(536)
(208)
(568)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من خاتمة سورة الإسراء:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
مساء الإثنين 24 رجب الأصب 1445 هـ
الحمدلله مكرمنا في الوحي والتنزيل وبيانه على لسان خير دليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانهم الأنبياء والمرسلين ذو القدر و المنزلة والشأن، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحمُ أرح الراحمين.
وبعد،،
فإننا في تأمل كلام ربنا وتعاليمه وتوجيهه وتبيينه وتنزُّله لنا بالهداية والإرشاد، وصلنا في آخر سورة الإسراء إلى قوله- جلَّ جلاله- (وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ..(105)) أي هذا القرآن الذي أوحينا إليك معجزةً وشريعةً ومنهجاً وهدى ونوراً وشفاء ورحمة، أنزلناه إليك مهيمنًا على جميع الكتب، محفوظاً بحفظنا إلى آخر الزمان بالحق أنزلناه، بعنايتنا ورعايتنا على يد جبرائيل أنزلناه.
أنزلناه بالحق بحفظنا له، لا يزيد منه شيءٌ ولا ينقص على يد الأمين جبرائيل، أنزلناه بالحق، أنزلناه بالهدى والبيان والأحكام، ما فيه من حلال وحرام فهو حق! وما فيه من قصص وأخبار فهي الحق، وما فيه من دلالة ودعوة فهي الحق، وما فيه من بشارة فهي الحق، وما فيه من نذارة فهي الحق!
(وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ) أي وصل إليك محفوظاً قال -سبحانه وتعالى-( إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)[الجن:27] من الملائكة لا يستطيع الليلة ولا يستطيع الجن ولا شيء من الأرواح الخبيثة أن تغير كلمةً ولا حرفاً، ولا أن تقدم ولا أن تؤخر، ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا (وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ..(105)).
ولم يزل صالح الأمة يستشفون بهذه الآية من أنواع الأمراض والأدواء وإذهاب جميع الباطل في الفكر، وجميع الهم والغم والآلام والأسقام (وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ..(105)) وما أرسلناك إلى كافة الإنس والجن إلا مبشراً للمؤمنين وأهل الطاعة، مبشراً بالجنة، مبشراً برضواننا، مبشراً بقرب منا، مبشراً بمغفرتنا، ومسامحتنا وتجاوزنا عن ذنوبهم وخطاياهم، مبشراً.
ما أرسلناك إلا مبشراً لأهل الإيمان والطاعة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)[الأحزاب:47] (..لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا)[مريم:97] ، (..وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ..)[يونس:2]، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:25]، وقوله -سبحانه وتعالى- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا)[مريم:96]، إلى غير ذلك من أنواع البشائر فرسول الله، عن الله وبالله مبشرا للمؤمنين والعاملين بالطاعة.
فيا فوز من آمن وعمل صالحاً، اجعلنا اللهم من خيارهم في عافي وزدنا إيماناً ووفقنا للعمل الصالح واجعله مقبولاً عندك وارزقنا أداءه على التمام والكمال وعلى الوجه الأحب إليك والأرْضى لك، فضلاً منك وجوداً يا من وَّفق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفقنا للخير وأعنا عليه.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) لكل من بلغته الدعوة فأبى وأصرَّ واستكبر وكفر، ولكل من يعمل الذنوب والمعاصي والسيئات ويخالف الشرع المصون؛ نذيراً لهم بالنار، نذيرا لهم بالغضب، نذيراً لهم بالبعد عن الله، نذيراً لهم بالحجاب عن الله، نذيراً لهم بسوء الخاتمة، نذيراً لهم بعذاب القبور.
فهو المُبشِّر، ولا مبُشَّر كمثله في الخلائق أجمعين. وقد حمل للخلق بشارة خالقهم، بشائر خالقهم قال -سبحانه وتعالى- (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)[يس:11] ولا مثله منذر! وقد أنذر الخلق من أشد شيء يمكن أن يُنذَر منه الخلق، أنذر الخلق من غضب ربهم -جلَّ جلاله- أنذرهم ﷺ وحذرهم من النار الموقدة التي تتطلع على الأفئدة، وسوء المصير وسوء العاقبة فلا مبشر في الخلق مثله، ولا آتٍ بمثل بشاراته، ولا منذر في الخلائق مثله، ولا مُبلغ كمثل انذاره، صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو سيد المبشِّرين عن الله من أنبيائه ورسله وأوليائه،
وهو سيد المنذرين عن الله -تعالى- من غضبه وسخطه وعقابه فهو سيد المنذرين من رسل الله وصالح عباده (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)[الفرقان:56]، وقال في الآية الأخرى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)[الأحزاب:45-46] وقال في الآية الأخرى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الفتح:8-9] وفي قراءة أخرى: (لِّيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوهُ وَيُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الفرقان:56]، فلتحذر أن تظن أن يمكن لفئة أو جماعة أو هيئة أو حكومة أو مفكرين على ظهر الأرض؛ يبشروك بشيء أحسن مما يبشرك به محمد! لا يقولون عندنا مصلحتك، ولا يقولون عندنا فائدتك، ولا يقولون عندنا ضمان مستقبلك، ولا يقولون عندنا الخير لك؛ إن كان هناك من خير يمكن أن تُبشَّر به، فلا أَجَلّ ولا أفضل مما بشر به محمد، فخذ البشارة من ربك على يد حبيبه المُنتقى المختار فلا يمكن أن يعطوننا شيء أو نفوز منهم بشيء خيراً مما جاء به محمد ولا ما يقرب منه، وإن كان يخوفونكم هؤلاء أو هؤلاء أو هؤلاء بأي شيء؛ إن يخوفونكم بحرب، أو يخوفونكم بفقر، أو يخوفونكم بمرض، فقولوا لهم لا أحد ينذرنا بشيء أعظم وأجل مما أنذرنا منه محمد، إن حذرنا مما أنذرنا منه سيد الوجود فنحن على خير -ولا يضرنا حرب، ولا يضرنا فقر، ولا يضرنا مرض، ولا غير ذلك- مهما حذرنا مما حَذِر منه حبيب ملك الممالك -جلَّ جلاله- ﷺ
وخذ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الفرقان:56]، فلا يلعب عليك الشيطان بوحْيه الذي يوحِي من بين الشياطين الإنس والجن من زخرف القول الغرور (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ..) [الزمر:36] فممَّ يخوفنا هؤلاء؟! إنهم لا يستطيعون أن يخوفوننا من شيء أعظم من غضب الله -جلّ جلاله- وسخطه وإعراضه عنا، وإدخالنا النّار هذا أعظم شيء يجب أن نحذره، فممَّ يخوفوننا هؤلاء! قد يخوفوننا من أن ننال الشهادة في سبيل الله ما يُخاف من هذا، هذه سعادة وهذه خيراتنا يخوفوننا مماذا هؤلاء؟ يخوفوننا من أننا ربما نكسب أجورًا كبيرة يدوم نعيمها في الأبد . ماذا معهم هؤلاء؟!! يخوفوننا مماذا؟
يقول سبحانه وتعالى -لا اله الا هو- (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة:52] مامعنى (تربصون بنا)؟ مماذا تخوفوننا أنتم؟ واحدة من الحسنيين: إما نصر، وإما شهادة. (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:74]. فائز رابح في كلا الحالين. من ماذا تخوفوننا؟ ما تقدرون تخوفوننا، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173] فما النتيجة؟ في الدنيا والآخرة. خذها خبر أصدق قائل رب العالمين (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ* وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ) [آل عمران 176-173].
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(105)) فأعظم شيء نحرص عليه، ونبذل فيه رغباتنا واطماعنا وامنياتنا و مطالبنا ونبذل فيه قصارى مراد مراداتنا وتمنياتنا وما نؤمله ما بُشرنا به على لسان أصدق مخلوقٍ نائب عن الخالق.
(وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا..(105)) ونعم البشارة؛ ما بشَّرنا به على إقام الصلاة، ما بشرنا به على إيتاء الزكاة، ما بشرنا به على صوم رمضان، ما بشرنا به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما بشرنا به على ذكر الله، ما بشرنا به على تلاوة كلام الله، ما بشرنا به على النصح للمسلمين، ما بشرنا به على الوفاء بعهد الله، ما بشرنا به على حُجة الله، ودعوة الخلق إليه؟ هذا أعظم ما نطمح فيه. طموحاتنا الكبيرة أمانينا هواياتنا أمنياتنا هو هذا ،حتى تكون عبدًا لله خالص. لماذا تستعبدك هذه الشهوات؟ لماذا؟ لماذا تستعبدك هذه التُرَّهات والأباطيل؟ كُن عبدًا لله الواحد، تُعز وتُجل في الدنيا والآخرة لا ترغب إلا فيما رغَّبك الله فيه ورسوله، وإن عندك رغبةً، وإن عندك مطمح، وإن عندك طموح، وإن عندك أمل، وإن عندك أُمنية، وإن عندك هواية؛ ففيما بَشَّرك الله ورسوله ودلَّك عليه ورغَّبك فيه، وإنْ تَخفْ من شيء فلا شيء أحق أن تخاف -منه من الله فوق الله ماشي- ولا شيء أشد عليك من غضبه ولا سخطه ولا البُعد عنه ولا عذابه -جل جلاله- (فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ) [الفجر: 26-25].
(وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا (105) وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ..) -أنزلنا إليك قرآنا- (فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا (106))، (وَقُرۡءَانٗا): يقول الله تبارك وتعالى: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [يوسف:3]، (أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) [ص:29]، يا صفوتنا من الخلائق كلهم يا خاتم أنبيائنا يا سيد رسلنا.
(وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ..(106)) أنزلناه من اللوح المحفوظ ومن أم الكتاب ومن اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا في ليلة القدر ثم جعلنا نزوله عليك على فترةٍ بعد أخرى في مدته ثلاثين وعشرين سنة.
(وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ..(106)) فرقنا به بين الحق والباطل، والخير والشر والسعادة والشقاوة.
(وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ..(106)) وفي قراءة عند ابن عباس فَرَّقْناه جعلناه مُفَرَّقًا عليك ومُنجما ينزل آياتٍ بعد آياتٍ بعد آيات.
(وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ..(106)) جعلناه الفارق بين الحق والباطل، أنزلناه من اللوح المحفوظ، ومن أم الكتاب إلى سماء الدنيا في بيت العزة في ليلة القدر وابتدأ نزوله عليك ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [ العلق: 1] ثم لم يزل ينزل عليك مرةً بعد أخرى.
(فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ..(106)) والحمد لله شرفنا بقراءة محمدٍ (..لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ..(106)) انظر الى العجب!! قوله (على الناس) وأصحابه أول داخل في هؤلاء الناس، وقراءته على الناس بالمباشرة على أصحابه الذين كانوا معه في الدنيا من آل بيته وصحابته، هؤلاء المُباشرة لهم القراءة باللسان المُحمدي.
(..لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ..(106)) ومن عداهم بالواسطة و بروحانيته ﷺ وهمته في البلاغ عن الله -جل جلاله وتعالى في علاه- يبقى أثر هذه الهِمَّة. فما تلاهُ تالٍ من بعده إلا وهو في نيابة عنه، وفي خلافة عنه، وفي تبعية له صلى الله عليه على أصحابه وسلم.
والحق تبارك وتعالى جعل قراءة جبريل على سيدنا المصطفى قراءة له نسبها إليه بالتشريف والتعظيم. يقول جل جلاله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ) [القيامة:17-16]، الله يقول قرأناه -الله أكبر- كيف قرأناه؟ على لسان جبريل (فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ) [القيامة:18]، يعني استمع إلى ما يقول لك جبريل ثم بلِّغ ذلك ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ) [القيامة:19] مع أنه قال له: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[ النحل: 44]؛ ولكن بيانُ سيدنا محمد المحفوظ بعناية ربه الواحد الأحد وتأييده وتسديده ورعايته الخاصة هو بيانٌ من الله جلَّ جلاله قال: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ) [القيامة:19]؛ وقال له: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [ النحل: 44]، هو يبين ﷺ لكن بيانه من بيان الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال: ( لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ..(106)) على ترتيلٍ، وعلى تَرسُّلٍ، وعلى مَهلٍ. ومرة بعد أخرى وكل ساعة نزيدهم من كلامنا ونزيدهم من تَنزُّلنا وتفضُّلنا عليهم ويأتيك به جبريل وأنت تثبِّت قلوب من حواليك وتقرأه للناس على مكث، فبالمباشرة في مدة ثلاثة وعشرين سنة من ليلة حراء إلى أن توفي ﷺ.
قبل وفاته بتسع ليالِ كان آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [ البقرة: 281] كانت هذه آخر آية نزلت على المصطفى ﷺ، ثم بالوسائط والروحانية على المُكث الدائم ما بقي القرآن بيننا، فقرأه علينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله تعالى: (.. وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا (106)) أي: اعتنينا بتنزيله عليك بالحفظ والحراسة والتأييد والعناية الكبرى، تنزيًلا حسنًا مُبدعًا عظيمًا جليلاً لائقًا بِمَحَبتنا لك ومَنزِلَتِك لَدينا، وما هَيئناكَ له من بَلاغِ الخَلقِ المُكَلفين إلى أن تَقومَ الساعة.
(.. وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا (106)) مُحكَماً مُتقَناً كامِلاً تاماً لا مِريَة فيه ولا رَيبَ ولا شَك.
(.. وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا (106)) قُل لِهؤلاء الذين يَكفُرون ويُعانِدون ويَكذِبون ولا يَقْدرون أن يَأتوا بِسورَةٍ مِثله ولا يَقْدِرون أن يَأتوا بِعَشْرِ سورٍ، فَضلاً عن مِثله كُله لا مِثلهُ قدروا أن يَأتوا به ولا بِعَشرِ سُوَرٍ قدِروا أن يَأتوا بها ولا بِسورَةٍ واحدة قدروا، قُل لَهُم إن صَدقتُم وإن كَذبتم لا تَضُروا الله ولا تَضُروا هَدّيَ الله ولا دِينَ الله، فَلَهُوَ حَقٌ مُنزَلٌ من عِند الله مَنصورٌ مُؤَيَّدٌ باقٍ في الأُمة على رَغمِ أُنوفِكُم، مَهما حاوَلتُم تَكذيبه ومهما حاوَلتُم تَغييره لن تَقدِروا على تَغييره ومهما حاوَلتُم تَبديله لن تَقدروا على تَبديله، وسَيَبقى نوراً مُشرِقاً يَهدي الله به قُلوبا ويَغفِرُ به ذُنوبا ويَرفعُ به مَراتِبَ ودَرَجات ويَهَبُ به مَواهب ويَشفي به من الأمراضِ والعِلَل على رَغمِ أُنوفِكُم، آمِنوا أو لا تُؤمِنوا، ليس الإسلام في حاجَةٍ لأحدٍ منكم، ولا دين الحَق في حاجة لأحدٍ مِنكم، ولا قُرآن الله في حاجة لأحدٍ مِنكُم، إنما تَجنونَ على أنفُسِكُم بالتكذيب.
(قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ…(107)) لا حاجَةَ لله في إيمانِكُم، لا حاجَةَ لله في تَصديقِكُم فهو حقٌ لا تَقدِروا أن تَضُروه.
(قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ…(107)) كَم عَدَد الذين فَكّروا في أن يَستَأصِلوا النَّبي ومن مَعه من مُشركي قُرَيش؛ من يَهود، من المُنافِقين من الذين حاولوا الإتِصال بدولة الفُرس، والذين حاولوا الإتِصال بِدَولِة الروم، كُلهُم جَرى في خاطِرهم أن يَقضوا على هذا الدين وهذا القُرآن ولا عاد يَبقى مِنهُ شَيء، ثم تَبِع ذلك إرادات مُتَعَدِدات مِن أفراد وجَماعات على مَمَر القُرون يَظُنون أنهم يُفنوا دين الله وأن يُفنِوا مِلة محمد بن عبد الله ومِنهم من أعدَّ الخُطَط ومنهم من حاول ومنهم من بَذَل على مَدى أيام؛ بعضهم أسابيع، بعضهم أشهر، بعضهم سنوات، بعضهم عشرات من السنوات وكُلهم فَشِلوا وكُلهم هُزِموا والقُرآنُ يَسطَع نوره ويَقوى مَقامه وحالُه -الله أكبر-.
(قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْ…(107))؛ إنه حَقٌّ مَن سَبَقت له السعادة من الإنسِ والجن يُؤمن به ويُعَظِّمه ويَتَأثر به ويَخضع لما فيه ويَخشَع لمُنزِلِهِ -جل جلاله-.
(إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِ …(107))
إما من قَبل إنبائنا هذا لكم، أو بإبلاغِنا هذا لكم من الذين سَبَقوا إلى الإسلام
أو من قَبلِهِ، من قبل ظُهورِ هذا الكِتاب من الذين آمنوا بالأنبياء من قَبل، وآمَنوا من الذين أوتوا العلم
فالعلمُ الصحيحُ ما أرسَلَ الله به رُسُلَه وهو العِلمُ الأنفَع الأرفَع الأبقى الأنقى الأجل الأجمَل الأفضَل، لا يُمكِن أن يوجد على ظهر الأرض من شَرقها إلى غَربها ومن حين خَلَقَها الله إلى يوم يُنفَخ في الصُّور، لا يُمكن أن يوجَد عِلِم أشرف ولا أرفع ولا أجمل ولا أفضل ولا أنفَع ولا أحسَن للخلائِق كُلِهِم من العِلم الذي بَعَثَ فيه الأنبياء والمُرسَلين.
هل يُمكِن لِمَخلوق بِعَقله أن يَأتي بِعِلم أحسن منه ؟ إنسي أو جِني؟ أو لِجَماعة أو لِهَيئات؟ ، الله المُحيط علماً بِكُلِ شَيء، أرسلَ بهذا العِلم أنبياءه ورُسله فلا يُمكِن أن يَكتَسِب مَخلوق عِلماً أفضل من العِلم الذي بُعِثَ به الأنبياء والمُرسَلون ولا أجمل ولا أكمل ولا أنفع ولا أبقى لِمَنافع من هذا العِلم.
ولهذا قال: (...إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِ …(107))، فهذا القُرآن الذي نزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، جَمِيعُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَسَبقُوا إِلَى الْإِيمان مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ فِي الرُّتُبَةُ الْعُلِيَا عَلَيْهِمَ الرَضُوَانُ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ بِمَا أُنزِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، هُمُ العُلماء وهُم آمنوا بالنبي محمدٍ وبالقُرآنِ بما أُخِذَ عليهم من العُهودِ والمَواثيقَ من الحَقِ -تبارك وتعالى- وبما بُشِروا به في كُتُبِهم، فما أنزل الله كتاباً على نبيٍ من الأنبياء على ظَهرِ هذه الأرض في أي عَصرٍ منَ العُصور في أي أُمَةٍ من الأُمَم إلا وذَكَرَ نَبيهُ مُحمداً وَوَصَفه وأَثنى عليه وعَظَّمَه وأمرَ بالإيمانِ به. فَهوَ المَذكورُ في الزبورِ وهو المَذكورُ في التوراةِ وهو المَذكورُ في الإنجيل وهو المَذكورُ في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى؛ مُحمدٌ، مَذكورٌ في كُلِ كُتُبِ الله المُنْزَلَة على الأنبياء والمُرسَلين.
(...إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ…(107))
بالنسبَةِ للذينَ أدرَكوا من أتباعِ الأنبياء السابقين كَمَن أسلم من اليهود أو النَصارى وبالنسبَة للسابِقينَ الأولين من المُهاجرين والأنصار إذا يتلى عليهم القُرآن يَسجدونَ للرحمٰن ويَخضَعون ويَخشَعون
وبالنسبة لمن قَبلَهُم إذا يُتلى عَليهِم الكُتب المُنْزَلة عليهم وفيها ذِكرُ مُحمد وأوصافِه يَخضَعون ويَخشَعون أيضاً، وكما وَصَفَهُم الحَق: ( إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107))
ما يُنكِرون ولا يُناوِئون ولا يَبطُرون ولا يَستَكبِرون ولا يَرُدون ولا يُعانِدون بَل من عَظَمَةِ ما هُم فيه من إدراكِ الحَقِ والنورِ في هذا الوحي: (يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107)).
( إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِ…(107)) -فالله يَجعلنا ممن أوتوا العِلم- و(ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ…(107)) هذا أوصافُهُم ( إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107))؛ (يَخِرُّونَۤ) وصفوا بالخرِّ يعني يُباشِرونَ بِكُلِ مَشاعِرِهِم وأحاسيسِهِم وأذهانِهِم ووِجهاتِهِم الذِّلَةَ لله والخُضوع لِجَلال الله لما يَسمَعون آيات الله تعالى ( إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107)) -الله أكبر-.
(يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107))، للأذقان؛ أسافل وجوههم والمُراد وجوهُهُم وجِباهُهُم كُلها. (يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107)) يعني أول ما يَبدأ الإنسان يَخِر، من أعلاه ومن رَأسه يبدأ خُرورُه هذا الذَّقَن الذي هو في الفَك الأسفل من أسنان الإنسان (يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ…(107)) لله الرحمٰن -جل جلاله-
فآياتُ الله الكتب السابقة عموماً وهذا الكتاب خصوصاً تَبعثُ في القلوب من نور المعرفة ما تتحقق به العبودية للحق الأحد الصمد وتَعشَق فيه القلوب السجودَ لهذا الإله والخُضوع لجلاله.
(وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ … (108)) -يُقَدِسونه ويُنَزِهونه- (وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا (108)) أي: حَقيقةً وحقاً كان وعد ربنا كما قال:(لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ) [ آل عمران:9]، (إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا (108)).
(يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ…(107)) ووَصَفَهُم بالبُكاء ووَصَفَهُم بالخُشوع وهو الخُضوع والتذَلل -الله أكبر- وهو حُضور القلب مع الله مع التعظيم والإجلال وتفهُّم المعنى والخشية من الرَّد ومن الغَضَب ومن الإنقطاع والرجاء في القَبولِ والقُربِ ونَيلِ السعادة بالرضوانِ الأكبر والحياء من الله -هذا الخُشوع- يَخشَعون لله -تَبارك وتَعالى- فهذا وَصفُهم.
قال سبحانه وتعالى واسمع هذه الآيات للسجدة يقول جلّ جلاله: (قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْ…(107)) فما القُرآن ومحمد الذي أُنزِلَ عليه القُرآن وأتباع محمد في كل زمان ليسوا بحاجة إليكم ولا في خَوْفٍ منكم ، إن كنتم قليل أو كثير بأي أسلحةٍ كنتم، وبأي خِطَطٍ معكم فمحمد وأتباعُه الذي أُنزل عليه القرآن والذين أُورِثوه من بعده، ما يخافون منكم ولا يَرجونَكُم (ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ…(107))؛
(قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦٓ إِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ(107) وَيَقُولُونَ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولٗا (108) وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا۩ (109)) "سجدة" وكان يقول بعض العارفين: إذا مَررتم بآية السجدة في آخر الإسراء أو في سورة مريم، فلا تَسجدوا إلا وأنتم باكون (وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعٗا۩ (109)
(قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ..(110)) ربي الواحد الأحد، له أسماء كثيرة فبأي اسم أدعو؟( قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَ ..(110)) وذلك أن أبا جهل سمع النبي ﷺ في السجود يدعو يقول: يا الله يا رحمن، يا الله يارحمن، يا الله يارحمن ، في رواية يا رحمن يا رحيم قال: ألا تنظرون إلى محمد هذا؟ يَدَّعي التوحيد وأنه يدعو إلى إلٰه واحد ، يدعوا إلٰهين!! هو إلٰه واحد؛ الله، الرحمن.
وأسلم بعض اليهود وكان ذِكرُ الرحمن كثيرًا عندهم في التوراة أكثر مما في القرآن؛ اسم الله أكثر، فأحبوا أن يكون ذِكرُ الرحمن أكثر فأنزل الله ( قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ) -بأي اسم من أسمائه- (فَلَهُ الْأَسْمَاءُالْحُسْنَىٰ..(110))؛ وهذا واحد إله؛ الله ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ الملك ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰام هو واحد -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- ما هو مثل آلهتكم كل ساعة واحد، ساعة تصنعونها من حجر، وساعة تصنعونها من خشب، وساعة تصنعونها من تمر، وساعة تصنعونها من سكر وساعة تأكلونها إذا جُعتم ما هذه آلهة هذا لعب، مسْخرة، هذا إله واحد -جلّ جلاله-.! (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ..(110))، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖوَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].
ثم بعد ذلك كان ﷺ يجهر بالقُرآنِ ويُسمِع أصحابه ويسمعه المشركون في صلاته في الليل فكانوا إذا سَمِعوا القرآن سبُّوه وسبُّوا من نزل عليه ومن أنزله، فأرشد الله النبي قال له: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا..(110))، لا تجهر بها فيسمع المشركون فيسبون ولا تخافت بها عن أصحابك من حواليك حتى يَسمعوك
(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(110)) وقد تقول السيدة عائشة: أن المُراد بصلاتك: الدعاء، والذي عليه الأكثرون أنها جاءت في قِراءته للقُرآن وجهره به -عليه الصلاة والسلام- بمكة حيث يسمعهُ المشركون ويُسبون، ومع ذلك اختلفت الأحوال فإنهم في ظُلمة الليل يأتون ويَستمعون فَيُعجِبهُم جَزالَةُ القُرآن وطَراوته وبَلاغته وعَظَمَة معانيه وهم مشركون.
حتى في بعض أيامه ﷺ بمكة كان يجتمع كثير من كبار المُشركين وزعمائهم يجيئون في ظُلمة الليل يسمعونه عندما يَقربون من البيت الذي هو فيه، يسمعونه عندما يقرأ القرآن، يَستَلِذون بالقُرآن وهم كافرون معاندون، ثم هذا يُحَصِّل صاحبه يقول: إيه إلي جاء بك الى هنا؟ هل بتسمع محمد؟! ما أدرى بك إلّا أسلمت وتَبِعته، قالوا: وأنت ما الذي جاء بك؟ قال: بنتعاهد، ثاني ليلة ما أحد يجيء، يقول: طيب. يتعاهدون ويروحون. ثاني ليلة كل واحد يقول وقت ما يجيء الوقت هذاك يقول: : كي أُفوِّت على نفسي هذا الكلام الطيب ولذته؟! سأخرج وحدي، الجماعة تعاهدوا أنهم لن يأتوا، أنا وحدي سأخرج وهذا يخرج وهذا يخرج، جئت أنت الثاني؟! قال وأنت؟! قالوا وأنت؟! قالوا و أنت؟! وإذا بهم كلهم الذين جاؤوا أمس جاؤوا ثاني ليلة واستمروا ليالي على ذلك -سبحان الله-.
وبعد ذلك كانوا يخافون من أن يَسمَع نِساؤهم وأولادُهم القُرآن ويتأثرون به ولذا يقولون: صاحبك أبوبكر هذا لا تدعه يجهر بالقراءة، قل له يَدخُل ويصلِّح له مسجد من الشارع ، حتى لا يجيء أولادنا ونخاف أن يفتنهم، قل له يَدخُل وَسَط بيته، وإلا يا بن الدغنَّة رُد الأمان الذي في رَقَبَتك لما دَخَل في جوارك، رُد الجوار حقه وإلا قل له يَدخُل وَسَط الدار. جاء قال إن قريش يَشتَكون منك ويقولون إما تَدخُل وَسَط بيتك ولا تخرج، لأنهم يخافون على أولادهم ونسائهم يفتَتِنون بك و بكلامك لأنه يَقرأ القُرآن ويبكي ويتجمع عليه الصبيان والنساء ويتعجبون منه قال: أرُد عليك جِوارك وأرضى بجوار الله، سيدنا ابو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-.
وهكذا اختلفت الأحوال ثم جاء الإرشاد إلى هذا الأمر (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سبيلا..(110)) وسطاً، بحيث تُسمِع من بِقُربك وحواليك ولا يَصل إلى أسماع هؤلاء الذين يَسبون ويَشتِمون فكانوا يخافون (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ )[ فصلت: 26] ، فكانوا إذا سمعوا القرآن يَسُبون ويَشتُمون لأنهم يَعلَمون أن ما عِندَهُم من الباطل لا يَقوى لِقوة هذا الحَق ما يعرفون، فما معهم إلا أنهم يسبون ويشتمون، ينزِّلون غيظهم. فهكذا شأنهم، فأرشد الله إلى ذلك (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(110)).
ويروى أنه ﷺ أيضاً مرَّ على سيدنا أبي بكر فكان يُخافت بصوته فسأله، ثم مَر على سيدنا عمر بن الخطاب ورأآهُ يجهر بالصوت ثم أنه سألهم في اليوم الثاني:
قال: مررتُ عليك -أبا بكر- كنت تُخافِتُ بالقرآن قال أني أسمَعتُ من أُناجيه، الذي أُناجيه أسمعته.
قال لسيدنا عمر ورأيتك ترفع صوتك بالقرآن، فقال: يا رسول الله أوقِظُ الوسنان وأطردُ الشيطان
جاء في رواية قال: "لهذا أحسنت ولهذا أحسنت"، جاء في الرواية الثانية قال لأبي بكرٍ: "ارفع قليلاً وقال لعمر اخفض قليلاً"؛ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(110)).
وكثيرًا ما يقوم بعد ذلك ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، يقوم في لياليه ويقرأُ القرآن في بيته وفي المسجد وكثيراً ما يأتي إلى خَلف بيت السيدة فاطمة ويتهجدُ في ذلك المكان ﷺ ولا يزالُ خَلفَ بيت السيدة فاطمة في الحُجَر الشريفة مِحرابٍ سُدَّ الآن بالمَصاحف، مكان تَهجُدِهِ في كثير من لَياليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ...(111))؛ ثناءً على الله تبارك وتعالى الذي يَستَحِقُ الحمدَ والثناء، (وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا..(111) ) (لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ * وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ) [الإخلاص:3-4]. (..وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ) -فهو الغَني عن الشركاء- (وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّ ..(111)) ما يَطلُب نُصره من أحد ولا فائدة من أحد ولا نَفع من أحد وهو الغَني عن كل شيء -جلَّ جلاله- (..وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا (111)) عظّمه تعظيماً وأجِلَّه إجلالاً وقل: الله أكبر، الحمد لله والله أكبر.
اللهم ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، ثبتنا على الحق فيما نعتقد واجعلنا عندك من أهل القرآن وأهل العمل بما في القرآن بحق من أنزلتَ عليه القرآن واسريت به ليلًا من المسجد الحرام للمسجد الأقصى الذي باركت حوله ثم رفعته إلى السماوات العُلا (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ) [النجم:8-9].
اسقنا بكأسه الأهنى، وتَولنا به في الحِس والمَعنى، وارفعنا به إلى المَقام الأسنى، وانظمنا في سِلكه، واحملنا في فُلكه، ولا تُخَلِّفنا عنه بجاهه عليك، ومنزلته لديك، اجعلنا من خواصِ أتباعه، والاستضاءة بنور شُعاعه، ولا تفرق بيننا وبينه يا ربنا في الدنيا وعند الموت وفي البرزخ ويوم القيامة؛ اجعلنا في زمرته، في دائرته، في معيته يا أكرم الأكرمين، بجاهه عليك ومنزلته لديك بمحبتك له ومحبته لك التي تكرّمت به عليها، فلم تَبلُغها محبة مُحبٍ لك من أهل أرضك ولا أهل سماواتك.
اجعلنا في دائرته اجعلنا في زمرته واجعلنا في معيته فضلاً ومناً وجوداً من غير ابتلاء ولا امتحان ولا اختبارٍ يا من عَلِم ضُعفَنا ومن عَظُم لُطفه بنا ،يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم ياأكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين محمد ﷺ.
28 رَجب 1445