شرح قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) - 11- شرح من قوله: حذارِ مِن دعوى بغير معنى

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس الحادي عشر:  شرح من قوله: حذارِ مِن دعوى بغير معنى

عصر يوم الثلاثاء 17 محرم 1446هـ.

لتحميل القصيدة pdf:

https://omr.to/q-dawrah30

نص الدرس مكتوب:

 

حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى *** فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى
لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ بِالهُوَيْنَا *** إِنْ كُنْتَ صَادِقْ لِلسِّوَى.. فَفَارِقْ
لَا تَدَّعِي فَالصِّدْقُ لهْ عَلَائِمْ *** مَا حَازَهَا مَنْ فِي الظَّلَام نَائِــــمْ
إِلاَّ الَّذِي للهْ فِيْه قَائِمْ *** أَوْ  سَائِـحٌ  مِنْ  شِاهِـــقٍ لِشَاهِقْ
ذُوْ خَلْوَةٍ بِاللهِ فِيْ الدَّيَاجِرْ *** شَاكٍ وَبَاكٍ، مُطْـــرِقٌ وَنَاظِـــرْ
رَاجٍ وَخَائِفْ، أَدْمُعُهْ مَوَاطِر *** كَائِنْ وَبَائِنْ صَامِـــتٌ وَنَاطِــــقْ

الحمد لله مُنوِّر القلوب ومُصفّيها عن الشوب، ومُطهِّر الأفئدة عن العيوب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علّام الغيوب، ونشهد أن سيدنا ونبيّنا وقُرَّة أعيننا محمّدًا عبده ورسوله وحبيبه المحبوب. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن على منهجه سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأسرار والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 أما بعدُ،

 فإننا في تأمُّل معاني هذه القصيدة العظيمة، وصلنا إلى قوله: "حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى"؛ أي: كُن على حذر دائمًا؛ مما تدَّعيه نفسك من الصدق ولست بمتحقّق به، ومن كل ما يُتخيّل لها أنها نالته من المقامات ولم تتحقّق بعد به، ولم تنزل به؛ فإنها إذا عرفت تتصوَّر بعض الأشياء بحسب ما عندها أو قصورها، أو تُعبِّر عن ذلك بلسانها وقولها؛ حسبِت أنها تحققت، وحسبت أنها أدركت، وهي إنما تصوّرت تصوّر قد يقرُب من التساوي فيها البَر والفاجر! وتكلّم بلسان عن غير ذوق وعن غير وجدان، فظنّ أنّ من تكلّم مثلًا في دقائق الرياء؛ أنه سالم من الرياء، ومن تكلم عن معاني الإخلاص أنه من المخلصين، ليس الأمر بالكلام، ولا بمعرفة كلام العارفين في هذا؛ ولكن بالتحقق به، وذوقه، والاتصاف بهذه الأوصاف. 

قال: "حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى"، دعوى أنك أفضل من الغير، دعوى أنك فاهم للحقيقة، دعوى أنك مُتحقق بحال ومقام ليس لك، ولست مُتحقق به؛ وربما برقت عليك منه بارقة، أو لاحت لائحة فظننت أنه هذا هو كله حال وهذا هو المقام.. قال: فاحذر من هذه الدعوى.. 

"حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى"؛ بغير حقيقة تتّصِف بها، "فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى"؛ فليس نيل القصد بالتمَنِّي، لا كل من تمنَّى العلم صار عالم، ولا كل من تمنَّى الولاية صار ولي، ولا كل من تمنّى وظن أنه مخلص فهو مخلص، ولا كل من تمنَّى وظن أنه زاهد فهو زاهد.. "فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى" 

"لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ" بإدراك الحقائق، والتحقُّق بالأحوال والمقامات في اليقين، ونيل القُرب من رب العالمين، لا تظن أن الفوز "بِالهُوَيْنَا"؛ بالتساهل وباليُسر يأتيك وأنت غافل، شؤون الدنيا الحقيرة الفانية ما تأتيك إلا بكَدّ، باهتمام، بنشاط، بتعب، وبمثابرة ودوام أو وظيفة، ومن الساعة كذا وشيء بالبصمة؛ تسجل دخلت أو خرجت، ما تحصل قليل من لعاع الدنيا هذه، هذه الدنيا ما جاءت إلا بهذا الجهد؛ والأمور الكبيرة الخطيرة في الأحوال والمقامات تريدها هكذا تجيء بلعبة بضحكة.. أنت مجنون؟! هذه أثمن، وهذه أعظم، وهذه أدوَم، وهذه أبقى، وهذه أرقى؛ فلابد من جِدّ (وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]. 

"لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ بِالهُوَيْنَا *** إِنْ كُنْتَ صَادِقْ"؛ في وِجهتك إلى الخالق، في إرادتك لوجهه، في طلبك القرب منه، "لِلسِّوَى فَفَارِقْ" فارق السوى. 

أما تبقى مُعلّق بغيره، وراغب في غيره، مُتقطّب على غيره، وتقول: أنا أريده! هذا ما هو صدق! "إِنْ كُنْتَ صَادِقْ لِلسِّوَى.. فَفَارِقْ" 

دَع ما سوى الله.. 

"يَا   قَلْبُ   وَحِّدْ   وَاتْرُكِ  اْلخَلَائِقْ *** وَكُـنْ بِمَوْلَاكَ الكَرِيْمِ وَاثِقْ

وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق *** وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنَّ لَا تُفَارِقْ" 

 "إِنْ كُنْتَ صَادِقْ لِلسِّوَى.." ؛ يعني: كل ما يشغلك عنه، كل ما يقطعك عنه، كل ما يبعدك منه؛ فارقه وابعد منه ولا ترتضيه، واجعل شغلك به، حيثما كنت وأينما كنت. 

" حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى *** فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى

قال الإمام الجنيد: إن أماني المغفرة لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس. قال نبينا ﷺ: "الكيّس من دان نفسه" حاسبها "وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني". قال إنه سيصبح عالم ويصبح ولي، ويصبح صادق؛ ومع اتباعه لهوى نفسه! 

كمثل من يقول: أريد أصل إلى البلد الفلاني.. يسلك الطريق المضاد لها الموصل لوجهة الثانية ويروح كذا، أين تريد؟ قال: أريد البلد الفلاني.. اذهب كذا طريقها، قال: ما عليك أنت.. المهم نمشي بس قصدنا نصل، كيف تصل وأنت مُتجه لغيره! اتجه نحو البلد الذي قصدت تدرك.. تريد الله تعالى، اتجه بكليتك نحوه؛ اجتمع عليه، اجتمع عليه بكليتك.. أنت تريده؟ تستقبل غيره! إذا أردت استقبله خلاص امش وعندك أمامك كعبة.. كعبة الإقبال على الله اسمه محمد ﷺ؛ اخضع له وامتثل أمره، واتبعه هو دليلك وموصلك إلى باريك -جل جلاله- لأنه هو أرسله إليك ليوصلك إليه، أرسله إليك ليوصلك إليه، فهذا مُرسل من عند ربك الذي يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، والرب يؤكد هذا في القرآن: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجࣰا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمࣰا) [النساء:65]. 

المصيبة الكبيرة التي أصابت المسلمين: أن القدوة بسيدنا رسول الله ﷺ اختلٍَت وضعفت عند كثير من الرجال والنساء:

  • في أفكارهم
  •  وفي وجهاتهم 
  • وفي مقاصدهم
  •  وفي نياتهم 
  • وفي أخلاقهم
  •  وفي أزيائهم
  •  وفي مختلف أنحاء حياتهم؛

ذهبت قدوة سيد الوجود من عندهم وضعُفت، هذا مصيبة المسلمين، وإلا فقد أوحى الله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [ال عمران:31].. 

فلابد نرجع إلى تحكيمه ﷺ؛ ولأن ننصبه القدوة لنا في ذواتنا وعقولنا وأفكارنا ونبني ذلك في أبنائنا، وبناتنا. اليوم أصبح القدوات لكثير من الرجال ونساء المسلمين وشبابهم وبعض شيبانهم، إما مُمثل، وإما فاجر، وإما فاسق، وإما غافل، وإما جاهل، أين القدوة!! 

  • (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا) [الأحزاب:21].
  • (وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟ۚ) [النور:54]. 
  • (مَّن یُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظࣰا) [النساء:80]. 
  • (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِیُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ جَاۤءُوكَ)؛ يعني: عرفوا أنك الباب إليّ وتوجّهوا إليّ بك (جَاۤءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُوا۟ ٱللَّهَ تَوَّابࣰا رَّحِیمࣰا) [النساء:64]

هنا يذكر في الآية:

  • مجيئنا إلى الرسول. 
  • و استغفار الرسول لنا. 

(جَاۤءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ)؛ فجعل استغفارنا بين المجيء إليه، وبين استغفاره لنا.. ثم .. نجدُ الله.. (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا). 

فياربنا بحبيبك محمّد اغفر لنا، فإنّا نستغفرك يا خير غفار، فكفِّر عنا الذنوب والأوزار، عن جميع الحاضرين وجميع السامعين وجميع المُحبّين، كفِّر عنا وعنهم الذنوب والأوزار، واغفر لنا يا غفّار، وامحُ جميع ما في صحائفنا حتى لا يبقى لسيئة ولا لمعصية ولا لخطيئة ولا لزلّة أثر من الأثر، يا كريم يا غفّار، يا جزيل العطاء، يا من لم يزل جوده مدرار. 

واستغفر لنا يا رسول الله؛ فإن الحقّ تعالى رَحِمَ عباده بك وأمرك بالاستغفار لهم، وأوحى إليك: (فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19].. اللهم اغفر لنا بهذا النبيّ. 

يقول: "حَذَارِ مِنْ دَعْوَى"؛ لا تدَّعي.. فكما يقول لك في البيت الآتي "حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى"؛ فإن المتحقّقين بالحقائق لا يدّعون ولا يبطرون ولا يتكبرون ولا ينسبون لأنفسهم شيء، ولا يترفّعون على أحد، وأنت غير متحقّق وتريد تترفع.. وتريد تتكبر.. وتريد تتعالى!

"حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى***فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى" 

"لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ"؛ بالقرب، والمعرفة، والرضوان، والمحبة، وخلود الجنة، ومرافقة النبيين "بِالهُوَيْنَا" كيف بالهوينا؟ هذا أعظم شيء، هذا أكبر شيء؛ يحتاج تبذل له الجُهد، وتبذل له الصدق، وتبذل له الاجتهاد، وتبذل له المبالغة في الطلب. 

"لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ بِالهُوَيْنَا *** إِنْ كُنْتَ صَادِقْ لِلسِّوَى فَفَارِقْ" 

اترك العلائق بغير الله تعالى، والالتفات إلى ما سوى الله تعالى، "لَا  تَدَّعِي" مقامًا ولا حالًا؛ فالصدق له علامة   "فَالصِّدْقُ   لهْ  عَلَائِمْ"؛ جمع علامة، علامة، علامات.. علائم.. "فَالصِّدْقُ   لهْ  عَلَائِمْ" 

إن ادّعيت الزهد فالزهد له علامات، هل هي فيك؟ 

إن ادعيت الصبر، الصبر له علامات

 إن ادعيت التوكل، فالتوكّل له علامات.. هل هي موجودة أم غير موجودة؟ اعرض نفسك عليها.. ادخل السوق شوف واعرض البضاعة حقك تنفق ولا ما تنفق؟ أما من بعيد كذا كل شيء تدّعيه، هيا تعال ادخل إلى سوق الصابرين، شوف أين أنت؟ لا إله إلا الله! 

"لَا   تَدَّعِي   فَالصِّدْقُ   لهْ  عَلَائِمْ"، والصدق في محبة الله من أقوى علاماتها: أنك تعشق الخلوة بالله،  فتحرص على ساعات مع الله؛ خصوصًا وقت غفلة الغافلين، ونوم النائمين، اشتغال العصاة بعصيانهم، واشتغال الغافلين بنومهم، وأنت تشتغل به وتخاطبه في هذا الوقت.. غالب الليالي في مختلف الجهات إذا جاء الليل أرباب المعاصي انطلقوا إلى معاصيهم، وأرباب الغفلات ناموا واشتغلوا بنومهم في هذا الوقت، وأحباب الله والراجين قرب الله، والراغبين في الوصول إلى الله.. يشتغلون به ويختلون به لذا قال:

"لَا   تَدَّعِي   فَالصِّدْقُ   لهْ  عَلَائِمْ *** مَا  حَازَهَـــا  مَنْ  فِي  الظَّلَامٍ نَائِــــمْ

يشير إلى ما جاء في الحديث القدسي: "كذب من يدّعي محبتي فإذا جنّ الليل نام عنّي، أليس كل محب يحب أن يخلو بحبيبه؟" 

لذا لما سألوا السيدة عائشة بعد وفاة النبي ﷺ: "ما أعجب ما رأيتِ من أحوال النبي؟ قالت: وبما أحدثكم كان كل حاله عجب".. أحدثكم عن كلامه، أم أحدثكم عن نظراته، أم أحدثكم عن أخلاقه، أحدثكم عن زهده، أحدثكم عن شجاعته، أحدثكم عن إنابته إلى الله، وأحدثكم عن بكائه، … في أي شيء أحدثكم؟! كله عجب ﷺ. ثم قالت لهم: "كان إذا جنَّ الليل وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، خلا هو بحبيبه وقام يناجي ربه". 

