صِلة الأقربين - 9 - فصل: (لا بد للعبد في كل أحواله من ثلاثة أشياء بها نظام الدِّين)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين للإمام عبدالله بن حسين بن طاهر رحمه الله، ضمن ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار رضي الله عنهم لعام 1445هـ - الأردن

الإثنين: 13 جمادى الأولى 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

فَصلٌ

 

لا بد للعبد في كل أحواله من ثلاثة أشياء بها نظام الدِّين: 

الأول: النية ، فلا يفعل ولا يترك إلا لله وحده مخلصًا صادقًا . ويبقى على ذلك إلى فراغ العمل، وينوي بالمباح التعفف والتحصن عن المكاره له ولذويه، وأداء الحقوق، والتقوي على طاعته، وجبر الخاطر ونحو ذلك، ولا تؤثر النية في المعاصي شيئًا.

الثاني: الفكر في عجائب صنع الله في ملكه وملكوته؛ من أملاكٍ وأفلاكٍ، وأنوارٍ وظلماتٍ، وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ ممَّا يعلمه وما لا يعلمه أكثر وأكبر، وما تضمنت أجزاء ذلك من دقائق الحِكَم والكمالات؛ فلا نقص في ذرَّةٍ من ذلك مع اتساعه وكثرته، وتعدد أجناسه وأنواعه، مع التدبير لدقيق ذلك وجليله في كل لحظة ممّا يدلك على أنه العليم القدير، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وهذا بحرٌ تنقطع دون طرفه الأعمار؛ وهو باب المعرفة فالزمه بالفكر الصافي تجده المشرب الشافي.

وكذلك تفكَّر في قرب الأجل وإنه غير معلومٍ بل يأتي بغتة لا في سِنٍّ مخصوصٍ، ولا ينفع معه الندم، وإنه وإن طال العمر؛ فكل ساعةٍ محسوبةٌ له أو عليه، فإمّا بطاعة .. فله، أو غيرها .. فندامة لا تنقطع، فكم من امرىء نال أمله من الدنيا فلم يغنِ عنه شيئًا لما مات؟!

الثالث: ألا يأخذ من الدنيا فوق ما يكفيه؛ له ولمن عليه مؤونته: من نفقةٍ وكسوةٍ ومسكنٍ بقدر الحاجة والقنوع؛ فإنَّ من أخذ فوق ما يكفيه . . أخذ حتفه وهو لا يشعر. ومن عرف الموت - وأنه باب الآخرة، وأن كثرة الدنيا ضارةٌ؛ فإن حلالها حسابٌ وحرامها عقابٌ- .. سَهُل عليه ذلك واكتفى منها بزاد الراكب، فيزهد إن قدر، وإلا .. فليقنع، وإلا .. فليُصابر.

 فالزهد: عزوف النفس عن الدنيا إلا ما يحتاج إليه للضرورة.

 والقناعة: السكون على ما قُسِمَ له من غير تطلُّع إلى غيره وإن لم يكرهه.

والمصابرة: إلزام النَّفْس ذلك مع الكراهة ، وكل ذلك حسنٌ، ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا."

 

الحمد لله مُكرمنا بهذا الشرع وهذا الدين، وهذا المنهج العظيم القويم، منهج زين الوجود محمد ﷺ الموصل إلى الرحمن وإلى اللطف والإطمئنان وإلى النجاة والأمان، وإلى خيرات الدنيا والآخرة في كل قاصٍ ودان. اللهم لك الحمد على نعمة هذه الشريعة فارفعنا في درجاتها الرفيعة، واجعلنا من المستقيمين على منهاجها، وصلِّ وسلِّم على من جاءنا بها خير خلقك وأجلِّ عبادك وأكرمهم عليك سيدنا محمد، وعلى آله المطهّرين وأصحابه الغرّ الميامين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

ثلاث خِصال ينتظم بها الدين

ويتكلم الشيخ -عليه رضوان الله- في هذا الفصل عن نظام الدين وما ينتظم ويقوم به على الوجه الحَسَن لكلِّ مؤمن، فقال: عليه أن يلاحظ ثلاث خصالٍ في أحواله وشؤونه كلها لينتظم له أمر دينه بينه وبين ربِّه، ويصلح شأنه وحاله في سِرّه وإعلانه، قال:

  • الأول: النية وتفقدها والنظر فيها. 
  • والثانية: تقويم الفكر واستقامته وتوجيهه إلى فوق وإلى ما ينفع. 
  • والثالثة: أن لا يتطلع إلى ما زاد عن الحاجة من المتع الفانيات، وما ناله منها يصرفه في محله. 

فبهذه الثلاثة الأوصاف والخصال ينتظم أمر الدين فأولها "النية"، ولقد قال خير البرية: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، يترقى فيها المؤمن من العزم على الطاعة عند القيام بكل طاعة.. إلى قصد وجه الله تبارك وتعالى في كل عمل.. إلى الحضور مع الله تبارك وتعالى حتى في المباحات وفي الأمور العاديات من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ومسكنٍ ونومٍ وقيامٍ وإلى غير ذلك. 

 

النية ومسلك الصالحين في التربية عليها

فالنية؛ أمرها عظيم، ويجتهد القاطع للطريق عدو الله أن يغيّرها مهما توصّل إلى ذلك بأي سبب، وقد يجمع المؤمن نيات صالحات ولا يقوى إبليس على أن يصدّه عن ذلك أو أن يُبعده ولكن يترقّب لحظات فتوره أو طروّ حالات يصرف فيها نيته ويقلبها. لذا قال بعض العارفين: لي في المكابدة والمجاهدة ثلاثين سنة ما رأيت أصعب من النية؛ قال: لأنها تتغير تنقلب، فياربِّ ثبت قلوبنا وارزقنا النيات الصالحات.

قال: تنتهي النية عند المؤمن أن "لا يفعل ولا يترك إلا لله وحده مخلصًا صادقًا"؛ وهذا الترقّي يأتي بعد:

  •  إحكام الأصول والأساس والأوائل. 
  • إحكام تنقية القلب عن إرادة غير الله سبحانه وتعالى في الأعمال الصالحات بأصنافها. 
  • وتنمية شهود نظره إليه واطّلاعه عليه -سبحانه وتعالى-. 

فبذلك يصل إلى الدرجات العلى في أن لا تكون له حركة ولا سكون إلا وهو ينوي بها وجه الذي يعلم ما يُسرّون وما يعلنون -سبحانه وتعالى-؛ حتى كان لهم في كل لباسٍ يلبسونه من النيات، وفي كل أكل يأكلونه إلى غير ذلك.

قال: "ويبقى على ذلك إلى فراغ العمل"، أي: تدوم النية لا تنقطع ولا تنصرف ولا تنحرف، "وينوي بالمباح" بأنواع المباحات التي تصادفه في الحياة أمثال: "التعفف والتحصن عن المكاره كلها له ولذويه، وأداء الحقوق، والتقوي على الطاعة، وجبر الخاطر"، إدخال السرور على قلوب المسلمين، ترويح النفس لتتـنـشّط للعبادة، اعتقاد إحلال ما أحلّ الله -تبارك وتعالى- ونحو ذلك من النيات الصالحة في المباحات، هذه في المباحات وهكذا وكانوا يربون أولادهم على النيات الصالحة ويعلمونهم إياها.

