كشف الغمة 315- كتاب الزكاة (23) باب في الحث على التعفف وترك المسألة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 315- كتاب الزكاة (23) باب في الحث على التعفف وترك المسألة
صباح الثلاثاء 29 ذو القعدة 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- منهج البعد عن التشوف لما في أيدي الناس
- مدح الله للفقراء المتعففين
- عاقبة من يكثر سؤال الناس للمال
- اختيار الله الأصلح لعباده بالفقر أو الغنى وبالمرض أو الصحة
- استواء حال المؤمن في السراء والضراء
- جزاء كثرة سؤال الناس
- قصة لقاء أمير بسيدنا سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب
- 3 يحق لهم السؤال
- من الذي يحرم عليه سؤال الصدقة؟
- حرمة الأخذ للفقر وهو ليس فقير
- موقف رفض أخذ المفتي الحبيب عبدالرحمن المشهور
- السؤال عند الضرورة وتفقد أحوال الناس
- تنبيه لمن سأل من غير فقر
- كثرة المسألة وأثرها على الوجه
- فرق بين الأخذ بسخاوة أو إشراف النفس
- من المسكين الذي في إعطاءه ثواب عظيم؟
- قصة النبي مع رجل أمره بالذهاب للبيع
- ما أكل أحد طعامه خير من عمل يده
- نتائج البلاء لمن رجع إلى الله أو إلى الناس
نص الدرس مكتوب:
باب ما جاء في الحث على التعفف
وترك المسألة وغير ذلك
"كان رسول الله ﷺ يأمر بالقناعة والتعفف وترك السؤال ويحث القادر على الكسب أن يأكل من كسب يمينه ويقول: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلَقَ وجهه فما يكون له عند الله وجه"، وكان ﷺ يقول: "أتاني جبريل فقال يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسَّقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر".
وكان ﷺ يقول: "من سأل الناس في غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم جاء يوم القيامة بوجه ليس عليه لحم"، وتقدم في الباب قبله أن الغني الذي لا يحل له السؤال هو من عنده ما يغديه أو يعشيه، وكان ﷺ يقول: "من فتح باب مسألة من غير فاقة نزلت به فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب"، وكان ﷺ يقول: "لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحدٌ إلى أحد يسأله"، وكان ﷺ يقول: "مسألة الغني نار إن أعطى قليلاً فقليل وإن أعطى كثيراً فكثير"، وكان ﷺ يقول: "من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر"، وفي رواية: "من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة ورضفاً يأكله في جهنم فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: سأل العباس رسول الله ﷺ أن يستعمله على الصدقة فقال له رسول الله ﷺ: "ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس"، وكان ﷺ يقول: "كثير المسألة كدوح في وجه صاحبها فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل في أمر لا يجد منه بداً أو ذا سلطان"، قال زيد بن عقبة فحدثت به الحجاج بن يوسف فقال: اسألني فإني ذو سلطان، وكان ابن الفراسي -رضي الله عنه- يقول: قلت: يا رسول الله أسأل؟ فقال ﷺ: لا، ثم قال إن كنت ولا بد سائلاً فاسأل الصالحين"، وكان ﷺ يقول: "إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى"، وفي رواية: "الأيدي ثلاث فيد الله عز وجل العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى فأعطِ الفضل ولا تعجز عن نفسك".
وكان ﷺ يقول لما يفرق الصدقة: "أما والله إن أحدكم ليخرج بمسألته من عندي يتأبطها حتى تكون تحت إبطه ناراً، فقال عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله فلم تعطيها إياهم؟ قال: فما أصنع يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل"، وكان ﷺ يقول: "استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك" وكان ﷺ يقول: "إن الله -عز وجل- يحب الغني الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح"، وكان ﷺ يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع".
