(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين للإمام عبدالله بن حسين بن طاهر رحمه الله، ضمن ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار رضي الله عنهم لعام 1445هـ - الأردن
ليلة الثلاثاء: 14 جمادى الأولى 1445هـ
فَصلٌ
اعلم: أن النوم مثل الموت ، واليقظة مثل البعث ، وأن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ، فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثرَ من ثمان ساعات، فيكفيك إن عشت ستين أن يضيع منها عشرون سنةً إلا أن تكون يقظتك وبالاً عليك فلا بأس؛ فقد جاء في أثرٍ أو خبرٍ: "يأتي على الناس زمانٌ أحسن ما يجدون في صحائفهم الصمت والنوم".
ثم قال رضي الله عنه بعد أن رتَّب لك الأعمال من الاستيقاظ إلى المنام: وداوم على هذا الترتيب عُمُرك، وإن شقّ عليك .. فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظاراً للشفاء، وتفكَّر في قِصر عمرك، وإن عشت مثلاً مئة سنة .. فهي قليلةٌ بالإضافة إلى مقامك في الدار الآخرة وهي أبد الآباد.
وتأمَّل أنك كيف تتحمل الذُّلَّ والمشقة في طلب الدنيا شهراً أو سنة؛ رجاء أن تستريح بها عشرين سنة، فكيف لا تتحمل ذلك أياماً قلائل رجاء الاستراحة أبد الآباد؟!
ولا تطوِّل أملك فيثقل عليك عملك، وقَدِّرْ قرب الموت؛ فإنه لا يهجم في وقتٍ مخصوصٍ وسِنٍّ مخصوص، ولا بد من هجومه؛ فالاستعداد له أولى ، ولعله لم يبقَ من عمرك إلّا نَفَسٌ واحد ، أو يوم واحد ، فكلّف نفسك الصبر على طاعة الله؛ فإنك إن فعلت ذلك .. فرحت عند الموت فرحاً لا آخر له ، وإن سوّفت وتساهلت .. جاءك الموت في وقت لا تحتسبه وتحسّرت تحسُّراً لا آخر له.
وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى، وعند الموت يأتيك الخبر اليقين ، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.
الحمد لله، يبيّنُ لنا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- شأنَ النوم، وحاجتنا إليه في الحياة الدنيا، وتركيبتنا التي ركّب الله أجسامنا عليها، جعلها في حاجة إلى النوم، ولا بد لها منه، قال: وجعل اليوم والليلة أربع وعشرين ساعة، فلا يكون نومك بين الليل والنهار أكثر من ثمان ساعات، فإن ثمان ساعات ثلث اليوم والليلة، فلو عشتَ ستين سنة وأنت تنام في اليوم ثمان ساعات؛ يكون مدة النوم في الستين سنة عشرين سنة، عشرين سنه نوم!، ثلث كثلث اليوم والليلة، فثلث الستين عشرين، فعشرين سنة هذا نوم! باقي معك الأربعين، الأربعين منها أيام الصبا كم؟ والباقي منها بعد ذلك؟ كم منه في الطاعات والقُربات؟ وكم في النوم وكم في الأكل؟ كم يصفو لك من العمر هذا كله؟ -الله يبارك في أعمارنا-، قال:
بركة العمر؛ إذا عمرك مضى وأنت طائع *** تعبد الله دائم وأنت خاشع وخاضع.
بعض الناس عمره قصير ولكن مُبارك، يعمل فيه العمل الكثير، ويَرقى فيه الدرجات العُلى، وبعضهم عمره طويل ولكنه مُضيّع، فما أقصر عمره!، والعمر كله في الدنيا قصير، بالنسبة لأمد الآخرة التي لا نهاية لها.
ويُذكر أن بعض الملائكة سأل سيدنا نوح النبي -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-، وقد عاش في الدنيا ألف ومئة سنة، أو ألف ومئتين سنة، مدة التبليغ ألف سنة إلا خمسين عاما -مدة إنذاره لقومه-، و قبل أن يُنزل عليه الوحي، وعاش بعدهم مدة، نحو ألف ومائتي سنة كان عمره، فسأله المَلَك: كيف رأيت الدنيا؟، قال: "كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"، فهكذا الدنيا -الله يرزقنا خيرها ويدفع عنا شرها، ويرزقنا خير الآخرة ويدفع عنا شرها-.
