(229)
(536)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما هيأ من بساط النظر للاعتبار والإدكار لتحصل الفائدة في الحياة القصيرة لحياةٍ لا غاية لها ولا نهاية. ونحن في هذا النظر الطويل البعيد المدى، والفكر المستطيل العميق نعيش ميزتَنا بالإيمان وبالإسلام عن مستوى مَن في ساحة التفكير ممن على وجه الأرض بمختلف توجُّهاتهم ومختلف أهدافهم ومقاصدهم وأعمالهم.
فالحمد لله الذي هيأ السبيل، وآتانا سبحانه من المؤهِّلات ما يجعلنا على قدرةٍ تامةٍ على الاستفادة من حُسن النظر، وتأمُّل العِبر، وإقامة التفكير على وجهٍ مستنير، مستندهُ توجيهاتُ العلي الكبير، ودلالات البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله وسلم على مفتاح الخيرات لأهل الخير، الهادي إلى الحق تبارك وتعالى بأحسن الدلالة موضحِ معالم السير، صلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك سيدنا محمد المصطفى، وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والوفاء ومن اتبعهم واقتفى وعلينا ومعهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
جزى الله تعالى الحبيب أبابكر المشهور خير الجزاء ومن انضم إلى هذا المركز وهذه المنتديات وتلك الأربطة المباركة على ما هيئوا من فُرصِ هذه اللقاءات والتفكيرات واستكتاب أهل البحث، وإبعاد حواجزَ ربما قامت من وهمٍ ودُعمت بغير بصيرة فأفقدت المجتمع قوةً وتقىً وقدراتٍ فعَّالة وتحسيناً للوضع والواقع، وقربةً إلى الله تبارك وتعالى، وفوَّتت كثيراً من الخير الذي يعود على أهل المجتمع وعلى أهل الزمن والأمة من أسرار ما رَبَط الخالق الواحد بين مختلف المخلوقات بمعانٍ من الربط، حتى ما يُتحدَّث عنه من قاعدة الولاء والبراء فيها معانٍ أيضاً دقيقة عميقة من الربط تشير إلى أن خالق الكل واحد جل جلاله وتعالى في علاه.
ومن خلال هذه الحقيقة التي أشرنا إليها ندخل إلى هذا الموضوع الذي أراه عظيمَ الأثر في واقع الأمة، أراه من أخطر ما يمكن أن تُصرَف إليه الأنظار والأبصار والبصائر والأفكار والوجهات وطاقات الوعي والتأمل، للوصول إلى نتيجةٍ تتعلق بحاضر الأمة ومستقبلِها القريب والبعيد، شأنٌ عظيم فيما يتعلق بوجود الطوائف، ووجود المذاهب وكيف يتم التعايش، وكيف يقوم الحوار بينهم.
ما نجد نبيًّا من الأنبياء جاء برسالةٍ من الله تعالى فأسدل الستارةَ بينه وبين طائفةٍ في أمته وقومه، ولا بين أي أهل مستوى في التفكير والعقل من صغارهم وكبارهم، إلى حدِّ أنه ما بُعث نبيٌّ إلا وقوبل من أهل مجتمعِه وقومه بمستهزئين وكذابين ومدَّعين، وذُكر ذلك في القرآن الكريم ليعرف ارتباط الأمور ببعضها البعض، وسرًّا من أسرار التواصل يغيب عن الأذهان فيورث تجهيلاً كبيراً لحقائقنا ولواقعنا، قد يكون في صورة الإدراك للواقع، وهذا من أغرب ما يكون في حياة الإنسان أن يكون التحدث باسم الثقافة أو صورة الإدراك للواقع حاجباً بين الإنسان وعقله وإدراك حقيقة الواقع بما جهله من حقيقة الماضي.
فهي قضية واضحة غامضة، أما وضوحها فلوضوح الدلالات عليها في الآيات، وفي واقع أهل الرسالات صلوات الله وسلامه عليهم؛ وأما غموضها فللعوامل التي تجمَّعت على العقليات المسلمة، وعلى قوى الوعي في هذه الأمة التي حالت بينها وبين رؤية هذه الدلالة الواضحة في الكتاب ومنهج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فنحتاج إلى جديَّةٍ في تجاوُز هذه العوائق والخروج من هذا الحصر أو القصر أو الأَسر الذي وقع الناس فيه، وخصوصاً أهل هذه الملة الذين نحن جزء منهم، ورابطتُنا بهم تتميز عن رابطتِنا ببقية أجناس الوجود.