"خلا هو بحبيبه وقام يناجي ربه"، وَلقد وَرَد عليّ في ليلة من الليالي في ساعة متأخرة من الليل، فعمد إلى موضئة فتوضأ فلم يزل يسجد ويبكي ويسجد حتى طلع الفجر، قالت: وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فرأى أثر البكاء عليه، قال: يا رسول الله ﷺ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا بلال لقد أنزلت عليّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها وتلا:(إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ * ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلࣰا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ * رَبَّنَاۤ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَیۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ) [ال عمران: 189-192] 

(رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا) والمنادي: هو ﷺ (رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ * فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلࣲ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۖ فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابࣰا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ) [ال عمران: 193-195].

(لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ) [ال عمران:196]، يضحكون على الناس، ويجيئون بدعايات كذب، ويدَّعون أشياء كذب، دعوى من دون علامات.. لأغراض السلطة، وشهوة المال، ولذة الفرج والأكل والقصور وما إلى ذلك من المتاع الفاني.. هم عبيد لهذه الأصنام! ويأخذون أوقاتهم ويخسرون، ويُدحرون، ويأتي غيرهم كذلك، سُنة الله تعالى: (لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ)؛ والخلاصة في الأمر كله: (مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ * لَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ رَبَّهُمۡ) [ال عمران:197-198]،؛ كان كل ليلة إذا قام من نومه يتلو هذه الآيات ﷺ، ويتدبّرها، وقد ينام ثاني مرة، يقوم يتلو هذه الآيات ثاني مرة، كلما قام من نومه في الليل تلا هذه الآيات ﷺ. 

يقول: 

"لَا   تَدَّعِي   فَالصِّدْقُ   لهْ  عَلَائِمْ *** مَا  حَازَهَـــا  مَنْ  فِي  الظَّلَامٍ نَائِــــمْ

إِلاَّ    الَّذِي للهْ  فِيْه  قَائِمْ ***.. "

 ويستحلي قيام الليل:

 نُصبت  لأهل  المناجاة *** في  حُنُّدس  الليل  أعلام

واستعذبوا السهد وأمسوا *** قيامًا  إذ  نــام  من  نـــام

واستقبلتهم  لطائف *** بهجات فضلٍ وإكرام

من  لــــذّة لا تُكيـّـف *** ولا تُصوّر في الأفهام

قد ذاقها من عناها *** وهام  فيها الذي هام

يقول عنها أيضا سيدنا الإمام العدني ابن الإمام العيدروس؛ يقول:

يا ذا الذي ناداني *** وقت السُّحير أشجاني

نداه لي أسقاني *** من   قرقفاه  الهاني

سكِرت به؛ يعني: غبت عن كل الوجود

سكرت به فأفناني *** عن كلّ ضدّ ثاني

من قاصي أو داني *** في العالم الجسماني

إيش حصل لك؟ قال:

آنست أنس الأنس *** في مهرجان القدس 

وأفنيت هيكل نفسي *** و قالبــي   و حسّـــي

وزال وهم اللَّبس *** وحندسات  الحدس

بالبارق النوراني *** والوارد   الربّانــي

سمعت؟

كان كثير من أخيار الأمة في القرون الماضية يقولون: لولا قيام الليل ما أحببنا البقاء في الدنيا. 

وهكذا كان الحبيب علوي بن شهاب -عليه رحمة الله- في آخر أيامه يقول: ما عاد لنا غرض في الدنيا، ولا مراد إلا من أجل قيام الليل وتربية الأولاد. وعسى نسمة تهب من فائض جود الله يرقّينا بها، ما باقي  لنا غرض في الدنيا، ولا لنا رغبة في شيء منها، ولا في البقاء فيها إلا لهذا.

ويقولون لما يلذ لهم مناجاة الله في الليل: لو يعلم الملوك ما نحن فيه بالليل لجالدونا عليه بالسيوف! لكن ما يعلمون، وأكثر الناس لا يعلمون، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7].

 سمعت؟! "إلا الذي لله فيه قائم"، أو علامة ثانية؛

 منهم رجال يؤثرون سياحةً *** وسُكنى مغاراتِ الجبال وقفرة

 يسيحون من شعبٍ إلى بطن وادي *** وكلّ خرابٍ والفيافي الخليّة

 ذكرهم سيدنا الإمام الحداد. هذه علامة ثانية من علامات المحبة لله تعالى، وقصد وجهه الكريم، ما هو؟ سياحة في الجبال، والوديان خلوة بالله -تبارك وتعالى-، وإيثارًا لما عند الله -سبحانه وتعالى-. يقول عليه رضوان الله تعالى:

فلِلَه أقوامٌ نأى البعض منهم *** عن البعض إيثارًا لمقصودِ خلوة

 سمعت؟! قال: "فلله أقوامٌ"؛ من العارفين والأولياء، "نأى البعض"؛ أي: بعُد البعض عن البعض،

*** عن البعض إيثارًا لمقصودِ خلوة

وأنسًا بمولاهم وشغلًا بذكره *** وخدمته  في  كل  حينٍ  و حالـــة

وحرصًا على هذا الخمول لأنه *** 

"وحرصًا على هذا الخمول"؛ يعني: الاستتار وعدم الظهور والشهرة.

وحرصاً على هذا الخمول لأنه *** أمانٌ لأهل اللَه من شرّ شُهرة

وحب انقطاعٍ واعتزالٍ فإن فيهمــــــــــــا طيبَ عيشٍ في زمان البليّة

فمنهم مقيمٌ في الأنام وإنه *** 

"فمنهم"؛ من هؤلاء الأولياء، "مُقيمٌ في الأنام"؛ بين الناس، موجود في البلدان.

فمنهم مقيم في الأنام وإنه *** لمستور عنهم تحت أستار غَيْرة

لا أهله يعرفون ولايته، ولا جيرانه يعرفون ولايته، ولا أصدقاءه أو أصحابه يعرفون ولايته، ويشوفونه واحد منهم ومثلهم؛ وهم مشحون بسِرّ القرب والمعرفة والمحبة. 

فمنهم مقيمٌ في الأنام وإنه *** لمستور عنهم تحت أستار غَيْرة

يراه الورى إلا القليل كغيره *** من  الغافلين  التاركين  استقامة

قليل الذين يعرفونه، يظنونه مثلهم كماهم، هو متّستر وقاعد بينهم، وأحواله مع الله ثانية، جسده معهم وقلبه مع الله.

 ومنهم رجالٌ يؤثرون سياحةً ***

هكذا قال عندكم: "أَوْ سَائِحٌ مِنْ شِاهِقٍ لِشَاهِقْ"؛ من جبل لجبل.

 ومنهم رجالٌ يؤثرون سياحةً *** وسكنى مغارات الجبال وقفرة

يسيحون من شعبٍ إلى بطن وادي *** وكـــل  خرابٍ  والفيافي  الخليـــّـة

ومنهم رجالٌ  ظاهرون  بأمره *** لإرشاد هذا الخَلق نهج الطريقة

لهم هِمّةٌ في دعوة  الخَلق  جُملةً *** إلى اللَه عن نصحٍ ولطفٍ ورحمة

فهم  حُجّــةٌ  للمؤمنين  بربهم *** وفيهم لمرتاد الهدى خير قدوة

وحتفٌ على أهل الضلال وحُجّةٌ *** تقوم  على  أهل  الشقاق  وشقـوة

"وكلٌ"؛ من أصناف الأولياء هؤلاء؛

وكلٌّ على نهج السبيل السويّ لم *** يخالف   أمرًا   آخذاً  بالشريعـــة

وإن الذي لا يتبع الشرع  مطلقًا *** على كل حالٍ عبد نفسٍ وشهوةِ

 يُصلّح له أخبار من رأسه ومن عنده، ويجيب له تصوّرات من نفسه ومن هواه، ويدَّعي الولاية.. ويخالف أوامر الشريعة! لا خير إلا في اتباع الشريعة، وما جاء به من حوى الحُسن جميعه.. محمد ﷺ، الذي يحب الله أتباعه: (فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ).. 

قال: ما نال علامات الصدق  

 *** مَا  حَازَهَـــا  مَنْ  فِي  الظَّلَامٍ نَائِــــمْ

إِلاَّ     الَّذِي     للهْ    فِيْه    قَائِمْ *** أَوْ  سَائِـحٌ  مِنْ  شِاهِـــقٍ  لِشَاهِــــقْ"

أعرض عن الدنيا الغرور وعن مظاهرها، وما الناس مشغولون به وصار من جبل إلى جبل، من وادي إلى وادي؛ يطلب الخلوة بالله والحضور مع الله والاستغراق بذكر الله والأنس بالحق -تعالى في علاه-؛ هذا عنده علامة صدق: "ذُوْ خَلْوَةٍِ بِاللهِ فِي الدَّيَاجِرْ"؛ الدَّيَاجِرْ"؛ يعني: في ظلمات الليل.

"شَاكٍ"؛ من نفسه..  سيّدهم الأطهر يقول: أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي.. وهو أقوى الخلق ﷺ في الإيمان والمعرفة، "أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس" يا رب العالمين. 

"شَاكٍ وَبَاكٍ"؛ من تقصيره ومن ذنوبه، "وَبَاكٍ" أيضًا من خشيته، وباكٍ من محبته، باكٍ من رجائه، وباكٍ من محبته، وباكٍ من معرفته. 

  • فإن البكاء قد يكون من الخوف والخشية
  •  وقد يكون من الفرح والسرور، شدة الفرح تُبكي
  • وقد يكون من المحبة والشوق
  • وقد يكون من خالص المعرفة؛ (وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰۤ أَعۡیُنَهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلۡحَقِّ) [المائدة:83]. 

سمعت؟… وهؤلاء وكبارهم أكثر بكاؤهم محبة وشوق، يبكون من شدة الشوق والمحبة، كل ما ذكروا المحبوب هاجت أشواقهم، فدمعت عيونهم وهملت بالدمع شوقًا إلى الله وإلى لقائه سبحانه وتعالى. 

يقول:

  • "شَاكٍ وَبَاكٍ، مُطرِقٌ" له حالات إطراق، ساكن فيها والسكينة تتنزل عليه، متذلّل بين يديّ باريه سبحانه وتعالى. 
  • "مُطرِقٌ وَنَاظِرْ" بعين قلبه إلى وجهته إلى ربه، وأدبه معه وفائضات جودِه عليه. 
  • "رَاجٍ وَخَائِفْ، أَدْمُعُهْ مَوَاطِرْ" من شدة المعرفة، من شدة المحبة، من شدة الخوف. 
  • "أَدْمُعُهْ مَوَاطِرْ"؛ كأنها مطر. 

هذا وصفه حينئذٍ غريب؛ كيف؟ قال: "كَائِنْ  وَبَائِنْ". كيف كائن وبائن؟! 

  • "كائن"؛ بربه سبحانه وتعالى، وبالحضور معه والاستغراق فيه. 
  • "بائن"؛ ما له وجود.. منقطع ومنفصل عن نفسه وعن هواه وعن المظاهر؛ الأرض والسماء والدنيا وما فيها والآخر وكل شيء سوى الله تعالى.. بائن. 

 هو "كائن وبائن"، في نفس الوقت: "صَامِـــتٌ وَنَاطِــــقْ"؛ 

  • صامت عن كل ما لا يعنيه. 
  • صامت عن كل فضول. 
  • صامت عن أي اعتراض على الجبار جلّ جلاله. 
  • "ناطق" بالرجاء والعبودية والذكر والأدب. 

فهو صامت وهو ناطق في نفس الوقت.. لا إله إلا الله! فهو بهذه الحالة سيُكمّل أوصافه بعد ذلك في هذه الأبيات. 

الله يكرمنا وإياكم بحقائقها ونورها، وحقائق الصفات التي فيها، وما المقصود من قراءتها، ومن حفظها، ومن شرح بعض معانيها؟ على حسب ما يصل إلينا، وحسب ما نطّلع عليه، إلا أن نتحقق بالحقائق التي فيها وما تكمل علينا الأيام هذه الباقية القليل منها إلا وقد اتصّفنا وتصفّينا.. فنُصافى من قِبل الحق -جل جلاله- الله يكرمنا بهذه الكرامات.  

تاريخ النشر الهجري

17 مُحرَّم 1446

تاريخ النشر الميلادي

23 يوليو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام