كشف الغمة- 289- كتاب الجنائز (26) فصل في التعزية وأجر المصابين
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 289- كتاب الجنائز (26) فصل في التعزية وأجر المصابين
صباح الإثنين 23 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- جواز البكاء على الميت من غير جزع
- بكاء النساء لوفاة زينب ابنة النبي ونهيه
- ماذا قال النبي عندما توفي ابنه إبراهيم؟
- قصة وفاة النبي ﷺ وتعامل الصحابة
- حديث: إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب
- الفرق بين الصياح والصراخ والندب والنحيب والعويل والنياحة
- الرثاء والنعي
- البكاء الجائز على الميت والنياح المنهي عنه
- متى يعذب الميت ببكاء أهله؟
- حكم البكاء باختيار لا غلبة
- قول النبي عندما بكى: هذه رحمة
- بكاء سيدنا أبي بكر وعمر من خشية الله
- قصة بكاء نساء الأنصار على حمزة
- حديث: ليس منا ضرب الخدود وشق الجيوب
- "أربعة في أمتي من أمر الجاهلية"
- جزاء النياحة على الميت
- ماذا قالت السيدة فاطمة عند وفاة أبيها؟
- أبيات سيدنا علي عند وفاة سيدتنا فاطمة
- حديث: لن تصاب أمتي بمثلي
- الحزن إلى 3 أيام
نص الدرس مكتوب:
فصل في جواز البكاء وتحريم النوح
"كان ﷺ يرخص في البكاء على الميت للرجال والنساء، قال أنس -رضي الله عنه-: ولما ماتت زينب بنت رسول الله ﷺ وبكت النساء جعل عمر -رضي الله عنه- يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله ﷺ بيده وقال: مهلًا يا عمر ثم قال رسول الله ﷺ: "إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين والقلب فمن الله -عز وجل- ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"، ولما مات إبراهيم ابن رسول الله ﷺ بكى عليه رسول الله ﷺ ثم قال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدًا أشد مما وجدنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، ولما بلغ أبا بكر -رضي الله عنه- وفاة رسول الله ﷺ خرج من بيته مسرعًا منشدًا، وهو يقول: وا قطع ظهراه.
ولما اشتكى سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أتاه النبي ﷺ يعوده ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- فلما دخل عليه وجده في غشية فقال رسول الله ﷺ: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله فبكى رسول الله ﷺ وبكى القوم لبكائه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم".
قال أنس -رضي الله عنه-: "وأرسلت إحدى بنات النبي ﷺ مرة تخبره أن صبيًا لها في الموت فقال: ارجع إليها وأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرها فلتصبر ولتحتسب فرجع الرسول إليها فأخبرها، فأقسمت ليأتينها فجاء الرسول ثانيًا فأخبر رسول الله ﷺ فقام وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- حتى دخلوا عليها فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع في صدره كأنها في شنة ففاضت عينا رسول الله ﷺ، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء".
وكان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يبكيان حتى يسمعان الجيران، ولما مات سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حضره رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فبكيا فقالت عائشة -رضي الله عنها-: والله إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر -رضي الله عنهما- وأنا في حجرتي.
ولما رجع رسول الله ﷺ من وقعة أحد جعل النساء يبكين على موتاهن فبكى نساء الأنصار على حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- لمكانه من رسول الله ﷺ فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: "ويحهن يبكين إلى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم"، ولما دخل رسول الله ﷺ يعود عبد الله بن ثابت -رضي الله عنه- وجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع، وقال: "علتنا علتك يا أبا الربيع فصاح النسوة يبكين فجعل ابن عتيك -رضي الله عنه- يسكتهن، فقال رسول الله ﷺ: دعهن فإذا وجب فلا تبكيَنَّ باكية، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: الموت".
وكان ﷺ ينهى عن النوح والندب وخمش الوجه ونشر الشعر ويرخص في يسير الكلام من صفات الميت، وكان ﷺ كثيرًا ما يقول: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وصاح"، وكان ﷺ يقول: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ومن ينح عليه يعذبه الله في قبره بما نيح عليه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أنه لا يعذب ببكاء الحي عليه إلا الكافر وتقول: إنما قال رسول الله ﷺ: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وكان ﷺ يقول: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة"، وكان ﷺ يقول: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب، وإذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واجبلاه وامسنداه واکاسیاه جبذ الميت، وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها أنت جبلها أنت مسندها".