ما من منهجِ حقٍّ وهدى، وفكرة حقٍّ وهدى إلا وكان في مظاهر تفعيلِها والقيام بها وتطبيقها تنوُّع وتعدُّد؛ وما من فكرة باطل، ومنهج ضلال وزيغ إلا وكان أيضاً في كيفية تطبيقه والتفاعل معه وإخراجه إلى حيِّز الواقع تعدُّد وتنوُّع وصور كثيرة. يجب أن نفقه ذلك وهي سنة من سنن الله في هذه الحياة.
ولما كان دين الحق دين الله الذي ارتضاه ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلاَمُ ﴾ [آل عمران:19] على مثل ذلك المنوال جاءت معاني التنوُّع والتعدُّد في صلب الشريعة المطهرة لتكون في صورة كمالٍ، في جمعٍ وتوحيدٍ على أسسٍ ثوابت وأصولٍ رواسخ وفتحِ نطاقٍ واسع في تعدُّد كيفياتِ التطبيق والعمل به والتنفيذ لذلك الأمر. ولم ينفك هذا عن حال المستجيبين لدعوة نبيِّنا حتى في حال حياته وأيام نزول الوحي عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقد جاء التنوُّع في الفهم، وجاء التنوُّع في إدراك المغزى والهدف، وجاء التنوُّع في كيفية التنفيذ والتطبيق. والعجب أنه وهو صاحب الرسالة أقرَّ هذا وأقرَّ هذا وأقرَّ هذا.. ليقرَّ سنةَ الله في الوجود من التنوع لكن بضوابط وأسسٍ تحفظ على الأمة وحدةً لا يكون معناها انعدامُ التنوُّع في الواقع، ولا رفضُ صاحبِ رؤيةٍ لصاحبِ رؤيةٍ أخرى. فليس هذا معنى الوحدة.
ووسط الوحدة وضمن الوحدة يمكن أن تكون رؤى متعددة ومتنوعة، وذلك أنه يجمع الإنسان والإنسان إما مصلحة وإما هدف معين وإما قواسم مشتركة، والقواسم المشتركة يمتد العمل بها في نفع الأمة والبشرية حتى مع غير أهل الملة بالضوابط، يقول صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول: (لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمرُ النعم، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت) [رواه البيهقي في السنن] قال لو أن تلك الطوائف دعتني للقيام على ذاك الأمر الذي يهدف إلى العدل وإنصاف المظلوم لأجبتهم وأنا رسول الله، وهم في تجمُّعهم ذاك على ما اجتمعوا عليه، في هذه الحيثية وهذه النقطة قام قاسمٌ مشتركٌ في إنصاف المظلوم على ظهر الأرض. وقد حملَ هذا القاسمَ جميعُ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
تمتد النظرة وتمتد السعة في شأن هذه القواسم التي ما يُعدم أن تمتد حتى بين أهل ملة الحق وبين أهل أديانٍ باطلة كفريَّةٍ ضالةٍ، وعلى ضوئها جاء في الشريعة باب الصلح والمعاهدة وإقامة العهود، وجاء تمثيل ذلك في واقع سيرة المصطفى بعقدِ الصلح بينه وبين قريش في وقت استفزاز، ووقت إثارة للمشاعر، حيث يُرَدُّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحرم من تحت مكة، ويُمنع من دخول الكعبة وأداء العمرة، ثم يبرِم الاتفاقية في هذه الظروف.. حتى بحكم البشرية والنظرة العادية تحركت نفوس بعض الصحابة، فكان منها ما قام في المحاورة على تلك القضية وإذا بصاحب النظرة سيدنا عمر بن الخطاب الذي يرى أنه ربما يكون في هذه الصورة من التعامل فتحُ بابٍ لإذلال المسلمين ولاستطالة الكافرين، فجاء إلى رسول الله، يا رسول الله: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: ( بلى). أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى). ألستَ رسولَ الله حقا، قال: ( بلى ). قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا!؟ لماذا نرضى بهذه الشروط الصعبة المتعبة المُجحفة، التي توجب علينا أن نرجع هذه السنة، ولا نأتي مكة إلا السنة القادمة والسيوف مغمدة، ولا نجلس إلا ثلاثة أيام، وعشرة أعوام الصلح تقف الحرب، ولا نعين أحداً عليهم ولا يعينون أحداً علينا، ومن جاء منهم إلينا نرده ومن ذهب منا إليهم لا يردونه!؟ قال: ( إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري ) [رواه البخاري في صحيحه] فدار الحوار بين فرد من أفراد الجيش وبين صاحب القيادة العليا بمثل هذه اللَّطافة، ومثل هذا التقرير وتبيين الحقيقة، فما كان اشمئزازٌ من النبي من هذه الأسئلة، وما كان في سيدنا عمر بن الخطاب شكٌّ ولا ترددٌ في أنه رسول الله صاحب الصدق والحق.. لكن انفعالات النفس البشرية في مثل هذه المواقف يجب أن لا تعدَّ خارجةً عن الوحدة، ويجب أن لا تكون معدودة سبباً للتعادي أو للتباعد.
هذا الفقه غاب عن الأذهان، فبمجرد أدنى اختلاف في مسألة بين طرفين يكون في نفس أحدهما على الآخر شيء، وهذا جهلٌ بسنة الله في الوجود، سنة الله في الوجود تنوُّع وتلوُّن وتعدُّد وأصناف، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [المائدة:48] وجعل من آياته الكبيرة: ﴿ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم ﴾ [الروم:22] فهل هذا الاختلاف لحكمة أو لغير حكمة؟ ولِم لم يجعل الله الخلقَ كلَّهم في صورة واحدة، وطول واحد!؟ لو كانوا كذلك لبطلت حِكمٌ كبيرة في الوجود. فمثال الذي يتصور أن معنى الوحدة الإسلامية أو غيرها من الوحدات أن تذوب جميع الاختلافات الفرعية مثال الذي يقول إن الوحدة بين البشر بأن يكونوا على صورة واحدة، وعلى طول واحد، وعلى عرض واحد.. هذا ما لا يكون، وليس هذا هو اتحاد، وليست هذه وحدة، إذا تكلم عن اتحاد لا يتعلق بالصورة وبالشكل، فلِم لم تدرك أن في الأعمال وفي التصرفات أيضاً صورة وشكل وأن فيها روح وحقيقة.
فما اختلف أحد في أن كل إنسان مكوَّن من جسد ومن روح، ومر عبر مراحل في التنويع والتطوير، من نطفة إلى مضغة إلى علقة، كلنا كذلك، لكن أن تذوب الفوارق أصلاً ليكون الشكل واحداً والوزن واحداً والطريقة واحدة والصحة واحدة.. هذا ما يتنافى مع حكمة الخالق الموجد، الذي جعل اختلاف الألوان، جعل اختلاف الألسن، جعل اختلاف الوجهات ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات:52] وجود الاستهزاء وظيفة في الكون لابد أن تكون معمورة، لا تقلق لها، لا تكن سبباً دافعاً لأن تقيم علائق قائمة على البغضاء أو على الشحناء أو على الازدراء، وخصوصاً ونحن في هذه الملة التي حملت معاني الرحمة العظمى.. فلابد لنا من فقه هذه الحقائق.
من غير شك أنه من الصعب أن تَرد أمثال هذه الحقائق وتُبصر بالقوى الإعلامية الموجودة اليوم عندنا، ومثال الغوص عليها كمن يغوص في البحر.. الناس يتكلمون عن البحر، والكل يعرف بعض خصائص البحر.. لكن الغوص فيه والدخول فيه شأنه آخر، والتحصيل من هذا الغوص شأنه يختلف تماماً.