وكان أحدهم يبعث ولده إلى حاجةٍ يرسلها إلى أحدٍ من أقاربهم أو غيرهم، فإذا أراد الخروج يقول يا ولد: إذا وجدت أعمى في الطريق خُذ بيده؛ أوصله إلى محله.. إذا وجدت في الطريق أذىً أبعِده من الطريق.. إذا وجدت باب مسجدٍ مفتوح فردّه حتى لا يدخل إليه حيوان.. إذا وجدت أحدًا من صغير أو كبير ابدأه بالسلام..  وإذا وجدت أكبر منك فاطلب منه الدعاء.. إذا وصلت إلى البيت الذي أرسلناك إليه استأذن، واجعل نظرك مصروف عن محل البيت حتى يفتحوا لك ويأذنوا لك، وسمّي الله عند الدخول وسلّم عليهم أول الشيء.. تعرف؟ فيخرج الولد معه كذا كذا نية، وهو مُرسَل في حاجة عادية إلى بيت أحد أو إلى السوق فيخرج، وإذا خرج إلى السوق قل له: واصدق واحذر من التدليس وقل ذكر السوق في السوق، قل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير". فيخرج الطفل وهو معه هذه النيات كلها، إن حصّل أحد.. ما حصّل أحد في الطريق.. النية قد ثبتت، وهكذا يربّونهم على النيات.

ولما كان بعضهم جالس مع أولاده وأهله، وإذا بصوت خارج البيت قام واحد وأشرَف من النافذة، فلما رجع قال: ولدي بأي نية قمت؟ مجرّد الفضول أو لك نية؟! وأخذ يصلّح له درس عن قيامه هذا إلى أن أشرَف من النافذة يرى الصوت حتى يتعلم النية الصالحة، قال له: لا تقوم مرة أخرى إلا بنيّة صالحة، وبِمقصد حسن، وبإراداتٍ صالحة، وإلا ستظل حبيس الحياة هذه، تلعب بك في أي شيء.. تقدّمك وتأخرك.. لا تتحرك إلا له، ولا تسكن إلا له -سبحانه وتعالى- وهكذا يترقّون في نياتهم.

حتى عَجِب بعضهم لما جاء عند بعض الصالحين كان عندهم مناسبة الزواج، ولكنه لفت نظره الشموع التي أوقدها كأنها كثيرة، وقال له: أخاف يكون في هذا إسراف! قال: أنا قد أحضرت النيات ولي فيها مقاصد، وأي شمعة أسرجتُها لغير الله فأطفِئها! فقام يدور على الشمعة الأولى وينفخ ويضع يده ولا تنطفئ.. وجاء للثانية والثالثة.. قال: لك حالك مع الله، وأنا ما أدخل فضول بينك وبين ربك! ولكن الشاهد أنه كان له نية في إيقاد كل شيء وفي معنى التبعية؛ لا فخر ولا رياء ولا مباهاة ولا مكابرة ولا شيءٍ من ذلك، يرون دقة النيات في الحركات والسكنات. اللهم ارزقنا إخلاص القصد والنية.

 

تأثير النية في الأعمال

 قالوا: وإنما زكت أعمال الصدّيقين بالنية. قال: "ولا تؤثر النية في المعاصي شيئًا"؛ النية تؤثر في الواجبات في المندوبات في المباحات، أما في المعاصي ما تؤثر شيء، ممكن يعمل أي معصية يقول لي نية صالحة؟ نية صالحة في إيش؟! ما يتأتى نية صالحة فيما حرّم الله تبارك وتعالى. قالوا: مثل الذي يحمل عين النجاسة ويغسلها.. ما لك؟ يقول أريدها أن تطهر.. كيف تطهر؟! هذه ما تطهر.. هذه كل ما يصلها من ماء يتنجّس وينزل ينجّسك كذلك؛ لأنها عين نجاسة؛ عين النجاسة ما تطهر! إنما يطهر الشيء الطاهر المتنجّس؛ إذا أصابته النجاسة ممكن تطهّره. وهكذا تؤثر النية في المباحات، تؤثر النية فتحوّلها إلى حسنات، تؤثر النية في الواجبات والسُّنن إما ترفع قَدرها وثوابها، وإما تحبط ثوابها إذا فسدت النية فيها. قال: "ولا تؤثر النية في المعاصي شيئًا"  كما لا يؤثر التطهير والتغسيل في عين النجاسة شيئًا. 

 

ثمرة استقامة الفِكر وكيفية التحقق به

"والثاني: الفكر"، فتقويم الفكر باب من أبواب الرقي، استقامته بسبب كثرة الذكر ينفتح به أبواب في الحضور مع الله، وفي مشاهدة عجائب تقديره وتصويره وتكوينه وتقديمه وتأخيره -جلّ جلاله- فيتأهل صاحب الفكر المستقيم المنوّر الذي حمى باطنه عن التفكير في الخيالات الفاسدة وفي الذنوب وفي المعاصي وما إلى ذلك، وأخذ يفكر في معاني كلام الله، ومعاني عظمة الله المبثوثة آياتها ودلائلها في الوجود وما فيه.. صاحب هذا الفكر يرقى فيتأهّل للدخول مع أهل حقيقة التوحيد، ولهذا يقول: "الفكر في عجائب صنع الله في ملكه وملكوته"؛ المُلك: عالم الغيب، والملكوت: عالم الشهادة، الملكوت ما تدركه الحواس الخمس، والمُلك ما وراء ذلك "..من أملاكٍ وأفلاكٍ، وأنوارٍ وظلماتٍ، وحيوانٍ ونباتٍ"، (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ) [الأنعام:1]، يخرجون وينصرفون عن النظر في آياته ومصنوعاته ليعلموا عظمة الصانع الحكيم، ونجدهم يتمدحون و يتبجّحون بالكائنات ومشيهم معها إلى خصائص فيها أو إلى ما تحمل هذه المواد أو هذه الكائنات من عجائب وغرائب، وينسون صانعها وخالقها وصانعهم وخالقهم -جلّ جلاله- فالعياذ بالله تبارك وتعالى، (وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَايَةٍ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُون) [يوسف:105] بربّهم يعدلون؛ يُعرضون عن سِرّها وعن مقصودها الأساسي في خلقها، ويتبجحون أنهم اكتشفوا فيها كذا وجابوا فيها كذا .. هي من أين أصلًا جاءت؟ وكيف؟ وكيف قام هذا الأمر الذي اكتشفتموه؟ ومن رتّبه ومن دبّره؟ ما يريدون يفكرون في هذا! انحرفوا في الفكر عن إدراك العظمة للمكوّن الخالق الذي خلقهم وخلق المصنوعات، و انحصروا مصنوع في مصنوع، مخلوق في مخلوق، وانحجبوا عن الخالق جلّ جلاله، وهذا إعراض عن آيات الله تبارك وتعالى، (وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ وَمَا یُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ أَفَأَمِنُوۤا۟ أَن تَأۡتِیَهُمۡ غَـٰشِیيَةٌ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ )[يوسف:105-107] والعياذ بالله تبارك وتعالى.

 

التفكّر في مخلوقات الله

يقول: "وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ ممَّا يعلمه وما لا يعلمه أكثر وأكبر"ممّا نعلمه! مهما علمت من كائنات الله ومخلوقات الله فما لا تعلم أكثر وأكبر مما علمت، وأوسع وأمدّ وأجلّ مما علمت، مهما علمت.. فما لم تعلم فوق ما علمت! وهكذا يهديك عقلك إذا تأمّلت لعجائب قدرة هذا القادر، وعظمة هذا الفاطر، وحِكمة هذا المقدّم المؤخر، الرافع الخافض -جلّ جلاله وتعالى في علاه/.

قال: "وما تضمنت أجزاء ذلك" الكائنات "من دقائق الحِكَم والكمالات؛ فلا نقص في ذرَّةٍ من ذلك مع اتساعه وكثرته"، فيقول سبحانه وتعالى: (ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُ)، وفي القراءة الأخرى: (ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلْقَه) [السجدة:7].

يقول: (فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُور ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَیۡنِ یَنقَلِبۡ إِلَیۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئࣰا وَهُوَ حَسِیرࣱ وَلَقَدۡ زَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا بِمَصَـٰبِیحَ وَجَعَلۡنَـٰهَا رُجُومࣰا لِّلشَّیَـٰطِینِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِیرِ) [الملك:3-5]، يقول: (تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلّا وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُور ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲ طِبَاقࣰاۖ مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتࣲ..).

