كشف الغمة- 286- كتاب الجنائز (23) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور -5-
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 286- كتاب الجنائز (23) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور -5-
صباح الأربعاء 18 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- دفن النبي ﷺ رجل في الليل
- رفع الصحابة الصوت بالذكر
- حكم الدفن ليلا وتجنبه لغير ضرورة
- اوقات يكره فيها الدفن
- كراهة إدخال نار للمقبرة إلا لحاجة
- دعاء النبي للميت عند الدفن
- قراءة أول البقرة وآخرها بعد الدفن
- استئناس الميت بالدعاء والقرآن عند قبره
- كيف تكون ضغطة القبر للمؤمن؟
- ما هو تلقين الميت وما حكمه؟
- معنى النهي عن اتخاذ القبور مساجد
- هل ينهى عن زيارة النساء للقبور؟
نص الدرس مكتوب:
وكان ﷺ يدفن الموتى ليلًا قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما علمنا بدفن رسول الله ﷺ حتى سمعنا صوت المساحي من آخر ليلة الأربعاء، وقال جابر -رضي الله عنه-: رأيت نارًا بالبقيع فأتيناها فإذا رسول الله ﷺ في القبر وهو يقول: ناولوني الرجل فنظرت فإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر".
وكان أصحاب رسول الله ﷺ كثيرًا ما يدفنون الموتى ليلًا من غير إعلام النبي ﷺ لأنهم كانوا يكرهون أن يشقوا على رسول الله ﷺ بإيقاظه في الليلة الظلماء وكان إذا علم بذلك يزجرهم ويقول: "لا يقبر رجل بليل حتى أصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ثم يأتي إلى قبره فيصلي عليه"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ودفن أبو بكر -رضي الله عنه- ليلًا، وكان ﷺ كثيرًا ما ينزل القبر يتناول الميت ويضجعه في اللحد وكثيرًا ما يكون ذلك على السراج ليلًا.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ورأيته ﷺ مرة في قبر رجل على سراج وهو يقول للميت: "رحمك الله إن كنت لأوَّاهًا تلّاءٍ للقرآن"، وكان ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ثم يقول: اللهم هذا عبدك نزل بك وأنت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله"، ولما حضرت الحكم بن الحارث السلمي الصحابي -رضي الله عنه- الوفاة قال لأصحابه: "إذا دفنتموني ورششتم على قبري الماء فقوموا على قبري واستقبلوا القبلة وادعوا لي"، وكان ﷺ يقول: " الضمة في القبر كفارة لكل مؤمن"، وفي رواية: "كفارة لكل ذنب بقي عليه لم يغفر"، وكان عبد الله بن عمير الصحابي -رضي الله عنه- يقول: يفتن المؤمن سبعًا والمنافق يفتن أربعين صباحًا ولا تلتئم الأرض إلا على منافق فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه.
قال راشد بن سعد التابعي -رضي الله عنه-: وكانوا يستحبون إذا سُوِّيَ على الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات، قل: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ﷺ ثم ينصرف القائل عنه، ولما دفن رسول الله ﷺ ابنه إبراهيم -عليه السلام - وفرغ من دفنه قال سلام عليكم ثم انصرف، وكان ﷺ ينهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن إيقاد السرج فيها، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: وكثيرًا ما كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، والله أعلم."
اللَّهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمِنا بشريعته العظيمة وبيانها على لسان عبده المصطفى محمدٍ ذي المراتب الفخيمة، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعَ طريقته القويمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى جميع الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله ذكر- الأحاديث المتعلقة بالدفن للموتى والقبور، فقال -عليه رضوان الله-: "وكان ﷺ يدفن الموتى ليلًا قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما علمنا بدفن رسول الله ﷺ حتى سمعنا صوت المساحي من آخر ليلة الأربعاء". فتوفي في يوم الاثنين وبقي يوم الثلاثاء، وفي آخر ذاك اليوم كمّلوا الصلاة عليه، وفي آخر الليل من ليلة الأربعاء كان دفنه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
"وقال جابر -رضي الله عنه-: رأيت نارًا بالبقيع -يعني: سراجًا يضيء- فأتيناها، فإذا رسول الله ﷺ في القبر وهو يقول: ناولوني الرجل -لِيُلْحِدَهُ- فنظرت فإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر" وهذا غير ذي البجادين عليه رحمة الله، إن ذا البجادين أحد الذين كان يرفعون أصواتهم بالذكر، وكان قد توفي في الطريق عند رجوعهم من غزوة خيبر، وقبره ﷺ بيده، وقال عنه: "اللهم ارضَ عنه فإني أمسيت عنه راضٍ". تناوله بيده، -وكان ممن حفر القبر سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وجماعة من كبار الصحابة- ثم ألحده بيده ﷺ في قبره ذي البجادين، وقال عند لحده: "اللهم ارضَ عنه فإني أمسيت عنه راضٍ".