والذي يتهيَّب دخول البحر عليه أقل شيء أن لا يدَّعي احتواءه على الجواهر، ومُلكَه لها وأخذَها بيده؛ فإن وُجدت عنده جوهرة فعليه أقل شيء أن يعترف أنها جاءت على يد غوَّاص، وليست على يده هو، إنما توصَّل إليها بوسيلة من ماله أو من هبةِ ذاك له أو غير ذلك، كذلك شأن بحور الأفكار والعلوم والاهتداء إلى حقائق الدلالات في الكتاب والسنة، أقام الله عليها غوَّاصين، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء:83] فإذا أخرجوا الجواهر فخذها فليست محرمةً عليك، وإن أنت جبُنت أو عجزت، وليست عندك الإمكانية والقدرة على أن تغوص في البحر فسلِّم للغواص واستلم الجوهرة منه حين يأتي لك بها بعد غوصه.
ولذلك كان الذين تولَّوا الفتيا في شئون الفقه في الدين في حياة الصحابة خاصةٌ منهم، وعددهم قليل جداً، مع اشتراك الكل في البناء على ما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الجهاد في سبيل الله، في نشرِ الأخلاق، في نشرِ الفضائل، الكل مشتركون في ذلك.. وعندما تعرض المسألة لا يجيب الكل، حتى كان يقول الحسن البصري: إن أحدكم يُسأل عن مسألة في الدين يقول عنها ويفتي فيها وهو يمشي في الطريق لو سئل عنها عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر. ليعرِّف قدر احترام النظر وتسليمه لأهله، ولئلا يُتقوَّل على الله ولا على رسوله ولا يُتقوَّل في الدين بغير علم.
فما حصل بين الصحابة في حياة رسول الله ثم بعد وفاته من اختلاف الرؤى والأنظار في فرعيات المسائل هو الهديُ الذي يجب أن تسير عليه الأمة وإلا تفرقت وتفكَّكت، وإلا تباغضت وتباعدت، وإلا جنَت غير الحكمة وغير الفائدة، فالخطوة الأولى أن نفقه أسرارَ الحكمةِ الإلهية في معاني هذا التعدد.
أنا في جلستي الواحدة إذا ضقتُ ذرعاً بمن حولي عُدمت فوائد كثيرة يمكن أن أستفيدها من الجلوس عندهم، في تأملي، في فكري، في نظري إلى المستقبل، في مقايستي للأمور، في محادثتي، في أخذِ الرأي منهم.. لكن بمجرد أن يطغى عليَّ في نفسي التضايق والاشمئزاز أُعدَم كل هذه الفضائل، أُعدَم كل هذه الفوائد، كذلك في شأنك مع مختلف الكائنات إنما تتوصل إلى الفائدة الحقيقية منها بشيء من الرابطة بينك وبينها، فأقلُّ تلك الروابط: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ﴾ [سبأ:46] ما هي الجِنَّة التي يقولون عليها في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم!؟، وقال تعالى ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ آداب الحوار ﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ﴾ ما أجرم صلى الله عليه وسلم، ولكن خصومه يرونه كذلك.. قال: ﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ حتى لم يقل (عما تجرمون) بل قال: ﴿ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ:24، 25] خفَّف الكلمة لما وجَّهها إليهم، هكذا علَّمه الله تعالى ذلك الأدب.
ولذا رأينا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُغلق بابَه دون المشركين ولا دون اليهود ولا دون النصارى، بل هذه الأصناف المشتهرة في عصره، كان مقر الحوار معها وسط مسجده الشريف.. فاليهود حاوروه وسط مسجده، والنصارى صلوا وسط مسجده، والمشركون دخلوا وسط مسجده في حياته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وكان يستقبل الكلَّ منهم، وكان يحاور الكل منهم، حتى لما جاء وفد نصارى نجران وقد حانت صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق فقال رسول الله: دعوهم. [ذكره ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن إسحاق]
ما هذه النفسية التي انفتحت؟ من مثله يوقن أن ما عدا دينه هو الباطل وأن هؤلاء على ضلال، وأن الواجب عليهم الإيمان به واتباعه.. هذا لا مرية فيه ولا ريب، فإذا كان صلى الله عليه وسلم يقيم لنا الأمور هكذا فلماذا نضِيق ذرعاً من بعضنا البعض، ونحن أهل اتباعه وأهل ملته، علمنا كيف نتعامل مع من لا يؤمن به ومع من لا يصدقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ونفتح المجال للتحاور التام.
ولما وجدنا فقهَ الصحابة لذلك وجدنا أدبَهم الجم في تعظيم بعضهم البعض، فيما اختلفوا فيه من آراء، ورجعنا بعد ذلك إلى عصر التابعين وتابعي التابعين فوجدنا قمماً خرجت من تربية النبي محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. ما عدَّت شؤون وجود المذاهب الإسلامية خاصة، ووجودَ الطوائف والاتجاهات إلا مظهراً من مظاهر سنة الله في الحياة ليست المشكلة في وجودها، بل المشكلة كيف يتم التعامل معها؟ كيف يتم التقابل بينها البين؟
فلهذا نجد أنه عندما يحصل الخلل في فقه كيف يتم التعامل؟ كيف يتم التقابل؟ يطغى الهوى، وتطغى العصبية على غير وجهها فيحدث الشَّرخ الكبير، ويحدث الضرر.
لمَّا جاء فكرُ الخوارج مثلاً في عهد الصحابة كان كبعض الأفكار التي اختلف فيها الصحابة بينهم البين، بل بعض الأفكار الخاطئة التي تبنَّاها بعض الناس فتلقَّفه المجتمع وخلَّصه منها بأسلوبه الطيب وانتهت، لما جاءت فكرة الخوارج ما كانت معالجة لا بالمجتمع ولا بالعلماء ولا بكبار الصحابة مع أنهم أدَّوا الدور، حتى أرسل ابن عباس إلى جماعة من الذين خرجوا على سيدنا علي ليناقشهم، رجع ثلاثة ألف من عشرين ألف لما عرض عليهم النقاش وعرض عليهم الحوار على وجهه.. خاطبهم: ماذا تنقمون!؟ وكيف تفكرون!؟ وأتى لهم بالدليل من كتاب الله تبارك وتعالى؛ فرجع الآلاف هؤلاء وبقي الآخرون مصرُّون على ما هم عليه.
من أين جاء الخلل!!؟ جاء الخلل من تجاوُز الحد في اعتبار أن الرأي والفهم هو النص وأنه يلزم الكل الخضوعَ له وأن ما سواه باطل لا حق فيه، وأنه يجب أن يُحارب أهله، هذا هو الخلل في أي مذهبٍ كان، أي مذهب تقوم فكرته على أساس أن لا مجال لغيره قط في معرفة حق ولا هدى ولا صواب من قريب ولا من بعيد، وأنه يجب على الكل أن يتبعه، وأنه يجب أن يُلغِي الآخر ولو بحدِّ السنان.. يأتي الخلل، ويأتي الضرر، وتنتفي الحكمة من وجود التعدد والتنوع والمذهبية.
ويحصل قتالٌ بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وبين طائفة حدثت من بعد تدعي الخير والإسلام، وأحدهم صاحب صلاة طويلة وصاحب قراءة طويلة.. فلم تنفعه القراءة ولم تنفعه الصلاة. حتى صار كبار الصحابة يتخلَّصون من غبش أفكارهم إذا وقعوا في يد أحدهم بإبرازاتٍ عجيبة لما يخلصهم منهم في ضمن نطاق تفكيرهم.. فيقول هذا الصحابي الجليل الذي لقيه جماعة منهم فأخذوه يريدون قتله، فقالوا: أنت من المشركين الذين يقولون.. يفعلون، فحاورهم قائلا: نعم كما تقولون إني مشرك إلا أني سمعت أنكم تقرؤون القرآن وتحسنونه، وسمعت أنه في القرآن عندكم آية تأمركم إذا جاءكم مشرك يريد أن يسمع أن تسمعوه وأن تُجيروه وتوصلوه إلى بلاده، الله يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة:6] قال أريد أسمع منكم القرآن، فأخذوا يُقرؤونه القرآن وهو أعلم منهم بالقرآن، وأجاروه وأوصلوه إلى مكانه..
فبما رباهم عليه رسول الله كيف تجاوزوا العقبات حتى في مقابلة مثل هذا الفكر المتعب، الفكر الضيق المورث للمشاكل والبلايا في الوقت الذي يستطيعون فيه التخلُّص منه.
والآخر من الصحابة وهو عمارة بن قرض الليثي عرض عليهم أسلوبه وأبَوا أن يتقبلوه، فقد كان غائبا في الغزو والجهاد، ولما عاد سمع الأذان ففرح وقال: لي أيام في بلاد الكفار لا أسمع الأذان، فقال هؤلاء المسلمون أذهب وأصلي معهم، فأقبل عليهم قائلا: السلام عليكم .. التفتوا إليه فعرفوا أنه ليس من فصيلة فكرهم الضيق، فقالوا: لا عليك السلام، ما جاء بك يا عدو الله؟ قال: وما أنتم إخواني!؟ قالوا أنت أخو الشيطان، لنقتلنَّك، قال أما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وأي شيء رضي به منك؟ قال أتيته وأنا كافر فشهدتُ أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلَّى عني. فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.. فقتلوه.
لم يرضوا بهذه الخصلة، تبلَّد الفكر ووصل إلى أفقٍ ضيقٍ جداً، ما صار يستفيد من الأطروحات عليه، ما صار يستفيد من النقاش، ما صار يستفيد من الحوار الطيب، ما صار يستفيد من القدوة برسول الله، يُنقل لهم مثلٌ حيٌّ عن النبي نفسه ما يناسب الفكر الذي تبنُّوه فلم يقبلوه، بنفسي جئت للرسول وقد كنت مشركاً فرضي مني بالشهادتين وانتهت المسألة، وأنتم جئتم بعد النبي ألا ترضون بما رضي به رسول الله!؟ فما أقنعهم ذلك كيف لا يقنعهم فمن رسولهم إذاً؟! يقف الإنسان عند غرابة إذا تجاوز الأمر حدَّه في مسألة التمذهب على هذا الأسلوب.
نحن في اليمن كم قرون مرت وعندنا الشافعية والزيدية وعدد قليل من الحنفية كم قرون مرت!؟ متى تقاتلوا على أساس مذهبي!؟ قد يحصل تقاتل بينهم على السلطات، أو على التجارات، أو على أراضي، أو على مغاضبات.. لكن لم يحصل تقاتل على أساس ديني بين الشافعي أو الزيدي أو الحنفي! لم يحصل مثل هذا بين الأفراد ولا الجماعات، لأن الأصل الذي بنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدةَ الأمة عميق وقوي وراسخ.
ظهر أقوام اليوم بحثوا عن قواسم مشتركة وليس لهم دين يجمعهم ولا ثقافة وأقاموا على أساسها اتحاد.. كيف يكون هذا!؟ وأولى بذلك أهل هذه الملة الذين يجمعهم قاسم مشترك هو أصل الدين الذي لا يمكن الدخول في الدين إلا به، كما قال ذلك الصحابي: ألا ترضون مني بما رضي به رسول الله يوم جئته وقد كنت كافراً. هذا قاسم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يجب أن لا تُغيَّب عظمتُها عنا إن كنا مؤمنين، لأن معناها إذا استهنَّا بقولها وبالإعلان بها استهانة بالله وبرسوله، يجب أن يتميز عندنا من قالها عمن لم يقلها، يجب أن نعلم أن من الرابطة بيننا وبين من يصدق بها ما لا يكون بيننا وبين من يكذب بها، ومع ذلك كله فنحن بها نقابل الذي لا يؤمن بها على وفق دلالاتها في الشريعة التي خلَّفها رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وقد وجدنا عجيب الآداب بين المشايخ وتلامذتهم في العصور الأولى، ومن أين نشأت المذاهب الأربعة التي اشتهرت بين عامة المسلمين في الشرق والغرب؟ من أين جاءت؟ جاءت من تلمذة ومشيخة، من اتصال عميق وثيق. فللإمام مالك اتصال بالإمام أبي حنيفة، وللإمام الشافعي تلمذة كاملة على الإمام مالك، وللإمام أحمد تلمذة تامة على الإمام الشافعي، وبها نشأت المذاهب.
فهل جاءت من تفرُّق، أو من تمزُّق، أو من تشتُّت، أو من تعادي، أو من تباغض؟ إنما جاءت مِن تعاونٍ على الفقه، وأخذٍ من الأصول الثابتة الراسخة بتلك السعة التي أخذوا بها هذا الأمر. ولما سمع من يقول من المالكية: من أراد المذهب النفيس فعليه بمذهب ابن إدريس، يعنون الشافعي قال: كيف لا يكون ذلك وشيخه الإمام مالك.
وبهذا وجدنا كيف كان الأدب والتعظيم بين هؤلاء القوم، وكيف يربون أبناءهم وتلامذتهم ومجالسيهم على تعظيم بعضهم البعض. يقول الإمام الشافعي:
قـالـوا يــزورك أحمـد وتـــزوره | قلت الفضائل لا تفارق منزلَـه |
لما بلغ الإمام أحمد عظُمت عنده الكلمة، فقال:
إن زرتنا فبـفضـلٍ منـك تمنحنا | أو نحن زرنا فللفضــل الـذي فيكا |
فعَلموا بذلك كيف يكون التواصل، أو كيف يكون الارتباط، أو كيف يكون التعامل بالمذاهب، إذا سلمت من داء احتكار وجه الحق والصواب.
أي مذهبٍ من المذاهب الإسلامية يقول لا صلة له بالكتاب والسنة!؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالكتاب والسنة إن حملت في اللفظ والنص مدلولاتٍ متعددة فأي حرج في الأخذ بأي مدلول قائم على نظرٍ صحيح!؟ ولذلك لا نجد اختلافاً قط فيما كان قطعي الثبوت أي من المتواتر من الحديث أو كان في القرآن قطعي الدلالة أي لا يحتمل إلا معنى واحدا، لا نجد خلافاً بين أحد من أهل هذه المذاهب كلها.
المسلك الصحيح للمتمذهب بأي مذهب من مذاهب الحق أن يعلم أن وجود المذاهب الأخرى مظهرُ صحة في الشريعة وبيانٍ عن سعتها وعظمتها، لا يحمل ذلك على التخالف ولا على التباعد ولا على التباغض ولا على التشدُّد ولا على انتهاك أحدٍ لحرمة الآخر.
مع ذلك كله، ما أعظم وأكثر القواسم المشتركة التي يجب أن يكون الاشتراك فيها على بيِّنةٍ وعلى بصيرة، ومع هذا كله فالطريقة الصحيحة في التعامل بين المذاهب لتوثيق معاني الوحدة، بل ولذوبان الفوارق حتى ربما أنه إذا قام ميزان هذا التعامل على وجهه فالمكان الذي كان فيه مذاهب متعددة يتضاءل التعدد حتى تصير إلى معنى من الوحدة حتى في قلة عدد المذاهب، كما هو الحال في حضرموت بعد خروج المهاجر.
والمهاجر واقع من الواقع الذي مر بتاريخ هذه البلدة، وهي جزء من العالم الإسلامي الذي وصله الإسلام من عهد النبوة، لما جاء وكان هنا أيضاً طوائف وكانت أيضاً أفكار، لم تكن حضرموت منقطعة عن وجود أهل السنة مع وجود طوائف أخرى، لكن من عهد الصحابة إلى مجيء المهاجر ما كانت خالية من أهل السنة، كان موجود منهم عدد، قد يكون البروز والظهور والشوكة لغيرهم.. ولكن مع ذلك كيف تعامل معها؟ وكيف قابلها؟ وكيف بهذه المقابلة ونوعية هذا التعامل تضاءلت الفوارق حتى تحول الناس إلى قوة تقاربٍ في الرؤى، تجاوز عذرِ بعضهم لبعض وهم عاذرون بعضهم البعض إلى حدِّ تعاونٍ وثيق بين بعضهم البعض، بل ذابت العوامل النفسية وعوامل المصالح الذاتية والشخصية بسبب نصاعة هذا التعامل وقوته وطيب شذاه، تعامُل المتجرد عن إرادة المصلحة، عن إرادة الغرض الشخصي، لما يتعامل وينطلق من هذا المنطلق على أساس فقه سرِّ حكمة الله في الأمر، وعلى أساس الرحمة والشفقة والرأفة، هو الطريق الذي يُبعد الإثارات النفسية، ويُبعد سلطانَ الهوى الذي إذا وُجد لم يثمر إلا تباعداً وتفرُّقاً وتشرذُماً وتآذيا.