وتقدم في الباب قبله قوله ﷺ: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس"، وكان ﷺ يقول: "طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به"، وكان ﷺ يقول: "إياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر"، وكان ﷺ يقول: "من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وقال أنس -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ يسأله شيئاً فقال له رسول الله ﷺ: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، فقال: ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله ﷺ بیده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله ﷺ: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً، فقال رجل: بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوماً فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله ﷺ عوداً بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً ففعل ثم جاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً فقال رسول الله ﷺ: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة"، وكان ﷺ كثيراً ما يقول: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، وكان ﷺ يقول: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، وكان ﷺ يقول: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله تعالى فيوشك الله تعالى له برزق عاجل أو آجل"، وفي رواية: "من جاع أو احتاج فكتمه الناس وأفضى به إلى الله -عز وجل- كان حقاً على الله تعالى أن يفتح له قوت سنة من الحلال".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذَّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرِمنا بشريعة دينه وبيانها على لسان عبده وحبيبه وأمينه سيدنا مُحمّد صلَّى الله عليه وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الواعين لتبيينه، وعلى من استقام على منهاجه واتبعه في ظاهر الأمر وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العُلا لدى ربِّ العالمين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى جميع الملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يذكرُ الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا الباب؛ باب ما جاء في الحديث عن التعفف وترك المسألة وغير ذلك، منهجَ الله الذي جاء به رسوله ليضبط حركة الناس في الحياة، ولتستقيم به أمور معاشهم ومعادهم، وفي هذه النقطة وهذا المجال؛ يُبين ما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان من ثقتهم بالله وترفعهم عن تشوف النفوس إلى مسألة الناس وإلى ما في أيدي الناس، وأن يطرقوا ما أتاح الله لهم وأباح ويسّر من الأسباب في إخلاص لوجه الله تعالى، مُجملين في الطلب غير منهمكين انهماكَ من لا يؤمن بالدار الآخرة، ولا من يقدم لذائذ شهوات الدنيا على لذة الإيمان ولذة الطاعة والعبادة فيها، ولا حالة الحريص أو البخيل الذي ينقطع عن طلب الدرجات، فتستقيم بذلك شؤونهم في معاشهم على ما يُيَسِّرُ الله تعالى لهم، ويمضي كلٌّ فيما هو أليق به وأولى به في حاله مما يتعلق بالتكسب، وما يتعلق بالتجريد. فإما أن يُقام في الأسباب، وإما أن يُقام في التجريد بشروطه المعلومة في هذه الشريعة المُطهرة، فيكون على بصيرة في أمر دينه وفي أمر دنياه بنور شريعة الله تبارك وتعالى.
ويقول ما جاء في الحثِّ على التعفف، وقد أثنى الله تعالى على فقراء يعيشون بين الناس، يحسبهم من يجهل شأنهم من الأغنياء لقوة تعففهم؛ (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ﴾ [البقرة: 273]، -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
ومضى على هذا أحوال الأخيار:
فَقِيرُهُمُ حُرٌّ وَذُو المَالِ مُنْفِقٌ *** رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ فِي صَالِح السُبل
لِبَاسُهُمُ التَّقْوَى وَسِيمَاهُمُ الحَيَا *** وَقَصْدُهُمُ الرَّحْمَنُ فِي القَوْلِ وَالفِعْل
والكل منهم قائم بما سيَّرَهُ الله تعالى فيه، موافقاً لشريعته، قانعاً بما يسّرَ له، طالباً المال من حِلِّه ومَحَلِّه.
وقال: "كان رسول الله ﷺ يأمر بالقناعة والتعفف وترك السؤال ويحث القادر على الكسب أن يأكل من كسب يمينه" وكسب يده وشغله في الحياة، ويقول: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلَقَ وجهه فما يكون له عند الله وجه"، -والعياذ بالله تعالى- يعني: يسقط من عين الله -سبحانه وتعالى- ويُفضح بالحشر يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَةُ لَحْمٍ، بهذه الصورة المُزْرِيَة؛ لكونه قد أذهب ماء وجهه في الدنيا طلباً للمال وهو غني عن ذلك، إما بقدرة على الكسب أو بتيسير مال؛ فيسأل تَكَثُّراً ويسأل تفاخراً وما إلى ذلك، هكذا جاء الحديث في رواية الطبراني.
ويقول: وكان ﷺ يقول: "أتاني جبريل فقال يا محمد ربك يقرئك السلام" -صلّ الله على خير الأنام وعليه سلام الله ورحمته وبركاته في كل لمحةٍ ونَفَس، عدد ما خلق، وملء ما خلق وعدد ما في الأرض والسماء وملء ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصاه كتابه، وملء ما أحصاه كتابه، وعدد كل شيء، ومِلْءَ كل شيء- وقد تكرر مجيء جبريل بالسلام إلى خير الأنام من رب الأنام سبحانه وتعالى.
