (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).
إقامتها بأدائها على وجهها وأول ذلك الطهارة لها، الطهارة عن الحدثين: الأصغر والأكبر، الأصغر ما أوجب الوضوء، والأكبر ما أوجب الغسل، الطهارة عن الحدثين بإتقانها، قال نبينا ﷺ: "الطهور شطر الإيمان"، نصفه، أي جزء منه عظيم، "الطهور شطر الإيمان"، ومَن أحسن وضوءه أحسن صلاته، من لم يُحسِن الوضوء لم يحسن الصلاة.
قالوا: حتى أن حضور قلب المؤمن في الوضوء مع الله يُسهِّل له حضور قلبه في الصلاة، حتى كُره للمتوضئ أن يُكلّم أحدًا أثناء الوضوء، ويُروى في الأثر: إن على المتوضئ قبة من نور، فإذا كلَّم أحدًا من الخلق رُفعت عنه، فيتوضأ حاضر القلب، وإن قدر مستقبل القبلة فهو أفضل، ويأتي بِسُنن الوضوء بعد فرائضه المهمة فيُحسنها.
ولم تُثنِ السيدة نفيسة - من ذرية الحَسن بن علي عليها رضوان الله - في القاهرة على الإمام الشافعي حينما توفي وحملوا جنازته إلى باب دارها لِتُصلي عليه، وصلت عليه، ولم تُثنِ عليه إلا بهذه الكلمة، قالت: "رحم الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي، إنه كان يُحسن الوضوء"، إنه كان يُحسن الوضوء! مَن أحسن الوضوء أحسن الصلاة، ومن أحسن الوضوء وأحسن الصلاة حسُن دينه كله، وحسُن حاله مع ربه جل جلاله وتعالى في علاه.
لذلك كان في الصلاة قُرب خاص من الله، وهي صلة بين العبد وبين ربه، من تركها فقد قطع هذه الصلة، إذا كان للصلاة أثر في طمأنينة القلوب، أثر في نزول السكينة، أثر في دفع الآفات، أثر في زيادة الإيمان، أثر في القرب من الرحمن، (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
لذا ينبغي للمؤمن أن يُعظِّم شأن الصلوات المفروضة أولًا من إحسان الوضوء والطهارة، من إحسان الغسل، قالوا من وجب عليه الغسل ينبغي أن يُحسن، ومن أهم إحسانه ما يعلم مِن معنى ما قال ﷺ: "تحت كل شعرة جنابة"، تحت كل شعرة جنابة، حتى قال سيدنا علي: "من يومها عاديت شعر رأسي"، فكان يميل إلى حلق شعر رأسه حتى لا يبقى مانِع من وصول الماء إلى جميع منابت الشعر.
ومن هنا قالوا: من وجب عليه الغسل ينبغي أن ينوي رفع الحدث الأكبر عند الاستنجاء، لأنّ محل الاستنجاء يغفل عنه الماء مهما اغتسل قائمًا أو قاعدًا، فإنه يغفل عنه الماء ولا يصله فتبقى الجنابة عليه، فينوي رفع الجنابة عند الاستنجاء حتى يعُمّ الماء جميع أجزاء جسده ولا يبقي لُمعة في رأسه ولا في بدنه.
ويأخذ أثناء الغسل غرفة بيده اليمنى ويضعها على الأذن اليمنى، غرفة باليد اليسرى ويضعها على الأذن اليسرى ليصل الماء إلى الصماخين، ويتعهّد السرة ومعاطف البطن وما تحت الإبط فإنه تغفل عنه الماء.
ولما رأى النبي ﷺ - كما جاء في البخاري وغيره - أعقاب الصحابة من الذين توضؤوا تلوح - يعني لم يُصبها الماء - العقب: مؤخرة الرجل، فلما لاحظ ذلك نادى بصوته وعلا: "ويل للأعقاب من النار! ويل للأعقاب من النار!" أي إذا لم يصِل إليها غسل الوضوء وما يجب من الغسل للبدن كله، فإنه يتعرض الأماكن التي لم يصلها الماء إلى أن تمسك بها النار يوم القيامة والعياذ بالله تبارك وتعالى، "ويل للأعقاب من النار!"
من إحسان الوضوء: ومن قال بعد كل وضوء "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، فتح الله له يوم القيامة أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، بالمحافظة على الوضوء والذكر بعد الوضوء، وفي رواية في غير البخاري ومسلم، عند الترمذي وغيره زيادة: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين".
ثم هذه الصلاة، أول ما يتوجّه من إحسانها بعد إحسان الوضوء والتوجه إليها، أن يدخل إليها باجتماع قلب على المتوجَّه إليه وهو الله، تعظيم الرحمن، لهذا كان افتتاحها التكبير، تحريمها التكبير والدخول إليها بالتكبير: "الله أكبر" من أجل أن لا تشتغل عنه بشيء غيره "الله أكبر"، فتُكبِّر وتُخرج من قلبك ما سِواه جل جلاله.
لِتحضر مع: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، قالوا: والخشوع إذا انتظمت ستة معانٍ تمّ الخشوع: حضور القلب، تفهُّم المعنى، التعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء.