ذو البجادين هذا كان أيضاً كثيرَ رفعِ الصوت بالذكر، حتى مر ﷺ مع بعض الصحابة يومًا -تحت- المسجد فإذا بصوت ذي البجادين في المسجد، فقال بعض الصحابة: أخشى أن يكون هذا مُرائِيًا يا رسول الله! قال: "لا، ولكنه أوَّاه" رجَّاعٌ لله -تبارك وتعالى-.
وهذا آخرٌ من الصحابة كان أيضًا كثيرَ رفعِ الصوت بالذكر، وفيه أنّ عددًا من الصحابة تميزوا برفع الصوت بالذكر أكثر من غيرهم، فإن الصحابة يذكرون الله سرًّا وجهرًا مع رسول الله ﷺ، ولكن هؤلاء لكثرة جَهْرُهُم بالذكر في أوقات ما كان الجماعة يجهرون فيها بالذكر نُسِبوا إلى رفع الصوت بالذكر. قال: "فإذا هو -أي: الميت- الذي كان يرفع صوته بالذكر" خرج ﷺ لجنازته ليلًا وقبره بيده الكريمة.
وقال أيضًا: وكان أصحاب رسول الله ﷺ كثيرًا ما يدفنون الموتى ليلًا من غير إعلام النبي ﷺ لأنهم كانوا يكرهون أن يشقوا على رسول الله ﷺ بإيقاظه في الليلة الظلماء وكان إذا علم بذلك يزجرهم ويقول: "لا يقبر رجل بليل حتى أصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ثم يأتي إلى قبره فيصلي عليه".
فبذلك اختلف العلماء في الدفن أيضًا في الليل:
-
المشهور عند الأئمة الأربعة أنه لا يكره الدفن ليلًا؛ لأن أبا بكر -رضي الله عنه- دُفِن ليلًا، وعليٌّ دفن سيدتنا فاطمة ليلًا، وعثمان بن عفان دُفِن ليلًا، وعائشة أم المؤمنين، وابن مسعود -رضي الله عنهم-.
-
واستحب جماعة من أهل العلم منهم من الصحابة والتابعين مثل عقبة بن عامر وسعيد بن المسيب وعطاء والثوري وإسحاق أنه يُدفن نهارًا مهما أمكن؛ لأنه أسهل على مُتَّبِع الجنازة، وأكثرُ المصلين عليه، وأمكنُ للعمل بالسنة عند الدفن.
-
وهكذا في رواية عن الإمام أحمدٍ كره الدفن ليلًا، وكذلك الحسن البصري.؛ لما جاء في صحيح مسلم "أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطبَ يومًا، فذَكَرَ رجلًا من أصحابِهِ قُبِضَ فكُفِّنَ في كفنٍ غيرِ طائلٍ، وقُبِرَ ليلًا، فزجرَ النَّبيُّ ﷺ أن يُقبَرَ الرَّجلُ باللَّيلِ حتَّى يصلَّى عليهِ، إلَّا أن يُضطرَّ إنسانٌ إلى ذلِكَ"، أخرجه مسلم.
وعليه أيضًا أحب السلف في مقابر تريم أن لا يُدفن فيها ليلًا إلا لضرورة، ومن اضطر لذلك فلا بأس، مع ما كان يظهر للناس كثيرًا من شؤون أهل البرزخ في الليل إذا تعرضوا للخروج إلى المقابر ليلًا، فأحبوا أيضاً الخروج من الخلاف أن يكون الدفن ما بين الصباح والعصر؛ حتى يكون أدعى لحضور المشيعين والمصلين عليه، وأوفى للعمل بالسنن فيه إلى غير ذلك من المقاصد، وفيه حديث الإمام مسلم: "فزجرَ النَّبيُّ ﷺ أن يُقبَرَ الرَّجلُ باللَّيلِ حتَّى يصلَّى عليهِ، إلَّا أن يُضطرَّ إنسانٌ إلى ذلِكَ".
