شرح قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) - 15- شرح من قوله: إن لاح بارق تستبق دموعه
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس الخامس عشر: إن لاح بارق تستبق دموعه
عصر يوم الأربعاء 25 محرم 1446هـ.
لتحميل القصيدة pdf:
نص الدرس مكتوب:
إِنْ لَاحَ بَارِقْ.. تَسْتَبِقْ دُمُوْعُهْ*** وَفَارَقَهْ جُنْحَ الدُّجَى هُجُوعُهْ
وَزَفْرَتُهْ تَصعَدْ بِهَا ضُلُوعُهْ*** يَشْتَاقُ لَيْلَى وَالظَّلَامُ غاسِقْ
ذَاتُ المَحَاسِنْ، سَمْحَةُ القَوَامِ***هِي بُغْيَتِي، هِي مُنْيَتِي، مَرَامِيْ
يَا حَسْرَتِي كَلَا وَيَا هُيَامِي***إِنْ فَاتَ وَقْتِي وَالبِـعَـادُ عَائِقْ
مَتَى تُوَاصِل سَمْحَةُ المُحَيَّا*** مَتَى أُلَاقِي مَا بَقِيتْ حَيَّا
هَيَّا إِلَى ذَاكَ الْجَنَابْ هَيَّا*** سِيرُوا بِنَا، فَالحُرُّ مَنْ يُسَابِقْ
الحمد لله يبيّن معالم الطريق ويمدّ بالفضل والتوفيق مَن سبقت له السابقة أن يلحق الفريق، ومن كتب له أن يشرب من أحلى رحيق، لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، أرسل إلينا عبده المصطفى المختار الذي ختم به أنبياءه، وجعله أصفى أصفيائه وأحب أحبائه. اللهم صلِّ وسلم على عبدك الخاتم للأنبياء أصفى الأصفياء، وأوفى الأوفياء وأزكى الأزكياء و أتقى الأتقياء، وعلى آله وصحبه الأولياء، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الخير والبر والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمين.
وبعدُ،
فتأملنا بعض معاني هذه الأبيات الرائقة، وتأملنا بعض قوله:
"إِنْ لَاحَ بَارِقْ تَسْتَبِقْ دُمُوْعُهْ *** وَفَارَقَهْ جُنْحَ الدُّجَى هُجُوعُهْ
وَزَفْرَتُهْ تَصعَدْ بِهَا ضُلُوعُهْ *** يَشْتَاقُ لَيْلَى وَالظَّلَامُ غاسِقْ"
ويكنى بـ "ليلى" عن تلك المراتب والمواهب الموهوبة من الحق الواهب للأطايب في حضرات القرب والمعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، ونيل الرضوان الأكبر من حضرة الرحمن -جلّ جلاله- في الوقت الذي يغفل فيه الناس وينقطعون، هؤلاء يتصلون ويواصَلون.. "فلو رأيت الخدّام قيامًا على الأقدام ** وقد جادوا بالدموع السواكب ** والقوم بين نادمٍ وتائب ** وخائفٍ لنفسه يعاتب **وآبقٍ من الذنوب إليه هارب".. ثم يستغفرون في السحر.. "فلا يزالون في الاستغفار ** حتى يكفّ كفّ النهار ذيول الغياهب" أي: ذيول الليل؛ يطوي ذيول الغياهب -الظلمات-، فيشرق الفجر "فيعودون وقد فازوا بالمطلوب ** وأدركوا رضا المحبوب ** ولم يعد أحدٌ من القوم وهو خائب" [مولد الديْبَعي]. ما يطلع الفجر على واحد منهم كل ليلة إلا وقد قُضيت حاجاته، وصَفَت صفاته وحلّت مواصلاته، وكل شيء تم.. الحمد لله رب العالمين؛ يصبح بخير عظيم، وكل يوم خير لهم من اليوم الذي قبله. وهذا الشوق لما كنى عنه بـ "ليلى" قال:
"ذَاتُ المَحَاسِنْ"؛ فيها من الحسن ثم الحسن ثم الحسن ثم الحسن في كل مراتب التقريب، والمحبة والمعرفة والرضا؛
- محاسن في مواصلاته ومن مواصلاته تعالى
- ومحاسن في تنقية هذا العبد وتصفيته من الشوائب
- ومحاسن في ما ينجلي له من معارف، وما يحصل له من لطائف
- ومحاسن في تقويم نظره إلى الحقيقة
- محاسن في مطالعته لجمال الحق الساري في الكائنات والوجود، والذي جُعل أجلى مجلاه: أرواح المقربين من الأنبياء والمرسلين والملائكة الشهود والركّع السجود.
- ومحاسن في لذة مناجاة المولى -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وتحقيق العبودية لا بل تلاشي العبودية في عظمة الربوبية، وتولّي الربوبية للعبودية.. حتى لا يبقَ السلطان إلا للربوبية. وكذلك تولي الرحمن للعبدية حتى يكون عنده؛ فتتلاشي العبدية في العندية؛ فهم (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر:55]، (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[الزمر:34].
قال: "ذَاتُ المَحَاسِنْ"؛ فحقائق الحسنى والحُسُن والحَسَن فيما تَسْتَجْلِيِه الأرواح من جمال المَلِك الفتاح -سبحانه وتعالى- الفائق، والذي جعل الله منه في عالم الحس بروز ذات الحبيب الأعظم ﷺ، "قد خلقه الله على أجمل صورة ** فيها جميع المحاسن محصورة ** وعليها مقصورة"، "وله الاعتدال الكامل في مفاصله وأطرافه ** والاستقامة الكاملة في محاسنه وأوصافه" [مولد سمط الدرر] وله ﷺ الكمال في معاني الجمال كلها صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، فقال شاعره:
وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني *** وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ *** كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. "فله الاعتدال الكامل في مفاصله وأطرافه ** والاستقامة الكاملة في محاسنه وأوصافه ** لم يأتِ بشرٌ على مثل خلقه في محاسن نظره وسمعه ونطقه" [مولد سمط الدرر] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
فهناك مطالعة الجمال كما أنه يطالَع الجمال من خلال تأمّل معاني الكتاب العزيز، وآيات القرآن الكريم، حتى قال سيدنا جعفر الصادق: إن الله تجلّى لخلقه في كلامه ولكنهم لا يشعرون.. لكنهم لا يعلمون!
قال: "ذَاتُ المَحَاسِنْ"؛ هذه المحاسن التي يصد الناس عنها عدوّهم بواسطة سلاح نفوسهم وأعوانهم من شياطين الإنس والجن، بشغلهم بالقاصرات من المحاسن الصوريات الزائلات، المحاسن التي يأكل مظاهرها وقوالبها الدود في القبور، ومحاسن الفانيات من المطعومات والمشروبات و المنكوحات، والملبوسات وما إلى ذلك:
- بتكثيف شغلهم بها
- وحصر نظرهم فيها
يمنعونهم عن أن يشاهدوا المحاسن الغاليات العاليات الراقيات الدائمات السرمديات الأبديات، التي لا انقضاء لها ولا لذة تساوي لذة الروح في مطالعتها، حتى تنتهي إلى رؤية وجوه النبيين والمرسلين والملائكة المقرّبين، وإلى دخول الجنة وإلى النظر إلى وجه الله الكريم.
هذه المحاسن العالية الراقية الغالية، الشريفة المنيفة الكبيرة، يحجزنا عنها إلتفاتنا إلى صورة المحاسن القصيرة الحقيرة الزائلة الفانية المضمحلة المتلاشية، التي تتحول أكثرها في موقف القيامة إلى صور قبيحة، بروائح كريهة وبأوجه شنيعة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- حين ظهور الحقيقة، ولا يبقَ إلا هذه المحاسن العاليات الغاليات.. حسن وجمال أبدي سرمدي مدى الحياة وعند الوفاة وفي البرازخ ويوم الموافاة، حسن وجمال مطلق إلى دار الكرامة.
فلا يجوز لنا أن نسلّم أنفسنا تنقطع عن مشاهدة هذه المحاسن والجمال؛ بحصرها وقصرها في هذه الزائلات الفانيات المنقضيات المنتهيات الحقيرات الزائغات.
"ذَاتُ المَحَاسِنْ"، وشبّه مظهر الحُسن في كمال الاعتدال والاستقامة، وقال: "سَمْحَةُ القَوَامِ"؛ أي: حسنة وجميلة القوام على الاعتدال التام، قال فهذه المحاسن ومطالعتها وتأمّلها التي تزيد صاحبها إيمان بل تذيقه كأس اليقين..
راح اليقين أعزّ مشروبٍ لنا *** فاشرب وطِب واسكر بخير سُلاف
قال: هذه "هِي بُغْيَتِي"؛ يعني: انتهيت من تعشّق الحسيّات والفانيات وكل ما سوى الحق -جلّ جلاله- كائنًا ما كان، فما صار بغيتي إلا تلك المحاسن، و"ذَاتُ المَحَاسِنْ"؛ مرتبة المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، والقرب من الرب -جلّ جلاله- والمحبة منه والمحبة له، والرضا منه والرضا عنه، وفيها "ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ"، الجنة وجميع ما فيها أثرٌ من آثار هذه المحاسن، الجنة وما فيها كله أثر من آثار هذه المحاسن.. الله أكبر!
ويقول -سبحانه وتعالى-: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ النجاة من النار، وتبييض الوجوه عند اسوداد الوجوه، والسلامة من السقوط عند المرور عند الصراط، ودخول الجنة ونيل الأنهار والأشجار والحور العين والقصور والذهب والفضة والجواهر، "أُعطيكم أفضل من ذلك؟"، "يا رب وأيّ شيء أفضل من ذلك، فيقول: أحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". اللهم أكرمنا..
"هِي بُغْيَتِي، هِي مُنْيَتِي"، اعرضوا الأمنيات والطموح والهوايات عند الناس إيش هي؟ وإيش ينشرون بين الشباب.. أمنيتك وطموحك وهوايتك إيش؟ منهم لعب ومنهم مظهر زائل زائف.. وقفوا مساكين..مساكين..، "هِي بُغْيَتِي، هِي مُنْيَتِي"؛ أسرار الوصول إلى ربي، ونيل رضوانه، والمعرفة الخاصة به، والقرب منه، والمحبة منه والمحبة له؛ "هِي بُغْيَتِي، هِي مُنْيَتِي، مَرَامِيْ" فإذًا، لا أخاف شيء ولا أتحسّر على شيء، مثل أن يفوتني هذه المطالعة لهذا الجمال وهذا القُرب والدنوّ، وهذا الدلال هذا لو يفوتني..
"يَا حَسْرَتِي كَلَا وَيَا هُيَامِي***إِنْ فَاتَ وَقْتِي وَالبِـعَـادُ عَائِقْ"
والعياذُ بالله تبارك وتعالى. وسمعت في الحِكَم خوف الواصلين، وخوف أهل الشهود مما يخافون هذه الأوقات:
"يَا حَسْرَتِي كَلَا وَيَا هُيَامِي***إِنْ فَاتَ وَقْتِي وَالبِـعَـادُ عَائِقْ"
كما يأتي شرح بعضه معنا إن شاء الله تعالى، ونسأل الحق أن لا يحرمنا هذه المطالعات لجماله الأسنى -سبحانه وتعالى- والشرب من كأس ودّه الأهنى الأصفى. اللهم أكرمنا..اللهم أكرمنا..اللهم أكرمنا.. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام، اللهم اقطع عنا جميع القواطع، وأبعد عنا جميع الحواجب والحواجز التي تمنعنا من الفوز بهذا الخير الكبير، والمنّ الوفير يا عليّ يا كبير يا سميع يا بصير، يا لطيف يا خبير يا عليم يا قدير يا أرحم الرحمين.
08 صفَر 1446