ولما حضرت عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- الوفاة قالت أخته ذلك فقال لها عبد الله -رضي الله عنه-: لا تقولي شيئًا من ذلك فإنك ما قلت شيئًا إلا قال لي الملكان أنت كما تقول أختك فلما مات لم تبك عليه -رضي الله عنهما-.
ولما ثقل رسول الله ﷺ جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة: واكرب أبتاه فقال: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات ﷺ قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه"، فلما دفن رسول الله ﷺ قالت فاطمة -رضي الله عنها- يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب، ثم أنشدت تقول:
قل للمخيم تحت أطباق الثرى *** إن كان يسمع ذلتي وبكائيا
ماذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها *** صبت على الأيام عدن لياليا
ولما توفي رسول الله ﷺ ثم توفيت فاطمة -رضي الله عنها- بعده بستة أشهر حزن عليها عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثم أنشأ يقول:
أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة *** وصاحبها حتى الممات عليل
لكل اجتماع من خليلين فرقة *** وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحدًا بعد واحد *** دليل على أن لا يدوم خليل
ولما بلغت أبا بكر وفاة رسول الله ﷺ وكان نائمًا عند ابنة خارجة بالسُّنْح جاء حتى دخل على رسول الله ﷺ فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه وخنقه البكاء ثم خرج للناس، وسيأتي بسط ذلك آخر السِّيَر إن شاء الله تعالى".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته عبده وحبيبه وصفوته، سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبيائه وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ، فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله- ما جاء من جواز البكاء على فراق الموتى إذا ماتوا من دون نياحةٍ ولا ندبٍ ولا جزع، فإنما حرم الله السَّخَطَ والجَزَعَ والنياحةَ، وضربَ الخدودِ وشقَّ الجُيُوبِ، وما إلى ذلك من مظاهر الجزع والاعتراض على قضائه وقدره -جل جلاله- وتعالى في عُلاه.
وقال: "كان ﷺ يرخص في البكاء على الميت للرجال والنساء، قال أنس -رضي الله عنه-: ولما ماتت زينب بنت رسول الله ﷺ وبكت النساء جعل عمر -رضي الله عنه- يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله ﷺ بيده وقال: مهلًا يا عمر ثم قال رسول الله ﷺ: "إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين والقلب فمن الله -عز وجل- ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان -من اليد بالضرب واللطم وشق الجيوب، وباللسان من العويل والصياح وتعديد شمائل الميت بالحزن والجزع- قال: وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"، هذا من الشيطان، يقول: إنه أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده لكن من حديث ابن عباس لما ماتت رقية بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكلاهما ماتتا في حياته ﷺ رقية وزينب وأم كلثوم، وما بقي من بناته بعده إلا السيدة فاطمة ستة أشهر حتى لحقت بأبيها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"ولما مات إبراهيم ابن رسول الله ﷺ بكى عليه رسول الله ﷺ ثم قال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدًا أشد مما وجدنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". فهو قائم في مقام العبودية والكمال ﷺ ويُعطي كل شيء حقه ومستحقه صلوات ربي وسلامه عليه، لا يجد من الوجد إلا ما أذن به الشارع بعيداً عن التبرم والجَزَعِ والسَّخَطِ، ولا يجاوز ذلك وقلبه مفعم بالرحمة ﷺ تدمع لذلك عيناه إلى غير ذلك، وقال: "وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
"ولما بلغ أبا بكر -رضي الله عنه- وفاة رسول الله ﷺ خرج من بيته مسرعًا منشدًا، وهو يقول: واقطع ظهراه"، انقطَعَ ظهرُنا إذا فارقْنا نبيَّنا ﷺ وكان في سُنح حوالَي المدينة لما بلغه الخبر لأن في ذاك اليوم يوم وفاته يوم الاثنين فرحوا بخروجه إلى أمام المسجد ورفعه الستارة التي بين مدخل الباب إلى الطريق إلى الحجرات وبين المسجد، وهم يصلون خلف أبي بكر الصديق، فقام يمشي وحده فلما رفع الستارة استنارت الجُدُرُ بنور وجهه فالتفت الصحابة؛ فرأوه قائمًا حتى أخذ أبو بكر يريد أن يتأخر، فأشار إليه: مكانك! وتبسم في وجوههم، ثم رد الستارة ودخل البيت، فأصبحوا يتحدثون أن الرسول ﷺ أصبح بخير، وأنه مشى وحده ففي الأيام الماضية كان يمشي وأحد يمسك بيده هذه وواحدٌ يمسك بيده هذه، وهو كان وحده جاء ورأوه تبسم؛ فانطلقوا في أعمالهم ومنهم سيدنا أبو بكر وإلا قبل أيام كانوا معتكفين في المسجد ينظرون خبر ﷺ كثير منهم، لما بدا عليهم ذاك اليوم ورأوه يمشي بنفسه فرحوا واطمأنوا وتوجهوا إلى أعمالهم، ففي ضحوة ذاك اليوم كان لحوقه بالرفيق الأعلى ﷺ فجاءوا إلى سيدنا أبي بكر وهو بالسُّنْحِ فخرج حتى جاء إلى بيته الكريم ودخل الحجرة وكشف عن وجهه وأخذ يقبله ويبكي ويقول: اذكرنا عند ربك ولنكن من بالك، طبت حيًا وميتًا، وأخذ يقبله وعاد إلى المسجد يخطب والناس في ضجة قوية وفي انزعاج، وسيدنا عمر يقول: "من قال إن رسول الله مات علوتُه بسيفي هذا "، فخرج وشاهد سيدنا أبو بكر والتفت الناس إليه وقال خطبته المشهورة: "أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا الآية، فأخذها الناس معه يتلونها كأنها أول ما نزلت ما كأن سمعوها قطُّ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ) [آل عمران: 144] (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30] "، وكان سبب تثبيت الناس وضجِّهِم؛ وأخبرهم بقضاء الله وقدره فيما اختار من أخذ رسوله إليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"ولما اشتكى سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أتاه النبي ﷺ يعوده ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- -في اعتنائه بعيادةِ المرضى- فلما دخل عليه وجده في غشية فقال رسول الله ﷺ: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله فبكى رسول الله ﷺ وبكى القوم لبكائه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم"".
-
فإنْ نطق اللسان بالحمد والتسليم رحِم سبحانه وتعالى وأثاب.
-
وإن نطق اللسان بالجزع والتضجُّرِ والعويل والصياح، عذب صاحب ذلك إذا المستعمِل للسان في مخالفة أمره -سبحانه وتعالى- لا إله إلا الله، ويقول كعب بن مالك لما قتل سيدنا حمزة في أحد:
بكت عيني وحُقَّ لها بكاؤها ** وما يغني البكاءُ ولا العويلُ
-
وقالوا أيضاً: منه ما ينتهي إلى الصياح أوالصُّراخ، والصوت بأقصى الطاقة، ويكون معهما بكاء وقد لا يكون، ويرد هذا المعنى الصُّراخ لرفع الصوت على سبيل الاستغاثة يقول صُراخ.
-
أما الندب:
-
إما الدعاء لأمر يحث عليه.
-
أو الندب البكاءُ على الميت وتعداد محاسنه؛ الندب هو تعديد شمائل الميت ومحاسنه.
-
-
والنَّحْبُ والنَّحِيبُ: أشد البكاء.
-
والعويل: رفع الصوت بالبكاء، وهكذا.
-
النياحة: مأخوذة من النَّوح، ناح ينوح نَوْحاً ونُواحاً ونِياحَة البكاءُ بصوت عالٍ، فهو كالعويل، والنائحة الباكية.
-
ويقول الحنفية: النياحة البكاءُ مع ندب الميت أي: تعديد محاسنه، أو هي البكاءُ مع صوت.
