أسرار (لا إله إلا الله) وأيام العشر، وأحوال الأمة
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 1 ذي الحجة 1440هـ، بعنوان:
أسرار لا إله إلا الله وأيام العشر وأحوال الأمة
نص المحاضرة مكتوب:
حقيقة كلمة التوحيد وأسرارها
الله لا إله إلا الله والله أكبر ، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير. ربُّ الأرض وربُّ السماء، وربُّ الدنيا وربُّ الآخرة، ربُّ الجنة وربُّ النار، ربُّ كل شيءٍ ومليكه. الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحيُّ القيُّوم، الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.
يُسعد من يشاء جلَّ جلاله فيَفقَه خطابه، ويُلبِّي نداءه، ويتَّبع أنبياءه. وقد أكرِمتُم بسيِّدهم أن يكون نبيَّكم، وإمامهم أن يكون رسولكم. اللهم لك الحمد شكراً، ولك المنُّ فضلاً، وارزق هذه القلوب حُسن الاستجابة لهذا الدعاء وحُسن التلبية لهذا النداء.
وقد أكَّدتَ علينا وقلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
وبقدرتك التي بها تحول بين المرء وقلبه، وبإرادتك التي تحول بها بين المرء وقلبه، وبعلمك الذي تحول به بين المرء وقلبه، وبعظمتك التي تحول بها بين المرء وقلبه، وبسمعك الذي تحول به بين المرء وقلبه، وببصرك الذي تحول به بين المرء وقلبه.
وما هديتَ هذه القلوب فشهدت أن لا إله إلا أنت وأنَّ محمداً عبدك ورسولك، ثم جمعتها تتوجَّه إليك وتتذلَّل بين يديك، وتخاف ما جنت على نفسها. إن آخذتها به أن تسوِّد وجهها في القيامة، أو تخزيها في يوم الطامَّة، أو توقعها في الحسرة والندامة.
ورجتكَ أن تغفر وأن تجود، وأن تربط بصاحب المقام المحمود، وأن تُورِد على حوضه المورود. فلك الحمد يا من يحول بين المرء وقلبه، على ما هديتَ القلوب إلى الإسلام والإيمان، وعلى ما هديتنا إلى التشمُّم لطريق أهل الإحسان، والرغبة في نيل العرفان، وحقِّقنا بحقائق ذلك.
اللهم وجميع القلوب التي هديتها لشهادة أن لا إله إلا أنت وأنَّ محمداً عبدك ورسولك، خلِّصهم اللهم من أوضار وأقذار تسلُّط النفوس والأهواء، فتكون أسلحة نفوسهم وأهواؤهم لعدوك إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن، فقد حصل ذلك لكثرة كاثرة ممن شهد بشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله.
فيا مخلِّص، خلِّص قلوبهم من هذه الورطات والظلمات والآفات والانتكاسات والدناءات والانحرافات. يا مقلِّب القلوب والأبصار، ثبِّت قلوبنا على دينك، وحقِّقنا وإياهم بحقائق لا إله إلا الله؛ فإنه لا يتحقَّق بها قلبٌ إلا ذابت أمامه جبال الفتن من أوَّلها إلى آخرها فكأن لم تكن.
كيف لا تُدَكُّ أمام حقيقة لا إله إلا الله، وهي التي لو وُضِعت في كفَّة ووُضعت السماوات السبع والأرضون السبع في كفَّة، لرجحتْ بهن لا إله إلا الله. تهنَّوا بقولها وتهنَّوا أكثر بمعناها، ولها كؤوس في معانيها يسقيها الله من سبقت له السعادة.
فيا حيُّ يا قيُّوم، اسقِ قلب كلِّ من حضر وكلِّ من يسمع كأساً من حقيقة لا إله إلا الله، عند النطق بها يهتزُّ عمودٌ عند العرش، يُقال: اسكن، فيقول: يا ربِّ كيف أسكن ولم تغفر لقائلها؟ فيغفر لمن قالها بفضله.. لا إله إلا الله، حقَّقنا الله وإياكم بحقائقها، وثبَّتنا على طرائقها، وجعلنا من أهل رقائقها ودقائقها.