حضور القلب: تعلم ما تقول وما تفعل، معنى وقوفك بين يديه تعظيماً، معنى تكبيرك له، معنى توجيه وجهك إليه: "وجهّتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض"، فلا يقطعك شيء في السماوات ولا في الأرض، توجّهت إلى فاطرها وموجدها، فاترك السماء واترك الأرض وتوجه إلى فاطر السماء والأرض؛ هذا حضور القلب.
ثم تأمل المعاني في القراءة والتسبيحات، ثم أن يكون ذلك بالتعظيم، فقد تتأمّل كلام الطفل الصغير وتتأمل ماذا يقول وتتفهمه ولكن بلا تعظيم، مع التعظيم، والتعظيم مع الهيبة وهو الخوف والخشية، خشية أن تُردَّ عليك صلاتك، أن لا يقبلك ربك، وبعد ذلك الرجاء أن يقبلك، وأن يُثيبك وأن يُضاعف خيره عليك، ومع ذلك أنت مستحيي موقن أنك مهما اجتهدت فأنت مُقصِّر، فهذا الخشوع، هذا هو الخشوع.
قال سيدنا عبد الله بن مسعود: "أول علم يُنزع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا تكاد تجد خاشعًا"، مساجد بلدانكم هذه كانت تعهد خاشعين كثير في كل صلاة، في الفرض والنفل، بل كانت تعهد خشوعًا في آخر الليل، ومر علينا ما مر وحلَّ بنا ما حلَّ وصارت تبكي بعض المساجد، بعضها من حين بُنيت ما وجدت خاشعًا، وبعضها كانت تعهد الخاشعين وانقطعوا عنها، الله يُحيي فينا ما مات من الخيرات وسنن خير البريات.
كان الخشوع حتى في أسواقنا ما عاد هو في المساجد، حتى في الأسواق تجد الخشوع، في الطرقات تلاقي الخاشعين لله تبارك وتعالى، كان سيدنا علي يقول: "سوق المسلمين كمُصلى المصلين"، سوق المسلمين كمُصلى المصلين، فكيف بمساجدهم؟ هكذا تتعلم حضور القلب والخشوع في الصلوات.
ثم تحرص على جميع الأركان والشروط وتعمل ما استطعت من السنن، وبالحرص على الخشوع في الصلاة، ثم أداء جميع الفرائض والشروط والواجبات والحرص على أداء السنن، تخرج الصلاة بيضاء نقية، تقول: "حفظك الله كما حفظتني"، وتُرفع نحو السماء وتُفتح لها أبواب السماء.
قال: "وإذا صلى فلم يُتِم ركوعها ولا سجودها خرجت سوداء مظلمة تقول: ضيَّعك الله كما ضيعتني"، ولما شكى بعض الناس إلى بعض أهل العلم والمعرفة ما يلاقي الناس من شدائد وابتلاءات ومِحن، قال: ما أرى بهم إلا دعوة الصلاة، قال: ما هي؟ قال: ما أحسنوها ولا أتقنوها، كل صلاة تقول لصاحبها: ضيَّعك الله كما ضيعتني، هذا هو الضياع الذي فيه والمصائب التي حلَّت بهم، أضاعوا الصلاة فضاعت، ضيَّعهم الله فضاعت خيراتهم وضاعت.
قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وعند أدائها على هذا الوجه تأتي النتائج الكبيرة من حفظ الله لهذا الإنسان وصيانته، وخيرات مُعجلة في الدنيا: منها أن يُيَسِّر له الرزق، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ).
لذا لما قابل بعض المُذكِّرين بعض أهل بلده يقول له: كيف أنت والصلاة؟ قال: أحيانًا نصلي، قال له: تريد رزقك يكون أحيانًا؟ تريد رزقك ساعة وساعة! جعلت الصلاة ساعة وساعة؟! ترضى يكون رزقك ساعة وساعة؟!
أقم الصلاة كما فرض الله تعالى عليك، فإنها من خير الأعمال التي هيّأ الله لنا بها التقرب إليه سبحانه وتعالى، ثم إن التهاون بالصلاة والإهمال لأمرها من أقوى أسباب سوء الخاتمة عند الموت والعياذ بالله.
فإذا أضفت إلى هذه الصلوات رواتب من الصلوات فإنها جوابر للفرائض وتُكمِّل ما نقص عليك في الفرض، وسبب لرفع درجاتك، "من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة، بنى الله له قصرًا في الجنة"، اثنا عشر ركعة غير الفريضة.
وأهمها رواتب الصلاة والوتر التي قال بوجوبها جماعة من الصحابة، وقال بوجوبها الأحناف - الإمام أبو حنيفة وأصحابه، قالوا إن صلاة الوتر واجبة، لقول النبي ﷺ: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا". "فأوتروا يا أهل القرآن"، ويحصل أداء واجبها بثلاث ركعات، وإن كان أقلها ركعة، ولكن يحصل أداء الواجب عند من أوجب بثلاث ركعات.
إذا قمت بذلك تهيّأت للقبول عند الحق جل جلاله القائل في حديثه القدسي: "ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل بعد أداء الفرائض حتى أُحِبه".