-
ويقول علماء المالكية: إن النياحة البكاءُ إذا اجتمع معه أحد أمرين صُراخٌ أو كلام مكروه، هذه النياحة، البكاءُ إذا اجتمع معه أحد أمرين إما صُراخ وإما كلام مكروه.
-
وأكثر فقهاء الشافعية والمالكية كذلك يقولون: رفع الصوت بالندب، الندب تعديد شمائل الميت، والنياحة رفع الصوت ولو من غير بكاء، وقيل مع البكاء.
-
وهكذا يقول الحنابلة وبعض الشافعية: أنَّ رفع الصوت بالندب برنَّةٍ أو بكلام مسجع هذه النياحة، لا إله إلا الله.
-
فالبكاءُ أعم من النياحة.
والرثاء: هو الثناء على الميت بذكر صفاته الحميدة نثرًا أو شعرًا، رثاء؛ فالرثاء يكون إما على سبيل المدح ولا يكون بلفظ النداء.
النياحة: تعديد محاسن الميت مع رفع الصوت بالبكاء أو بغير بكاء.
والنَّعْيُ: هو الإخبار بالموت، ويحمل معنى التعزية النَّعْيُ، وهكذا.
-
يقول الفقهاء:
-
إن البكاء إن كان قاصرًا على خروج الدمع فقط بلا صوتٍ جائزٌ بالاتفاق، وهذا مقتضى الطبيعة ومقتضى الرحمة كذلك.
-
ومثله غلَبةُ البكاء بصوتٍ إذا لم يقدر على رده، وكذلك حزن القلب.
-
واتفقوا على تحريم الندب والنِّيَاحَة، فبالإتفاق يحرم النَّواحُ وشق الجيب والثوب ولطم الخدود ولطم الوجه وما أشبه ذلك.
-
وذكر الإمام القليوبي تفصيل في البكاء للميت فقال:
-
إن البكاء على الميت إن كان لخوف عليه من هول يوم القيامة ونحوه فلا بأس به، أو لمحبة ورِقَّةٍ كطفل فكذلك، ولكن الصبر أجمل.
-
أو لصلاحٍ وبركةٍ وشجاعةٍ وفقدِ نحوِ علمٍ فمندوبٌ، هذا البكاء مندوبٌ.
-
أو لفقد صلةٍ وبرٍ وقيامٍ بمصلحةٍ فمكروه، دافعُ البكاء لأنه فقد شيئ من مصالحه أو شيئ من قيامه بالبر الذي كان يُوجِبُه له.
-
أو لعدم تسليمٍ للقضاء وعدم الرضا به فحرام، البكاء لعدم التسليم للقضاء وعدم الرضا بقضاء الله وقدره هذا حرام. فإذًا يختلف باختلاف الدوافع والمقاصد.
قال الروياني: يُستثنى ما إذا غلبه البكاءُ؛ فإنه لا يدخلُ تحت النهي لأنه مما لا يملكه البشر، وهذا قالوه في البكاء بصوت، أما بغير صوتٍ فلا منع منه بالاتفاق.
ويروى أيضاً عن الشافعي يقول: يجوز البكاء قبل الموت، فإذا مات أمسك، وكما ذَكَر معنا في حديث جابر بن عتيك.
-
جاء في سنن الترمذي: "أن رسول الله ﷺ لما انطلق إلى ابنه إبراهيم وجده يجود بنفسه، أي: تطلع روحه، فأخذه رسول الله فوضعه في حِجْرِهِ فبكى"، قال له سيدنا عبد الرحمن بن عوف: أَتبكي أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: "لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوتٍ عند نعمة لهوٌ ولعبٌ ومزامير شيطان، وصوتٍ عند مصيبة خَمْشِ وجوهٍ وشقِّ الجُيوبِ ورنةِ شيطان" ما نهى عن مجرد البكاء.
-
وجاء أيضاً في صحيح البخاري أن النبيَّ ﷺ قال: "ليسَ مِنَّا مَن ضَرَبَ الخُدُودَ، أوْ شَقَّ الجُيُوبَ، أوْ دَعا بدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ".
وجاء في رواية النسائي عن جابر بن عتيك يقول: "ولما دخل رسول الله ﷺ يعود عبد الله بن ثابت -رضي الله عنه- وجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع، وقال: "عِلَّتنا علتك يا أبا الربيع فصاح النسوة يبكين فجعل ابن عتيك -رضي الله عنه- يسكتهن، فقال رسول الله ﷺ: دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: الموت"، إذا فاضت روحه اسْكُتْنَ ساكتات، وهذا الذي نُقل عن الشافعي أن يبكين قبل الموت، فإذا مات أمسكْنَ.
وأما حديث الصحيحين: "إن الميت ليُعذَّب ببُكاءِ أهله عليه" قالوا:
-
إذا أوصى بذلك، ولم يُعذَّب ببكاء أهله إلا إذا أوصاهم بفعله.
-
قالوا: ويقرب منه ما إذا علم أن عادتهم في بلدتهم أنهم يَنُحْنَ ولم ينهَ عن ذلك، سكت ساكت، فهو كالراضي، ولذا يضعون في وصاياهم نهى أن يُناح عليه أو يُندبه ومن فعل ذلك فإثمه عليه وهو بريء منه.
-
فأما إذا أوصى بذلك أو رضي به فيُعذَّب على ذلك "إن الميت ليُعذَّب ببُكاءِ أهله عليه".
ويقول صاحب غاية المنتهى من الحنابلة: لا يُكرَهُ بكاءٌ على ميت قبل موته ولا بعده، بل استحباب البكاءِ رحمةً للميت سنة صحيحة وحَرُم ندب وبكاء مع تعديد محاسنه ونَوْحٌ، ورفع الصوت بذلك برقة وشقّ ثوب، وكُرِه استدامة لبسٍ مشقوقٍ، وحَرُم لطمُ خدٍ وخَمْشٌ وصُراخٌ ونتفُ شعرٍ ونشرُه وحَلْقُه وما إلى ذلك.
فلا يجوز إظهارُ الجَزَع، لأن الحُكم حُكم الله والأمر أمر الله، ولا لأحد اعتراضٌ على الله، "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَىٰ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُّسَمًّى".
فإذا كان تَطلُّبَ البكاء باختياره:
-
فيقول الخطيبُ من الشافعية: أنَّه خلاف الأولى.
-
ويقول ابن حجر: مكروه أن يبكي باختياره، ولكن يبكي عن غلبة.
-
والعجيب ما أخذه ابن حجر من الروضة أن البكاء قبل الموت مندوبٌ، هذا إذا غلبته الرِّقَّة، هذا الواقع غلبته الرِّقَّة والرحمة، هذا الذي ورد في الحديث. ويقول أيضاً ابن حجر: أن النَّوْح والجَزَع بضرب صَدْرٍ ونحوه من الكبائر.
-
ويقول الخطيب: من الصغائر، فهم متفقون على أنه ذنب.
وهكذا ما ورد من تعذيب الميت ببكاء أهله ما هو محمولٌ على من أوصى بفعله، أو رضي به وسكت عنه.
والحديث الذي أشار إليه قال رواه أبو يوسف الأنصاري في الآثار أن سيدنا أبي بكر خرج لما بلغه وفاة النبي ﷺ يقول: "واقطَعَ ظهراه!"
وجاء أيضًا عن "أنس -رضي الله عنه-: "وأرسلت إحدى بنات النبي ﷺ مرة تخبره أن صبيًا لها في الموت -يعني: تطلع روحه-
فقال: ارجع إليها وأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب فرجع الرسول إليها فأخبرها، -قالت قله يجي أريده يحضر وفاة ابني- فأقسمت ليأتينها فجاء الرسول ثانيًا فأخبر رسول الله ﷺ فقام وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- حتى دخلوا عليها فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع في صدره -عركة عند خروجه- كأنها -ماء- في شنة -شنة: قربة بالية- ففاضت عينا رسول الله ﷺ، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء"، ومن هنا قال من قال باستحباب البكاء.