"فقال يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسَّقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر" والعياذ بالله تبارك وتعالى، والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحوال عباده وبمصالحهم، وأنه من مظاهر رعايته في هذا الخلق وهؤلاء المكلفين أن يسير بعضهم فيما هو أصلح له وأجمل، وأن لا يتعرض لخزي القيامة ولا للمهانة يوم الطامة، ولا لفقد الدين الذي به النجاة من النار.
فمنهم هذا الصِّنْف الذي أشار الحديث القدسي إليه:
- أن من العباد من طبيعته التي جبله الله عليها، "مَنْ لا يصلح إيمانه إلا بالغنى" فإذا تيسرت أموره استقر واطمأن واستقام، وإلا فإذا ضاقت عليه الأحوال ينقلب على وجهه والعياذ بالله تعالى، وهذا الصِّنْف أيضًا مُشارٌ إلى نظيره في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]. والعياذ بالله تبارك وتعالى. لما قرأ بعضهم قوله في الحديث: "كاد الفقر أن يكون كُفْرًا" ، ولما نظر إلى أحوال كثير من هذا الصِّنْف من الناس الذين إذا ضاقت عليهم أحوال المعيشة تنكروا للدين، وتنكروا للخير، وتنكروا للتقوى، قال: قد صار كُفراً بلا كدكدة -وصل الى مرحلة الكفر والعياذ بالله-.. ما عاد كادَ؛ من دون كادَ -يعني: أوشك- قد صاروا والعياذ بالله تبارك وتعالى. وهكذا بعض النفوس الضعيفة تكون بهذه الصورة. وبالعكس؛ بعضهم إذا وجد المال ينسى؛ ينسى ربه، وينسى مُعطيه، وينسى رازقه، يطغى ويبحث له بالمال عن اللهو والعَبَث ورفقاء سوء وما إلى ذلك، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
- "وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لكفر"، ومنهم هذا الصِّنْف يعيشون، يسلمهم الله تعالى من الخلود في النار أو من دخول النار بالفقر يكونوا فقراء في الدنيا ؛ لأنه بمجرد ما يستغني يطغى -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فيبقيه بهذه الصورة فيكون الفقر أصلح له ولحاله وأحسن له في دار البقاء والدوام.
- "وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم"؛ أمراض تجيه من هنا ومن هنا، وما دام هو مريض أديب وخيّر متواضع؛ وإذا صحّ نمر عفريت متغطرس متكبر- لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم - ؛ فيعامله الله تعالى بالمرض، يُنَقِّلُهُ من واحد إلى ثانٍ، من ذا إلى ذا، كلما جاءه من هنا أو من هنا؛ من أجل ألا يقفز قفزة إلى جهنم، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
- "وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة"، مادامه صحيح والحمد لله الحمدلله ، أموره طيبة. وإذا جاءه المرض يتحول، وما عاد يؤمن ولا يصلي -لا حول ولا قوة الا بالله والعياذ بالله تعالى- فيعطيه نصيبه من الصحة، هذا في مظهر من مظاهر لطفه بعباده؛ ومع ذلك فهو الغني عن الجميع، والعزيز الذي لا يجب عليه لأحد شيء.
- وكم من فقير طغى؛ في فقره جزع وتبرم وكفر والعياذ بالله تعالى، ويا ويله من النار!
- وكم من غني طغى في غناه وطغيانه وصرفه في غير مرضات الله ويا ويله من النار!
- وكم من صحيح صرف صحته في الذنوب والمعاصي وإيذاء عباد الله تعالى، ويا ويله من النار!
- وكم من سقيم ومريض تبرم وجزع وكفر -والعياذ بالله تعالى- ومات على شر حال، ويا ويله من النار!