كل نوع من أنواع خلقه متكامل متجانس مرتب منظم، إن جئت للذر) وإن جئت النمل؛ وإن جئت البعوض؛ وإن جئت النحل؛ وأنواع الحيوانات، وإن جئت الأشجار؛ وكيفية نباتها ووقت نباتها وترتيب الوقت وترتيب نوع الثمرة فيها وتلوينها وصبغتها، كل واحد في ذاته وترتيبه كامل متقَن بعجائب! وإن جئت للجمادات وإقامة هذه الجبال وإقامة الأودية بين الجبال، وهذا البحر وهذا البر، وتصريف وتدبير.. ايش المكينة الشغالة لأمواج البحور هذا ليل ونهار وعلى مدى القرون ولا تقف؟ إيش المحرك الذي يحركها؟ إيش الدينمو هذا الذي فيها؟ إيش الدافع هذا الذي يدفعها! مرتب ومقّدر ولا يصلح إلا بهذا، والطعم مالح وغير هذا ما يصلح له، وما يصلح له في الأماكن المعينة من العذب ومن الوسط. الوسط في كثير من أماكن البحار ذا عذب وذا مالح وبينها وسط لا عذب ولا مالح؛ جدار من الماء يمنع ذا يدخل في ذا، وذا يدخل في ذا، ولا يدخل فيه شيء هو، ولا يدخل في شيء من هذا ولا من هذا.. حتى الحيوانات التي تعيش في المالح ما تقدر تدخل للوسط إن دخلت تموت، وهذه التي تعيش في العذب إن دخلت الى الوسط تموت، والذي في الوسط إن راح كذا أو راح كذا يموت، محلّه فقط في هذا المكان في الوسط، تقدير وترتيب بديع عجيب، كل شيء تجد فيه الكمال.. كمال القدرة، كمال الحكمة، كمال التدبير، (مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتࣲ..).

والإنسان ما أعظم العجائب فيه؛ (وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرون) [الذاريات:21]، ولن أقول كُلّك.. خذ العين وحدها، وخذ لك بحر واسع طويل بخلاياها وما فيها، وعجائب كيفية النظر فيها، وخذ الأذن والسمع وحده، وتعال إلى اللسان، وتعال إلى كل عضو من أعضائك.. تجد حكمة بديعة بالغة.. الله أكبر! كماله سائر فكيف يُجهل؟ كيف يُنكر؟ كيف يُجحد؟ كيف يُلحد به؟ -سبحانه وتعالى-.. لا إله إلا الله! (إِنَّ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا لَا یَخۡفَوۡنَ عَلَیۡنَاۤۗ أَفَمَن یُلۡقَىٰ فِی ٱلنَّارِ خَیۡرٌ أَم مَّن یَأۡتِیۤ ءَامِنًا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ) [فصلت:40]، اجعلنا من الآمنين يوم القيامة. 

 

معنى التفكّر في أفعال الله وأسمائه وصفاته

قال: "فلا نقص في ذرَّةٍ من ذلك مع اتساعه وكثرته، وتعدد أجناسه وأنواعه ، مع التدبير لدقيق ذلك وجليله في كل لحظة ممّا يدلك على أنه العليم القدير" -السميع البصير، اللطيف الخبير-  "وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"؛ وهذا التفكر في الأفعال، لا زلت في أفعال الله فقط، وما أفعاله؟ هذه الكائنات الموجودة كلها فعله، باقي له أسماء، باقي له صفات، والذات فوق ذلك كله! وأنت عقلك ما يقدر يحيط بالأفعال هذه، ولا ببعض هذه الأفعال، فكيف يحيط بالأسماء؟ فكيف يحيط بالصفات؟ فكيف يحيط بالذات؟! لذا نادى سيدنا أبوبكر الصديق قال: لا يعرف الله إلا الله! معرفة إحاطة من يعرف؟! سيد العارفين به يقول: "سبحانك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ﷺ.

فهذه فقط في الأفعال الآن، إذا جال الفكر في الأفعال دون الأسماء والصفات، والأفعال إنما هي ظلال للأسماء والصفات؛ هذه الأفعال كلها ظلال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، كلها مندرجة تحت اسمه الخالق الفاطر البديع، وباقي الأسماء تتطلب العجائب التي في هذا الوجود.. السميع البصير اللطيف الخبير القوي القادر الرافع الخافض المقدّم المؤخر… فمعاني هذه الأسماء هي المبثوثة في هذا الوجود؛ فالكائنات والأفعال ظلٌّ للأسماء والصفات، وأمّا الأسماء والصفات فهي ظِلّ الذات، وإذا الوجود الحق له وحده ليس لغيره شيء؛ فما في الوجود والكون إلا الله وأفعاله.. الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ما سواه فهو فعله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، رزقنا كمال التوحيد.

 فإذا كان الفكر في الأفعال وحده يوصل إلى هذه النتائج، قال: "وهذا بحرٌ تنقطع دون طرفه الأعمار.." كم عمرك؟ قال في طرف البحر هذا عادك ما جاوزت الطرف وعمرك بيكمّل. قال الإمام الغزالي -رضي الله عنه-: العالم استوسع مملكة الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. قال: "وهو باب المعرفة" هذا معرفة الأفعال لأنها تفضي إلى معرفة الأسماء والصفات.

 قال: "باب المعرفة فالزمه بالفكر الصافي تجده المشرب الشافي" فإن الفِكر يزيد المعرفة إذا استقام وصحّ وتوجّه إلى ما ينبغي، يزيد المعرفة بالله، بكثرة الذكر يزيد الأنس بالله، وبصفاء الفكر تزيد المعرفة، وإذا زادت المعرفة زادت المحبة؛ المحبة نتيجة المعرفة؛ فالأُنس يزداد بكثرة الذكر والمعرفة تزداد بنور وصفاء الفِكر، ولذا دعانا إلى التفكّر، وهي عبادة كان يغفل عنها كثير من المؤمنين، وهي كانت جلّ عبادات الصحابة: الفِكر؛ الفكر فيما قال، وفيما أخبر، وفيما دلّ عليه وفيما أرشد.. يهيمون في ذلك، يفكرون كثير، حتى كثير من ساعات الليل يستغرقونها في الفِكر، لكن الفكر الصافي الطيّب النقي العالي الرفيع. 

وَصَفٌ مِنَ الأَكدارِ سِرَّكَ إنَّهُ *** إِذا ما صَفا أولاكَ مَعنى مِنَ الفِكرِ

تَطوفُ بِهِ غَيبُ العَوالِمِ كُلِّها *** وَتَسري بِهِ في ظُلمَةِ اللَيلِ إِذا يَسري

قال الإمام شهاب الدين ابن عبد الرحمن:

وغصتُ في الفكر بعد الذكر منغمسًا ** في بحر نورٍ سما سِرّي بها وزَها

غُصتُ في الفكر بعد الذكر.. لما استولى عليه الذكر صار ما عاد له فِكر إلا في المذكور؛ فيستدلّ بكل شيء على مكوّنه وعلى موجده فصفا له الفِكر، وبرز جمال الحقّ وكمال الحق وجلال الحق- جلّ جلاله- في كل شيء.

قال الإمام الحداد: 

واشهَد جمالاً أشرقت أنواره *** في كل شيء ظاهراً لا خافي

بشِّر فؤادك بالنصيب الوافي *** من قُرب ربك واسع الألطاف

الواحد الملك العظيم فلُذ به *** واشرب من التوحيد كاسًا صافي

واشهَد جمالاً أشرقت أنواره *** في كلّ شيءٍ ظاهرًا لا خافي

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ من شيء..) [ الأعراف 185]، قل انظروا.. مَن الذي كوّن؟ مَن الذي دبّر؟ مَن الذي رتّب؟ مَن الذي رفع السماء؟ من الذي سطح الأرض؟ مَن الذي نصب الجبال؟ مَن الذي خلق البحار؟ لا إله إلا هو سبحانه.