ولذا نجد التحذير من الحق تعالى لمعصومٍ من الأنبياء يقول: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب ﴾ [ص:26]
ووجدنا فيما يعرض الفقهاء من تقابل بعضهم لبعض أن يتقابل اثنان في مسألة يتناظران فيها فإذا تناظرا تحول هذا إلى قول هذا والثاني إلى قول الأول، فيخرجون وقد تبنى كل منهم مذهب الآخر، حصل في الأمة المحمدية أمثال ذلك، لم!؟ لم يكن هناك أهواء مستحكمة ولا عصبية ولا أغراض.
كان الشافعي يقول: (ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يكون عليه من الله رعاية وحفظ ووددت أن يُظهر الله الحق على يده) قصدي ظهور الحق، فأحب إلي أن يظهر على يد صاحبي الذي يناظرني، فبذلك ما ناظره أحد من الأكياس العلماء إلا رجع إلى قوله، لأنه كان مخلصاً وكان صادقاً وكان يهدف إلى رضا الله تبارك وتعالى في شأن هذه المحاورة أو هذه المناظرة وما يتعامل به أيضاً مع الآخرين.
والأمور مرتبطة ببعضها البعض في مسائل النظر والرؤى في هذا الجانب، وتاريخنا الحضرمي على وجه الخصوص ملآن بكثير من العبر، وتاريخ الأمة الإسلامية ملآن بكثير من العبر والأمثلة التي بسبب التعامل الصحيح على النظر الذي كان يقول عنه الإمام الشافعي: (ما وصلت إليه باجتهادي أعتقد فيه أنه صواب يحتمل الخطأ، وما توصل إليه غيري مما يخالف هذا الاجتهاد أعتقد أنه خطأ يحتمل الصواب).
والخطأ في النظر لا يقتضي إثماً ولا حرجاً على الذي أخطأ وهو مؤهل للنظر، لم يقم بالأمر بهوى ولا بعصبية، انظر إلى هذه النظرة العميقة: قال ما توصلت إليه بالاجتهاد فأعتقد أنه صواب يحتمل الخطأ، وما كان عند غيري من مسائل الاجتهاد أرى أنها خطأ يحتمل الصواب. أما ما جاء بالنص الصريح فلا حجة لا لصحابي ولا لتابعي ولتابعي التابعي أن يخالفه ولا أن يقوم بعكسه في شيء من الأحوال.
هناك أمثلة كثيرة في ما مضى في تاريخ هذه الأمة وفي تاريخ شعوبنا في مثل هذه البلدة، ولكن هذا التجهيل بالنفس الذي وقع علينا اليوم جعلنا نجهل كيف نقيم حاضرَنا ونقوِّمه، وكيف نتجاوز هذه العوائق.
فنسأل الحقَّ سبحانه وتعالى أن يبعث من البواطن والقلوب أنوارَ صدقٍ معه توقفُنا على حقائق صدقِ الوجهة إليه فنتعاون على تجاوز هذه العوائق التي ألحَّت، ونكون من الجزء القائم في الأمة على خدمة الأمة وعلى نشرِ ما فيه مصلحة الأمة مخلصاً لوجه الله الكريم.
بارك الله لنا ولكم في هذه اللقاءات والاجتماعات، وجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأعاننا على ما يحب منا في القول والنية والعمل، ودفع عنا كلَّ سوءٍ أحاط به علمُه، وجعل العام مباركا علينا وعليكم وعلى أهل هذه الملة في المشارق والمغارب. وفرَّج الكروب ودفع الخطوب، ودفع عنا هذه الغلواء التي بدأ شررُها يظهر في ساحة الأمة اليوم، غلواء إثارة الطائفية التي يقوم بها تحارب الأمة مع بعضها البعض لتتمزق خيراتُها وليذهب ريحُها، ولتحلَّ بها المثُلات وليتمكن منها العدو ويفعل فيها ما يشاء، اللهم اكفنا شر هذا البلاء وكل بلاء، وتولَّنا بما أنت أهله وزِد بلاد المسلمين أمناً واستقراراً وطمأنينة، وادفع الأسواء عنا يا حي يا قيوم يا قوي يا متين. والحمد لله رب العالمين.
10 مُحرَّم 1428