ومن إحسان الصلاة وإتقانها ذكرك لله بعدها، وقد ورد في السنة أذكار كثيرة:
من أهمها: "اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحِّينا ربنا بالسلام، وأدخلنا برحمتك دارك دار السلام. تباركت ربنا وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام".
من أهمها ما قال النبي ﷺ لسيدنا معاذ: "يا معاذ، إني أحبك فلا تدعنّ أن تقول بعد كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
من أهمها آية الكرسي، قال ﷺ: "من قرأ آية الكرسي بعد الصلاة كان في ذِمة الله إلى الصلاة الأخرى"، قال ﷺ: "من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة لم يكن بينه وبين من الجنة إلا أن يموت"، وجاء في رواية: "من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة تولى الله قبض روحه بيده" أي برحمته ورأفته، فما أعظم آية الكرسي بعد كل صلاة، وفيها حفظ من أنواع الشياطين والسحر.
ثم هذا التسبيح: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فمن فعل ذلك بعد كل صلاة غُفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
وأذكار كثيرة وردت في السنة، لكن هذه من أهمها، وتواظب على ما تيسر لك منها فتأتيك هذه النتائج في الحياة، وتمتدُّ إلى ساعة الغرغرة، وتكون سببًا للثبات وسببًا للموت على الإسلام، ثم في القبر، ثم في يوم القيامة وفيها خمسون موقفًا للحساب، كل موقف مقدار ألف سنة.
وأول موقف للحساب على الصلاة، الحساب على العبادات يبدأ بالصلاة، فإن وُجِدت تامة قُبِلت وسائر عمله، وإلا رُدت وسائر عمله والعياذ بالله تبارك وتعالى، فما أعجب هذه الصلاة ومنزلتها عند الله تبارك وتعالى في علاه! جعلنا الله من مُقيميها، قال سيدنا الخليل إبراهيم في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).
ولهذا يتعرّض البيت الذي فيه من يؤخِّر الصلاة عن وقتها أو يتركها لنزول اللعنة على ذلك البيت والعياذ بالله تبارك وتعالى، وشأنها عظيم حتى جعل الشرع المَصون حتى المُتجاهر بترك الصلاة أن يأمره الحاكم بأدائها، فإن أصر وأبى أن يؤديها فأخرج فرضين عن وقتها قُتل، لتتطهر مجتمعات المسلمين من تُرّاك الصلاة، هذا حدّها في الشرع المصون، فاحكُم لمنكريها بالكفر والنيران والخزي والهوانِ -والعياذ بالله تعالى- من أنكرها، فاقتل لتاركيها، من تركها كسلًا يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل، أما من تركها جحودًا فقد كفر والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"من ترك الصلاة برئت منه ذمة الله وذمة رسوله"، فويل له! من له إذا تبرأ الله منه ورسوله؟! لذا قال لنا ﷺ: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع"، أي ربّوهم على كمال العفاف والحياء من سن الصغر قبل أن تُنازلهم الشهوات والالتفاتات إلى المحرمات، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع وهم أبناء عشر سنوات، هكذا أمرنا ﷺ أن نُربي أبناءنا وبناتنا.
فما أعظم حال المقيم للصلاة وما أعظم عناية الحق تبارك وتعالى به! (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) ويا فوز المقيمين للصلاة!
وإذا سُئل الكفار في النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، ذكروا أكبر الأسباب: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) هُم كفار، ولكن مع الكفر ذكروا أسبابًا كانوا يقومون بها هي من أقوى أسباب دخولهم النار، فوق الكفر، وهي:
(لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) هذه أول مصيبة، (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ).
الثاني: البخل من الزكاة، (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ).
والثالث: هوجات وبلابل بينهم البين، يخوضون فيها وينالون من الحق ومن رسوله ومن الصالحين ومن الدين، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)، نبلبل مثلهم نتكلم، ما ضبطنا ألسنتنا ولا ضبطنا مقالنا، واغتبنا ونمينا واغتبنا أحياءً واغتبنا أمواتًا.. مصيبة!
(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) ما يؤمنون أصلًا (حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ)، فهؤلاء الكفار قال الله ما تنالهم شفاعة الشفعاء، (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) أي من أسد، فلماذا عند التذكير وعند التبيين للحقائق يفرّون كأنها حُمر استنفرت من أسد أقبل عليها تهرب من هنا ومن هناك، (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).
نسأل الله أهل التقوى وأهل المغفرة أن ينفعنا باجتماعنا وباستماعنا وبِما قلنا، ويجعل ذلك كله حُجّة لنا لا حجة علينا، ويجعل إقام الصلاة في كل فرد منا ،ومن أهلينا ومن أولادنا وذرارينا، يجعل سرّ إقامتها متسلسلًا، محفوظًا في كل فرد من أهالينا وذرياتنا،
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ).
ولا تخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، حقِّقنا بحقائق الصلاة: ركوعها وسجودها وخشوعها وخضوعها، واجعلنا عندك من خواصِّ أهلها المقيمين لها على الوجه الأحب إليك والأرضى لك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
14 ربيع الثاني 1446