كشف الغمة- 283- كتاب الجنائز (20) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور -2-
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 283- كتاب الجنائز (20) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور -2-
صباح الأحد 15 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- معنى قول السيدة عائشة عند وفاتها: أستحي من لقائه ﷺ
- حكمة دخول السيدة عائشة الحجرة منتقبة بعد دفن سيدنا عمر
- طريقة دفن الموتى باللحد أو بالشق
- كيف كان لحد النبي ﷺ ؟
- هل الشق أفضل ام اللحد؟
- إذا مات إنسان في البحر
- الذين لا تتغير أجسادهم بعد الموت
- حكم من مات وهم في السفينة في البحر
- حكم إدخال الميت القبر من جهة رأسه
- فك الربط عند وضع الميت
- ما يقال عند حمل الميت
- بسط ثوب على قبر المرأة عند إدخالها
- حرص السيدة فاطمة على الستر بعد وفاتها
- ما يقال عند الحثيات الثلاثة بعد الدفن
- من عجائب أحوال الموتى
- قدر ارتفاع قبر النبي وصاحبيه
نص الدرس مكتوب:
"وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه- دخل جماعة على عائشة -رضي الله عنها- وهي محتضرة يبكون عندها فقال شخص: يا أماه ألا ندفنك عند رسول الله ﷺ؟ فقالت: إني أحدثت بعده ﷺ أمورًا فأنا أستحي من لقائه ﷺ"، وكانت -رضي الله عنها- قبل دفن عمر -رضي الله عنه- تدخل على النبي وأبي بكر تزورهما مكشوفة الوجه فلما دفن عمر -رضي الله عنه- عندهما ما كانت تدخل إلا متنقبة حياء من عمر.
قال أنس -رضي الله عنه-: وكانوا على عهد رسول الله ﷺ بعضهم يدفن في اللحد وبعضهم يدفن في الشق وهو الذي يسمى الضريح فلما مات رسول الله ﷺ اختلفوا هل يجعلوه في اللحد أو الضريح، فأرسلوا إلى رجلين أحدهما يلحد والآخر يضرح وهما أبو عبيدة وأبو طلحة وقالوا: اللهم خر لنبيك، فجاء الذي يَلْحِد وهو أبو طلحة، فحفر وألحدهُ ﷺ، وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللَّحد لنا، والشَّق لغيرنا"، ولما احتُضِر سعد -رضي الله عنه- قال: إذا متُّ فالْحَدوا لي اللحد، وانصِبوا عليَّ اللَّبِن نصبًا، كما صُنع برسول الله ﷺ.
وكان الحسن -رضي الله عنه- يقول: إذا مات إنسان في البحر، ولم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها، غُسِّل وكُفِّن وصُلِّي عليه، وطُرِح في البحر في زنبيل، ومات أبو طلحة في البحر فلم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها وكان لم يتغير، وكان ﷺ يأمر بإدخال الميت القبر من قِبَلِ رأسه وأن يبسط على قبر المرأة ثوب عند إدخالها من فوق السرير وأن يقول من يضع الميت: "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ﷺ وأن يحثي من حضر ثلاث حثيات في القبر من قبل رأسه"، وكان ﷺ يقول: "إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي" .
وكان قبر الرسول ﷺ بعد الدفن، وكذلك قبر أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لا مُشرِفًا ولا لاطئًا، وكان ﷺ يحث على تسوية القبور، أن يُرَشَّ عليها ماءًا لئلا تنسِفَها الرياح".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
جاء محمد بن حسن الأنور المحضار ببعض الروايات التي جاءت في الحديث الذي سألنا أمس أن يُبْحَث عنه، فنقل عن فتح الباري، ورُوي عنها يعني عن عائشة -رضي الله عنها-، وهذه صيغة التمريض كما يقولون، ولكن نقل هذا من فتح الباري "أنها استأذنت النبي ﷺ إن عاشت بعده أن تُدفن إلى جانبه، فقال لها: وأنَّى لكِ بذلك؟ وليس في ذلك الموضع إلا قبري وقبر أبو بكر وعمر وعيسى بن مريم".
ونَقَلْ نقِل آخر عن ابن الأبَّار في التكملة، ويَحتاج إلى دراسة هذا السند، وما قال أهل أسماء الرجال من المحدّثين في هؤلاء، رجال السند الذي ذكرهم ونفسه، قال: "قلتُ للنبي: إني لأُراني إلا سأكون بعدك، فتأذن لي أن أُدفن إلى جانبك؟ قال: وأنَّى لكِ ذاك الموضع؟ ما فيه إلا قبري وقبر أبو بكر وقبر عمر وقبر عيسى بن مريم ﷺ".
وكذلك نقل ذلك صاحب عمدة القاري شرح البخاري أيضًا من التكملة لابن الأبَّار هذا، ونقل كذلك عن ابن عساكر من تاريخه، وهذا أيضًا سند آخر للحديث ويحتاج إلى معرفة ما قال المحدّثون في هذا السند، "إني أَرى أن أعيش من بعدك -أو أُرى-، فتأذن لي أن أُدفن إلى جنبك؟ قال: وأنَّى لي بذلك الموضع؟ ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبو بكر وقبر عمر وقبر عيسى بن مريم"، نقله من تاريخ دمشق لابن عساكر.
أما الجزء الثاني هذا أنها أوصت أن تُدفن في البقيع، هذا صحيح في صحيح البخاري، وإنما سألنا عن الحديث الثاني أنه يقف، "فليقفنّ على قبري أو ليقومنّ على قبري فليُسلِّمَنَّ عليَّ ولأردنّ عليه السلام"، هذا الحديث الثاني الذي نحتاج تخريجه من كتب الحديث.
الحمد لله الذي أكرمنا بشريعته الغرَّاء، وبيانها على لسان خير الورى، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه، وعلى آله الأطهار وصحبه الكُبَراء، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الرّاقين في الفضل والشرف أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الإمام الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بدفن الموتى والقبور، ويذكر لنا ما "قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- دخل جماعة على عائشة -رضي الله عنها- وهي محتضرة يبكون عندها فقال شخص: يا أماه ألا ندفنك عند رسول الله ﷺ؟ -يعنون في حجرته التي قُبر فيها هو وأبو بكر وعمر- فقالت: إني أحدثت بعده ﷺ أمورًا فأنا أستحي من لقائه ﷺ".
-
فعبَّرت بذلك عن كمال أدبها وخشيتها من الحق، كما جاء أيضًا في صحيح البخاري، تحرُّزها من أن تُزكَّى من بقية أمهات المؤمنين، ويُقال: وحدها دُفنت في حجرة رسول الله ﷺ؛ فأمرت أن تُدفن هناك.
-
والأمر الثاني أشارت إليه "أني أستحيي من لقائه"، وكذلك العارفون على قدر معرفتهم وأدبهم مع الحق ورسوله يستحيون، وقال: وكان الإمام عبد الرحمن المشهور عندنا يقول: لو أن أحدًا ممن مضى من السلف قيل لي إنه في الجامع، استحييتُ أن أذهب لمقابلته، لأنه ليس عندي وجهٌ أقابل به، وهكذا تقول السيدة عائشة.
وقال الشُّرَّاح أن ما تشير إليه في كلامها:
-
ما كان من خروجها يوم الجمل، مرورها على كلاب الحَوْأب، وقد كان عاتب على ذلك في حياته، قال: "أيُّكُنَّ تنبحها كلاب الحَوْأب؟" مع خروجها نبحن الكلاب، قالت: ما هذا المكان؟ قالوا لها: الحَوْأب. قالت: ردُّوني. فجاء بعضهم يحلفون لها: أنّ ما هذا الحَوْأب ولا هذا مكان الحَوْأب، وكذبوا عليها. فخرجت فكان لها الموقف في يوم الجمل لأجل أن تصلح بين الفريقين، ولأجل حقن الدماء، فكان ما كان مما روَّج له أو تسبَّب فيه بعض المُغرضين من المنخرطين في صفوف الصحابة، فكان ما كان. فكانت تحفظ هذا العتاب في حياته ﷺ، لما مرَّ عليهن وهن مجتمعات أمهات المؤمنين، وأخذ يتكلم ثم قال: "أيُّكُنَّ تنبحها كلاب الحَوْأب؟"، من منكن اللتي بتنبح عليها الكلاب في منطقة الحَوْأب؟ -كالمعاتب لهن- فكانت السيدة عائشة -عليها رضوان الله تبارك وتعالى-، وارتقت أيضًا إلى المقام الذي أحبت أن لا تُميَّز عن بقية نسائه ﷺ، وهذا واحد.
-
والثاني: بعد ذلك ما حدَّثت بقول: فإني أحدثتُ بعده أمورًا، فأنا أستحيي من لقائه ﷺ، على كل حال هي ستلقاه إن دُفنت في أي مكان، ولكن عاد لقرب المكان هيبة أخرى، ومكان آخر كما هو معلوم.
ثم بعد ذلك هذا الحديث أيضًا الذي -خرَّجوه هنا، ما خرَّجوه عندكم-، "وكانت -رضي الله عنها- قبل دفن عمر -رضي الله عنه- تدخل على النبي وأبي بكر تزورهما مكشوفة الوجه فلما دُفِن عمر -رضي الله عنه- عندهما ما كانت تدخل إلا متنقبة حياء من عمر".
وهكذا جاء عنها في رواية قالت: كنتُ أدخل أزور رسول الله ﷺ حين تُوفي غير مُنتَقِبة، وأقول: إنما هو زوجي، ولما دُفن أبي كذلك -أبو بكر- فكنت أزورهما، وفيه زيارة النساء أيضًا للقبور:
-
وأن فقه السيدة عائشة فهمت من الرسول ﷺ أنه ما نهى النساء إلا عن النياحة عند القبور، أو كأن ذلك قبل النسخ، ثم جاء الحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".
-
بل وصحَّ عنها أيضًا أنها سألته في حياته: ما أقول إذا أنا زرت المقابر؟ فقال: قولي: السلام عليكم... وعلَّمها السلام، وما أنكر الزيارة.
-
كما صح في الحديث أنه وجد المرأة جالسة على قبر تبكي، فمر عليها وقال: اتقِ الله واصبري، ولم ينهها عن زيارة القبر.
فعُلم بذلك ما كان، أما موضوع الاختلاط أو النياحة فهي محرمة، إن كان سواء عند قبر أو عند غير قبر، يحرم اختلاط النساء بالرجال، وكذلك النياحة حرام عند القبر، أو عند غير القبر وهكذا.
قالت: فلما دُفن عمر ما دخلتُ -يعني الحجرة-، لأنها كانت ساكنة في حجرة بجانبها، البيت الذي كانت فيه كان فيه الغرفتين في الحجرة هذه، فكان هذه الغرفة التي توفي فيها ﷺ مدفنه الكريم، وبجانبها حجرة أخرى أو غرفة كانت تجلس فيها السيدة عائشة وتعيش فيها، وتخرج من غرفتها إلى هذه الحجرة لتزور القبور، قال: فلما دُفن عمر عند أبي وعند رسول الله ﷺ، لم أدخل إلا مشدودةً عليَّ ثيابي، حياءًا من عمر.
وفي هذا بيان عقيدة الصحابة فيما أخذوه عن النبي ﷺ:
-
أن الموتى ينظرون الحي لما يزورهم، وكيف تستحيي منهم إذا كان ما ينظروا؟ فقالت: ما أدخل إلا مشدودةً عليَّ ثيابي، حياءًا من عمر، وفي هذا اللفظ: ما كانت تدخل إلا متنقبةً حياءًا من عمر.
-
وجاء أيضًا في بعض الأخبار عن بعض الصحابة والتابعين يقول: ما أبالي أن أكون أقضي حاجتي في السوق بين الناس أو عند المقابر، يعني: كما يشوفونا يتفرجون عليَّ أهل السوق، القبور كذلك يتفرجون عليَّ إذا أنا جيت عندهم، وجئت بينهم.
-
وفي تعليمنا السلام على الموتى كذلك ما يُشعِر بأنهم يسمعون سلام المسلِّم عليهم.
يقول: "قال أنس -رضي الله عنه-: وكانوا على عهد رسول الله ﷺ بعضهم يدفن في اللحد وبعضهم يدفن في الشق وهو الذي يسمى الضريح".
