(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس العاشر: شرح قوله: دع كلَّ شاغل واربحِ السلامة
عصر يوم الأحد 15 محرم 1446هـ .
لتحميل القصيدة pdf:
دَعْ كُلَّ شَاغِلْ واْربَح السَّلَامَةْ ** وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتِكْ بِلَا مَلَامَةْ
واصْدُقْ لِتَلْقَىٰ العِزَّ وَالكَرَامَةْ ** فَلَيْسَ إِلاَّ الصِّدْقَ ثَمَّ نَافِقْ
مَنْ كَانْ صَادِقْ تَمَّ لهْ مُرَادُهْ ** وَثَمَّ يَهْنَىٰ بِالرِّضَا فُؤَادُهْ
وَتُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَىٰ سُعَادُه ** فَاصْدُقْ فَمَا يَرْقَىٰ الْعُلَا مُنَافِقْ
الحمد لله وليّ التوفيق ومُبيّن المعالم التي يوصَل بها إلى مرافقة أعلى رفيق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أهل العبادة، وهو بها وحده حقيق، فلا معبود سواه، ولا مقصود إلا إياه، ولا موجود بذاته إلا هو، ولا مشهود لأهل المعرفة به والقرب منه غيره. ونشهد أن سيدنا و نبيّنا قرة عيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفوته وخيرته من بريته، جامع الكمال ومفيض النوال وسادن حضرة الجلال خاتم الإنباء والإرسال، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله خير آل، وأصحابه أهل صدق الإقبال وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان على مدى الأيامِ والليال إلى دار المآل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مظهر الجود الربّاني وواسع الإفضال، المتّصفين بأشرف الخِلال والخِصال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين جزيل النوال.
وبعدُ،
فقد تأملنا معاني بعض هذه الكلمات العظيمة، و انتهينا إلى قوله:
دَعْ كُلَّ شَاغِل واربَح السَّلَامَة *** وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك بِلَا مَلَامَة
فإن هذا سُلَّم الوصول إلى الصدق فتحقّق به،
وَاصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَة *** فَلَيْسَ إِلا الصَّدْق ثَمَّ نَافِـــق
أي: نافع ومُجدٍ ومقبول
"دَعْ كُل شَاغِل" اترك:
دَعه، اتركه، "دَعْ كُل شَاغِل" أما تسمع قوله في كتابه على لسان نبيه يقول: (فَفِرُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّی لَكُم مِّنۡهُ نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ) [الذاريات:50].
وكان من تجلّي معاني الفرار إلى الله ما كان في هجرة الإمام أحمد المهاجر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-؛ الذي وصل إلى حضرموت في مثل هذا الشهر، من نحو عام تسعة عشر وثَلاثمئة أوعشرين وثَلاثمئة، قبل ألف ومائة سنة وستة وعشرين أو سبعة وعشرين. كان وصوله في فراره إلى الله على مدى القرون، ما أشهر الله -سبحانه وتعالى- ذكره إلا بقول: المهاجر إلى الله، ولا أحد على ألسن المؤرخين والكاتبين والمتحدثين يقول: المهاجر إلى حضرموت، ولا المهاجر إلى اليمن، بل المهاجر إلى الله.. المُلبي لنداء؛ (فَفِرُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ) [الذاريات:50].
ثم نصح من حواليه أن يخرجوا من تلك البلاد لما احتوشها من أنواع الفتن، فسافر إلى مكة والمدينة وأقام سنة، جاء في خلال تلك السنة فتنة القرامطة، وصلوا وأخرجوا الحجر الأسود من الكعبة وأخذوه، فحجّ في عام 318 هـ أو 319 هـ، ووجد الناس يستلمون مكان الحجر، والحجر غير موجود..
وواصل السير بمن معه إلى اليمن، فاستقر، ومن في رَكْبِه، ووجد آل القديمي وجد آل الأهدل بوادي سردد ووادي سهام في اليمن، وواصل السير حتى وصل إلى حضرموت، فنزل بالجبيل، أقام أيام، وانتقل للهجرين، وجاء إلى قارة ذِي شيب ثم استقر في الحُسيسة، هذا المكان الذي فيه قبره.
ذكّرنا بهذا الفرار إلى الله.. "دَعْ كُل شَاغِل"؛ فما خرج طلبًا لمال ولا لجاه ولا لتِجارة ولا لأي شيء؛ ولكن:
لما صَعُب أداء حق التربية على وجهها في تلك الظروف في العراق، خرج وجاء إلى الوادي؛
فحفظها الله على يده، وتلقاها عنه الأكابر، وَزمّهم بزمام التقوى والبِر وحسن الشمائل. ورتب الله على هذه الخطوات وهذا التأسيس انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ حتى انضاف إلى العالم الإسلامي من الأرض ومن عدد الناس ضِعف ما كانوا عليه، فأضاف إلى الأرض قرابة الثلثين من أرض العالم الإسلامي دخل من أثر هذه المدرسة، دخلوا إلى دين الله وتحولت إلى أراضي مسلمة بعد أن كانت بلاد كفر والأعداد الكبيرة كذلك -فسبحان الله- ففيه فرار إلى الله، جلّ جلاله.
ويقول: "دَعْ كُل شَاغِل" وأنت الذي تشغل نفسك، يقول عدو الله إبليس لأصحابه في القيامة: (وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِي) [اِبراهيم:22]، أنت قاعد تشغل نفسك عن الله تعالى، أنت قاعد تعلق قلبك بغير الله تعالى، أنت تجني على نفسك تروح بفكرك وهمتك إلى الدون، أنت على نفسك تجني..
"دَعْ كُل شَاغِل"، اترك هذا وتعلّق به، واحضر معه، وتأمّل خطابه وكتابه ووحيه إلى نبيه، وارتبط بهذا النبي، هاديك ومُرشدك ودالّك ومُوصلك -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وتأمل أخلاقه، واشغل فكرك بذلك؛ تقرب وتدنو..
"دَعْ كُل شَاغِل" يشغلك عنه واشتغل به فنعم الشغل بالله -جل جلاله-.
الذي لغيرك لا يَصِل إليك *** والذي قُسِم لك حاصلٌ لديك
فاشتغل بربّك والذي عليك ***
فاشتغل بربك والذي عليك في طلب مرضاته،
فاشتغل بربّك والذي عليك *** من فرض الحقيقة والشرع المَصُون
"دَعْ كُل شَاغِل"، باقي معك أيام في مثل هذا الموطن، دع الشواغل؛ ترى عجائب من فائضات الخيرات النوازل والرحمات الهواطل، تصير واحد ثاني؛ عبد تعرَّف إلى عبوديته فتتعرف الربوبية إليه.
"دَعْ كُل شَاغِل واربَح السَّلَامَة"، من شر الشواغل هذه والآفات والقواطع والحُجُب، تسلم منها، بتركك لها وإعراضك عنها.. تسلم، مهما يحاول إبليس ويستعين بنفسك عليك، إذا أنت تركت هذه الشواغل ورفضتها تسلم منهم ومن شرّهم ما يقدرون عليك، (إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِی) [اِبراهيم:22]؛
"دَعْ كُل شَاغِل واربَح السَّلَامَة"، هل لك تسلم من هذه القواطع كلها؟ التي تقطعك في ليلك أو نهارك في سِرك أو إِجهارك؛ تسلم منها بترك الشواغل وترك الالتفات؛ لا تصغي إلى ما تقول النفس، وإلى ما يرسله إبليس عبرها إليك، لا تصغي لهم، اصغ لكلام الله وكلام رسوله ﷺ.
"دَعْ كُل شَاغِل واربَح السَّلَامَة"، حينئذٍ ترى عجائب النفحات في الأوقات والتجليّات الربانية، قال: "وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك"؛ يصفو لك الحال، والوقت والزمان، يصفو لك البال، ويذهب البلبال؛ فتدرك حقائق بثّها الإنباء والإرسال، فَتتهيأ لأن تُسقى السلسال.
"وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك"؛ فإنها جواهر ومِنن من الرحمن عليك في الأوقات إذا اغتنمت صفاها، يحسدك عليها عدوّك إبليس ويستعين بنفسك أن يكدّر عليك صفو زمانك، في مجلس رائق عجيب مثل هذا المجلس يخاف أن يلمع في قلبك نور التعلّق بالرحمن والحضور معه ويصفو لك الحال معه، يذكّرك بكذا وكذا… ويحاول يِخَرِجَك بأي طريقة، فـ"اغْنَمْ صَفَا وَقْتَك"؛
العلاج للأمراض النفسانية -التي يسمونها- بذكر الله، ما يمكن يوجد مثيله في جميع المستشفيات والتخصصات للأمراض النفسية في العالم، ما يمكن يوجد مثيله!
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، ومن عثر عليه أمِن من هذه الأمراض الغريبة، طول عمره، ولو انتشرت بين الأمة ستتقفل عيادات الأمراض النفسية؛ لن يحتاجوا إليها.. لكن هم على أنفسهم.. غفلوا عنه ورضوا بغيره واشتغلوا بسواه، وأرادوا الطمأنينة وأرادوا السكينة.. من عند من؟! من عند من ستأتون بها؟! هل إبليس يوزع عنده سكينة أو طمأنينة أو أحد من أصحابه؟! ما عندهم شيء!
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا..)[الفتح:4]، (لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا) [الفتح:18].
"وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك" تغانم العمر من قبل الحُنُط والكفن، كل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها، إن فاتت ما تقدر تردّها قط بأي وسيلة.
"وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَكَ بِلا مَلامَة" حتى لا تُلام، انفتحت لك الأبواب ما دخلت، مُدّت لك الحبال ما تمسّكت، عُرضت عليك البضاعة ما أخذت… اللوم عليك! لكن إذا غنمت "صَفَا وَقْتَكَ" مَا بقي عليك ملامة، "بِلا مَلامَة" عليك، سلمت من اللوم في الدنيا ويوم القيام. "اغْنَمْ صَفَا وَقْتَك". ولكن إذا أعرضت وإذا أهملت وإذا غفلت؟ اللوم عليك "وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك بِلا مَلامَة" ولا تبالي بلوم اللائمين:
لا تبالي بهم.. قال تعالى: (فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲ) [المائدة:54].
دعِ النَّاسَ يا قلبِـي يقولونَ ما بدَا *** لهــم واتّثـِـقْ باللَّــه ربِّ الخلائــقِ
إذا أدركت الحقيقة، واتصلت برب الخليقة، ماذا تريد بكلام الناس؟ هل أحد منهم سينفعك؟ هل أحد منهم سيرفعك؟ هل أحد منهم سيحضر عند الغرغرة؟ هل أحد منهم سيدخل قبرك؟ هل أحد منهم سيرافقك في القيامة يخلصك من أهوالها؟ إيش تريد منهم؟ دعهم يقولون ما يَشاءوا.
"وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَكَ بِلا مَلامَةً" لا يصيبك اللوم ولا تتأثر من لوم اللائمين الضالين القاطعين للطرق. يقول سيدنا الحداد:
يَلومونَني وَاللَومُ ما أَنا تارِكُه *** مُوالاةَ حِزبٍ أَصبَحَ الشَكُّ مالِكُه
والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ما عليك من لوم اللائمين
أما أنا والله لا أبالي *** إذا صفا لي في الحبيب حالي
فكل مرّ بعد ذاك حالي
هل سمعت؟ قال الإمام الحداد:
يَلومونَني وَاللَومُ ما أَنا تارِكُه *** مُوالاةَ حِزبٍ أَصبَحَ الشَكُّ مالِكُه
يعيشون على الشك، يعيشون على الظنون والأوهام، جميع فرق الكفر والضلال في الأرض يعيشون في الشكوك والأوهام، كلهم في الظنون والخيال، الحقيقة إنما عند الرب أعطاها محمد، مِنْهُ ابْتَثَت عند الملائكة وعند الأنبياء وأتباعهم فقط، ما يعرفون الحقيقة البقية!
غَريقٌ بِبَحرِ الجَهلِ مُشفٍ عَلى الرَدى *** مَطالِبُهُ تَحتَ الثَرى وَمَدارِكُه
كلها سفلية.. (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]،
أَرى الحَقَّ بَينَ الناسِ قَد صارَ خافِيًا *** وَقَد دَرَسَت أَعلامُهُ وَمَسالِكُه
دَرَسَت؛ يعني: اضمحلّت وتلاشت.
أرى مَربَع الأحباب قد ظلّ خاويًا *** وفارَقه فرسانه وعواتكه
فلله ما هذا الذي قد لقِيته *** مَعرّة دهرٍ وطئتنِي سنابكه
أنادي قريبًا قد سَبتْه حظوظه *** وأدعو بعيدًا أسرَته مهالكه
فهذا غريقٌ والأخير مثبّطٌ *** وأيهما تختاره وتُماسِكه
وما أنا بالمختال زهوًا بنفسه *** ولكنّي أهوى الجميلَ وسالِكه
أحنُّ إلى العلياء وقد حالَ دونها *** فوارس سلطان الهوى وفواتكه
وَمَن يَبتَغي الأَمرَ النَفيسَ؛ من يريد شيء عظيم كبير..
وَمَن يَبتَغي الأَمرَ النَفيسَ بِنَفسِهِ *** يُخاطِرُ دونَ المُلكِ يلقـى مَعارِكُه
هَلمّوا أَلِمّوا عُصبَةً هاشِمِيَّةٍ *** لِنُصرَةِ دينِ الله رَغمـــًا لِآفِكُه
وَقوموا بِعَونِ اللَهِ قَومَةَ واحِدٍ *** لِهَتكِ حِجابٍ باءَ بِالفَــوزِ هاتِكُـه
ثم أشار إلى أنه مهما جرت من أطوار وظروف وأحوال على الأمة من وقت إلى وقت، ومظاهر مختلفة؛ لكن لا يزال الحق له أهله، وله قومه، "ولا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق"، إلى أن يأذن الله بمرحلة تأتي على الأمة يظهر فيها الحق ساطعًا في كل العالم، وينصر الله -سبحانه وتعالى- أهل الهدى في الظاهر وفي الباطن، بظهور الإمام المهدي، ثم نزول عيسى بن مريم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام؛ فأشار إلى هذا في قصيدته:
لقد آن صبح العدل ينشقّ فجره *** وقد حان ليل الجور ينزاحُ حالِكه
بطلعة ابن المصطفى عَلَم الهدى *** حليف التقى خير الأنام وناسكه
محمّد المهدي خليفة ربنا *** إمام الهدى بالقسط قامت ممالِكه
كأني به بين المقام ورُكنِها *** يُبايعه من كل حزبٍ مُباركه
به يُنعش الرحمن مِلّة جدّه *** وتحيا معالم دينه ومنَاسكه
الله!... فلله في خلقه شؤون.
"وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَك بِلا مَلامَة" حينئذٍ:
تستطيع أن تدخل في دائرة الصدق؛ لأن الصدق اجتماع جميع القوى الظاهرة والباطنة على المقصود؛ هذا الصدق؛ أن تجتمع جميع القوى الظاهرة والباطنة على المقصود؛ هذا الصدق يتم به الإحسان والإتقان، وينطوي فيه الإخلاص والإتقان والإحسان، وبذل الوسع والهمة واجتماع جميع القوى الظاهرة والباطنة على المقصود.
فـ"اصْدُق" تركت الشواغل.. حزت السلامة. اغتنمت صفا الوقت.. انتفت عنك الملامة. تمّسك بحبل الصدق! من تمسك بحبل الصدق سمّوه صديق، و"لا يزال الرجلُ يصدقُ ويتحرّى الصدقَ حتى يُكتبَ صدّيقًا".
"وَاصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ" بجوار ربك، بعناية ربك، ورضوان ربك وقربك منه، ودخولك في دوائر عباده الصادقين؛ "لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَة"؛ بتعرّفه إليك وجوده عليك وإحسانه إليك، وزيادة المحبة منه لك ومنك له، وزيادة الرضوان عنك منه ومنك عنه، وزيادة القُرْب.
"وَاصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَة"، فتتحقق بحقائق الإيمان، ويثبت قَدَمُكَ في التقوى،
"اصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ" ولا تزال في زيادة إيمان، وحسن تقوى على مدى الأزمان، في كل الأحيان في كل شَأن بجميع المَعان، وأنت مَلطُوفٌ بك ومُرَاعً ومُعان، حتى تشرب الدِّنان في حضرة التَّدان، اصدق.. اصدق.. اجتمع بقواك في الوِجهة إليه.
"وَاصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَة":
فلا تزال تزداد إيمانًا ورسوخًا في التقوى؛ فيقوى عِزُّك ويعظمك الكرامة عليه؛ تعظم كرامتك عند الله.
وَاصْدُق لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَة *** فَلَيْسَ إِلا الصدْق ثَمَّ…
"ثَمَّ" هناك، هناك في القيامة: (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:119] غير الصدق ما ينفع، ما يمشي، و"ثَمَّ" في حضرات القرب والدنوّ والكرامة العظمى ما يمشي إلا الصدق، أي عملة ثانية ما تمشي ما تنفع، ما يمشي إلا الصدق، ما ينفِق إلا الصدق، ما يكون نافع ومفيد ومثمر إلا الصدق.
وإذ عرض الله علينا المعرض، لما ينادي سيدنا عيسى بن مريم -وهو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم- مع ذلك يقول له: يا عيسى ابن مريم -في القيامة يقوم سيدنا عيسى للعرض على الله (ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ)؟! هؤلاء الضالين، هؤلاء الملايين منهم قاعدين يعبدون سيدنا عيسى ويقولون ابن الله وسيدتنا مريم، ويقولون ثالث ثلاثة، (ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ) [المائدة:116] من هيبة الله تلتصق أحد ركبتيه بالأخرى ويجثو بين يدي الرب الرحمن جلّ جلاله، ويقول: (سُبۡحَـٰنَكَ) أول ما يُجيب: سبحانك، أقدسك وأنزّهك (سُبۡحَـٰنَكَ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ * مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَاۤ أَمَرۡتَنِی بِهِۦۤ أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا مَّا دُمۡتُ فِیهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّیۡتَنِی) -رفعتني إلى السماء مستوفى بجميع أَجزائي- (كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِیبَ عَلَیۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ * إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ * قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡ)، صدقت يا عيسى فيما أرسلناك وفيما قمت به وفيما أديت عنا.. صدقت، ثم أنزلناك فنصرت نبينا محمد، وحكّمت شرعه ونشرت دينه في الأرض، صدقت (قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡ)؛ هنا وقت نفع الصدق، فلك ما أعدّ لك مما لا عينٌ رأت ولا أُذُنٌ سمعت، قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [المائدة:116-119].
"فَلَيْسَ إِلا الصَّدْق ثَمَّ نَافِق"؛ ينفق ويمشي هو الصدق فقط، غير الصدق ما ينفع، الله يرزقنا الصدق؛ الصدق في الإيمان، والصدق في الصلاة، والصدق في القراءة، والصدق في طلب العلم، الصدق في حضور الروحة، الله يرزقنا الصدق.
"فَلَيْسَ إِلا الصَّدْق ثَمَّ نَافِق" الصدق في الذكر له، الصدق في العمل بشريعته، كل شيء له صدق، الله يرزقنا الصدق في الأقوال والأفعال والنيات والمقاصد والأحوال كلها يا رب العالمين.
"فَلَيْسَ إِلا الصَّدْق ثَمَّ نَافِق"، هو الذي سيُنفق؛ يعني: يُعْتَبَر ويُقْبَل، العملة الكاسدة ما تنفق .. ما تأتي لك بأي حاجة، ولا يُقضى بها غرض؛ لكن الذي ينفق عملة الصدق هي النافقة في المواقف كلها. فيا رب أَلحقنا بِالصادقين واجعلنا من الصادقين.
"مَنْ كَانَ صَادِق تَمَّ له مُرَادُه"؛
يا الله يا الله.. الصدق معه هو النجاح كله والفوز كله، هو السعادة كلها.
"مَنْ كَانَ صَادِق تَمَّ له مُرَادُه" ويُعطى فوق ما أراد، "وَثَمَّ يَهْنَى بِالرِّضَا" -من مولاه- "فُؤَادُه"، يهنأ فؤاده برضا ربه، فَيُهَنَّأ برضا رب العالمين -جلّ جلاله وتعالى في علاه- هناءً بعد هناء بعد هناء. قال:
وبينهم من الـمولى علامه ** تدلُّ على الرضا فى كل آنِ
حَضرناهم على خمر الدنان ** عليهم أمطرت تلك الغمَامه
وهُم في السُّكرِ -يعني: الغيبة عن جميع الأكوان- ما شَهِدوا لثاني ** وبينهمُ من المولى علامَه
تدلُّ على الرضا في كل آنِ *** ولا يخشون عقبَاها ندامه
وعلامة بعد علامة ويهنأ بالرضا إلى عند الموت، يقول: (یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ* ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةࣰ مَّرۡضِیَّةࣰ* فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی*وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی) [الفجر:27-30]؛
وفي البرزخ يُنادى بعلامات الرضا، وفي القيامة إلى الجنة، وفي الجنة يُعطى فوق ما يتخيّل كله خيال وما لا يخطر ببال. ويُناديهم الكبير المتعال يا أهل الجنة، لبيك ربنا وسعديك، هل رضيتم؟ يقولون: يا ربنا كيف لا نرضى؟ أنجيتنا من النار وسَلَّمْتَنَا من العذاب، وأَدخلتنا الجنة وأعطيتنا النعيم، ألا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟ ربنا وما أفضل من ذلك؟ يقول: "أحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".. "أحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".."أحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".. فلا تسأل عن الهناء، ولا تسأل عن اللذة، ولا تسأل عن الحلاوة، ولا تسأل عن النعيم الذي يُنازلهم…
وأكبر من هذا رضا الرب عَنْهُمُ *** ورؤيتهم إياه من غير حاجِبِ
"أحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
مَنْ كَانَ صَادِق تَمَّ له مُرَادُه *** وَثَمَّ يَهْنَى بِالرِّضَا فُؤَادُه
إلى أن يصل إلى هذه الدرجة، يا سلام! "وَتُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَى سُعَادُه"؛ منتهى مراتب المعرفة بالله تعالى، تُسعده بالملتقى، يلتقي بدائرة المعرفة الخاصّة بمنتهى مراتب المعرفة.. الله الله الله الله!؛ فيزداد قُربه ومحبته وشهوده، ويتكرّم الحق عليه برؤية أوليائه وملائكته وأنبيائه وسيدهم ﷺ، يشاهده بروحه، يشاهده في النوم، يشاهده في اليقظة.
"تُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَى سُعَادُه"، وعند الموت يحصل لقاء خاص بالملائكة، بِأرواح طاهرة، بأقاربه من الصالحين إذا له أقارب من الصالحين، برؤية مقرّبين وصدّيقين، والاجتماع أيضًا بسيد المرسلين ولقاءه في البرزخ "غدًا ألقى الأحبة" يقول سيدنا بلال: "غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه"، "غداً ألقى الأحبة".
قال هذا الولد في عشر سنين ابن الصحابي، جاء إلى عند والده الصحابي في معركة خرج في الجهاد، هؤلاء من يحبون الألعاب والترفيه هذا في عشر سنين في الجهاد خرج في الجهاد يهوى الجهاد! ثم في المعركة جاء إلى عند والده: أبي ألك حاجة؟ ألك رسالة لرسول الله أُبَلّغُهَا؟ أبوه يلتفت: ما تقول يا بني؟ ماهذا؟! قال: حضرت المعركة وإني سألت الله أن أموت شهيدًا فيها فألقى رسوله، فهل عندك وصاة أُبَلِغُهُ إياها؟ هل أقول للنبي شيء؟ رأيت اليقين هذا؟ رأيت الشعور هذا؟ رأيت المحبة هذه؟ قَبَّلَهُ أبوه وقال له: إن لقيت رسول الله فَاقرئه منّي السلام، ودخل المعركة وقُتِل، الله أعطاه هذا الشعور وهذا الحِس فهل يقطعه عن رسوله؟ حصّل لقاء.. "وَتُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَى سُعَادُه".
وهكذا، وتمرّ أيام البرزخ في معاني من اللقاءات إلى القيامة؛ فيحصل أيضًا ملتقى:
والخواص لقاءهم يعمّ هذا وغير هذا، في المواقف كلها لهم مُرافقة ولهم لقاء.. "تُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَى سُعَادُه".
"فَاصْدُقْ فَمَا يَرْقَى الْعُلَا مُنَافِق"، ما يمكن أن يرتقي إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة مَن في قلبه نفاق، ما هو إلا الصادقون..
"مَا يَرْقَى الْعُلَا مُنَافِق" إلا مخلص صادق.. "فَاصْدُقْ فَمَا يَرْقَى الْعُلَا مُنَافِق".
دَعْ كُلَّ شَاغِلْ واْربَح السَّلَامَةْ ** وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتِكْ بِلَا مَلَامَةْ
واصْدُقْ لِتَلْقَىٰ العِزَّ وَالكَرَامَةْ ** فَلَيْسَ إِلاَّ الصِّدْقَ ثَمَّ نَافِقْ
مَنْ كَانْ صَادِقْ تَمَّ لهْ مُرَادُهْ ** وَثَمَّ يَهْنَىٰ بِالرِّضَا فُؤَادُهْ
وَتُسْعِفُه بِالْمُلْتَقَىٰ سُعَادُه ** فَاصْدُقْ فَمَا يَرْقَىٰ الْعُلَا مُنَافِقْ
سمعت؟ الله يرزقنا الصدق، وحذَّر من التخلّف عنهم:
حَذَارِ مِنْ دَعْوَى بِغَيْرِ مَعْنَى *** فَلَيْسَ نَالَ القَصْدَ مَنْ تَمَنَّى
لَا تَحْسَبَنَّ الفَوْزَ بِالهُوَيْنَا *** إِنْ كُنْتَ صَادِقْ لِلسِّوَى فَفَارِقْ
فارق من سِواه، الله يكرمنا، الله يُقرّبنا، الله يَنضمنا في ذلكم السلك، ويحملنا مع ذلكم الفلك، ويُنجّينا من كل خسران وهلاك آمين.
14 مُحرَّم 1446