الحث على ترتيب الأوقات واغتنام الأعمار
قال: "يأتي على الناس زمان أحسن مايجِدون في صحائفهم الصمت والنوم"، ذكَره في قوت القلوب وفي الإحياء، قال: هذا أحسن أعمالهم؛ لأن أعمالهم الأخرى لا تَخلو من شوائب، وهذا إذا كانت يقظتك وبَال عليك -والعياذ بالله تعالى-.
قال: "بعد أن رتّب الأعمال في اليوم والليلة: داوِم على هذا الترتيب عمرك، وإن شق عليك اصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظارا للشفاء، وتفكّر في قِصَر العمر"، يقول: "لو عشت مئة سنة"، فما إضافتها بالنسبة لأيامك في البرزخ فقط؟، فكيف بيوم القيامة، خمسين ألف سنة؟، فكيف بدوام وأبد في الجنة أو في النار؟، فلا تساوي أعمارنا في الدنيا إلا شيئا حقيرا، لا يُنسَب إلى عيشنا المُقبل في النعيم أو في العذاب -والعياذ بالله، اجعلنا من أهل نعيمك يا رب ولا تعذِّب فينا أحدا-.
قال: "وتأمّل أنك -في عالم الدنيا- تتحمل المشقة في طلب الدنيا شهر أو سنة، من أجل أن تستريح عشرين سنة"، هذا في مثل أيام الغزالي، أما اليوم نرى الذين يطلبون الدنيا من أجل أن يستريحون، لا يكفيهم لا شهر ولا سنة ولا سنتين، ولا يرتاحون عشرين سنة، ولا عشر سنين، غالبهم في الكَد، ومحلّهُ الجمع لمّا يموت، في وقتنا هكذا صاروا. لكن أوّل كان يسافر ويجتهد للدنيا سنة، ثم يجلس عشرين سنة بعد ذلك بمحصول هذه السنة، هذا في القرون تلك، أما الآن تطوّرنا، تطورنا صرنا حتى يشتغل عشرين سنة، ولا يرتاح سنة، عشرين سنه شغل كدّ مُتواصل، وسنة كاملة ما يقعد مكانه وراءها، قالوا: إذا كان هذا حالكم في الدنيا، فكيف ما تبذل العمر القصير في نعيم الأبد وفي لذّة الخُلد الباقية؟ -لا إله إلا الله، يا رب بارك في أعمارنا-.
قال: "عند الصباح يحمد القوم السُّرى"، لما يأتي الصبح، والذين ما سرَوا في مكان بعيد مساكين، عاد وراءهم مسافة، واللي سرَوا في الليل، قد وصلوا، من الذي يَحمد؟ من الذي يفرح؟، الذين سروا، والذين ناموا دعهم يبقون مكانهم، مازال لديهم مسافة وراءهم طويلة. "وعند الصباح يحمد القوم السُّرى"، وكذلك عندما ياتي صباح القيامة، يحمد الذي سروا أيام الدنيا في طلب الرحمن، وطلب القرب منه -جل جلاله-، والذين ناموا ما يحمدون يتحسّرون.
فَصلٌ
وقال رضي الله تعالى عنه: أحضِر قلبك ، وفرّغه من الوسواس ، وانظر بين يدي مَنْ تقوم ومَنْ تناجي ، واستِح أن تناجي مولاك بقلبٍ غافلٍ وصدرٍ مشحونٍ بوساوس الدنيا و خبائث الشهوات.
واعلم: أن الله مطَّلعٌ على سريرتك وناظر إلى قلبك ، وإنما يتقبَّل الله من صلاتك بقدر خشوعك وتواضعك وخضوعك وتضرُّعك.
واعبده في صلاتك كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه، فإنه يراك؛ فليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْتَ منها.
وأما ما أتيت به مع الغفلة، فهو إلى الاستغفار والتكفير أحوج.
فَصلٌ
اعلم: أن الدين شطران:
أحدهما: فعل الطاعات، والآخر : ترك المناهي وهو الأشد.
فالطاعات يقدر عليها كل أحدٍ ، وترك الشهوات لا يقدر عليها إلّا الصديقون ؛ فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجر مَنْ هَجَرَ السوء ، والمجاهد من جاهد هواه".
واعلم: أنك إنما تعصي الله بجوارحك، وهي نعمةٌ من نعم الله تعالى عليك وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله تعالى على معصيته غاية الكُفْرانِ، وخيانتك في أمانة أودعكها الله غاية الطغيان، وأعضاؤك رعاياك ، فانظر كيف ترعاها ؛ فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.
واعلم: أن جميع أعضائك تشهد عليك في عرصات القيامة بلسانٍ طلق جميع ذلق ، تفضحك على ملأ من الخلق ، قال الله تعالى : ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النور:24]، وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:65].