وهذه طريقة دفن الموتى إما باللَّحد وإما بالشَّق:
-
فاللَّحد: إذا وصل إلى أسفل القبر -إلى أرضية القبر- يحفر في أسفل القبر حائط القبر الذي من جهة القبلة، مكان يسع الميت، ويُدخل فيه الميت. ويُجعل ذلك البيت المسقوف، فيُسد، ثم يكون الدفن في جانبه، فإنما ينهال التراب على الأرضية، لا على الموضع الذي فيه الميت.
-
وهذا هو اللَّحد، وهو الأفضل في الأماكن الصلبة التي يُؤمَن فيها من انهيال التراب على الميت، في الأرض إذا كانت قوية صلبة، فيكون اللَّحد أفضل، كما هو عند الجمهور.
-
وإن قال الحنابلة: إن كانت رخوة لا يثبت اللَّحد فيها استُعمِل الشَّق، وإن أمكن يُجعل فيها اللَّحد من جنادل ولبِن ونحوها، قال: فهو أفضل ولا يُعدَل إلى الشَّق.
-
لكن يقول المالكية والشافعية: إن كانت الأرض رخوة يُخشى من انهيال التراب على الميت، فالأفضل الشَّق، وإن كانت الأرض صلبة قوية، فالأفضل اللَّحد.
-
والشَّق: أن يوضع الميت في أرضية القبر، ثم يُبنى عليه ما يستره ويغطيه، ثم يُهال عليه التراب، فهذا هو الشَّق.
وفي الحديث: "اللَّحدُ لنا" -يعني: أهل المدينة لأن الأرض صلبة عندهم قوية- "والشَّقُّ لغيرنا"، يعني: من الأماكن اللي أراضيهم رخوة، ما يستقيم فيها اللَّحد، فيكون الشَّق.
إذًا: "قال أنس -رضي الله عنه-: وكانوا على عهد رسول الله ﷺ بعضهم يدفن في اللحد وبعضهم يدفن في الشق وهو الذي يسمى الضريح"، "فلما مات رسول الله ﷺ اختلفوا -الذين حواليه من الصحابة وأهل بيته- هل يجعلوه في اللحد أو الضريح -الشَّق-؟ فأرسلوا إلى رجلين، -يعني ممن يشتغلون بدفن الموتى- أحدهما يُلْحِد والآخر يَضْرَح، وهما أبو عبيدة وأبو طلحة، وقالوا: اللهم خِرْ لنبيك، -اللي يجي الأول منهم، إن كان صاحب اللَّحد يَلْحَد، وإن كان صاحب الشَّق يَضْرَح، اختر لنبيك-، فجاء -صاحب اللَّحد- فجاء الذي يَلْحِد وهو أبو طلحة، فحفر وألحدهُ ﷺ"، -يعني جعل في أرضية القبر أسفله فتحة إلى جهة القبلة، وضعه فيها ﷺ.
قال: "فجاء الذي يَلْحِد وهو أبو طلحة، فحفر وألحدهُ ﷺ، وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللَّحد لنا، والشَّق لغيرنا"، ولما احتُضِر سعد -رضي الله عنه- قال: إذا متُّ فالْحَدوا لي اللحد، وانصِبوا عليَّ اللَّبِن نصبًا، كما صُنع برسول الله ﷺ".
فهذا الشَّق:
-
يقول الأئمة الثلاثة: أنه يُحفر في وسط القبر حفيرة يُوضع الميت فيها، ويُبنى جانباها باللَّبِن أو غيره، ويُسقَّف عليه.
-
قال المالكية: الشَّق: هو أن يُحفر في أسفل القبر، أضيق من أعلاه بقدر ما يسع الميت، ثم يُغطَّى فم الشَّق.
وعلى أي حال غير اللَّحد هو الشَّق، بأن يكون الميت في موضع يُسقف عليه، سواء من الذي بجوانب أصل الحفرة، أو لبِن يُرفع من جوانبه حتى يُسد، فكل هذا شق، والثاني اللَّحد.
-
وهكذا يقول الحنفية: إن كانت الأرض رخوة فلا بأس بالشَّق.
-
قال المالكية والشافعية: إذا كانت الأرض رخوة فالشَّق أفضل، وإذا كانت صلبة، فاللَّحد أفضل.