 

التفكّر في قِصّر العمر 

قال: "و كذلك تفكَّر في قرب الأجل وإنه غير معلومٍ بل يأتي بغتة" وكم من في سنّك قد مضوا، وكم من أقل منك أصغر منك قد مضوا، وكم أكبر منك قد مضوا.. والحال إنما معبر ما تدري إلى أي حد ينتهي بك وتخرج منه بيقين، لا إله إلا هو. "بل يأتي بغتة لا في سِنٍّ مخصوصٍ" ولا في وقت مخصوص، ولا في مكان مخصوص.

ويذكَر تعجّب سيدنا سليمان -عليه السلام- من ملك الموت، جاء يزوره مرة وإذا به يحدّق النظر في واحد من أصحابه، فتعجّب فيه، وأمر الريح أن تنقل صاحبه هذا إلى الهند، ونقلته إلى الهند بعد أيام وصل ملك الموت يزور سيدنا النبي سليمان، قال له: كنت عندي قبل أيام تنظر إلى فلان! قال: نعم وكنت متعجّب عندي اسمه وأجله في الهند، وهو عندك وباقي ثلاث أيام من أجله، والمسافة من فلسطين إلى الهند ما تُقطع في ثلاث أيام! فتعجبّت أنا مأمور أن أمسك روحه في المكان الفلاني في الهند! ضحك سيدنا سليمان، وقال: لما رأيتك تحدّق النظر إليه أنا أمرت الريح أن تحمله إلى هناك وإذا بي حملته إلى مكان أجله والمكان الذي قضاه الله فيه! 

فسبحانه قدّر الآجال والأماكن والأوقات ولا شيء يزيد ولا ينقص على ما قدّر، ولذا كانوا يقولون أهل المعرفة: الخلق كلهم خَدَمَة القضاء والقدر، مؤمنهم وكافرهم، صغيرهم وكبيرهم، صالحهم وجاحِدهم، كلهم يخدمون القضاء والقدر، ينفّذون المرسوم من أمر الله تعالى في كائناته ويمشي على ما أراد. قال سيدنا الشافعي يخاطب الرب:

وما شئتَ كان وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن  

خلقتَ العباد على ما أردت *** ففي العلم يجري الفتى والمُسِن  

على ذا مننتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعِــن 

  اللهم أعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. 

قال: "ولا ينفع معه" -مع حلول الأجل- "الندم وإنه وإن طال العمر؛ فكل ساعةٍ محسوبةٌ"، إما لصاحبها أو عليه "له أو عليه فإما بطاعة .. فله، أو غيرها .. فندامة لا تنقطع"، والعياذ الله تبارك وتعالى. "فكم من امرئ نال أملهُ من الدنيا فلم يغنِ عنه شيئًا لما مات؟!" وكم من ملكٍ نُصبت له علامات فلما علا.. مات، فلما علا.. مات! لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

 

الكَسب في حال الإقتار والسعة 

"الثالث: ألا يأخذ من الدنيا فوق ما يكفيه"؛ أي: لا يفتح أطماعه على الحرص على الزيادة على ما يكفيه؛ يعني: طلبه للرزق واكتسابه له يكون بقدر ما يحتاج إليه ومَن عليه نفقته وما يترتب عليه من الخير، ثم بعد ذلك:

  •  إن كان ممن قُتِّرَ عليه في الرزق فيقنَع بما يسّره الله له ويطلب مقدار الكفاية.
  •  وإن كان ممن وسّع الله له، فيصرفه في مرضاة الله تبارك وتعالى، وفيما يقرّبه إلى الله وفيما ينفع به خلق الله جلّ جلاله.

 فإن من أوتيَ مالًا فسُلّط على هلكته في الحق ممّن يُغبط، ممن يُحسد؛ أي: يُتمنى أن يكون مثله، وإذا سُلّط على هلكته في الحق لم يشغله عن الله وعن طاعته، ولم يوقِعه في معصية الله، ولم يؤخره عن تكبيرة الإحرام مع الإمام، ولم يقطعه عن ذكر الرحمن -جلّ جلاله- وأنفقه في مرضاة الله. فأمّا أن يكون ممن قُتِّرَ عليهم أو توسّط أمرهم ولكن يمتلئ رغبة في التوسع، أو يكون وُسِّع عليه ويريد وسع فوق الوسع بلا حد ولا حصر، فهذا يعيش مسكين فقير ولو مَلَك الكثير؛ لأنه مفتقر إلى ما وراه ويطلب ما وراه، فلا يزال فقير دائم مسكين، وإن كان خاف الفقر حلَّ عليه الفقر تمامًا، فإن خوف الفقر فقر، الخوف الفقر فقر.. الخوف من الفقر هو فقر في حد ذاته، وهذا ما يغنيه شيء؛ الخائف من الفقر ما يغنيه شيء أبدًا!

إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فاليسير منها يكفيك، وإن أردت فوق ما يكفيك فكل الدنيا ما تكفيك، الدنيا كلها لو جائتك ما تكفيك؛ لأنك تطمع فيها الطمع الذي قال فيه: "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو كان معه ثانٍ لابتغى إليه ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". فنفسح المجال في الرغبات والمقاصد لاكتساب الدرجات العلى ولنفعِ العباد بما نقدر، أما الأموال؛ فمن وسّع الله عليه فيها فلينتبه من أخذها من حِلّها وصرفها في محلها، ويبتغي بها وجه الله تبارك وتعالى، ومن قُتّر عليه فلا يغبط الذين معهم المال إلا من يصرفه في طاعة الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

 

أصناف الناس من حيث حظّهم من العلم والمال

وقال ﷺ في الحديث: "الدنيا لأربعة:.." 

  • "رجلٌ آتاه الله مالًا وعلمًا فهو يعمل في ماله بعلمه؛ يتقرب به إلى الله ويصرفه في طاعته ولا ينقطع به عن الله.."
  • قال: "ورجلٌ آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فيقول لو كان معي مثل فلان لفعلت مثل عمله، قال: فهما في الأجر سواء؛ هذا بعمله وهذا بنيّته.." 
  • قال: "ورجلٌ آتاه الله مالًا ولم يؤتِه علمًا فهو يخبّط في جهله بماله؛ يعصي الله به وينفقه في المعاصي والذنوب والآفات وفي قطيعة الرحم وفي إفساد بين الناس.."
  • قال -الرابع-: "ورجلٌ لم يؤته الله مالًا ولا علمًا، فيقول: لو كان لي مثل فلان لفعلت مثل عمله فهما في الوزر سواء". والعياذ بالله.. 

هذا بعمله وهذا بنيّته، فهم أربعة تكون من أحدهم، فالله يثبّتنا على النيات الصالحات والوجهات الصادقات.  قال: "فأنّ من أخذ فوق ما يكفيه"؛ أي: تعمّد ذلك وسعى إليه وتكلّفه.. "أخذ حتفه وهو لا يشعر"

 

أصناف الناس في الأخذ من الدنيا

"ومن عرف الموت - وأنه باب الآخرة، وأن كثرة الدنيا ضارةٌ؛ فإن حلالها حسابٌ وحرامها عقابٌ- سَهُل عليه ذلك"، سَهُل الأمر عليه وقنع بما آتاه الله تبارك وتعالى، قال: إما أن يكون من الزاهدين أو من القانعين أو من المصابرين،

  •  الزهّاد: من عَزَفت نفوسهم عن الدنيا إلا مقدار الضرورة. 
  • والقانعون: الذين سكنت نفوسهم على ما قَسَم الله لهم من غير تطلّع إلى غيره. 
  • والمصابرون: يُلزم النفس.. ما سَكَنت نفسه بعد ولكن يسكّنها مع الكراهة. 

وكل ذلك حَسَن لهم درجاتٌ عند الله هؤلاء. أمّا لا زاهد ولا قانع ولا مصابر، وراغب فيها من حِلّها أو من حرامها من حيث ما جاءت.. هذا هالك! أما هؤلاء فناجون وفائزون، وبعضهم فوق بعض؛ إما زاهد وإما قانع وإما مصابر فكلّهم لهم درجة في القرب من الله وفي خيرات الدارين. 

 

أصول القربات من النوافل وطلب العلم والذكر

قال رضي الله عنه وعنكم:

فَصلٌ

"ومن أصول القربات في دين الله تعالى صلاة النوافل، وصوم التطوع، وقراءة القرآن، وتعلُّم العلوم النافعة وتعليم ذلك، وذكر الله تعالى وهو جامعها؛ فإنّ كل مطيع ذاكرٌ، ولم تُشرع الأوامر إلا للذكر د، وكذا الدعاء سيّما في مظانِّ الإجابة من الأزمنة والأمكنة والأحوال.

ومنها: صدقة التطوّع ، وهي بما قلّ ، وهي في الأزمنة الفاضلة، وللقريب والجار والمحتاج والصلحاء أفضل.

فَصلٌ

والصلاة خير موضوع، لا تَحْرُم إلا عند الاستواء في غير الجمعة، وبعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وبعد صلاة العصر حتى تغرب إلا ما لها سببٌ غير متأخر، وكذا إذا صعد الخطيب إلا التحية.

وآكدها: صلاة العيدين، والكسوفين، والاستسقاء، ويغتسل ويتنظف لهنَّ، ويتزين للعيدين ، ووقتها من الطلوع - وبعد الارتفاع أحب - إلى الزوال.

وكلهنَّ ركعتان؛ لكن يسنُّ أن يزيد في الخسوفين في كل ركعةٍ قيامًا بعد الركوع يقرأ فيه، ثم يركع ثم يعتدل، وأن يطوّل جدًا قراءتها، وتسبيح الركوع والسجود، والأول فالأول أطول، وأن يزيد في العيدين والاستسقاء تكبيرًا سبعًا في الأولى قبل القراءة ، وخمساً في الثانية يذكر الله بينها، ويجهر إلا في كسوف الشمس."

 

يقول -عليه رحمة الله-: "من أصول القربات" -إلى الله تبارك وتعالى- "صلاة النوافل، وصوم التطوع، وقراءة القرآن"، وفّر الله حظنا منها وتعلم العلوم النافعة.

وخذ من علوم الدين حظًا موفراً *** فبالعلم تسمو في الحياة وفي الحشر

وقال في مسألة هذا العلم:

به يعرف الإنسان حق إلهه *** فيُهدى به الغاوي ويُروى به الصادي

فطلب العلم من أفضل القربات إلى الله، وهذا أيضًا يمكن أن يتصل به كل صاحب مهنة وكل صاحب حِرفة وكل صاحب عمل، في أن يقتطع شيء من أوقاته لمتابعة العلم والحرص عليه، وكم ممّن استفاد من الحلقات ومتابعة الدروس وهو صاحب حِرفة وهو صاحب مهنة وهو صاحب وظيفة ولقِيَ الله تعالى وهو طالبٌ للعلم؛ يطلب العلم و"من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة".

 قال: "وذكر الله تعالى وهو جامعها"، لماذا جامعها؟ قال: لأن مقصود الطاعات حضور القلب مع الله وذكره سبحانه وتعالى، (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ) [طه:14]، يقول -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وجاءنا بالحج قال: (فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتࣲ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ * ثُمَّ أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ* فَإِذَا قَضَیۡتُم مَّنَـٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰا..) [البقرة:198-200]، (إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیرٌ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ * فَإِذَا قُضِیَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ) [الجمعة:9-10]. 

 فكأن المقصود بجميع العبادات هو الذكر؛ أن تكون ذاكرًا لله تبارك وتعالى (وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡدُودَ ٰ⁠تࣲۚ) [البقرة:206]، (وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ) [الحج:28]، قالوا في قوله تعالى: (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ) لذكري، هذا المصدر الذكر مضاف إلى الياء،

  •  فـ (لِذِكۡرِیۤ) أي: لأجل أن تذكرني وتتمكّن أنت في ذكري، فيكون من إضافة المصدر إلى فاعله. 
  • أو (لِذِكۡرِیۤ) أي: من أجل أن أذكرك أنا، تقيم الصلاة من أجل أذكرك تكون مذكور عندي (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ) لأجل أذكرك فيكون من إضافة المصدر إلى مفعوله أو إلى فاعله هكذا يأتي المعنيان (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ).

قال: "فإنّ كل مطيع ذاكرٌ، ولم تُشرع الأوامر إلا للذكر، وكذا الدعاء" فإنه مظهر الذلة والعبودية لله -تبارك وتعالى- خصوصًا "في مظانِّ الإجابة من الأزمنة والأمكنة والأحوال" الأيام الفاضلة والليالي الفاضلة والأشهر الفاضلة والمساجد وأوقات الصلوات وخلف الصلوات وما إلى ذلك. "ومنها: صدقة التطوّع، وهي بما قلّ، وهي في الأزمنة الفاضلة، وللقريب والجار والمحتاج والصلحاء أفضل" ومنها المبادرة في أول النهار بأي صدقة ولو قلّت، "فإنَّ البلاء لا يتخطى الصدقة". 

 

الصلاة وأوقات النهي عنها

وذكر لنا مثال: "الصلاة" -أنها- "خير موضوع"، وإنما تُحرم في أوقاتٍ معينة عيّنها ﷺ. صلاة النافلة وفي الحديث الصحيح "الصلاة خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل". وفي الحديث أيضًا: "من صلّى في كل يومٍ وليلة من غير الفريضة اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرًا في الجنة". قال: "لا تَحْرُم إلا عند الاستواء -لحظة الاستواء- في غير الجمعة"، عند الشافعية ومن وافقهم، يعني: لا يتحرّى بتكبيرة الإحرام لحظة استواء الشمس، لإن هذه إلا لحظة بسيطة ما تسع ركعة إلا مقدار تكبيرة وقت الاستواء؛ أي: لا يتقصد وقت الاستواء فيكبّر فيه تكبيرة إحرام، إلا في يوم الجمعة فإن النار ما تسعّر يوم الجمعة.

"وبعد صلاة الصبح" إذا قد أدّى فريضة الصبح حتى ترتفع الشمس قدر رمح "وبعد صلاة العصر" إذا أدّى صلاة العصر حتى تغرب الشمس فهذه الأوقات تحرم فيه صلاة النوافل المطلقة، وعند الشافعية وبعض الأئمة: 

  • يجوز ما له سبب متقدم، فإمّا له سبب متقدم أو كان قضاءً.
  •  أما النفل المطلق أو ذو سبب متأخر عنه، فيحرم في هذه الأوقات.

 سبب متأخر: مثل سنة الإحرام، الإحرام بعدها، مثل سنة السفر السفر بعدها، فهذه لها سبب متأخر فلا تجوز في هذه الأوقات. بخلاف التي لها سبب متقدّم عنها؛ مثل: سنة الوضوء مثل تحية المسجد. 

  • وإلا الحنفية فعندهم هذه الأوقات ما يجوز فيها صلاة فرض ولا نفل ولا ذو سبب متقدم ولا متأخر ولا نفل مطلق ولا أي شيء، ما يجوز في هذه الأوقات المذكورة.

 قال: آكدها صلاة النوافل. قال: "كذلك إذا صعد الخطيب على المنبر"، فمن كان حاضر في المسجد لا يجوز له أن يقوم فيصلي ويتنفّل، قال: ما دام قلتم الصلاة خير موضوع يترك الخطيب يبدأ في الخطبة وهو يقوم.. ما لك؟ قال: سأصلي، الصلاة خير موضوع!.. الصلاة خير موضوع في هذا الوقت الآن؟ وظيفتك استمع للخطيب ما تصلي! فتحرم عليك الصلاة، إلا للداخل للمسجد يجوز أن يصلي ركعتين قال ﷺ: "وليتجوّز فيهما" يعني يخفّفهم ويسرع فيهما؛ للداخل أما الجالس ما يمكن يقوم يصلي في هذا الوقت، ولا حتى قضاء عليه، ما يجوز لأنه الآن مهمته الاستماع.. استماع الخطبة، فإذا صعد الخطيب المنبر فما تجوز الصلاة لمن وجبت عليه الجمعة ولمن حضر الجمعة، إلا لداخل المسجد يجوز له أن يصلي التحية ركعتين وليخفّفهما.

 

آكد نوافل الصلوات وكيفيتها

قال: آكد النوافل "صلاة العيدين" عيد الفطر وعيد الأضحى من عند طلوع الشمس إلى زوال الشمس، صلاة العيدين اختلفوا في أنها فرض كفاية أو هي سُنّة عين أو هي واجبة، واجب عين كما هو عند الحنفية. "والكسوفين" كسوف الشمس والقمر وتبدأ بالتغيّر وتنتهي بالإنجلاء. "والاستسقاء" إذا قحط الناس واحتاجوا إلى المطر "ويغتسل ويتنظف لصلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء، "ويتزين للعيدين" -ولا يتزين للاستسقاء-، "ووقتها" كلها صلاة العيدين أو الكسوفين أو الاستسقاء "من الطلوع"، طلوع الشمس "-بعد الارتفاع أحب- إلى الزوال" هذه الصلوات المندوبات.

قال: "كلهن ركعتان"، صلاة العيدين صلاة الكسوف والخسوف صلاة الاستسقاء كلها ركعتين "لكن يُسنّ أن يزيد في الخسوفين في كل ركعة قيامًا بعد الركوع"، فتصير في الركعة الواحدة قيامين وركوعين، كما أنه في الصلوات كلها في كل ركعة سجدتان، لكن في صلاة الكسوف يصحّ أن يصليها ركعتين كل ركعة بقيام واحد وركوع واحد، لكن الأفضل أن يجعل كل ركعة بقيامين وركوعين اتباعًا له ﷺ، هذا مخصوص بصلاة الكسوف والخسوف. أما غيرها لو زاد ركوع وقيام بَطَلت صلاته، لكن في الخسوف والكسوف يجوز، بل يُسنّ أن يجعل في كل ركعة ركوعين وقيامين، فإذا ركع يقوم يعتدل فيقرأ الفاتحة وسورة ويركع ثاني مرة، ثم يعتدل ويسجد. وقد قام ﷺ بهم في صلاة الكسوف فقرأ نحو البقرة في الركعة الأولى في القيام الأول وركع فسبّح بمقدار مئة آية، ثم ارتفع ﷺ فقرأ ثاني مرة مقدار سورة آل عمران، ثم ركع وسبح بمقدار ثمانين آية، ثم ارتفع، ثم سجد فسبّح بمقدار مئة آية، ثم جلس، ثم سجد فسبّح بمقدار ثمانين آية، ثم قام إلى الركعة الثانية فقرأ بمقدار سورة النساء، ثم ركع وسبّح بمقدار سبعين آية، ثم ارتفع فقرأ بمقدار سورة المائدة، ثم ركع وسبّح بمقدار خمسين آية، ثم ارتفع، ثم سجد فسبح بمقدار سبعين آية، ثم جلس، ثم سجد فسبّح بمقدار خمسين آية، ثم جلس للتشهد، فهذه أطول كيفية لصلاة الكسوف والخسوف. ودون هذه أن يجعل في كل ركعة قيامين وركوعين بدون تطويل؛ يقرأ من أوساط المفصل أو من قصار السور، وأقل من هذا يصلّيها ركعتين كل ركعة فيها قيام واحد وركوع واحد.

بعد ذلك قال: "وأن يطوّل جداً قراءتها، وتسبيح الركوع والسجود، والأول فالأول أطول" -كما ذكرنا- "وأن يزيد في العيدين والاستسقاء تكبيرًا" -سبع تكبيرات قبل الفاتحة- "قبل القراءة"، وفي الركعة الثانية: خمس تكبيرات أيضًا قبل الفاتحة عند الجمهور وعند بعض الأئمة بعد القراءة، قبل الركوع خمس تكبيرات في الركعة الثانية، وسبع تكبيرات في الركعة الأولى. "قال: ويجهر" في العيدين وفي صلاة خسوف القمر في الاستسقاء، لا كسوف الشمس كسوف الشمس فإنه يسر فيها يسر فيها.

 

قال رضي الله عنه وعنكم:

 "ثم الوتر بعد صلاة العشاء إلى الفجر ، أقله ركعة، وأدنى الكمال ثلاث، وأكثره إحدى عشرة 

والتراويح عشرون ، والضحى من ركعتين إلى ثمانٍ بعد ارتفاع الشمس إلى الاستواء.

ورواتب الفرائض ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر وأربع بعده، وأربع قبل العصر ، وركعتان قبل المغرب وركعتان بعده ، وكذا العشاء ، وتحية المسجد ركعتان، وقيام الليل بما اتفق ولو بالذكر والدعاء والاستغفار، وإحياء ما بين العشاءين بصلاةٍ، وإلا .. فبعبادة.

 

فَصلٌ

ويتأكد صوم يوم عرفة، وعاشوراء وتاسوعاء، وثلاثة أيام من كل شهر ، والبيض أحب، وست شوّال ، وكثرة الصوم في الأشهر الحرم.

ثم قال في آخره: "وقد رأيتُ أن أختم الكتاب بثلاث قواعد هي أصول الطريق إلى الله تعالى:

الأولى: الاً يأكل إلا بقدر ما يحفظ العقل والقوة، ولا ينام إلا عند الغلبة، ولا يتكلم إلا في ضرورة أو حاجةٍ، ولا يجالس الناس إلا لما لا بدَّ منه أو في فائدة شرعية.

الثانية: مخالفة النفس في كل حظٍّ إلّا ما لا بدّ منه، أو ندب الشرع إليه، ودوام الذكر، وحضور القلب مع الله فيه.

الثالثة: خروجه من حظوظه وإرادته إلى مطلوب الله منه في الأفعال، وتسليمه له في المقادير، والتفويض إليه في تدبير أموره إلا فيما أمره به من كسبٍ أو عمل بما اقتضاه حاله في السلوك، ومن كان الله له .. كفاه ، وكفى بالله حسيباً. انتهى ما يسَّر الله نقله من كتاب "الموجز المبين" للشيخ عبد الله بن محمد باقشير الحضرمي مع اختصارٍ، بعضه بلفظه وبعضه بمعناه. وقد أزيد كلمات نادرًا؛ لزيادة إيضاح أو فائدة."

 

صلاة الوتر وأحكامها

ذكر لنا صلاة الوتر وهي أيضًا من المؤكدات من النوافل قال بوجوبها بعض الصحابة والحنفية، قالوا: أنه لايجوز أن يطلع عليه الفجر ولم يصلّي ثلاثًا من الوتر، فأقلّ ما يُذهب عنه الإثم عندهم ويتأدّى به الواجب: ثلاث ركعات. وقال: غيرهم إنما هي سُنّة، وإنما الواجب فقط المفروض الصلوات الخمس. وهي سُنّة ولكنها مؤكدة،

  • أدنى الكمال فيها: ثلاث. 
  • وإن كان أقلها: ركعة، ويكره المواظبة على ركعة واحدة، فأدنى الكمال ثلاث. 
  • ويمكن أن تكون خمس أو سبع أو تسع. 
  • وأكملها إحدى عشرة ركعة في كل ليلة. 
  • يمكن أن يصليها بسلامٍ واحد 
  • ويمكن أن يُسلّم من كل ركعتين وهو أفضل، 
  • وكذلك في الثلاث الأخيرة: يُمكن أن تكون بسلام واحد. 
  • ويمكن أن يفصل بينها بأن يُسلم من ركعتين ويصلي ركعة وحدها، وذلك كله واسع. 
  • واستحب الحنفية جعلها مثل صلاة المغرب ثلاث ركعات بتشهدين بسلامٍ واحد. 
  • والهادوية يجعلونها بسلامٍ واحد وتشهّد واحد ويقولون: لا نشبّه النفل بالفرض، المغرب شيء وهذا نفل ليست بفرض فلا تشبه الفرض. 

فالأمر فيها واسع لكن لا يترك الإنسان المؤمن الحريص ثلاث ركعات من الوتر، إن كان يثق بقيامه في الليل فيُمكن أن يؤخرها إلى الليل وآخر الليل، وإلا فيبادر بها قبل أن ينام كما أوصى النبي ﷺ سيدنا أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام.

وهكذا ذكروا عن سيدنا أبي بكر وسيدنا عثمان بن عفان أنهما كانا يُوتران من أوّل الليل قبل المنام، وعن سيدنا عمر وسيدنا علي أنهما يُوتران من آخر الليل، وفي الحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" فأن يختم صلاته بالوتر أفضل، ولكن هذا لمن يثق بالقيام. ولكن أيضًا من صلى ثلاث أول الليل ثم قام يتهجّد فينبغي أن ينوي به الوتر أيضًا يكمّل به الإحدى عشر فيزيد ركعتين فتصير خمس، أو  يزيد أربع  فتصير سبع، أو يزيد ست فتصير تسع، أو يزيد ثمان ركعات فتصير مع الثلاث الأولى إحدى عشر ركعة.

 

صلاة التراويح والضحى 

"والتراويح" في شهر رمضان مخصوصة، وحَدَثْ هذا اسم التراويح، ما كان شيء اسمه التراويح في حياته ﷺ ولكن الصحابة لمّا كانوا يطيلون القيام ويراوحون بين أرجلهم في القيام في صلاة التراويح سمّوها: صلاة التراويح وهي صلاة قيام رمضان، قال: "عشرون ركعة" هي كذلك عند الأئمة الأربعة، ولِما جاء من اجتماع الصحابة على ذلك لمَّا جمعهم سيدنا عمر على صلاةٍ واحدة، الرجال على إمام، والنساء على إمام، فجعلها عشرين. فالرواية العشرين هي التي تم الإجماع في العمل عليها، وعليها مضى سادتنا الأئمة الأربعة عليهم رضوان الله. فالأفضل عندهم أن تُصلّى صلاة التراويح عشرين ركعة، ويُسلم من كل ركعتين، والتسليم من كل ركعتين واجب في صلاة التراويح، وهو عند المالكية في التراويح وغيرها من صلاة الليل، لقوله ﷺ: "صلاة الليل مثنى مثنى".

"والضحى" وتسمّى صلاة الغنى، لأنها من أقوى الأسباب في تيسير الرزق، حتى قالوا: "لا فقر مع ضحى" كما لا غنى مع زنا، لا فقر مع ضحى، فالمواظب على صلاة الضحى ييسّر الله له رزقه. والضحى أقلها: ركعتين، وأفضلها: ثمان، يمكن يصلي أربع أو ست أو ثمان من "بعد ارتفاع الشمس" قدر رمح "إلى وقت الاستواء" فإذا استوت الشمس مع الظهر خلاص زال وارتفع وقت الضحى، لا تبقى إلا قضاء بعد ذلك.

 

السُنن الرواتب

"ورواتب الفرائض"؛ ما يُصلّى قبل الفريضة وبعدها، وهي أول ما يجبر الفرائض. "رواتب الفرائض ركعتان قبل الصبح"، وهو آكدها، أيضًا بعض الصحابة قال بوجوبها، وبعض علماء الحنفية قال بوجوبها؛ سنة الفجر ركعتان قبل الفجر. وقالت السيدة عائشة: ما رأيته ﷺ أكثر تعاهدًا لشيءٍ من الرواتب كتعاهده لسُنّة الفجر، كان يتعاهدها وما يتركها عليه الصلاة والسلام. ركعتان قبل الصبح وَرَدَ فيهما: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها" قال والركعتان هذه قبل الصبح يتعلق بها سُنن:

  •  منها أن يخفّفهما 
  • ومنها أن يقرأ في الأولى الكافرون والثانية الإخلاص.
  •  أو يقرأ في الأولى: (قُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) [البقرة:136]، وفي الثانية: (قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُون) [ آل عمران:64]. 
  • ويروى أيضًا من قرأ في سُنّة الصبح بـ (ألم) و(ألم) حُفظ في اليوم من كل ألم؛ (أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ) [الشرح:1] و(أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ) [الفيل:1]. 
  • كذلك ورد أيضًا قراءة: (قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ) [آل عمران:84]، وفي الركعة الثانية: (إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَحِیمِ) [البقرة:119] (رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا بِمَاۤ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ) [آل عمران:53]. 

هذا كله مما ورد، "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". 

"وأربع قبل الظهر وأربع بعده" وفي الحديث: "من صلّى أربع قبل الظهر وأربع بعده حرّم الله شعره وبشره على النار".

"وأربع قبل العصر" في الحديث: "رحم الله امرِئً صلى قبل العصر أربعًا". فيما قبل الظهر جاء في الروايات أنه صلاها بسلامٍ واحد؛ أربع ركعاتٍ قبل الظهر. أما ما قبل العصر فقد وَرَد عنه أنه يُسلّم من الركعتين ويُسلّم على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعباد الله الصالحين، ثم يصلّي الركعتين، فسُنّة العصر ينبغي أن يفصل بين الركعتين والركعتين، وبينهما يُسلّم على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعباد الله الصالحين. 

"وركعتان قبل المغرب وركعتان بعده" فالمؤكدة التي بعده، "وكذا العشاء" ركعتان قبله وركعتان بعده. فتصير المجموع اثنان وعشرون ركعة، العشر منها مؤكدات، وهي:

  •  ركعتان قبل الصبح. 
  • وركعتان قبل الظهر وركعتان بعده.
  • وركعتان بعد المغرب. 
  • وركعتان بعد العشاء. 

هذه المؤكدات، وبقية الاثنان والعشرون أيضًا تكون رواتب للصلاة غير مؤكدات، فـاثني عشر غير مؤكدات وعشر مؤكدات والمجموع اثنان وعشرون ركعة.

 

تحية المسجد 

قال: "وتحية المسجد ركعتان"، لكل داخل إلى المسجد في أي وقتٍ كان، ولكن عند الحنفية بعد صلاة الصبح لا يركع تحية المسجد ولا بعد صلاة العصر، ويمكن أيضًا أن يستبدلها بالتسبيح إذا دخل في هذا الوقت خروجًا من الخلاف. وتحية المسجد أقلها: ركعتان ويجوز أن يكون أربع أو ست أو ما إلى ذلك؛ تحية المسجد، القصد أنه لا يجلس حتى يصلّي لقوله ﷺ: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلّي ركعتين". وتفوت هذه تحية المسجد بالجلوس لمن أراد أن يصلّي قائمًا، فإذا جلس فاتته التحية، إلا أن يجلس لنحو شُرب، عُرض عليه الماء حين دخل المسجد فجلس يشرب، فليقُم يصلي التحية فما ينقطع ولا يفوت عنه، لكن إذا جلس من دون أن يكون مقصوده أن يشرب فبجلوسه تفوته التحية. كذلك بالإعراض عنها، وأمّا من يريد أن يصليها جالسًا فلا تفوت بالجلوس، يجلس ويصلي تحية المسجد جالسًا.

 

قيام الليل وإحياء ما بين العشاءين

"وقيام الليل بما اتفق ولو بالذكر والدعاء والاستغفار"، فيكون ممّن قام في الليل قال سبحانه وتعالى: (كَانُوا۟ قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مَا یَهۡجَعُونَ * وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ) [الذاريات:17-18]. "وإحياء ما بين العشاءين بصلاة وإلا.. فبعبادة"، من علم ونحوه وتذكير فهو وقت شريف، ناشئة الليل؛ منشأ الليل: بدايته بين المغرب والعشاء. كان سيدنا أنس يقول نزل فيه قوله تعالى: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ) [السجدة:16]، قال: فيما بين المغرب والعشاء. فهو وقت شريف ينبغي أن يُبذل للخير. وهكذا كان أخيار الأمة في كل مكان يعظّمون هذا الوقت ويصرفونه في الطاعة والعبادة، ولذا كان كثير من بلاد المسلمين ما تجد بين المغرب والعشاء دكان مفتوح ولا أحد مُشتغل بغير العبادة في هذا الوقت الشريف. 