ثم الدفن عند طلوع الشمس أو عند الغروب أو عند استوائها:
-
كرهَهُ المالكية والحنابلة، وقالوا: لا ينبغي أن يكون الدفن لحظة الطلوع، ولا لحظة الغروب، ولا لحظة استواء الشمس في الظهر؛ ولِما جاء عن عقبة بن عامر الجهني: "ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نَقْبُر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تُضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب".
-
ولم يرَ الحنفية والشافعية كراهةً في الدفن في هذه الأوقات، وإن كان الدفن في غيرها أفضل، ويقول في "بشرى الكريم":
-
جاز بلا كراهة دفنٌ بليلٍ مطلقًا.
-
ووقتَ كراهة الصلاة إن لم يتحرَّهُ.
-
قال: أما من يتحرى وقت الكراهة وقت الغروب ووقت الاستواء ووقت الطلوع؛ فإنه يُكره كراهة تحريم.
-
وقال: وليس من التحرِّي التأخيرُ لكثرة المصلين.
-
وقال: والدفن في غيرهما أفضل؛ عند الغروب وعند الطلوع. اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله.
-
وكذلك في الحديث الذي يرفع صوته بالذكرِ، قال:
-
فيه فضيلة رفع الصوت بذكر الله تعالى.
-
وأيضاً جواز الدفن ليلًا.
ثم قال إنهم يتحرزون عن أن يشقوا على ﷺ بإيقاظه في الليل وصلاته على موتاهم، مراعاةً لصحّته ﷺ وراحته، ومع ذلك كان يأمرهم أن يُعْلِموه، ثم إذا علم بأحدٍ دُفِن ليلًا، ذهب إلى قبره فصلى عنده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: ودفن أبو بكر -رضي الله عنه- ليلًا، وكان ﷺ كثيرًا ما ينزل القبر يتناول الميت ويضجعه في اللحد وكثيرًا ما يكون ذلك على السراج ليلًا".
ومن هنا قالوا: إن إدخال النار إلى المقبرة مكروه إلا لحاجة، كالسراج في الليل إذا احتاجوا إلى الدفن ليلًا أو نحو ذلك؛ يدخلون السراج معهم؛ وإلا ينبغي أن تُجَنَّبَ النارُ المقبرةَ؛ للبعد عن التشاؤم وذكرِ النار عند أهل القبور. لا إله إلا الله.
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ورأيته ﷺ مرة في قبر رجل على سراج وهو يقول للميت: "رحمك الله إن كنت لأواها تلاءً للقرآن"، فشهد له ﷺ بكثرة تلاوة القرآن، وكونه أوّاهًا -أي: رجّاعًا إلى الله تبارك وتعالى-.
"وكان ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه -أي على قبره- وقال: "فقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسئل". ثم يقول: "اللهم هذا عبدك نزل بك وأنت خير منزول به - أنت أكرم من تقري الضيف- فاغفر له ووسع مدخله".
إذاً فيستُحِبَّ أن يجلس المشيعون للميت بعد دفنه لدعاء وقراءةٍ مقدارَ ما يُنحر جزورٌ ويُقسّم لحمه، فيستغرق ذلك نحو خمسة وأربعون دقيقة، -ساعة إلا ربع- تكفي لذبح الجزور وتوزيع لحمه، -قدرَ ما يُنحر الجزور ويُفرَّق لحمه-؛ لما جاء أن النبي ﷺ كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل"، كما جاء في رواية أبي داود، وقال الإمام النووي: بسندٍ جيد.
-
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يستحب أن يُقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها، كما ذكره ابن عابدين.
-
وكذلك روى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أيضًا مرفوعًا قال: وليُقرأ عند رأسي أول سورة البقرة، وعند رجليّه بخاتمة سورة البقرة في قبره، ذكر الإمام السيوطي في كتابه شرح الصدور.
-
وجاء أيضاً في صحيح مسلم قول عمرو بن العاص: اجلسوا عند قبري قدر ما يُنحر جزور ويُقسم ، فإني أستأنس بكم، وفي لفظٍ: حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رُسُلَ ربي، أي: الملائكة عند سؤالهم.
قال: "ولما حضرت الحكم بن الحارث السلمي الصحابي -رضي الله عنه- الوفاة قال لأصحابه: "إذا دفنتموني ورششتم على قبري الماء فقوموا على قبري واستقبلوا القبلة وادعوا لي"، فيُستحب بعد الدفن أن يُنتظر مدةً يُدعى فيها للميت، ويُتَعرَّض لنزول الرحمة بقراءة قرآن ونحوه.