يقول: "وكان الحسن -رضي الله عنه- يقول: إذا مات إنسان في البحر، ولم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها، غُسِّل وكُفِّن وصُلِّي عليه، وطُرِح في البحر في زنبيل"، وهكذا.
وقال: إن أبا طلحة توفي وهم في السفينة في البحر، "فلم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام"، لكن خلال سبعة أيام لم يتغير رائحته ولم يتأثر، وهذا أيضًا من الحالات التي يُكرم الله بها بعض أوليائه، والمقربين عنده أنّ أجسادهم ما تتغير، ولا يأكلها التراب، وهذا مثل:
-
الأنبياء.
-
ومثل الشهداء في سبيل الله.
-
ومثل من امتزجت محبة الحق ورسوله بدمائهم، وخامرتْ جميع أجزائهم.
-
مثل العلماء العاملين بعلمهم المخلصين لوجه ربهم.
-
ومثل حفظة القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه.
-
ومثل المؤذن سبع سنوات بمسجد -محتسبًا لله تعالى-، فهؤلاء ممن لا تأكل الأرض أجسادهم، وأيضًا لا تتغير رائحة أجسادهم، ولو جلسوا مئات السنين.
وهذا سيدنا أبو طلحة هم وإياه بعد ما مات في البحر سبعة أيام، ولم يظهر عليه أثر، ولم يتغير حتى وصلوا إلى الجزيرة بعد سبع أيام فدفنوه فيها، لا إله إلا الله.
فهذا بعض الأصفياء هكذا يجعل الله آثار أجسادهم، وليس من نقص لمن لم تكن فيه هذه الخصوصية، ما عليه نقص إذا له درجات عند الله تعالى، ومثوبات باعتبارات أخر، ممن تأكل الأرض أجسادهم. وربما زاد في الدرجة بعض من تأكل الأرض أجسادهم على بعض من لا تأكل الأرض أجسادهم، فإنما هي خصوصية خصَّ الله بها بعض أصفيائه، وبعض أوليائه، وهي عامة لجميع الأنبياء.
-
"إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادنا معاشر الأنبياء"، صلوات الله وسلامه عليهم.
-
وفي الحديث الآخر أيضًا الوارد بإسناد صحيح: "الأنبياء أحياءٌ في قبورهم يصلّون".
إذًا فهذا حكم من مات وهم في السفينة في البحر:
-
فمهما أمكن دفنه بالبر، فلا يجوز وضعه في البحر؛ ويلزمهم تأخير دفنه ليدفنوه.
-
إلا أن يتعذر ذلك ويخشون عليه الفساد والتغير، فحينئذٍ يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه ويُلقى في البحر.
وتقدم معنا ما أشار إليه الشافعي:
-
أنه إذا كان السواحل حواليهم أرض كفار، فيُوضع عليه مُثَقِّل حتى يغوص.
-
وإن كانت أراضي مسلمين، يُوضع بين خشبتين وتُترك حتى تدفعه الأمواج، فلعلَّه يصل إلى بر يجد من يدفنه فيه.
-
وهكذا قال الحنابلة أيضًا: أنه يُثَقَّل حتى يغوص في البحر.
يقول: "وكان ﷺ يأمر بإدخال الميت القبر من قِبَل رأسه، وأن يُبسط على قبر المرأة ثوبٌ عند إدخالها من فوق السرير"، فيُستحب أن يُدخل الميت القبر على كيفية مخصوصة، جاء اجتهاد الأئمة فيها:
-
فالحنفية يقولون: يُستحب أن يُدخل الميت من قِبَل القبلة، أن يُوضع الميت جهة القبلة، ويُحمل ويُلحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ، وهذا أيضًا يُروى عن سيدنا علي.
-
قال المالكية: لا بأس يُدخل الميت في قبره من أي ناحية كان، والقِبلة أولى.