وكان يقول بعض صلحاء الأمة: لأن يستقبلني أحد بشعلة نار في وجهي أحب إليّ من أن يكلمني بكلام الدنيا فيما بين المغرب والعشاء. وكان الإمام العيدروس يقول: الكنوز كل الكنوز في إحياء ما بين المغرب والعشاء. وكانت الأسواق حوالي الحرمين إلى ما قبل ستين سنة عند الحرم المكي والحرم المدني بين المغرب والعشاء ولا تجد واحد، كلهم في الحرم، بعد العشاء ممكن يفتحوا، وقبل المغرب ممكن، لكن بين المغرب والعشاء الناس كلهم في الحرم.

 

ما يُسنّ من صيام التطوّع 

قال: "ويتأكد صوم يوم عرفة"، وهو: اليوم التاسع لغير الحاج، الحاج ما يُسنّ له الصيام الأفضل له الفطر في يوم عرفة. ولكن غير الحاج يُسن أن يصوم يوم عرفة وهو يكفّر ذنوب سنتين؛ السنة التي قبلها والسنة التي بعدها، ويعدل صيام ألف يوم؛ صيام يوم عرفة؛ لأن الأيام العشر أفضل الأيام للتقرب الى الله، "ما من أيام العمل الصالح أحب لله فيهن من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله". قال في الحديث:يعدل قيام كل ليلة منها قيام ليلة القدر، ويعدل صيام كل يوم صيام سنة" -من أيام العشر- (وَٱلۡفَجۡرِ* وَلَیَالٍ عَشۡرٍ) [الفجر:1-2].

"وعاشوراء" اليوم العاشر من شهر المحرم، يكفر ذنوب سنة، ويوم التاسوعاء؛ لأن النبي عزم على صيامه، ولم يصمه، صام يوم عاشوراء ثم قال في آخر سنة: "إن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع" يعني مع العاشر كما جاء في رواية. فيوم "تاسوعاء" اليوم التاسع من شهر محرم الحرام. 

"وثلاثة أيام من كل شهر" سُنّة صيامها؛ أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر سُنّة، فإنه إذا حافظ على صيام ثلاثة أيام من كل شهر مع صيام عرفة وتاسوعاء وعاشوراء وصيام الست يكون ممّن يُدعى من باب الريان الذي لا يدخله إلا الصائمون.

 "وثلاثة أيام من كل شهر، والبيض" أفضل، الأفضل أن تكون يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، ولكن في أي يوم آخر يُمكن. وقد يصوم ﷺ في بعض الأشهر: اثنين وخميس واثنين. "وست شوّال" لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر" يعني: السنة كلها. وكذلك قال: "وكثرة الصوم في الأشهر الحرم" لقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرࣰا فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ یَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَاۤ أَرۡبَعَةٌ حُرُمࣱۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُوا۟ فِیهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ ) [التوبة:36].

 

 ثلاث قواعد في الطريق إلى الله

قال: "ثلاث قواعد هي أصول الطريق الى الله."

  • الأولى: الرياضة؛ هذه التي يسمّونها الرياضة المشهورة في القرون السابقة عند الأمة:
    •  تقليل الطعام، 
    • تقليل المنام 
    • وتقليل الكلام، 
    • وتقليل الخلطة بالناس.

 هذه أركان الرياضة، ليست موجودة في الرياضات اليوم، حق زمان هذا!... فكانت الرياضة عندهم رياضة الروح، أرادوا بها هذا.. وانصرف الآن ما عاد تطرأ على الذهن، كان أول في القرون السابقة لمّا يسمع لفظ الرياضة، فورًا ينصرف إلى معنى المجاهدة في الطاعات والعبادات وترويض النفس وتزكيتها. الآن إذا سمع لفظ الرياضة فورًا ينصرف إلى أنواع اللعب والرياضة الجسمية، وهي:

  • تحتاج إلى نية صالحة. 
  • وأن تكون في أوقات مناسبة. 
  • وأن تكون مع ستر العورة.
  •  وأن لا ينقطعوا بها عن شيءٍ من الفرائض.
  •  وأن ينووا بها التقويّ على طاعة الله تبارك وتعالى.

 ويمكن أيضًا للدعاة أن يقرّبوا كثير من أهل هذه الالعاب الى الله تبارك وتعالى بواسطة النصح والكلام الطيب والأسلوب الحسن. 

ثم قال: "ألاً يأكل إلا بقدر ما يحفظ العقل والقوة، ولا ينام إلا عند الغلبة، ولا يتكلم إلا في ضرورة أو حاجةٍ، ولا يجالس الناس إلا لما لا بدَّ منه أو في فائدة شرعية"؛ قلة الطعام، قلة الكلام، قلة المنام، اعتزال الأنام. 

قال سيدنا الحداد: 

وبالرياضة من صمتٍ ومخمصةٍ *** مع التخلّي عن الأضدادِ والسهرِ

وقال:

والنفس رِضْهَا باعتزالٍ دائمٍ *** والصمتِ مع سهر الدجى وتجوّعِ

وكُن في الطعام والمنام وَخِلْطَةٍ *** وَنُطْقٍ على حدّ اقتصار 

 هذه الأربعة، قالوا عنها:

بيتُ الولاية قسّمت أركانه *** ساداتنا فيه من الأبدال 

ما بين صمتٍ واعتزالٍ دائمٍ *** والجوع والسهر النزيه العالِ

 

  • "الثانية: مخالفة النفس في كل حظٍّ إلّا ما لا بدّ منه، أو ندب الشرع إليه"، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ) [النازعات:40]، "ودوام الذكر، وحضور القلب مع الله فيه".

 

  • "الثالثة: خروجه من حظوظه وإرادته إلى مطلوب الله منه في الأفعال، وتسليمه له في المقادير" وسلّم للمقادير كي تُحمَد وتؤجر.. و"من رضيَ فله الرضا". "والتفويض إليه في تدبير أموره إلا فيما أمره به من كسبٍ أو عمل" يقوم به ولكن يعتمد على الحق تبارك وتعالى وتدبيره ويعمل "بما اقتضاه حاله في السلوك، ومن كان الله له .. كفاه، وكفى بالله حسيبًا" نِعمَ المولى ونِعمَ الحسيب. 

اللهمّ ارزقنا الإيمان واليقين والبِرّ والتقوى والإخلاص يا أكرم الأكرمين، وزِدنا من نوالك وإفضالك، وأدخِلنا في دوائر أهل محبتك ووصالك، وأعِذنا من كل سوءٍ أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، وأصلح شؤوننا والمسلمين الباطنة والظاهرة، وفرّج الكروب عنّا وعنهم أجمعين يا حيّ يا قيوم… الطف بالمسلمين وخصوصًا في غزة،  اللهم الطف بالمسلمين في غزة، اللهم احفظ المسلمين في غزة، اللهم أصلح شأن المسلمين في غزة، اللهم أجمع شمل المسلمين في غزة، اللهم أيّد المسلمين في غزة بالتقوى والبر والإحسان والإقبال عليك والجهاد في سبيلك، وردَّ عنهم كيد البغاة والطغاة والكفرة والمعتدين والغاصبين والظالمين والمفترين يا حيّ يا قيوم برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسِرَ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد 

اللهم صلِّ وسلم وبارك علي وعلى آله وأصحابه.. 

الفاتحة

 

 

تاريخ النشر الهجري

16 جمادى الأول 1445

تاريخ النشر الميلادي

27 نوفمبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام