(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين للإمام عبدالله بن حسين بن طاهر رحمه الله، ضمن ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار رضي الله عنهم لعام 1445هـ - الأردن
فجر الثلاثاء: 14 جمادى الأولى 1445هـ
"وأما اللسان.. فإنما خُلق لك لتكثر به ذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه العزيز، وترشد به خلق الله إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك وحاجات دينك ودنياك.
فإذا استعملته في غير ما خُلِق له.. فقد كفرت نعمة الله فيه، وهو أغلب أعضائك عليك وعلى سائر الخلق، ولا يَكُب الناس في النار على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم، فاستظهر عليه بغاية قوَّتك حتى لا يكبك في قعر جهنم؛ ففي الخبر: "إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها أصحابه فيهوي بها في جهنم سبعين خريفاً".
فاحفظه من الكذب في الجدِّ والهزل؛ فالكذب من أمهات الكبائر، ومن الخُلْفِ في الوعد، فإياك أن تَعِد بشيء إلا وتفي به، ومن الغيبة؛ فالغيبة أشد من ثلاثٍ وثلاثين زنيةً في الإسلام؛ كذا جاء في الخبر.
ومعنى الغيبة: أن تذكر إنساناً بما يكرهه لو سمعه وإن كنت صادقًا .
ويمنعك عن غيبة المسلمين أمرٌ لو تفكرت فيه ؛ وهو أن تنظر في نفسك: هل فيك عيب ظاهر أو باطن؟
فإن عرفت ذلك منك .. فاعلم: أن عجزه كعجزك، وعذره كعذرك، فإن سترته.. سترك الله، وإن فضحته.. فضحك الله.
وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فلم تطلع فيهما على عيبٍ ونقص.. فاعلم: أن جهلك بعيوبك أقبح أنواع الحماقة، ولو أراد الله بك خيرًا.. لبصرك بعيوب نفسك.
وكذلك احفظ اللسان عن المِراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام؛ فذلك فيه إيذاءٌ للمخاطَب وتجهيلٌ، وفيه تزكية للنفس بمزيد الفطنة والعلم، قال الله تعالى: (فَلَا تُرَكُوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32].
وكذلك لا تلعن شيئاً من خلق الله، ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة بشركٍ أو كفرٍ أو نفاقٍ؛ فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى.
ولا تدعُ على أحد من خلق الله، وإن ظلمك.. فكِلْ أمره إلى الله؛ ففي الحديث: "إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه، ثم يبقى للظالم فضل عنده فيطلبه به في يوم القيامة".
وطوَّل بعض الناس لسانه على الحَجَّاج، فقال بعض السلف: إن الله لينتقم للحجَّاج ممن يعرض له بلسانه، كما ينتقم من الحجَّاج لمن ظلمه.
وكذلك احفظ لسانك من المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس؛ فإنه يُريق ماء الوجه، ويسقط المهابة، ويستجرُّ الوحشة، ويؤذي القلوب، ويغرس الحقد.
فهذه مجامع آفات اللسان، ولا يعينك عليه إلا العزلة، وملازمة الصمت إلا بقدر الضرورة؛ وقد كان الصِدّيق رضي الله عنه يضع حجرًا في فيه ليمنعه ذلك من الكلام بغير ضرورة، فاحترز منه؛ فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا والآخرة."
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها على لسان عبده وحبيبه محمد ﷺ أساسها وبرهانها وترجمانها. اللهم أدِم صلواتك على المجتبى المختار سيدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه من أرباب الصدق والإخلاص للرحمن سبحانه وتعالى في أمورهم كلها، إسرارها وإعلانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين قاموا بحق بلاغ الشرائع وبيانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وظائف اللسان ومكانته بين الأعضاء
ويحدثنا الشيخ -عليه رحمة الله- عن اللسان، وأنها خلقها الله لنا، ومن أقوى الحِكم والمنافع والفوائد فيها: أن نُكثر بها ذكره سبحانه وتعالى، وأن نتلو كتابه جلّ جلاله، وأن نهدي بهديه وهدي رسوله عباده إلى طريقه وإلى سبيله بالنصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقريب والتحبيب. وما نحتاج إليه أن نظهره مما في ضمائرنا من الحاجات نتحدث عنه باللسان، فما فيكَ يظهر على فِيكْ، فإذا انصرف لغير ما خُلِقَ له ولغيره فهو كفرانٌ بالنعمة، كما تقدّم معنا في شأن هذه الجوارح، وفي اللسان على وجه الخصوص ما جاءنا في السُنّة: أنه ما يصبح الواحد منّا في كل صباح إلا وجميع الأعضاء تخاطب اللسان؛ لأن الأعضاء كلها تخاف النار، وتخاف الرجوع إلى العذاب، وتخاطب اللسان وتقول: اتّقٍ الله فينا فإنما نحن بِك، إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
فالإهمال للّسان وما يصدر منه مفتاح الخطايا والذنوب لجميع الأعضاء -والعياذ بالله تعالى-، "وهل يُكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"، كما قال ﷺ: و"إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها أصحابه فيهوي بها في جهنم سبعين خريفاً"! سبعين سنةً هاويًا في النار من كلمة ضحَّك بها الجلساء، مسكين..! ضحَّكهم باستهزاء بمسلم، أو بغيبة على مسلم، وأعظم منه استهزاء بشيءٍ من الآيات، وبشيءٍ من السنن الكريمة، ويضحِّكهم ويريد يفرح لمّا يضحِّكهم، وهو بتلك الكلمة يهوي في نار جهنم سنة وسنتين وثلاث إلى سبعين سنة والعياذ بالله تبارك و تعالى.
معنى الكذب في الإصلاح
فحذَّر من الكذب الذي نفاه ﷺ عن المؤمنين، والذي تساهَل به كثير من الناس. وبعضهم بوهمه وخياله يفسِّر معنى الكذب في الإصلاح أنه: في مصلحته؛ إذا فيه له مصلحة يكذب.. أعوذ بالله! الإصلاح: تقريب بين المتخاصمين وبين المتباعدين، تقرّب بينهم وتؤلف.. هكذا صحيح، تكذب فيما يؤلِّف بين قلوبهم وينفي المشكلة ويحلّها فقط بهذا المقدار، وما يجوز تجيء بين متخاصمين وتذكر خبر كذب أو حصل في البعض كذا… ما يجوز، إنما تكذب فقط فيما يشد الأزر بينهم ويقرب الهوّة بينهم، ويبعد التجافي فيما بينهم فقط، هذا معنى الكذب في الإصلاح.
الكذب بين الأزواج
كذلك فيما يتعلق بكذب الرجل على زوجته أو الزوجة على زوجها: فيما يتعلق بما يقوّي الألفة والأخوة على حكمة وعلى بصيرة، وما هو يعترف أنه يرجع مردوده عكسي فيما بعد، ما هو هكذا، ولا في أي شيء يكذب على الزوجة في خبر في البلد أو في الناس.. حرام، ولا يجوز من قريب ولا من بعيد، وما يجوز إلا ما يقوّي الألفة بينهم فقط.
الكذب في الحرب
كذلك في الحرب، ولا يجوز في الحرب يكذب على الكفار بأي شيء، أو على المحاربين ، يكذب فيما ينصر به المسلمين، وفيما يخذّلهم، وفيما يُوقع الوقيعة بينهم نعم.
فهذه الحدود التي حدّها لنا الشارع، وما عدا ذلك فيجب الابتعاد عن الكذب وهو المنفيُّ عن المؤمن، وتلا النبي ﷺ قول الله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، أجارنا الله وإياكم، وربّانا وأهلينا وأولادنا على الصدق معه، "ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا"، "ولا يزال الرجل يكذب.." ويتساهل بالوحدة والثانية والثلاث.. "ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا"؛ أي: تناله لعنة الله والعياذ بالله تبارك وتعالى.
الغيبة
وكذلك الغيبة؛ ذِكْرنا لمساوئ بعضنا البعض،
قال: وامتنع عن غيبة المسلمين تفكَّر هل فيك العيب أو لا؟ إن قلت ما فيّ عيب، فجهلك بعيوبك أشدّ العيوب! لأنه ما من عاقل إلا ويطّلع من عيوبه على معايب كثيرة وعلى نقائص، على قدر عقله وعلى قدر معرفته تنكشف له نقائصه ومعايبه، فإذا لم ينكشف عندك عيب ولا نقص فأنت ناقص في الأصل، النظر حقك معطل، والعقل حقك ضيّق، والمعرفة ما هي عندك، ولهذا قلت ما فيّ عيب!
إذًا: إذا كان عندك مُسكة من عقل، ومسكة من معرفة وعلم، تعرف أن عندك عيوب، لماذا ما تطهر نفسك من هذه العيوب؟ وتقول أنا أحاول… وغيرك يحاول، وتقول إن شاء الله.. وغيرك يقول إن شاء الله، ولماذا تحمل على الناس عيوبهم وأنت فيك عيب؟!
وعيناك إن أبدت إليك معايبا لقوم *** فصنها وقل يا عين للناس أعين
إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى*** وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكُلّك عوراتٌ وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايبًا لقوم *** فصُنها وقل يا عين للناس أعين
كذلك علّمنا ﷺ.
حفظ اللسان من اللّعن
قال: "وكذلك احفظ اللسان عن المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام- كما تقدّم معنا- فذلك فيه إيذاءٌ للمخاطَب وتجهيلٌ، وفيه تزكية للنفس بمزيد الفطنة والعلم، قال الله تعالى: (فَلَا تُرَكُوا أَنفُسَكُمْ..) [النجم:32]"، يعني: تمدحوها وتثنوا عليها.
واحذر اللعنة على مُعيَّن، إنما لعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الكاذبين، لعنة الله على الفاسقين، أمّا فلان وفلان وفلان… مَن جاء نص قاطع فيه عن الله ورسوله أنه من أهل نار فنعم، ومع ذلك لا خير ولا ثواب لك في ذلك اللعن، ولو كان رأسهم إبليس، فتجلس تلعنه و تلعنه وتعلنه.. وماذا بعد! كم تحصّل من وراء ذلك؟ أحسن من أن تلعنه أن تخالفه، وأن لا تسمع كلامه، هكذا أحسن.
ولهذا يقول بعضهم: إياك أن تلعن إبليس في العلانية وتطيعه في السِر! تقول: لعنه الله الخبيث.. الله يلعنه، وأول وسواس يوسوس عليك تمشي معه! أحسن من هذا اللعن انتبه من كيده ومن وسوسته، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا..) [فاطر:6].
ولكن هذا اللعن على وجه العموم؛ لأنك لا تدري لا ببواطن الناس ولا بخواتيمهم، لا تدري ببواطنهم وسرائرهم ولا بالخواتيم، هذا علمه عنده هو، فالزم محلّك فأنت عبد، الرب هو الذي يحكم في السرائر وفي الخواتيم، وأنت تأدّب، أنت عبد لا تملك الاطلاع على السرائر ولا الاطلاع على الخاتمة، وسَلْ ربك يثبتك ويُحسن خاتمتك، والله يختم لنا وللمسلمين بأكمل الحسنى إنه أكرم الاكرمين.
قال: "وكذلك لا تلعن شيئاً من خلق الله" حتى جاء في بعض الآثار: يلعن بعضهم الأرض، فتقول الأرض: لعن الله أعْصَانا له؛ العاصي مِنّا عليه اللعنة.. أنا أم أنت؟ الأرض ما عصت ربها، (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]، العصيان عندك، أنت الذي تستحق لا الأرض.
ولهذا لا يجوز أن تلعن شيء ممّا خلق الله تعالى، "ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة"؛ يعني: المصلين المتوجهين إلى البيت الحرام في صلواتهم، أهل هذه الملة "بشركٍ أو كفرٍ أو نفاقٍ" ما عندك علم بالسرائر؛ (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ..) [الإسراء:25].
الهدي النبوي في الدعاء على الظالم
"ولا تدعُ على أحد من خلق الله تعالى وإن ظلمك"، فإنه ﷺ ما طُلب منه الدعاء على أحد، إلا عَدَل من الدعاء عليه إلى الدعاء له، ﷺ، كل ما طُلب منه الدعاء على أحد وهكذا. حتى مرة جاءوا ناس من عند قبيلة دوس، وهم منهم أبو هريرة، وقالوا: يا رسول الله إنهم أَبَوا الإسلام وقاتلوا فادعُ الله عليهم، قال: فرفع يديه، قال أبو هريرة: يا ويل قومي إيش سيحصل! قال فسمعه يقول: "اللهم اهدِ دوسًا وائتِ بهم مسلمين". فما مرّت ثلاثة أيام إلا ووفد وافدهم بالإسلام إلى رسول الله، وأسلمت القبيلة كلها ودخلوا في دينه، ﷺ، (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله.
قالوا إنّ المظلوم قد يدعو على ظالمه ويدعو ويدعو ويدعو..، حتى يستوي في حقه ثم يزيد فيصير هو الظالم، فيجيء في القيامة ذاك الذي يطالبه، يقول: هات حقي من عندك! يقول: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" في رواية الترمذي.
وهكذا لما رأى بعض السلف بعض من يُطوِّل لسانه على الحجاج قال: اسمع! إنّ رب العالمين سينتقم من الحجاج لكل من ظلمه الحجاج، وسينتقم لمن تكلَّم على الحجاج للحجاج! فأنت تتكلم عليه لأجل ماذا؟! وقال بعضهم تكلم على الحجاج عند سيدنا عبدالله بن عمر، قال: إذا كان حاضرًا بين يديك تقول هذا الكلام؟ قال: لا، قال: كنا نعدُّ هذا نفاقًا على عهد رسول الله ﷺ.
معك نصيحة؟ معك دعوة صالحة؟ أما هذا الكلام هذا السباب يفيد من؟ وماذا تستفيد من ورائه؟ وراك مخاطبة بعدين، لماذا قلت كذا؟ لماذا قلت كذا؟ لماذا قلت كذا؟ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [القلم:17-18].
الاستهزاء بالناس علامة جهل
قال: "وكذلك احفظ لسانك من المزاح والسخرية" بصغير وكبير، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ..) [الحجرات:11]، "والاستهزاء بالناس" فإنه لا يستهزىء بالناس إلا جاهل، (..قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا..) يقولوا لسيدنا موسى، (..قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67]؛ يعني: ما يستهزئ بالناس إلا جاهل، وهكذا قال الله عنهم لنبيه محمد: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر:95]، المذمومين بلسان القرآن.
قال: "هذه مجامع آفات اللسان" والله يعيننا على حفظ ألسنتنا وصرفها فيما يُرضيه عنا، "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، يكتب الله بها له رضوانه عليه إلى يوم القيامة، وإن الرجل لَيتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ به ما بلغت، يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة" - والعياذ بالله تبارك وتعالى- اللهم استعمل ألسنتنا في ذكرك وتلاوة كتابك ومدحك ومدح رسولك محمد، ونفع عبادك وإرشادهم إلى طريق الصواب يا أرحم الرَّاحمين.
حفظ البطن والفرج
قال رضي الله عنه وعنكم:
فَصلٌ
وأما البطن... فاحفظه عن تناول الحرام، واحرص على طلب الحلال، فإذا وجدته.. فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشِّبع؛ فإن الشِّبع يُقسي القلب ويُفسد الذهن، ويُبطل الحفظ ويُثقِّل الأعضاء عن العبادة، ويقوِّي الشهوات، والشِّبَع من الحلال مبدأ كل شر فكيف من الحرام؟!
وطلب الحلال فريضةٌ، والعبادة والعلم مع أكل الحرام كالبناء على السرجين، فإذا قنعت بقميصٍ ورغيفٍ وتركت التلذّذ.. لم يُعْوِزُكَ من الحلال ما يكفيك ، فالحلال كثير.
وليس عليك أن تتقن باطن الأمور، بل عليك أن تحترز ممّا تعلم أنه حرام، أو تظن أنه حرامٌ ظنًّا حصل من علامة.
وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلال والحرام في كتاب مفردٍ من (الإحياء) فعليك بطلبه؛ فإن معرفة الحلال وطلبه فريضةٌ على كل مسلمٍ كالصلوات الخمس.
فَصلٌ
وأما الفرج.. فاحفظه عن كل ما حرَّم الله تعالى، وكن كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون:5-6].
ولن تصل إلى حفظ الفرج إلّا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن الفكر، وحفظ البطن عن الشُّبَه وعن الشِّبَع؛ فإن هذه هي محرّكات الشهوات أو مغارسها.
وسائل حفظ البطن والفرج
ذكر لنا البطن والفرج وبينهما ارتباط، حتى جاءنا فى الحديث عنه ﷺ: "مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"؛ ما بين لحييه: هذا الفم وما يأكله وما يدخل البطن، وما بين رجليه: وهو الفرج، فإنه إذا أكل الإنسان الحلال وابتعد عن الشبع كان أقوى على حفظ فرجه من الذنوب والمعاصي. فالشُّبه وكثرة الشبع مقويّات للشهوات، ومرتبطٌ حفظ الفرج الذي به النجاة والفوز، بل يدخل إلى ظلّ العرش. بل يزداد إيمان من غضَّ بَصَره عن النظرة الحرام، يقول الرّحمن: "أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه". مرتبطة بالبطن واللسان والعين والأذن؛ فإذا حَفظت -كما ذكر-:
فأنت محفوظٌ - إن شاء الله تبارك وتعالى- بعيدٌ عن أن تُصاب بالمعصية في فرجك من زنًى أو لواط وهي الكبائر، أو ما يتعلق بذلك من مثل الاستمناء بغير يد الزوجة إلى غير ذلك من المحرّمات. قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَت أيمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون:5-6]، قال: ومَن لم يَتُب فمات فإنه يُصوّر في القيامة على حالته وقت فعلته أمام الأشهاد وتشتعل فروجهم نارًا، ويتألم من كل صورة!.. ثنتين، ثلاث، أربع، خمس… على عدد كل ما لم يَتُب منه ولم يعفُ الله فيه عنه، فيتصوّر ويتألم من كل صورة، وتشتعل فروجهم نارًا - والعياذ بالله تبارك وتعالى- ويُعلّقون في النار بعراقبيهم، تسيل فروجهم دمًا وقيحًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وقالوا: ولا يخجل في القيامة ولا ينال الحياء أحد من الداخلين الجنة عند دخول الجنة إلا أرباب الزنا واللواط، فهؤلاء ينازلهم من الخجل والحياء ما لا يوصف؛ هذا لأنه فعلٌ يكرهه الحق -تبارك وتعالى- واختبرهم بهذه الشهوة ليعلم من يتّقيه ومن لا يتقيه، ولذا تجد إبليس وجُنده يحرصون على:
إلى غير ذلك من الوسائل والأسباب. حتى قال بعض العارفين: ما أيسَ إبليس من رجلٍ إلا أتاه من قبل النساء! وبذا تجد بعض الناس قد يبدأ إما يُعلّم وإما يرقِي ويقرأ على الناس بالخير، وشيئًا فشيئًا.. وإذا المرأة الفلانية تسأله.. والمرأة الفلانية تسأله.. والمرأة الفلانية تتصل به.. والمرأة الفلانية تطوّل كلام معه.. والمرأة الفلانية ترجع عواطفها إليه.. وإذا به لا هو راقي ولا معلّم، بل شيطان من الشياطين وقد وصل إلى أمور كبيرة؛ وربما أفسد بيوت بعض الناس، وربما تسبب في مشاكل له أو لغيره، وربما انقطع عن الله انقطاع، أو سخط الله عليه بسبب ذلك. ولهذا جاء في هديه وسُنّته: "لم تمسّ يده يد امرأةٍ لا تحلّ له"، كان يبايع النساء كلامًا ﷺ، ولا يصافح المرأة الأجنبية، كان يبايعهن كلامًا، وهو الأطهر وهو الأنقى و الأتقى، ولو كان أحد في الوجود لقوة إيمانه أو عقله يجوز له أن يلمس النساء لكان زين الوجود محمّد، ما أحد أقوى منه عقل ولا إيمان، ومع ذلك احترز ﷺ وشرع لأمّته الاحتراز. حتى قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخيَط من حديد خيرٌ له من أن يمسّ امرأةً لا تحلّ له" ﷺ. وهو المأمون من قِبل الإله بالبيان لخلق الله ﷺ، فلا أنصح منه عليه الصلاة والسلام، ولا أقوم من تعاليمه، رزقنا الله حسن اتباعه، وحشرنا في زمرته إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
حفظ الجوارح والقلب
قال رضي الله عنه وعنكم:
فَصلٌ
وأما اليدان .. فاحفظهما من أن تضرب بهما مسلمًا أو تتناول بهما مالًا حرامًا، أو تؤذي بهما أحدًا أو تخون بهما في أمانةٍ، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به؛ فإن القلم أحد اللسانين.
فَصلٌ
وأما الرِّجلان.. فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب سلطانٍ ظالمٍ، فالمشي إلى السلاطين الظَّلمة من غير ضرورةٍ وإرهاقٍ.. معصيةٌ؛ فإنه إكرامٌ لهم، وقد أمر الله بالإعراض عنهم.
وهو تكثيرٌ لسوادهم، وإن كان لطلب ما لهم.. فهو سعيٌ إلى حرام.
وعلى الجملة: فحركاتك وسكناتك نعمةٌ من نِعَمِ الله تعالى عليك، فلا تحرك شيئًا منها في معصية الله تعالى أصلًا ، واستعملها في طاعة الله تعالى.
فَصلٌ
اعلم: أنك إن قصَّرت.. فعليك يرجع وباله، وإن شمَّرت.. فإليك تعود ثمرته، والله تعالى غنيٌّ عنك وعن عملك، وإنما كل نَفْسٍ بما كسبت رهينة.
وإياك أن تقول: إن الله تعالى كريمٌ رحيمٌ يغفر ذنوب العصاة؛ فإن هذه كلمة حقٍّ أُريد بها باطلٌ، وصاحبها ملقَّبٌ بالحماقة بتلقيب رسول الله ﷺ حيث قال: "الكيِّس مَنْ دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق مَنْ أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني" وإن كان ما وصفته من كرم الله تعالى ورحمته حقًا وصدقًا؛ فإنه سبحانه وتعالى يقول: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَيْنِ إِلَّا مَا سَعَى)، ويقول: (إِنَّمَا تُجزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ومن كرمه سبحانه: أن يسّر لك طريق الوصول إلى المُلك المقيم المخلد بالصبر على ترك الشهوات أيامًا قلائل، وهذا نهاية الكرم، فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين، واقتدِ بأولي العزم والنُّهى من الأنبياء والصالحين ولا تطمع في أن تحصد ما لا تزرع، وليت من صام وصلى واجتهد واتقى ... غفر له.
فَصلٌ
فهذه جملةٌ ممّا ينبغي أن تحفظ عنها جوارحك الظاهرة، وأعمال الجوارح إنما تترشّح من صفات القلب.
فإن أردتَ حفظ الجوارح.. فعليك بتطهير القلب، فهو التقوى الباطن.
والقلب: هو المضغة التي إذا صلحت.. صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت.. فسد بها سائر الجسد؛ فاشتغل بإصلاحه لتصلح جوارحك.
واعلم: أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلةٌ، وسبيل العلاج فيها غامضٌ، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله؛ لغفلة الناس عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا.
وقد استقصينا ذلك في ربع المهلكات وربع المنجيات من (الإحياء)، ولكن نحذّرك الآن ثلاثًا مهلكات في أنفسها، وهي أمهاتٌ لجملٍ من الخبائث سواها، وهي الحسد، والرياء، والعُجب.
فاجتهد في تطهير قلبك منها ، فإن قدرت عليها.. فتعلّم كيفية الحذر من بقيتها.. وإن عجزت عنها.. فأنت من غيرها أعجز.
ولا تظنَّن أنها تسلم لك نيةٌ صالحةٌ وفي قلبك شيءٌ من الحسد والرياء والعُجُب، وقد قال رسول الله ﷺ: "ثلاثٌ مهلكات: شحٌّ مُطاع، وهوىً متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه".
اللهم طهّر أعضاءنا عن معصيتك واصرفها في طاعتك، وانظر إلى قلوبنا التي هي رئيس هذه الأعضاء ومؤثر فيها، نقِّ قلوبنا عن الشوائب من حيث أحاط بها علمك يا رحمن، وسِّيرها في سبيل طاعتك، يا مقلب القلوب الأبصار ثبّت قلوبنا على دينك يا مصرّف القلوب والأبصار صرّف قلوبنا على طاعتك .
داء الحسد والرياء
قال رضي الله عنه وعنكم:
فَصلٌ
الحسود: هو الذي يشقُّ عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته على عبدٍ من عباده بمالٍ أو علمٍ أو محبةٍ في قلوب الناس، أو حظٍّ من الحظوظ، حتى إنه ليحبُّ زوالها عنه وإن لم تحصل له، وهذا منتهى الخبث؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
والحسود: هو المُعذَّب الذي لا يُرْحَم، ولا يزال في عذابٍ دائم؛ فإن الدنيا لا تخلو قط من خَلق كثيرٍ من أقرانه ومعارفه ممَّن أنعم الله تعالى عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر، بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر المسلمين ما يحبُّ لنفسه، بل ينبغي أن يساهم المسلمين في السراء والضراء.
والمسلمون كالبنيان الواحد يشدُّ بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ.. اشتكى سائر الجسد.
فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك.. فاشتغالك بطلب الخلاص عن الهلاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات.
فَصلٌ
وأما الرياء .. فهو الشرك الخفي؛ وهو طلبك للمنزلة في قلوب الخلق لتنال به الجاه والحشمة، وحبُّ الجاه من الهوى المتبعَ المهلِك، وفيه هلك أكثر الناس، فما أهلَكَ الناسَ إلا الناسُ.
ولو أنصف أكثر الناس.. لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات - فضلاً عن العادات - ليس يحملهم عليها إلا مراءاة الناس، وهي مُحبِطة للأعمال؛ كما ورد في الخبر: "إن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار فيقول: يا رب؛ استشهدتُ في سبيلك، فيقول الله تعالى: أردت أن يُقال: إنك شجاعٌ فقد قيل، وذلك أجرك" وكذا يُقال للعالم والحاج والقارىء.
أوّل ما عُصيَ الله به
طهّرنا الله تبارك وتعالى من الحسد، الذي هو من أوّل ما عُصيَ الله به؛ حَسَد إبليس لآدم، ثم كانت المعصية الثانية بسبب الحرص وهو الأكل من الشجرة، ثم كانت المعصية بعد ذلك أيضًا الحسد، وهو: حسد قابيل على هابيل، فهذا أول ما عُصي الله به:
فهي أول ما عُصيَ الله به فيما يتعلّق بمحيطنا بني آدم.
جزاء الحسد في الدنيا
قالوا: وكان بعض وزراء بعض الملوك حَسَد شابًا صالحًا كان يتردّد على الملك ويُلقي إليه الحكمة ويعِظه، حَسَدَه على موقعه عند الملك وعلى مكانته، فتوصل إلى الملك قال: هذا الشاب الذي تكرمه وهكذا .. يتكلم عليك عند الناس، ويقول: إن الملك فيه بخَر؛ رائحة كريهة، قال: كيف أعلم صدقك؟ قال: ادعُه وقرّبه منك فانظر هل يسد أنفه منك؟! قال: هاته في الساعة الفلانية، قال: مرحبا.. فذهب هذا واستدعى الرجال وجاء له بكثير من الثوم والكرّاث والبصل النيء وجعله يأكل يأكل منه، وثم قال له: الآن وعد حاضر عند الملك لابد تروح له الآن، وقال: إنك تجيء في هذه الساعة كذا..، وراح مسكين وفمه ملآن الروائح هذه، فقرُب منه الملك تكلم الملك، جاء بيتكلم هو فرفع يده حتى يستر رائحة فمه عن الملك، لمّا لاحظه الملك قال: صدَق فلان! وكان من عادة هذا الملك ما يكتب بخطّه إلا جوائز كبيرة، فأخذ الورقة وكتب لصاحب خزينته: إذا جاءك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخ جلده واملأه تبنًا وابعث إليّ به! طواها له وأعطاه إيّاه، والوزير قاعد منتظر في الخارج يترقّب الخبر ماذا سيحصل.. فلمّا خرج إليه قال: له قابلته كيف الأخبار؟ قال له: جزاه الله خير أعطانا ورقة، قال: أنا شريك لك فيها هذه الورقة؛ لأني أنا سبب في قُربك من الملك ودخولك عند الملك، قال: خذها لك أنا غنيّ عنها، تفضّل خُذها أنت لك.. أخذها الوزير ووصل إلى عند الجماعة قالوا: امسكوه، قال:ما لكم؟ كيف أمسكوه! هو منتظر جائزة.. قالوا: هذا أمر من الملك إننا نذبحك، قال: ما هو أنا والورقة ما هي لي! قالوا: كيف الورقة ما هي لي؟! أمر الملك ما يرجع؛ اسكت ساكت وذبحوه وسلخوه… بعد أيام إذا بالشاب يدخل على الملك: السلام عليكم؛ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويتكلم بالحكمة… قال: ما فعلت الورقة؟ قال: إن وزيرك الفلاني هذا طلب أنه شريك فيها فأنا أعطيته إياها قال: إنه كان يذكر عنك أنك تقول كذا وكذا، قال: حاشا لله! ما قلت عنك.. قال: فلماذا كنت رفعت يدك ذاك اليوم؟ قال: إنما رفعت يدي لأنه أكّلني هو قبل أن آتي إلى عندك ثوم وبصل وكرّاث؛ فكرهت أن تشمّ مني رائحة كريهة، قال: ما يقع الحسد إلا بأهله! هو الذي حسدك ووقَع الأمر عليه. وكان في حِكَمِه يقول للملك: أحسِن لمَن أحسن إليك، فإنّ المُسيء ستكفيه إساءته. قال له: المسيء قد كَفته إساءته؛ كلامك الصح ووَقع الأمر عليه.
وهذه بعض نتائج مما يقع في كثير من الحاسدين في الدنيا يخسر قبل الآخرة. قالوا والحسود هذا طول حياته معذّب؛ لأنه النعَم ما تزول عن عباد الله، وهو يستثقل النعَم على خلق الله، هو يريدها تنقص وهي تزيد؛ فهو يتألم وألمه ما يُرحم فيه لأنه كله ذنب، فهو يتألم في الدنيا ويُعذّب في الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
الرياء
كذلك شأن هذا الرياء -طهّرنا الله منه ورزقنا الإخلاص لوجهه الكريم- كان بعض الصالحين أراد الله ينبههم، كان قائم في ليلُه وكان يقرأ في سورة طه وإذا بالمُنبِّه؛ كان المسلمين يدور بين الديار أحد في آخر الليل يُنبه الناس من أجل يقوموا للاستغفار في السَّحر، كثير من بلاد المسلمين كانت بهذه الصورة. مرّ المنبه: يا فلان يا فلان.. رفَع صوته بآيتين وهو يقرأ في سورة طه حتى يعرف أنه قد قام، فنعس، فرأى أن الملائكة ترفع صحيفته للرحمن وقراءة سورة طه كل حرف تحته حسنات، وآيتين مطموسة غير موجودة! قال: أين الآيتين؟ قال: هذا ما قرأتها، قال: بلى قرأتها أنا قرأتها؛ يقول الملك: الرجل يقول قرأ الآيتين؟ قال: قرأها للمُنبِّه الذي مرّ ينبِّه ما قرأها لله؛ قل له يروح يأخذ أجر من عند المُنبِّه هذاك؛ ما هي لله ما له فيها أجر!.. انتبه من النوم وهو متألم ونبّهه الله تبارك وتعالى. لا تجعل لك قصد لغيري في شيء من عبادتي أبدا.
ثلاث خِصال من أمهات خبائث القلب
قال رضي الله عنه وعنكم:
وأما العُجب والكبر والفخر.. فهو الدَّاء العضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العزّ والاستعظام وإلى غيره بعين الذلِّ والاستحقار، وثمرته في المجالس الترفع والتقدّم، والتصدر والاستنكاف من أن يُرَدَّ عليك كلامك.
والمتكبر: هو الذي إن وُعِظ.. أَنِفَ، وإن وَعَظَ.. عَنَّفَ، وكل من رأى نفسه خيراً من أحدٍ من خلق الله تعالى.. فهو متكبر، بل يجب أن تعلم أن الخير هو خيرٌ عند الله تعالى في الدار الآخرة، وذلك غيبٌ وهو موقوفٌ على الخاتمة.
واعتقادك في نفسك أنك خيرٌ من غيرك جهلٌ محضٌ، بل ينبغي ألا تنظر إلى أحدٍ إلا وترى أنه خيرٌ منك، وأن الفضل له على نفسك؛ فإن رأيت صغيرًا.. قلت: هذا لم يعصِ الله تعالى وأنا عصيتُه، ولا شك أنه خيرٌ منّي.
وإن رأيت كبيرًا.. قلت: هذا قد عبد الله قبلي.
وإن كان عالمًا.. قلت: هذا قد أُعطي ما لم أُعْطَ، وبلغ ما لم أبلغ، وعلم ما جهلت، فكيف أكون مثله؟!
وإن كان جاهلاً.. قلت: هذا قد عصى الله تعالى بجهلٍ وأنا عصيتُه بعلمٍ، فحجة الله عليَّ آكد.
وإن رأيت كافرًا.. قلت: لا أدري بم يُختم لي وبم يختم له؟!
فشَغَلَك خوف الخاتمة أن تتكَّبر - مع الشك فيها - على عباد الله، ويقينك في الحال لا يناقض تجويزك التغير في الاستقبال؛ فإن الله مقلب القلوب يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
فانظر أي أمورك أهم أن تتعلَّم: كيفية الحذر من هذه المهلكات، وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك، أم الأهم أن تخوض الخائضين، وتطلب ما هو سبب لزيادة الكبر والحسد والعجب حتى تهلك مع الهالكين ؟!
واعلم: أن هذه الخصال الثلاث من أمهات خبائث القلب، ولها مَغْرِسٌ واحدٌ وهو حبُّ الدنيا؛ فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حب الدنيا رأس كل خطيئة".
فهذه نبذةٌ يسيرةٌ من ظاهر التقوى، فإن جربت بها نفسك فطاوعتك عليها.. فعليك بكتاب (إحياء علوم الدين) لتعرف كيفية الوصول إلى باطن علم التقوى.
ومع هذا: فالدنيا مزرعة الآخرة، فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة من حلِّه ليستعين به على الآخرة .. فالدنيا مزرعته، ومن أراد الدنيا ليتنعم بها.. فالدنيا مهلكته
فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك.. فعند ذلك ترتفع الحجب بينك وبين ربك تعالى، وتنكشف لك أنوار المعرفة، وتتفجر من قلبك ينابيع الحكمة، وتتضح لك أسرار المُلْكِ والملكوت.
فهذه جملة الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره و اجتناب نواهيه.
خاتمة الدرس
اللهم اهدنا فيمن هديت، وهَب لنا الهداية وزِدنا منك هدى كما قلت: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، وبهذا نختم قراءتنا في هذا الكتاب في خاتمته، ووقفنا من الفصول في خاتمته على فصل: مصاحبة الذي لا يفارقك في حضر ولا سفر وهو الرحمن -جلّ جلاله- أجلّ من ينبغي أن تراعيَه وأن تراقبه وأن تعظّمه، صاحبٌ يَعلمُك ويعلم ما فيك ويصحبك. عامّة أصحابك من الخلق لو علموا ما فيك ما صَحِبوك، ولتغيّر شأن صحبتهم معك، لكنه الإله العليّ العظيم يعلم ما فيك؛
فما أعظم هذا الإله الذي هو محيطٌ بنا وأعلم بنا من أنفسنا وما تخلّى عنا، وقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا..) [الزمر:53].
ونسأله يُطهّرنا من العُجُب والكِبر والرياء وجميع أمراض القلوب، ويرزقنا التعاون على مرضاته سبحانه وتعالى، ومراقبته في السر والعلانية، فإنّا نسألك يا ربنا أن تصحبنا في حياتنا وعند مماتنا وبعد وفاتنا برأفتك وبرحمتك وبمِنّتك وبتوفيقك وبعنايتك وبعفوك وبمغفرتك وبفضلك وبإحسانك وواسع امتنانك، ونستودعك ما قرأنا وما تدبّرنا وما تذاكرنا وما نوينا من نيّات صالحة، فكن لنا حافظًا يا خير مستودع، وزِدنا من نوالك ما أنت أهله برحمتك يا أرحم الراحمين.
وهذا الكتاب قرأنا أكثره وهو وبقيته نُجيزكم فيه، أجزناكم فيه وفي قراءته، وفي تأمّله، وفي تأمّل معانيه وفي العمل بما فيه، وفي نشر ذلك، وفيما يقرّبكم إلى الله.
بالنسبة للكتاب لمؤلفه، بإجازة شيخنا الحبيب: إبراهيم بن عمر بن عقيل بن عبدالله بن عمر بن يحيى؛ عن عمّه: محمد بن عقيل بن عبدالله؛ وعن خاله: عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن حسين بن طاهر؛ وهم عن الحبيب: عبدالرحمن بن عبدالله، وهو عن والده: عبدالله بن حسين بن طاهر. كذلك بالإجازة من الحبيب: مشهور أخي، والإجازة العامة من الوالد، والإجازة من الحبيب: محمد بن علوي بن شهاب الدين، والإجازة من الحبيب: أحمد بن علي بن أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم، عن الجد: سالم عن الحبيب عيدروس بن عمر الحبشي، عن المؤلف الحبيب: عبدالله بن حسين بن طاهر، وغيرها من الطرق المتصلة إلى الحبيب عبد الله بن حسين وكُتبه، أجزناكم في ذلك.
نظر الله إلينا وإليكم، وكتب القبول لنا ولكم، وبارك في هذه الدورة وهذه المجالس وهذا الموسم، وما كان فيه من مجالس، وما كان فيه من نفحات، وما كان فيه من خيرات، وما كان فيه من تآلفات، وما كان فيه من عَزَمات ونيّات للقيام بعهد الله والوفاء به ونُصرة الحق ورسوله وهذه الأمة. كتب الله لنا التوفيق الكامل والقبول التام، وجزى الله سبحانه وتعالى أهل هذا المسجد خير الجزاء، وأعانهم على كمال القيام به، وجزى الله -سبحانه وتعالى- هذه الدولة التي أعانت على القيام بهذا الأمر ويسّرت له، وأخذ الله تعالى بيد ملك البلاد وسار به سبيل الهدى والرشاد والسداد، وحماه من الآفات والبلايا والأنكاد، وأعانه وولي عهده والقائمين معه؛ الأمير غازي بن محمد وجميع المعاونين على هذا الخير والقيام بهذه المآثر؛ الأمير هاشم بن الحسين وجميع من يتعاون معهم على مرضاة الله تبارك وتعالى، وعلى القُرب من الله تبارك وتعالى، وعلى أحبابنا الباذلين الوُسع والخدمة من القائمين في هذه البلدة، والفاتحين قلوبهم والفاتحين ديارهم ومنازلهم، والوافدين من الجهات المختلفة، اقبلنا أجمعين يا رب، اقبلنا أجمعين يا رب، اقبلنا أجمعين يا رب، واجعلها وُصلة بيننا وبينك لا تنقطع أبدا، واجعلها صلِة تدوم أبدا، وانظمنا في سلك السعداء، واجعل فيها مفتاحًا لأبواب الفرج للمسلمين، وغياثًا لأهل غزة ولأهل فلسطين ولجميع ما تعلّق ببيت المقدس، ولجميع ما كان متصلًا ببيت المقدس.
اللهمّ أكرمنا والمسلمين بردّ كيد أعدائك أعداء الدين عنّا وعن بيت المقدس وعن المسلمين في غزة وفي جميع الأقطار، وأصلِح شؤون المسلمين في السودان، واجمع شملهم وادفع عنهم هذا الفتن والعصابات والشر الذي نازلهم والدواهي التي دهتهم، يا محوّل الأحوال حوّل حالهم إلى أحسن حال. وانظر إلى جميع أهل شامنا وأهل يمننا وأهل الشرق وأهل الغرب؛
يا ربنـــــا يا مُجيب *** أنت السميع القريب
ضاق الوسِيع الرحيب *** فانظُــــر إلى المؤمنين
نظرة تُزيل العناء *** عنّـــا وتُدني المُنى
منّا وكل الهنـــاء *** نُعطاه في كلّ حين
برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهمّ اجعلها ساعات قبول، وليالي وأيام وَصل ووصول، وبلِّغنا السؤل والمأمول، وارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم، والثبات على صراطك المستقيم، والدخول في دائرة حبيبك العظيم. واجعلنا اللهمّ من النائِلين وداده الفخيم، وتولّنا به وابسط لنا به بساط التكريم يا كريم؛ ولا تفرّق بيننا وبينه في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ ويوم الموافاة حتى تجمعنا به في أعلى درجات دار الكرامة وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
16 جمادى الأول 1445