-
يقول الشافعية والحنابلة: يُستحب أن يُسَلَّ الميت، بأن يُوضع عند جنازته عند آخر القبر، ثم يُسَلُّ من قِبَل رأسه، ثم يُدلَّى إلى القبر، والأولى أن يُدلَّى رجلاه أولًا، فيُسَلُّ من جهة رأسه، ويُؤخذ إلى طرف القبر الثاني، ثم تُدلَّى رجلاه، فتكون رجلاه الرجلين أنزل من الرأس، حتى يصل إلى الأرض برفق، يُوضع باحترام لكرامة ذلك الميت، فيُسَلُّ من قِبَل رأسه.
-
وفي قول آخر: يُوضع عند رأس القبر -أي: يُسَلُّ من رجليه على طوله- تكون هي المدلاة.
ولكن هذا غير المعتمد عند الشافعية؛ ولكن إذا عند الحاجة، وعمل به الحبيب عمر بن عبد الرحمن فيه في نواحي حريضة ودوعن، يضعونه من جهة رأس القبر ويُسَل من قِبَل رجليه. ومعتمد الشافعية: أنه ينبغي أن يُسَلَّ من قِبَل رأسه، بأن يُوضع في مؤخرة القبر، ثم يُسَلَّ من قِبَل رأسه، ولا يُدلَّى رأسه أولًا، بل يُؤخذ إلى الطرف الثاني ثم تُدلَّى رجلاه أولًا، ويُنزل إلى القبر برفق حتى يصل إلى الأرض، وحينئذٍ يُوضع مستقبل القبلة.
ويُفَك ما كان من عُصُب، لأن هذه العُصُب والرُّبُط إنما يُحتاج إليها أثناء حمله خشيةً من أن ينفك الكفن، فإذا وصل القبر أُبعِدت هذه العُصُب والرُّبُط، وكُشِف عن خدِّه تواضعًا وتذللًا لله، استرحامًا واستعطافًا له، فيُوضع على التراب، وينبغي أن يوضع من جهة خدِّه لبِنة ونحوها، يُفضى بها إلى التراب.
ويقولون عند حمله ووضعه:
-
بسم الله وعلى مِلَّة رسول الله.
-
وفي لفظ: بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله.
-
وفي لفظ: بسم الله وبالله، وعلى سُنَّة رسول الله ﷺ.
فيقول: "وكان ﷺ يأمر بإدخال الميت القبر من قِبَل رأسه، وأن يُبسط على قبر المرأة ثوبٌ عند إدخالها"، -وهكذا محافظة على الستر-، إذا أُخذت المرأة للدفن يكون هناك ثوب، مثل هذا الذي يوضع الآن على الجنازة، فيكون مستورة عنده، ثم يُنشَر هذا الثوب فوق القبر بحيث لا يراها، ولا يرى جسدها إلا من يباشر وضعها في القبر.
وهكذا كان استحسان السيدة فاطمة -عليها رضوان الله- لمّا كانوا يضعون الموتى فوق الأسِرَّة والجنائز غير مستورة، فرأت أنه يظهر حجم جسد الإنسان، فما كانت تحب هذا، فحدثتها أسماء بنت عُميس عن الحبشة أنهم يضعون أعواد فوق السرير ويسترونه، فأحبَّت ذلك، وأوصت أن يُفعل بها ذلك، حرصًا على الستر بعد الوفاة من أن يظهر حجم الجسد، وهي مكفَّنة؛ ولكن حجم الجسد؛ فما أعجب تربية محمد ﷺ لمن حواليه!
فما ذُكر من كيفية الدفن هو لأجل الاستحباب، ما هو الأحق، وإلا من أي جهة أدخلوا الميت القبر كفى ذلك، ولكن هذا الأفضل، لا إله إلا الله.
ثم يَحُل عقد الكفن للاستغناء عنها، ويُسوَّى اللَّبِن على اللَّحد، وإن كان هناك فُرَج تُسَد بمَدَر وقصب، وغير ذلك.
ويقول: في ذكر أحوال بعض الموتى، لأن شؤون البرزخ والآخرة فيها أطوار وعجائب، وتختلف أحوال الناس فيها، المسلمون والكفار، الكفار بين أنواع العذاب والصدمات والوحشات، والمؤمنون بين أنواع اللطف والتيسير من ربهم -سبحانه وتعالى- والعناية.