وكان ﷺ يقول: " الضمة في القبر كفارة لكل مؤمن". والضمة -وجاء في روايات الضغطة للقبر-، تحصل لكل من يُدفن في القبر:
-
فعامة المؤمنين الصالحين: يضمهم أرض القبر إليها -يضم الميت- كما تضم الأم الحنون ولدها إلى صدرها، وتقول: كنتَ من أحب الناس إليّ وأنت على ظهري، وقد صرت اليوم في بطني.
-
وأما المنافق والكافر فتشتد عليه الضغطة حتى تختلف أضلاعه، وتقول له الأرض: كنتَ من أبغض الناس إليّ وأنت على ظهري، فقد صرت اليوم في بطني يا بعيداً عن الله، فهكذا -والعياذ بالله تعالى- تبغض الأرض من يبغضه الله ربها -جلّ جلاله-، فيشتد عليه الضغطة.
-
وقد تُشدد الضغطة على بعض المؤمنين كفارةً لما بقيَ من ذنوبه التي لم تُغفر، ويشتد عليه الضغط فيكون كفارةً، حتى لا يبقى عليه شيء يُعذب عليه في القبر ولا في القيامة عندما يأتي، فتكون كفارةً لشيء من الزلات التي لم تُغفر، فيشتد عليه ضغطة القبر كحال الاحتضار؛ قد يشتد على بعض المؤمنين كفارةً أو لرفعة درجات، ولكن عامة المؤمنين إنما يضمهم القبر ضمة رحمة وحنان، كما تضم الأم الشفيقة ولدها إلى صدرها. لا إله إلا الله.
اللهم اجعل قبورنا رياضاً من رياض الجنة.
ويذكر بعض أهل الحديث أنه لم ينجُ من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد؛ لمكان اضطجاع النبي ﷺ في قبرها، ثم تناوله إياها، وقوله: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسِّعْ عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي"، فلم يستطيع القبر بعد ذلك أن يتحرك؛ وإلا فقد جاء في الحديث "إنَّ للقبرِ ضَغطةً ولو سلِم أو نجا منها أحدٌ لنجا سعدُ بنُ معاذٍ"، وقد اهتز لموته عرش الرحمن. وفيها لمّا استفسره أهله عن سبب الضغطة؟ أخبرهم أنه لم يستبرئ يومًا من البول، فخرج منه بول بعد استنجائه، فبذلك كانت هذه الضغطة كفارةً له.
قال: "وفي رواية: "كفارة لكل ذنب بقي عليه لم يغفر" ضغطةُ القبر بالنسبة للمؤمن. "وكان عبد الله بن عمير الصحابي -رضي الله عنه- يقول: يفتن المؤمن سبعًا ويُسأل في قبره، والمنافق يفتن أربعين صباحًا ولا تلتئم الأرض إلا على منافق فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه"؛ لأنها تكرهه وتريد تعذيبه، لأنه يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:9].
كما أنه يُسنُّ أن يُرشَّ على القبر بعد الدفن ماء؛ لفعل النبي ﷺ ذلك بقبر سعد بن معاذ وغيره، وأمرهم في قبر عثمان بن مظعون أن يُرشُّوا عليه الماء.
ويقول أيضاً الشافعية والحنابلة: ويوضع عليه حصى صغار؛ لما جاء عن جعفر بن محمد "أن النبيﷺ رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء".
وقد تقدم معنا قول الشافعي: إنه لا يجوز رشُّه بماء نجس، ويكره بماء الورد.
"قال راشد بن سعد التابعي -رضي الله عنه-: وكانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ﷺ ثم ينصرف القائل عنه" هذا ما يسمى بالتلقين.
"ولما دفن رسول الله ﷺ ابنه إبراهيم -عليه السلام - وفرغ من دفنه قال: سلام عليكم ثم انصرف وكان ﷺ ينهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن إيقاد السرج فيها".
ففيه استحباب تلقين الميت بعد الدفن:
-
وبه قال الشافعية والحنابلة: فيقعد الملقِّن عند رأس القبر يقول: يا عبد الله ابن أمة الله، اذكر ما خرجتَ عليه من دار الدنيا: شهادةَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله أو أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربًا، أو قُلْ: رضيتُ بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلةً، وبالمؤمنين إخوانًا.
-
وورد في ذلك حديث، يقول النووي في "الروضة": وإن كان الحديث ضعيفًا، فإنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة، قال: "ولم تزل الناس على العمل به من العصر الأول في زمن من يُقتدى به"، واستشهد بقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55]. وقال: وأحوجُ ما يكون العبد للتذكير في هذه الحالة؛ يُذكَّر عهده مع الله تعالى حتى يجاوب الرُسُلَ(الملائكة) عند سؤالهم.
-
ويقول المالكية وبعض أصحاب الشافعية والزيلعي من الحنفية: إن هذا التلقين لا بأس به، رخصوا فيه ولم يتخذوه سنة. وقالوا: وأخذوا بعموم قوله ﷺ في صحيح مسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"، فيشمل الميت المحتضر والميت المدفون.
ويقول: "وكان ﷺ ينهى عن اتخاذ القبور مساجد"...
-
يعني: بأن يُسجد عليها، ويقول: المسجد يعني: موضع سجود، فيُسجد فوق القبر.
-
وكذلك أن يُدفن إنسانٌ في المسجد؛ فالمسجد إذا كان وقفًا، فيحرم دفن أحد فيه.
-
بخلاف إذا اتسع المسجد حتى وصل إلى عند القبر، فيكون ما حواليه مسجد، كما كان في شأن القبور الثلاثة: قبر الحبيب الأعظم ﷺ وسيدنا أبي بكر وسيدنا عمر، اتسع المسجد فكان المسجد أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وعن شمالهم، من جهة رؤوسهم ومن جهة أرجلهم كله مسجد. وهكذا جاء في الحديث: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا ، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قال: "وعن إيقاد السرج فيها" إلا للحاجة، كمن اضطر إلى الدفن في الليل أو إلى الزيارة في الليل فيحتاج إلى سراج.
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: وكثيرًا ما كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، وحُمِل ذلك على حالين:
-
الحال الأول: ما كان قبل الترخيص في الزيارة.
-
والحال الثاني: على النائحات اللاتي يَزُرْنَ القبور فينُحْنَ على الأموات.
ثم من المعلوم أن زيارة القبور سنة للرجال وللنساء إلا إن كان هناك اختلاط؛ فالاختلاط حرام سواء في زيارة أو في أي اجتماع أو في أي مناسبة، ولا في أي حفل يحرم ولا في أي لقاء يحرم اختلاط النساء بالرجال، أو استعمال النياحة؛ فالنياحة حرام كذلك، وما لا فقد تقدم معنا من زيارة السيدة عائشة للحبيب الأعظم ﷺ ولأبيها أبي بكر وعمر بن الخطاب، وما سألت النبي ما هي تقول إذا زارت المقابر؟ فعلمها الدعاء ﷺ، وما كانت تخرج السيدة فاطمة بضعته الطاهرة إلى أُحُد تزور عم أبيها حمزة بن عبد المطلب في كل خميس، إلى غير ذلك مما جاء؛ فإذا لم يكن شيء من الاختلاط ولا من النياحة، فذلك جائز.
فإذا كانت هناك مصلحة ظاهرة تقتضي الإضاءة كدفن الميت ليلًا فهو جائز أن تكون هناك الإضاءة، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين، وجعل قبورنا وقبور أهالينا والمسلمين والذين أحببناهم فيك روضة من رياض الجنة، وجعل لنا ولهم وقاية من عذابه وجُنّة، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، املأ قلوبنا وقبورنا بنور الإيمان واليقين والإخلاص والرضا والتوفيق والعفو والعافية، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وأعلِ درجات المنتقلة إلى رحمتك في الوهط السيدة الشريفة علوية بنت السيد علوي محمود السقاف، ارفع درجاتها واجمعنا بها في الجنة. وأعلِ الدرجات لصاحب المقبرة الحبيب عمر بن علي السقاف وجميع من في مقبرته، وأدخل عليها وعليهم في قبورهم روحًا منك وسلامًا مِنّا واجعل مستقر أرواحهم في فردوسك الأعلى، لا سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، تقبل جميع حسناتها وضاعف كل حسنة منها إلى ما لا نهاية، تجاوز عن جميع سيئاتها، بدل كل سيئة منها إلى حسنات تامات موصِلات، وتحمل عنا وعنها جميع التَّبِعات، واخلفها فينا وفي الأمة المحمدية بخلفٍ صالحٍ، وارحم موتانا وأحيانا بالرحمةً الوسيعة وارفعنا إلى مراتب قربك الرفيعة، في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
18 شوّال 1446