يا الله، داوِ بلا إله إلا الله كلَّ ذرَّة من صفاتنا، وكلَّ ذرَّة من أعمالنا، وكلَّ ذرَّة من وجهاتنا ونيَّاتنا. فأزِح وزحزِح جميع الشوائب من الالتفاتات إلى ما سواك، عن جميع مقاصدنا ونيَّاتنا وأقوالنا وأفعالنا وحركاتنا وسكناتنا، بحقِّ لا إله إلا الله، وبحقِّ خير من قال: لا إله إلا الله، محمد رسولك المصطفى الأوَّاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يا ربَّنا، وأذنْ لقلوب كثيرة لم تدخلها بعد أنوار لا إله إلا الله، أن تُكرمها فتدخُل لها أنوار لا إله إلا الله، وتُنيب إليك، واجعل عدداً منهم يفدون إلى موطننا هذا، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، بسرِّ لا إله إلا الله.
فضل ذكر لا إله إلا الله
قال سيدنا ﷺ: "أفضل ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله". اربط نطقنا بذاك النطق، وقولنا بذاك القول، وقلوبنا بذاك القلب، يا الله، يا الله، يا الله.
أتدري لو استُجيب فيك الدعاء أي تاج تُلبَس، وما في قلبك يُغرَس، ومَن في القيامة تُجالِس، وما يحصل لك مِن مآنس! فنسأل ربَّ العرش أن يستجيب هذه الدعوات في القائل والحاضرين والسامعين، ويشمل بخيرها من في ديارهم ومن في منازلهم وقراباتهم والمسلمين، يا الله يا الله.
أفضل الدعاء
وقال سيدنا ﷺ: "أفضل الدعاء دعاء عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير". هذا دعاء عرفة، هل وسطه طلب تعرفه؟ قال سمَّاه دعاء، انظر ما طلب صاحبه!
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير". أي طلب مقدَّم هذا؟! كلُّه فيه! الطلب كلُّه فيه!
لو وُصِلتَ بمعناها، ولو سيقَ بك إلى مغناها، فإنك إن قلتها بحقٍّ مِن حقائقها نظر إليك الربُّ، فتقاصرت طلبات من سبق ومن لحق، دون ما يعطيك بهذه النظرة، لا إله إلا هو.
ويعتني المؤمنون بقولها في يوم عرفة، سواء الحجَّاج في عرفة وغيرهم حيث ما كانوا. "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير".
فيها سلب الظلمة منك وعنك حتى لا تبقى إلا محض نور، فيها إذهاب ديجور شهود الكائنات، بأسرار أنّ الملك لمن؟ والإحياء والإماتة لمن؟ فينبغي أن ترجو غيره؟ لا! أن تخاف غيره؟ لا! أن تعتمد على غيره؟ لا، حقَّقنا الله بحقائقها.
وبارك لنا في عرفة ويوم عرفة المقبل، بركة تامَّة، يأذن بها بزعزعة جيوش الكفر والفساد والزيغ والضلال، وظهور رايات محمد وانتشارها في جميع الأقطار والمحال؛ حتى يدنو وقت إنجاز الوعد من ذي الجلال، أن لا يبقى بيت مدر ولا حجر ولا وبر إلا ودخله هذا الدين، ودخلته لا إله إلا الله. واجعلنا من خواصِّ أهلها يا رب.
العبرة بأيام أقسم الله بها
وهي أيام الذكر والعبادة، ولعلَّه هلَّ هلالها في ليلتكم هذه، أيام عشر أقسم بها ربُّ السماوات والأرض في قُرآنه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ).
هل في ذلك قَسم؟ نعم يا رب، قَسم عظيم، هل في ذلك قسمٌ لذي حِجْر؟ اجعلنا من أولي الحِجْر والعقول، على ماذا تُقسم وأنت الحقُّ الذي تقول الحق والقول قولك؟ قال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ). أمةٌ كبيرة قبلكم كانت تقول: من أشدُّ منَّا قوة؟! اغترُّوا ببسط في المادة، وبسط في الجُنديَّة، وبسط في أنواع الوسائل الحياتيَّة، حتى لم يُخلَق مثلها في البلاد، واغترُّوا بذلك.
كيف فعلنا بهم وطويناهم! فبِمَ تغترُّون؟ بأفرادكم وجماعاتكم ومن في زمانكم؟! (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) فما معنى الغرور؟ ما معنى الغرور بمظاهر هذه الدار؟! ما معنى الغرور بما في أيدي المسلمين والكفَّار؟! لا مجال للغرور.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ).
عندكم الآلات تقطعون بها بعض الأنفاق في الجبال.. قد سبقوكم! (جَابُوا الصَّخْرَ) قطَّعوا الصخور في البلدان، بل ينحتون من الجبال بيوتاً، معهم آلات، يعمل البيت وسط الجبل، يدخل غرفة هنا وغرفة هنا، ومحل وطابق هنا وطابق هنا، وسط الجبل! لا إله إلا الله.