لأن الحقَّ لا يجب عليه لأحد شيء، ولكن من مظاهر لطفه أن جماعة من عباده يسيرهم إلى الجنة من حيث لا يشعرون، ويلطف بهم، ويعجبَ ربك يقول: "عجبتُ لأقوامٍ يُقادونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ"، لولا الحال الذي هو فيه، لكان حاله -والعياذ بالله- يخرج من الإيمان إلى الكفر، والله يحفظ علينا الإسلام والإيمان، وعلى أهالينا وعلى أولادنا، ولا يعرضنا لكفر ولا لفسق، لا بمال ولا بفقر، ولا بصحة ولا بمرض، ويجعلنا في الأحوال كلها على قدم الإيمان والصدق، مترقين مراقي القرب منه، اللهم آمين.
ولذا قال ﷺ في المتحققون بحقائق الإيمان، فهم في مختلف الأحوال على حال جميل، وقائمين بحق الله، إن أنعم عليهم بالشكر، وإن ابتلاهم بالصبر؛ "عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ" أي: المتحقق بحقائق الإيمان.
فالمتحقق بحقائق الإيمان هذا؛ لا يستوي عنده إن كان غنى وإن كان فقر؛ وإن كان صحة وإن كان مرض؛ وإن كان شدة وإن كان رخاء؛ في كل الأحوال وهو على حسن صِلَةٍ بالكبير المتعال، وعلى ارتقاء إلى المراتب العوالي، وعلى حسن استعداد للقاء والمرجع إلى المآل في أحواله كلها. فنعم حال المؤمن الصادق الصابر الذاكر الخاشع الشاكر! اللهم اسلك بنا سبيل من أحببت في عافية.
"وكان ﷺ يقول: "من سأل الناس في غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم جاء يوم القيامة بوجه ليس عليه لحم"، هيكل عظمى ويُعرف أن هذا فلان بن فلان ولكن في بشكل مُزْرِيَ.. يقولوا: ما الذي فيه؟ قال: المسألة! يسأل الناس، يسأل الناس، وتعلق بالناس، وخرج لحمُه كله، ووقع، ويبقى هيكل عظمي في القيامة بسبب التفاته إلى الناس وسؤاله الناس.
وهكذا قال: وإذا كنت سائلاً الدنيا أو غيرها، فاسألها من مالكها جل جلاله، ولا تسألها ممن ليس يملكها... وهكذا لَقِيَ الأمير سيدنا سالم بن عبد الله بن عمر في الكعبة، فقال له: ألك حاجة يا سالم؟ قال: أستحي أن أسأل غيره وأنا في بيته! قال: - عيب على اسأل غير الله- أسال غير الله وأنا في وسط الكعبة! في بيت ربي واسأل غيره! استحى الأمير على نفسه وخرج! ولما خرج من المسجد قال: الآن قد صرنا خارج المسجد فهل لك من حاجة؟ قال له: تعني من حاجات الدنيا أم من حاجة الآخرة؟ قال: أما الآخرة فما لي إليها سبيل؛ من الدنيا، قال: أما الدنيا، فأنا لم أسألها مِمَّنْ يملكها، فكيف أسألها مِن غير مالكها؟! قال: الذي يملكها أنا ما سألته إياها، فهل سأسألها من واحد آخر مثلك أنت! لا إله إلا الله. وهكذا شأنُ الأكابر الأطهار.
ومن هنا قالوا: إن سؤال المال والمنفعة الدنيوية ممن لا حق له فيه:
- قال الفقهاء: إنه حرام؛ فيه إظهار الشكوى وإذلال للنفس، وما ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه، وإيذاء المسؤول غالبًا.
ولهذا جاءت الأحاديث فيمن يحق له السؤال، ومنها حديث الإمام مسلم، يقول ﷺ: "يا قَبِيصَةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمالَةً، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ -مِن مثل دية عليه، مِن مثل كفارة عليه، مِن مثل كفالة كفلها في المصلحة وما إلى ذلك-، ورَجُلٌ أصابَتْهُ جائِحَةٌ -نازلته كارثة أو مصيبة من المصائب- اجْتاحَتْ مالَهُ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ ورَجُلٌ أصابَتْهُ فاقَةٌ حتّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِن ذَوِي الحِجا مِن قَوْمِهِ -ويقول- : لقَدْ أصابَتْ فُلانًا فاقَةٌ -يعني: أرباب العقل من جماعته وأهل دائرته يحكمون بأنه صاحب فاقة- ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ فَما سِواهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ يا قَبِيصَةُ سُحْتًا، يَأْكُلُها صاحِبُها سُحْتًا"، أخرجه مسلم.
وهكذا مع اختلاف الفقهاء في مَنْ الغني الذي يحرم عليه سؤال الصدقة:
- وقد تقدم معنا وكما يُذكر أيضًا الآن؛ أنه في الحال العادي، من وجد قوت يومه وليلته فلا يصح له السؤال لفقره؛ وجاء فيه أنه: "مَن سألَ وعندَهُ ما يغنيهِ فإنَّما يَستَكْثرُ منَ النّارِ. قالوا يا رسولَ اللَّهِ وما يُغنيهِ؟ ! قالَ: قَدرُ ما يغدِّيهِ أو يعشِّيهِ"، عنده قَدْر ما يحتاج إليه في الغداء والعشاء انتهت المسألة، خلاص لا يسأل، وهكذا "من سأل وله قيمةُ أُوقيةٍ فقد ألحَفَ". في رواية أبي داود. فمن كان يملك أوقية من فضة، فلا ينبغي أن يسأل.
- وبعض المالكية يفرق بين الغني بالنسبة إلى سؤال صدقة التطوع وبين سؤال الزكاة الواجبة؛ قالوا: غير المحتاج من عنده قوت يومه بالنسبة إلى طلب صدقة التطوع، أو قوت سنة بالنسبة إلى سؤال الزكاة الواجبة، مَن عنده ذلك حَرُم عليه.
- يقول عندنا الرملي في شرحه على المنهاج: يُكره التعرض لأخذ صدقة التطوع وإن لم يَكْفِه ماله وكسبه إلا يوماً وليلة، وسُؤَالُ الْغَنِيِّ حَرَامٌ إنْ وَجَدَ مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمُمَوَّنَهُ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ وَسُتْرَتَهُمْ وَآنِيَةً يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا، وَالْأَوْجَهُ جَوَازُ سُؤَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إنْ كَانَ السُّؤَالُ عِنْدَ نَفَاذِ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَيَسِّرٍ وَإِلَّا امْتَنَعَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ مَا اُعْتِيدَ سُؤَالُهُ من قلم وسواك مِنْ الْأَصْدِقَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِي رِضَا بَاذِلِهِ وَإِنْ عَلِمَ غِنَى آخِذِهِ لَا حُرْمَةَ فِيهِ وَلَوْ عَلَى الْغَنِيِّ لِاعْتِيَادِ الْمُسَامَحَةِ في مثل ذلك. والناس يتبادلون أمثال هذه الأشياء اليسيرة.
- ومتى أذل نفسه وأَلَحَّ في السؤال أو آذى المسؤول حَرُمَ، حتى ولو كان محتاجًا لا يجوز أن يسأل بإيذاءٍ أو بصورة فيها إحراج وإلحاح.
- وهكذا يقول الإمام النووي: اتفقوا على النهي عن السؤال بلا ضرورة؛ فالقادر على الكسب وجهان:
- أصحُّهما أنه حرام.
- والثاني يحل بشرط أن لا يذلُّ نفسه ولا يَلِحُّ في السؤال ولا يؤذي المسؤول، وإلا حَرُمَ مُطْلَقًا ولو كان محتاجًا.
فالغني إما بمال أو بصنعة؛ بقدرة له بها على الكسب وهو مُتَيَسِّر له فيكون حرامًا عليه السؤال.
وحتى يقول من يقول من الفقهاء: لو أظهر الفاقة والفقر، وظنَّه الدافع مُتَّصِفًا بأنه صدق فقير لم يملك ما أخذه، لأنه أخذه بصفة ليست فيه، فهو لا يملكه، وهو حرام عليه، ويضمنه حتى يرده إلى صاحبه أو يرد قيمته؛ لأن صاحبه لو علم أن ما فيه هذا الوصف ما أعطاه، لأنه ما سمحتْ نفسه وأعطاه إلا بالظن أن هذا الوصف فيه؛ وهكذا كل من أُعْطِيَ بوصفٍ يحسبه المعطي أنه فيه وليس فيه، فليس له الأخذ.
ولهذا لما جاء بعضهم مرةً ببعض مالٍ للمفتي الحبيب عبد الرحمن المشهور، قال له: تُعْطِينِي هذا لأجل ماذا؟ إن كنت تظن أني وليٌّ، فلستُ بوليٍّ، لا يغُشَّك عملي، ولو تظن أني عالمٌ، فلستُ بعالمٍ ما يصح أن تطلق علي أني عالم، فقال: أنا أعطيتك هذا لأنك من أهل البيت؛ فسكتَ ساكت هذا ما يقدر ينكره، وصف هو فيه بيقين، وما يقدر يتخلص منه، وهذا ذكي الذي يريد أن يعطيه، والرجلُ عَالِمٌ ووليٌّ وصالحٌ، ولكنه متورع؛ ولهذا قال: إن كان لاتظن بي إلا الصلاحَ، فلا يحل لي، ولستُ أنا من الصالحين، ما أنا منهم، وإن كنتَ تظن أن عندي علمًا، فأنا لا أُسَمَّى عالماً -وهو عالم كبير مفتي- ما يحل لي أن آخذ هذا منك؛ فقال له: لا لا، ما أعطيتُكَ من شان ذا ولا لذاك، بل أعطيتُكَ لأنك فلان بن فلان تنتسب إلى النبي؛ خلاص سكتَ ساكت وأخذه.
- وكل من أُعْطِيَ بوصفٍ ليس فيه هذا الوصف فما يأخذه حرامٌ، ولا يملكه بل يكون ضامنًا له، ضامنًا له حتى يردُّه إلى صاحبه، وإلا أُخِذَ منه يوم القيامة. لا إله إلا الله.
- وقال الإمام أحمد: يحرم السؤال لا الأَخْذِ على من له قوتِ يومِهِ غداءً وعشاءً؛ الأخذُ لا يحرم عليه إذا كان من دون سؤال، وأما السؤال فيحرم عليه؛ وفي رواية عنه: إذا كان عنده خمسون درهمًا. وهكذا رأيتَ اجتهاد الفقهاء في مَنْ يُعَدُّ غنيًّا لا يسأل، ورأيتَ أيضًا في بعض الروايات في الحديث بتحديد وجود قوتِ اليوم والليلة. لا إله إلا الله. قال: ولا بأسَ بسؤال الماء للشرب، وكذلك الاستعارة والاستقراض وما إلى ذلك عند الحاجة ويتوجَه، قال: وإن أُعْطِيَ مالًا طيبًا من غير مسألة واستشرافِ نفسٍ، مما يجوز له أخذه من زكاة أو كفارة أو صدقة أو هبة وجب أخذه عند الحنابلة، وقال جماعة عندهم: يجب عليه الأخذ لأنه يساعد المعطي على أداء واجبه؛
كذلك وإذا كان المحتاج عاجزًا عن الكسب ولكن يقدر يسأل فيُعطى؛ فهل يجب عليه السؤال؟ حتى إذا كان تعرض لإلقاء نفسه إلى التَّهْلُكَةِ؟
- نعم يجب عليه أن يسأل بقدر الضرورة له أو لمن تلزمه نفقته.
- ثم من تضرر بالقلِّ في أي مكان وفي أي بلد، وجب على من علم بحاله مِن مياسِير المسلمين أن يسدوا حاجته، يكون فرض عليهم أن يسدوا حاجته بما استطاعوا؛ ولذا تجد الأخيار على مثل هذا الفقير المتعفِّف، والمُقْتَدِرُونَ المثرون متفقدون لأحوال الناس ويبادئونهم بالعطاء مع طيب نفس، وهذه الحالة الطيبة التي تُعَجِّل للمؤمنين في الدنيا من العيشة الراضية قبل العيشة الآخرة التي هي أرضى وأبقى.
ويقول: "وكان ﷺ يقول: "من فتح باب مسألة من غير فاقة نزلت به فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب". لاحول ولا قوة إلا بالله العظيم؛ وفي الرواية الأخرى: "مَنْ فَتَحَ على نفْسِهِ بابَ مسأَلَةٍ فَتَحَ اللهُ عليه بابَ فقرٍ"، وكلما كثر في المسألة، يكثر فقر قلبه -والعياذ بالله تعالى-.