ويقول أورد هذا الحديث بعدما حثَّ على أن "يقول من يضع الميت: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، وأن يحثيَ من حضر ثلاث حثيات من كان حوالي القبر، ثلاث حثيات في القبر من قِبَل رأسه". ويقول في هذه الثلاث الحثيات، كما أشرنا، وما ذكره الإمام النووي وغيره في المجموع:
يقول في الحثية الأولى: منها خلقناكم.
وفي الثانية: وفيها نعيدكم.
وفي الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وقيل أيضًا يدعو:
ويقول في عند الحثية الأولى: اللهم جافِ الأرض عن جنبيه.
وفي الثانية: اللهم افتح أبواب السماء لروحه.
في الثالثة: اللهم زوِّجه من الحور العين، وإن كانت امرأة يقول: اللهم أدخلها الجنة برحمتك، فيُبدأ بالحثيات، ثم يُهال التراب عليه.
وكان ﷺ يقول: "إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي" .
يقول: "وكان ﷺ -يذكر حالة من حالات بعض الموتى- يقول: إذا أُدخل الميت القبر، مُثِلت له الشمس عند غروبها"، توقَّع أن الآن وقت غروب الشمس، وهو مشتغل في حياته وقت الغروب بالصلاة -صلاة المغرب- فيتبادر إلى ذهنه -وهو في القبر- حين أن وقت غروب الشمس، كأن الشمس وقت غروبها، فيفكِّر في الصلاة. "قال: فيجلس يمسح عينيه يقول: دعوني أصلي"، فيكون هذا من تثبيت الله له، وحتى الملائكة بعدين خلاص ما عاد يناقشونه في السؤال هذا بيصلي! وهكذا.
هذا من الأحوال التي تقع لبعض الموتى، ولما رُؤي بعض الصالحين كان حريصًا على السنة، كان إذا لا ينام إلا والسواك عنده، أول ما يستيقظ يحمد الله ويأتي بالدعاء المأثور ويستاك، فلما رُدَّت إليه روحه في القبر، تخيَّل أنه قائم من النوم ويبحث، يقول: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، ويبحث، يقول له الملك: ما تبحث؟ يقول: السواك! أين السواك؟ يقول لصاحبه: ما تقول لهذا؟ تسأله ايش؟ قد جاوب عليك، قال: الحمد لله أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، مؤمن. قال له: بس ايش عادك بتعمل؟ قال له: ما فعل بك؟ قال: لما وُضعتُ في قبري، دخلت الروح، ظننت أني قمت من النوم. قال: جعلت أبحث عن السواك، أنا أقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، قال: والملكان أمامي، واحد يقول للواحد: عمَّ تبحث؟ يقول: عن السواك، قال: فقال لصاحبه: ما تقول في هذا؟ تسأله ماذا؟ قد لُقِّن حجته، تسمعه إيش يقول: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، مؤمن؛ بسبب محافظته على السنة في حياته، أُكرِم وقت قبره بهذا.
وهكذا تختلف أحوال الناس عند القبر وعند الوضع، في ما يخطر على بالهم وما ينازلهم وما يثبتهم الله به، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27] أو ما تلحقه - والعياذ بالله - بعضهم سيئته ومعصيته، وتحيط به خطيئته، فيسير على حال سيء -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
جعل الله قبورنا رياضًا من رياض جنته.
"وكان قبر الرسول ﷺ بعد الدفن، وكذلك قبر أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لا مُشرِفًا" -مرتفعًا كثيرًا- "ولا لاطئًا" -بالأرض- بل السنة أن يُردَّ إليه القبر التراب الذي خرج منه، فيرتفع عن الأرض مقدار شبر ونحو ذلك، يزيد أو ينقص قليل.
"كان ﷺ يحث على تسوية القبور، أن يُرَشَّ عليها ماءًا لئلا تنسِفَها الرياح"، إلى آخر ما يذكر فيما يتعلق بأحوال القبور والأحكام المتصلة بذلك.
جعلنا الله ممن يحييهم حياة السعداء، حياة من يحب بقاءه، ويتوفاهم وفاة الشهداء، ووفاة من يحب لقاءه، وأصلح شؤوننا والمسلمين بما أصلح به شؤون الصالحين، بيقين وتمكين مكين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
15 شوّال 1446