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ).
حصل كلُّ هذا، فعلى ماذا تُقسم يا رب وأنت الصادق؟! قال: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) لا تنسوا هيبتي، لا تنسوا رقابتي، لا تنسوا قيُّوميَّتي على أرضي وسمائي، كلَّما جاءكم أحد قلتم هذا قوي، وهذا صعب، وهذا ما يُقدَر عليه، لا تنسى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
وقد جاء بعض المتشدِّقين الذين ما يُحسنون النظر في آيات ربِّهم وفيما ورد عن نبيِّهم، يسأل واحداً من الأخيار، يقول: أين ربُّك؟ قال له: بالمرصاد، (لَبِالْمِرْصَادِ)، وهذا يدور مكاناً من الأماكن يريد الرحمن مثل خلقه يدور لهم محلّ! حاشا الله جلَّ جلاله! أجاب عليه الرب! قال له: بالمرصاد (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
الرب هذا الذي بالمرصاد لو آخذك على شيءٍ من سيِّئاتك ماذا تصنع؟ والملك ملكه، والأمر أمره، وإذا عفا فنِعم العفو، وله جميع الوجوه تعنو. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
اللهم أعِذنا من الظلم ودعوة المظلومين، اللهم اكفِنا شرَّ الظلم والظالمين، واجعلنا من فتنة هذه الدنيا سالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، أقسم ربِّي بالليالي العشر هذه، فامتلِئ تعظيماً لهذه الرقابة والرصد الربَّاني، والرصد الجبَّاري، والرصد الإلهي، ليس رصد كاميرات يعطونه لك أو مخابرات يبثّونها إليك! هذا رصد مَن أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، مَن هو أعلم بكلِّ أحد من ذلك الأحد بنفسه، أعلم بنفسك، أعلم بنفس كلِّ أحدٍ من نفسه، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، وحينئذٍ لا تتأثَّروا مِن المظاهر والظروف التي تمرُّ بكم، أنا أختبر قال.. بالغنى، بالفقر، بالتيسير، بالتعسير، بالرخاء، بالشدَّة؛ أختبر العباد بها، لا تبالوا بها، أنا من فوقكم، اتصلوا بي وانتهى كل شيءٍ، وإلَّا تعبتم بالرخاء، وتعبتم بالشدَّة، وتعبتم بالغنى، وتعبتم بالفقر، كما ترون!
قال تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) اختبره، (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ). قال: ما تغترُّ. (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) وضيَّق عليه رزقه، (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) هذه النظرات خاطئة، هذه الموازين باطلة، هذه الاعتبارات مرفوضة! ليس الأمر كذلك، الله أكبر. كلا ولكن حُسن الصلة بقيام شريعتي هو العزَّة والكرامة لمن أُكرِم، ومخالفتي ومعصيتي هي الذلّة والمهانة لمن يُهان، (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
(كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). وهذه الطاعات فيها الكرامة والعزُّ والشرف، ويتعلَّقون بأخلاق سيِّئة يُهانون بها، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، والمهانة هنا كلُّها والذلَّة هنا.
كلَّا، ستنقضي بكم صفحات هذا المظهر، وما أصغرها! مِن حين خلق الله الأرض إلى أن يَنفَخ النافخ في الصور، ما أقلَّه! وإن طال بألوف ومئات الألوف من السنين، ما أقلَّهُ بالنسبة لما بعده.
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، الملائكة مصطفِّين من وراء بني آدم ووراء الجن، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ).
كلُّ إنسان يتذكَّر أنه مخلوق عبد، ما كان حقُّه أن يتأبَّى على مولاه، ولا أن يتجاسر على خالقه، ولا أن يتجرَّأ على موجده، ولا أن يعصي من خلقه. (وَيَتَذَكَّرُ) سعيه وما كان، ويرون (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى).
ماذا تنفع الذكرى اليوم؟! ذكَّرتك الرسل، ذكَّرتك الكتب، أبيت، فماذا تنفعك الذكرى اليوم؟! (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، يقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي). والتي مرَّت تلك أليست حياة؟ زمان العبور ذاك، زمان المرور، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
الحياة هي الآن، قال الآن حياتي (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، وأنت الذي كُنت تتبجَّح بالحياة في الدنيا، قال تلك ذهبت، ما هي شيء! ذاك عبور ومرور فقط، الآن الحياة جاءت، (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).
(فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ)، ومَن يطيق عذاب الله؟! أجِرنا من عذابك، أجِرنا من إعطاء الكتب بالشمائل، أجرنا من خفَّة الموازين، أجرنا من زلزلة الأقدام على الصراط، أجِرنا من الفضيحة، أجرنا من الحجز عن نبيِّك في القيامة، أجِرنا من الحيلولة دون الورود على الحوض المورود، أجرنا من عذابك.
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا). ما أحد يقدر يتفلَّت، صغير، كبير، أوَّل، أخير، ما أحد يفلت.. وثاق ولا كمثله وثاق! لا توثيق بالكاميرات، ولا توثيق بالشهود، هذا وثاق جبَّاري ربَّاني، (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ).
(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)، ما أحد يقدر يهرب، ما أحد يقدر ينكر، ما أحد يخادع، ما أحد يقدر يتخلَّص، (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) ؟! تعبتَ في الدنيا تعمل لك مفرَّات كثيرة على كذب وغش، لذا ولذاك، واليوم انتهت وما بقي شيء عندك، لا تقدر أن تفرُّ، (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ).
فالفوز لمن يا رب؟ للنفوس التي اطمأنَّت، اللهم اجعلنا منها ومع أهلها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً). اطمأنَّت في الدنيا بكلام الله، بذكر الله، بطاعة الله، بما جاء به محمد بن عبد الله. (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) هذا العز وهذا الشرف وهذه الكرامة! (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) المنسوبين إليَّ، المخصوصين بالعبوديَّة، (وَادْخُلِي جَنَّتِي)، حيث يكون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
اللهم اجمعنا فيها، واجعلنا من أهليها، ورقِّنا في أعاليها، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، يا ربَّ الأرباب يا الله.
أعمال عشر ذي الحجة
روى البزَّار عن نبيِّكم المختار ﷺ بسند رجاله ثقات، يقول: "أفضل أيام الدنيا عشر ذي الحجَّة، لا يعدلهنَّ شيء". قالوا: "يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟" قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلَّا من عُفِّر بالتراب". يعني: هلك بماله ونفسه في القتال، وإلَّا ما يساويها شيء.
جاء في الروايات الأخرى الصحيحة، يقول ﷺ: "ما مِن أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهنَّ من أيام العشر"، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟" قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلَّا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه، ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
بَسط لكم البساط للمسابقة هذه الأيام في أيام العشر، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ). اللهم اجعلنا منهم.
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ). اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، يا ربَّ العالمين.
العمل في هذه الأيام ما يُساويه شيء، أفضل العبادات، "يعدل قيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر، ويعدل صيام كلِّ يوم من أيامها بصيام سنة" ، أمَّا صوم يوم عرفة سنتين، عشرة آلاف يوم، يعدل صيام عشرة آلاف يوم. "وإنِّي أحتسب على الله أن يكفِّر ذنوب السنة التي قبلها والسنة التي بعدها"، سنتين تُكفَّر بصيام يوم عرفة، وهو سنَّة لغير الحاج. بلَّغنا الله إيَّاه، وجعلنا من الفائزين فيه.
ومنهم من يرتِّب اعتكاف في مثل هذه الليالي وما أحسن ذلك - في ليالي العشر - ومنهم من ينتبه من أرحامه والصدقة عليهم، ومنهم من ينتبه من الأضحية لكلِّ قادر عليها، فهي من أجلِّ الشعائر، وما عُبد الله في أيام العيد بأفضل من نحر الدم، إراقة الدماء تلك الأيام بالأنعام.
التي يُسنُّ لنا من أوَّل ليلة في شهر ذي الحجَّة، إذا وقعت عيننا على إبل أو بقرة أو غنم أن نكبِّر الله، نُحيي شعار التكبير، أحياه الله في قلوبنا، أحياه الله في عقولنا. ونرجع إلى هذا التكبير، وفيه الخروج من كلِّ تعسير، وفيه ذِلَّة كلِّ جبَّار عنيد.
الله أكبر، الله أكبر. حقِّقنا بحقائق التكبير لك يا كبير، ولا كبير إلَّا أنت. الكلُّ في قبضتك، فمن كبير غيرك؟! هو الكبير جلَّ جلاله.
روى الإمام مسلم في صحيحه وغيره، قال: "إذا هلَّ هلال ذي الحجَّة وأراد أحدكم أن يضحِّي فلا يمسَّ شعراً ولا ظفراً". هذه سنَّة للمضحِّي، يتشبَّه بالحجَّاج الذين يقلِّمون شيء منه.
فإذا نيَّته يضحِّي، فالأفضل من أوَّل يوم في العشر لا يقلِّم شيء من أظفاره، ولا يأخذ شيء من شعوره، حتى يأتي يوم الأضحى فيضحِّي. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ويعم المغفرة جميع ما عنده، فإنه يُغفَر في أوَّل قطرة تخرج من دم الأضحى، قبل أن تقع القطرة على الأرض يُغفَر لصاحبها.
قال النبي ﷺ لسيِّدتنا فاطمة: "قومي اشهدي أضحيَتك، فإنها تُوضع في ميزانك يوم القيامة، فتضاعف بسبعين ضعفاً، وإنَّ لك أن يُغفَر لك بأوَّل قطرة من دمها، وإنها تأتي بقرونها وأظلافها وشعرها، فتُوضع في ميزانك سبعين ضعفاً".
يقول له عنده سيدنا أبو الدرداء وغيره من الصحابة: "أهذا خاصٌّ لآل محمد فإنهم أهلٌ لما خُصُّوا به من خير؟ أم عامٌّ للأمَّة؟" قال: "لآل محمد وللأمَّة عامة"، عامٌّ للأمَّة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
دعوات مباركة
أيامٌ مباركة وليالٍ معظَّمة، ونفتتحها بهذا المولد، وعندنا ختم الدورة في الليلة المقبلة، والله يجعله موسماً من المواسم التي يأذن فيها بفتح باب الفرج للمسلمين، والغياث للمؤمنين. وقد طال على الكثير منهم أنواع من الشدائد، ولا مفرِّج غير الله، ولا كاشف للضرِّ غير الله.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، ذكِّر هذه القلوب يا رب، كلُّنا نشهد أن لا إله إلَّا أنت، فحقِّقنا بحقائق: لا إله إلَّا الله.. خير ما نطقتم به، الله يحقِّقنا بحقائقها، ويجعلنا في خواصِّ أهلها، وينصرنا بها، ويجعلنا من ناصريها على خير الوجوه التي تُرضي بارينا جلَّ جلاله.
الحمد لله الذي جمعكم على هذه الخيرات، الحمد لله الذي فتح لكم هذه الأبواب الواسعات، الحمد لله الذي يريكم آثار خير البريَّات في أمَّته، مُنجزٌ له وعده، حَقٌّ ما قاله، فلا تمرُّ بنا أحوال ولا ظروف ولا أيَّام، إلَّا وتزيدنا يقيناً بهذا المصطفى، ويتبيَّن لنا صِدق ما قال وصِدق ما أخبر. (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) صلوات ربِّي وسلامه عليه.
الله يجعلنا من أنصاره، ويغمسنا في بحر أنواره، ويرزقنا حُسن متابعة آثاره، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. وأوفدَ الحقَّ قلوباً من هنا وهناك كما سمعتم، وفي الأيام هذه وافدين لأجل حضور ختم الدورة، وفَّر الله حظَّهم وحظَّنا وحظوظ الأمَّة، ساقهم بفضله حتى امتلأت الأماكن.
سمع بعض الناس فتح داره هنا أو هناك، يفتح الله له أبواباً كثيرة من العطايا الوفير، ويجزيهم خير الجزاء، ويبارك فيهم وفيما قدَّموه، وهي الفرص والغنائم لمن يغانم.
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وعُمَّ أصولاً والفروع برحمة ** وأهلاً وأصحاباً وكلَّ قرابةِ
وسائر أهل الدين من كلِّ مسلم ** أقام لك التوحيد من غير ريبةِ
وصلِّ وسلِّم دائم الدهر سرمداً ** على خير مبعوثٍ إلى خير أمَّةِ
محمَّد المخصوص منك بفضلك الـ**عظيم وإنزال الكتاب وحِكمةِ
واجعلنا يا مولانا في خواصِّ أهل اتِّباعه، ارزقنا الاستضاءة بأنوار شعاعه، واجمعنا معه يا مولانا على حوضه وتحت لواء الحمد، وفي دار الكرامة، وأنت راضٍ عنَّا.
فيا رب واجمعنا وأحبابنا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلاً وإحساناً ومَنّاً منك يا **ذا الجود والفضل الأتمِّ الأوسعِ
برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
02 ذو الحِجّة 1440