"وكان ﷺ يقول: "لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله"، وكان ﷺ يقول: "مسألة الغني نار إن أعطى قليلاً فقليل وإن أعطى كثيراً فكثير" -نار قليل، نار كثير بحسب ما يأخذ وهو غني-، وكان ﷺ يقول: "من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر"، وفي رواية: "من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة ورضفاً يأكله في جهنم"، يعني: حجر مُحَمَّى؛ الرضف يعني أحجار مُحَمَّاة، فيكلف أكل الحجر المحمى بالنار مقابل ما أكل بالسؤال بغير الضرورة في الدنيا؛ لأنه سأل ليُثريَ المال لا ليأخذ القوتَ، ولكن ليُثريَ ماله أو ليتفاخر بشيء من الملابس أو من المظاهر أو من الأواني.
"وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: سأل العباس رسول الله ﷺ أن يستعمله على الصدقة فقال له رسول الله ﷺ: "ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس". أخرجه ابن خزيمة، والحاكم في المستدرك.
وقد تقدم معنا حكم أن يُستعمل على الصدقة هاشمي:
- فالأصحُّ عند الحنفية وكذلك المالكية والشافعية وبعض الحنابلة: أنه لا يحل للهاشمي أن يكون عاملًا في الصدقات بأجرٍ منها، تنزيهًا لقرابة النبي ﷺ عن شبهة الوسخ.
- وقد تقدم معنا في قول الحنفية: أن أخذ الهاشمي العامل على الصدقات مكروه كراهة تحريم، وليس بحرام ولكن مكروه كراهة تحريم.
- ويقول الشافعية: إن يكون حمَّال أو كيَّال أو وزَّان أو حافظ للمال، هاشمي أو مُطَّلِبي، يجوز.
- وأكثر الحنابلة على أنه يجوز للآل الأخذ من عمالة الزكاة، لا بوصف الفقر ولا المسكنة، ولكن أجرة على العمل.
فهذا اختلاف الأئمة الأربعة في استعمال أحد من الآل على الصدقة وإعطاؤه أجرة منها.
"وكان ﷺ يقول: "كثير المسألة كدوح -يعني: جروح- في وجه صاحبها فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك".
وجهك قُدَّامك أردتَ له كدوح جمّ في الآخرة عند الحشر، سَل الناس وكثِّر لك سؤال، وإن أردتَ كدوح قليل، قلِّل السؤال قليل، وإن أردتَ وجه صافي نقي فلا تسأل الناس شيء.
"كثير المسألة كدوح في وجه صاحبها فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل في أمر لا يجد منه بداً أو ذا سلطان" -عنده مالٌ عام للمسلمين فيأخذ حقه منه- قال زيد بن عقبة فحدثت به الحجاج بن يوسف فقال: اسألني فإني ذو سلطان، وكان ابن الفراسي -رضي الله عنه- يقول: قلت: يا رسول الله أسأل؟ فقال ﷺ: لا، ثم قال إن كنت ولا بد سائلاً فاسأل الصالحين"، الأخيار الذين يرون أن المعطي هو الله تبارك وتعالى.
وكان ﷺ يقول: "إن هذا المال خضر حلو -أي: مُزَيَّنٌ للنفوس والقلوب (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ) [آل عمران: 14]- فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى"، وفي رواية: "الأيدي ثلاث فيد الله عز وجل العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك". الفضل: ما فضل وزاد عن حاجتك تصدق به.
"وكان ﷺ يقول لما يفرق الصدقة: "أما والله إن أحدكم ليخرج بمسألته من عندي يتأبطها حتى تكون تحت إبطه ناراً، فقال عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله فلم تعطيها إياهم؟ قال: فما أصنع يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل"، وكان ﷺ يقول: "استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك"، يعني: المبالغة؛ يجعل الله لك في شَوْصِ السواك ما يغذيك أو يكفيك، ولا تسأل أحد.
"وكان ﷺ يقول: "إن الله -عز وجل- يحب الغني الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح"، وكان ﷺ يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع".
وقال: وتقدم في الباب قبله قوله ﷺ: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس"-قال: هذا المسكين الذي في إعطائه ثواب عظيم-، "وكان ﷺ يقول: "طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به".
أعطاه الله دين الحق والإسلام، وعيشه كفاف على حسب الحاجة، وهو قانع، ما عنده التفاتٌ إلى الدنيا. قال: هنيئًا له!
"طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به"، وكان ﷺ يقول: "إياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر".
لهذا قالوا:
- إن أردتَ من الدنيا فوق ما يكفيك، فجميع الدنيا ما تكفيك.
- وإن أردتَ منها ما يكفيك، فاليسير يكفيك، اليسير من الدنيا يكفيك.
- وإن أردتَ فوق ما يكفيك، خلاص! الدنيا كلها ما تكفيك.
"لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى عليه ثاني، ولو كان معه ثانٍ لابتغى عليه ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
"من أصبح آمناً في سربه" -في طريقه- الحمد لله نمشي إلى مسجدنا، نمشي إلى أماكننا، نمشي إلى ديارنا، نمشي إلى أصحابنا في أمنٍ وطمأنينةٍ "معافى في بدنه" الحمد لله لا نعجز عن القيام ولا عن الحركة ولا عن الدخول والخروج "عنده قوت يومه -يومه وليلته- فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وأيُّ شيءٍ يزيدُ عليه مَنْ مَلَكَ الدنيا كلها؟!
"وقال أنس -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ يسأله شيئاً فقال له رسول الله ﷺ: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب -وعاء- نشرب فيه من الماء، فقال: ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله ﷺ بیده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله ﷺ: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً، فقال رجل: بدرهمين فأعطاهما إياه -باع عليه هذا الوعاء والحلس- وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك -فهم جائعين فأعطهم- واشتر بالآخر قدوماً -قطعة من الحديد يُقَطَّع بها الحديد وغيره- فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله ﷺ عوداً -بَسَطَ القدوم وربطه له- بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً -لاتظهر عَلَي، ابقى في الشغل خمسة عشر يوم ثم تعال- ففعل -وطرح الله له البركة ويجيب الحطب ويبيع والحمدلله- ثم جاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً -وصار هو يتصدق على العالم- فقال رسول الله ﷺ: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة"، وكان ﷺ كثيراً ما يقول: "لأن يحتطب أحدكم حزمة -أو حزمة حطب- على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، وكان ﷺ يقول: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ) [الأنبياء: 80]، فكان يقيم الدروع، ولكن الله ليَّن له الحديد، يقول بالحديد كذا فيمشي معه كما كان، من دون نار ولا شيء، يُصلِّحه ويلويه كذا ويلويه كذا ويطلعه كذا، فكان مُلَيَّن له الحديد بيده، وكان يصنع الدروع ويبيعها للجهاد في سبيل الله ويأكل من عمل يديه.
"وكان ﷺ يقول: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله تعالى فيوشك الله تعالى له برزق عاجل أو آجل". يجيء له لا بُدَّ الفرج من هنا أو من هنا فيَفُك عليه ويُصْلَحُ شأنه، إذا أنزلها بالله واعتمد على الله، ورجع إليه خاضع خاشع مطمئن مسلم له؛ وأما إذا أنزلها بالناس، فدقَّة بعد دقَّة تجيء له وصكَّة بعد صكَّة ولا يجد ما يطمئن به قلبه.
"وفي رواية: "من جاع أو احتاج فكتمه الناس وأفضى به إلى الله -عز وجل- كان حقاً على الله تعالى أن يفتح له قوت سنة من الحلال". وهكذا المتوكلون بصدق على الله، معلوم في حياتهم وشأنهم ملاطفة الله إياهم وعنايته بهم وتيسيره الأمر؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2-3].
رزقنا الله الاستقامة ومتابعةَ سيدنا محمدٍ سيد أهل الإمامة، وأصلح به شؤوننا في الدنيا والبرزخ والقيامة، وجَمَعَنا به في دار الكرامة، وأذهبَ عنا الآفات والهموم والغموم، وجَعَلَنا من خواصِّ مَنْ بأمر الله يقوم، ويبلغه الله ما يروم وفوق ما يروم، في عوافي كواملَ وصلاحٍ للشأن في الدنيا والآخرة.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
29 ذو القِعدة 1446