فاحفظ یا مسکین جميع أعضائك عن المعاصي خصوصاً أعضاءك السبعة؛ فإن جهنم لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جُزءٌ مقسومٌ، ولا يتعيَّن لتلك الأبواب إلا من عصى الله تعالى بهذه الأعضاء السبعة؛ وهي: الأذن، والعين، واللسان، والبطن، والفَرْج، واليد، والرجل.
وجوب حفظ الأعضاء والقلب عن المعاصي
حفظ الله أعضاءنا وقلوبنا، يقول: إذا أردت القيام في الصلاة، أحضر قلبك وفرّغه من الوسواس، وانظر بين يدي من تقوم ومن تناجي، واستحيي أن تناجي مولاك بقلب غافل، وصدر مشحون بوساوس الدنيا، فما هكذا يدخل إلى حضرة الله -جل جلاله-، وكان يتلوّن وجه سيدنا علي زين العابدين وهو يقوم إلى الصلاة، قالوا له: ما لك هكذا؟ لونك يتغير عند القيام؟، قال: أتدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟، أتدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟ -الله، لا إله إلا الله-.
قال ربنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2]، قال: "اعبده في صلاتك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، "وما أتيت به مع الغفلة -في الصلاة- فهو إلى الاستغفار والتكفير أحوج"، "وليس لك إلا ما عقلت من صلاتك".
ثم قال: "الدين شطران: فعل طاعات، وترك محرمات، والطاعات يقدر عليها كل أحد، لكن ترك المعاصي هو شأن الصدّيقين" والصادقين مع الله -تعالى-، والأخيار المقربين -الله يلحقنا بهم-. "المُهاجِرُ مَن هجَرَ السُّوءَ، والمُجاهِدُ مَن جاهَدَ هواهُ"، فنعْمت الهجرة ونعم الجهاد، وقد جاء في أحاديث متعددة، ومنها ما أورده في التعليق عندكم، "ألا أخبركم بالمؤمن، من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعته، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".
وهكذا، وفي لفظ: "والمهاجر من هجر السوء"، وفي مسند أحمد، قال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، ما الإسلامُ؟، قال: "أنْ يُسلِمَ قلْبُك للهِ عزَّ وجلَّ، وأنْ يَسلَمَ المُسلِمونَ مِن لسانِك ويَدِك"، "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"، وهكذا و"المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" -اللهم ارزقنا ذلك-، في لفظ "أفضلُ المهاجرين من هجر ما نهى اللهُ عنه، وأفضلُ الجهادِ من جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ و جلَّ" -لا إله إلا الله-، وذكر في صحيح البخاري: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه".
قال: وأنت ما تقدر تعصي الله إلا بالجوارح أو بالقلب، وهي عطية من عطايا الله، مِنَنْ ونِعم أنعم بها عليك، تأخذ نعمه وتعصيه بها! -لا إله إلا الله-، كيف تستعمل ما أنعم به عليك في معصيته؟، قال: "هذا غاية الكُفران، وخيانة في أمانة أودعك الله إياها".
قال: "وجميع أعضائك ستشهد عليك، يوم تنطق الأعضاء بين يدي الرحمن يوم القيامة"، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21]، والأرض أيضا تشهد، والزمان يشهد؛ "فاحفظ يا مسكين جميع أعضائك السبعة"، قالوا: من الحكمة أن الله جعل للنار سبع أبواب، وجعل لجسدك سبع أعضاء، "ولا يتعيّن لدخول السبعة أبواب النار، إلا من عصى الله بالأعضاء السبعة" التي وَهبهُ إياها في الحياة الدنيا، وللجنة ثمانية أبواب؛ لأنه لا يُعد للكافر والفاسق قلب، والمؤمن عنده سبع أعضاء وعنده قلب، فصارت أبواب الجنة ثمانية، يدخلها من أطاع الله بالقلب وهذه السبعة الجوارح، ومن أطاع الله بقلبه وجميع جوارحه، نُودي من كل أبواب الجنة يدخل من أيها شاء -اللهم أدخلنا جنتك بغير حساب-.
بسم الله الرحمن الرحيم، ورضي الله عنكم،
فصل
أما العين، فإنها خُلقتْ لك لتهتدي بها في الظلمات ، وتستعين بها في الحاجات ، وتنظرَ بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات ، وتعتبرَ بما فيهنَّ من الآيات ، فاحفظها عن أن تنظر إلى غير مَحْرَمٍ أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس، أو إلى مسلمٍ بعين الاحتقار ، أو تطّلع بها إلى عيب مسلم.
فصل
وأما الأذن، فاحفظها من أن تصغي بها إلى البدعة أو الغيبة، أو إلى الفحش أو إلى الخوض في الباطل ، أو ذكر مساوىء الناس؛ وإنما خُلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحكمة أوليائه ، وتتوصل باستفادة العلم بها إلى المُلْكِ المقيم والنعيم الدائم.
فإذا أصغيت إلى المكاره، صار ما كان لك عليك ، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك ، وهذا غاية الخسران.
ولا تظنن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع ؛ ففي الخبر: "إن المستمع شريك القائل ، وإن المستمع أحد المغتابين".
حفظ العين والأذن عن المعاصي لتتهيأ إلى النعيم المقيم
يقول: العين والأذن، لِم خلق الله لك العين؟ قال: خلق لنا الأبصار سبحانه، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]، -اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك-، قال: "خلق لنا الأعين والنظر لنهتدي بها في الظلمات، ونستعين بها في الحاجات، وننظر بها إلى عجائب الملكوت في الأرض والسماوات، ونعتبر بما فيها من الآيات"؛ هذا الحِكَم الكبيرة في خلقه، ثم إذا حفظتها وقُمت بشكر الله بحفظها من الذنوب والمعاصي:
وقد يتقدم ذلك لك في الحياة في النوم، أو في اليقظة، ثم عند الغرغرة، ثم في القبر والبرزخ، ثم في يوم القيامة، وأعظم من كل ذلك ما أعد الله لك من النظر إلى وجه حبيبه محمد ﷺ، والنظر إلى وجهه الكريم في دار الكرامة ومُستقرّ الرحمة، حيث ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إذا كان هذا كله شأن العين، بأمور حقيرة ويسيرة مثل:
بهذه الأشياء تنقطع عن النعيم المُقيم، وعن نظر المُقربين والصديقين، ونظر وجوه الأنبياء، فلماذا؟ اترك هذا الأمر الحقير "ومَن تركها -أي النظرة- مِن مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه"، "النظرة سهم من سهام إبليس"، قال الله: "من تركها من أجلي -في رواية من مخافتي- أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه"، -هيئ اللهم عيوننا لنظر وجوه النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والملائكة المقربين-.
قال: "والأذن" أعدّها الله لأمر عظيم، أعدها لتسمع بها كلامه، وكلام رسوله، وحِكَم أولياؤه، وتتوصل باستفادة العلم إلى المُلك المُقيم والنعيم الدائم، وتسمع ندائه يوم القيامة يناديك وهو راضٍ عنك -جل جلاله-، وتسمع خطاب الأنبياء، وخطاب المقربين، وخطاب الملائكة لك بالبشائر؛ هذا كله لأذُنك إذا حفظتها، فلا تضيّعها باستماع الغيبة، أو النميمة، أو الآلات المحرمة، أو الكلام الماجن، فتقطع نفسك عن النعيم المُؤبد، لمن حفظ سمعه مما يسمعه من الخير في آخرته، إلى أن يسمع كلام الله -جل جلاله-، فيُكلّمه ويُزكيه وينظر إليه يوم القيامة، ويخرج من دائرة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة، (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قال: "احفظها من الإصغاء إلى البدعة، والغيبة، والفُحش، والخوض في الباطل، وذِكر مساوئ الناس"، "فإذا أصغيت للمكاره؛ صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك، سبب هلاكك" -والعياذ بالله-، والإثم لا يختصّ بالقائل؛ المستمع شريك للقائل فيما يقول، مهما أنصت إليه، ورضِيَه، ولم يَنهه، ولم يزجره، أو أمكنه القيام عنه، فلم يقم عنه، فيشاركه باستماعه، فكأنه اغتاب مع المغتابين -والله يحفظ علينا أسماعنا وأبصارنا- (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36].
متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا في سبيلك ما أحييتنا، وارزقنا صَرْفها فيما يرضيك عنّا، وهيئّنا يارب العالمين لأن نسمع كلامك، وكلام نبيك محمد، وكلام أنبيائك ورُسلك، وهيئّنا لأن ننظر إلى وجه نبيك محمد، ووجوه صحابته وآل بيته، ووجوه الأنبياء والمرسلين، واحشرنا مع أهل الوجوه الناضرة، التي هي إليك ناظرة، يا رب الدنيا والآخرة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صلِّ وسلم و بارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
15 جمادى الأول 1445