قال: "وكان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يبكيان حتى يسمعان الجيران، -منقول عنهما في بكائهما من من خشية الله- ولما مات سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حضره رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فبكيا فقالت عائشة -رضي الله عنها-: والله إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر -رضي الله عنهما- يعني: سمعتهم من عندها وهي في حجرتي تفرق بين صوت بكاء أبيها وصوت بكاء سيدنا عمر رضي الله عنهم- وأنا في حجرتي".
"ولما رجع رسول الله ﷺ من وقعة أحد جعل النساء يبكين على موتاهن فبكى نساء الأنصار على حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- لمكانه من رسول الله ﷺ"، لأنه لما عاد في الطريق وسمع بكاء النساء على قتلاهنَّ... تذكر عمه سيدنا حمزة وقال:"لكن حمزة لا بواكيَ له" لما سمعه سعد بن معاذ راح للنساء قال: لا تبكين على أحد من موتانا، ابكين على حمزة، فلما صلى ﷺ صلاة العشاء بهم وخرج سمع صوتاً، خرج قال: ماذا؟ قال: اجتمعن يبكين على حمزة، قال: "انصرفنَ يرحمَكُنَّ الله، ما أردت هذا"، ما قصدت هذا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفي هذه الرواية قال: "ولما رجع رسول الله ﷺ من وقعة أحد جعل النساء يبكين على موتاهن فبكى نساء الأنصار على حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- لمكانه من رسول الله ﷺ فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: "ويحهن يبكين إلى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم"، "ولما دخل رسول الله ﷺ يعود عبد الله بن ثابت -رضي الله عنه- وجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع، وقال: "عِلتنا علتك يا أبا الربيع فصاح النسوة يبكين فجعل ابن عتيك -رضي الله عنه- يسكتهن، فقال رسول الله ﷺ: دعهن فإذا-وجب فلا تبكين باكية، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال الموت".
"وكان ﷺ ينهى عن النوح والندب وخمش الوجه ونشر الشعر" أو حَلْقِه أو تَنتِيفِه، كل ذلك محرمٌ لأنه جَزَعٌ، "ويرخص في يسير الكلام من صفات الميت، وكان ﷺ كثيرًا ما يقول: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وصاح"، وكان ﷺ يقول: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ومن ينح عليه يعذبه الله في قبره بما نيح عليه" بما يُناح عليه، وهذا محمولٌ على ما ذكرنا من وصيته به، وقد كانوا يُوصون به ويقول لزوجته أولأخته أو قريبته أو ابنته: ابكي عليَّ إن متُّ، وشقِّي واعملي... فهذا حرام ويعذَّب به لأنه هو سببٌ فيه ولأنه أوصى به.
"وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أنه لا يعذب ببكاء الحي عليه إلا الكافر وتقول: إنما قال رسول الله ﷺ: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، والكافر هو معذَّبٌ بعذاب الكفر، وإنما أيضاً يزداد حزناً وحسرةً بما يبلغه من حسرة أهله.
"وكان ﷺ يقول: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن:
-
"الفخر بالأحساب" على غير وجهه، ونحن، ونحن، وأبناؤنا، وأبناؤنا وآباؤنا وآباؤنا وأجدادُنا وأجدادُنا... وبعد! هل يقتضي ذلك ترفُّع أو تكبر أو تخلُّف عن السلوك في المسلك وحُسنِ الأدب؟ أو يُورِثُكُم حياء أن تكون لكم آباء وأجداد بهذا المستوى الرفيع وأنتم تنحطُّون ولا تصلون إلى مراتبهم؟ أما مجرد الفخر من الجاهلية.
-
"والطعن في الأنساب" والعياذ بالله، لأن الناس مؤتمنون على أنسابهم.
-
"والاستسقاء بالنجوم والنياحة"، فأشار إلى أنها تبقى في بعض العُصاة من الأمة إلى آخر الزمان.
وكان ﷺ يقول: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب، -ثم يعلقن في النار ويقال لهن نُحْنَ على أهل النار كما كنتن تنحن في الدنيا ابكين، صِحْن الآن هنا والعياذ بالله- وإذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واجبلاه وامسنداه واکاسیاه جُبِذَ الميت -مِنْ قِبَلِ الملائكة- وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها أنت جبلها أنت مسندها".
كلما قالت كلمة يقولون له: أنت كنت كذا؟! ويجذبون جسده؛ فهذا يُعذَّب ببُكاءِ أهله لكن لأنه على هذا الوجه الذي ذُكِر.
"ولما حضرت عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- الوفاة قالت أخته ذلك فقال لها عبد الله -رضي الله عنه-: لا تقولي شيئًا من ذلك فإنك ما قلت شيئًا إلا قال لي الملكان أنت كما تقول أختك فلما مات لم تبك عليه -رضي الله عنهما-".
"ولما ثَقُلَ رسول الله ﷺ" وكانت عنده السيدة عائشة وجاءت السيدة فاطمة، واستدعاها وأسرَّ إليها أول مرة وبكت، وثاني مرة وضحكت تبسَّمت، ثم ودَّعها، ثم فاضت روحه الكريمة، نَصَبَ ذراعه يقول: "بل الرفيق الأعلى"، فقالت السيدة عائشة: فتذكرت كلامه أنه ما من نبي تُقبَضُ روحه حتى يُخيَّر. فعلمتُ أنه، قلت: إذًا والله لا يختارُنا أبداً. اختار الرفيق الأعلى. وفاضت روحه الكريمة ﷺ. "جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة أَثَرَ رشْحِ الجبين من خروج الروح - قالت: وا كربَ أبتاه! -سيدتنا فاطمة- فقال: "ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم يا فاطمة" خلاص، هذا آخر شيء من تعب الدنيا، ما شيء بعد هذا شيء، اللهم صلِّ عليه- فلما مات قالت: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه" تقول تُعزِّي جبريل، الذي كان يتردد عليه ويأنس بنزول الوحي عليه وبمُـخاطبته ﷺ.
"فلما دُفِن رسول الله ﷺ"، ورجعوا من دفنه، خرجت السيدة فاطمة إلى مكان القبر الشريف، ولقيت سيدنا أنساً في الطريق، فقالت له: يا أنس! دفنتم رسول الله؟ قال: نعم. "قالت: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ، التراب"، اهتز سيدنا أنس قال: يا ابنة رسول الله، والله لو كنت بحالي هذا ما قدرت، ولكن الله غشَّى علينا الأمر حتى نقوم بالواجب مع النبي وحتى نُؤديه.
فتوجهت إلى عند القبر الشريف، وسلمت على أبيها، وأخذت تراباً تشمُّه من قبره، ثم أنشدت تقول:
قل للمخيم تحت أطباق الثرى *** إن كان يسمع ذلتي وبكائيا
ماذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا
ما يحتاج عطر طول وقته بعد هذا التراب
صبت علي مصائب لو أنها *** صبت على الأيام عدن لياليا
عليها الرضوان، وما هي إلا ستة أشهر حتى لحقت بأبيها.
وقد قال لها فيما سرَّ إليها في المرة الثانية: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟"، وفي لفظٍ: "سيدة نساء العالمين، وأنكِ أول أهل بيتي لُحوقاً بي"، فضحكت واستبشرت، لا إله إلا الله.
وكان لما دعاها وأسرَّها وبكت، ثم دعاها فسارَّها فضحكت، فقالت السيدة عائشة: ما رأيت ضحك أقرب إلى بكاء من اليوم! ماذا قال لك؟ قالت: لم أكن لأُفشي سرَّ رسول الله ومرت الأيام، في الروايات جاء أنه سارَّها طويلاً في أول مرة وثاني مرة، فما ذكرت إلا بعض ما قال لها. فقالت لها السيدة عائشة يوماً من الأيام: بما لي عليكِ من حقٍّ قولي لي ما ذا قال لكِ رسول الله ﷺ، يوم الوفاة يوم سارَّكِ؟ فذكرت لها قالت لها: في المرة الأولى أخبرني أن جبريل كان يأتيه في كل رمضان في كل يوم مرة يعارضه القرآن، وأنه في رمضان الماضي كان يأتي مرتين في اليوم لأنه آخر رمضان له، وأنه لاحقٌ بربه من مرضه هذا، فذلك حين بكيت، وسارَّني في المرة الثانية وقال لي: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة وأنكِ أول أهل بيتي لُحوقاً بي؟" فضحكت.يقول: فلما انقضت الستة الأشهر، وقامت واغتسلت للموت، اغتسلت وصلت ولبست ثيابها للموت وكفنها، وأوصت سيدنا علياً، وفاضت روحها.
-
فقيل: إن سيدنا علياً اكتفى بغُسلِها، تغسيلِها نفسها.
-
وقيل: إنه غسَّلَها، ثم كفَّنها وصلى عليها وخرج بها إلى البقيع، وهو يُنشد يقول:
أرى عِللَ الدنيا عليَّ كثيرةً ** وصاحبُها حتى الممات عليلُ
لكل اجتماعٍ من خليلين فُرقةٌ ** وكل الذي دون الممات قليلُ
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ** دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ
قال: فارقت حبيب الله مُحمَّد، والآن ابنته تلحق به، وأبقى، فبقي في غربة بعدهم. وكان يأنس ببعض السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومخاطبتهم، ثم تلاحقوا. فكان يبكي حتى على المنبر، ويقول: فقدنا قوماً كانوا وكانوا، أين هم؟ لا إله إلا الله، عليه الرضوان.
"ولما بلغت أبا بكر وفاة رسول الله ﷺ وكان نائمًا عند ابنة خارجة بالسنخ جاء حتى دخل على رسول الله ﷺ فكشف عن وجهه، ووضع ف م منه مه بين عينيه، يُقبَّله، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه! واخليلاه! واصفياه! وخنقه البكاء".
وجاء أيضاً في روايات صحيحةٍ أنَّه قال: طِبْتَ حياً وميتاً يا رسول الله! اذكرنا عند ربك ولنكن من بالك، وقال: "وسيأتي بسط ذلك آخر السير".
وما حصل من أبي بكر، وما ثبَت الله به المؤمنين، مع أنه كان أرقَّهم قلباً وكان أثبتهم في وقت الوفاة، -سبحان الله- هيَّأه الله تعالى للموقف وللخلافة، فكان أثبتهم، سيدنا عمر مع قوة عزمه وحزمه وشجاعته ما قدر يتحمل، قال: ما مات. ما مات، غاب عنا ويعود إلينا، من قال إنه مات، أضربه بسيفي هذا، لا أحدٌ يقول إن رسول الله مات، ما مات رسول الله، ما قدر يتحمل.
سيدنا أبو بكر حتى لما خرج وهو في المسجد يتكلم قال له: اسكت يا عمر! سيدنا عمر في حاله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، التفت الناس إلى أبي بكر، وألقى خطبته عليهم، حتى بعدين قال سيدنا عمر: كأني أول يوم أسمع الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) [آل: عمران:144] صلوات ربي وسلامه عليه.
"من أُصيب بمصيبة فليتذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب، لن تُصاب أمتي بمثلها" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومن ذا الذي يرجو البقاء بعد أحمد؟ قال سيدنا الحداد: فقدنا زين الوجود، صلوات ربي وسلامه عليه.
وهذا الحديث في النهي عن النياحة في رواية مسلم: "النائحة إذا لم تَتُب قبلَ موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِرانٍ ودرعٌ من جَرَبٍ". والعياذ بالله تعالى. وبقاء الحزن الطبيعي راعى الشرع فيه طبيعة الناس إلى ثلاثة أيام، ويحرم بعد ثلاثة أيام إظهار الحزن.
رزقنا الله بركة العمر، ورزقنا الله -سبحانه وتعالى- خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، ووقانا شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما، وجعلنا من الهداة المهتدين والمترقِّين أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وأحيانا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفانا ما كانت الوفاةُ خيراً لنا، واجعل خير أيامنا يوم لقائه نلقاه وهو راضٍ عنا، وغفر لموتانا وأحيائنا بالمغفرة الوسيعة وارفعنا مراتبَ قربهِ الرفيعة في خير ولُطفٍ وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
23 شوّال 1446