تفسير سورة طه -11- من قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ.. (108)} إلى الآية 114

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

مساء الإثنين 23 شوال 1446هـ 
 

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مُكرِمِنا بالوحي والتنزيل، والبيان على لسان خير هادٍ وداعٍ ودليل، عبدِه المصطفى محمد الهادي إلى سواء السبيل، صلى الله وسلم وبارَك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من اتّبعهم بإحسانٍ في النية والقصد والفِعل والقِيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتّبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد،،

فإننا في نِعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتعليماته، ووَحيه وتذكيره وبيانه -جلّ جلاله- انتهينا في سورة طه إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108))

يذكر لنا أحوال يوم القيامة، وفي آياتٍ من الآيات يذكر موقفًا، وفي آياتٍ يذكر موقفًا آخر، وفي آيات يذكر حالًا من الأحوال، وفي آيات يذكر حالًا آخرَ، يُبيّن لنا شأن المستقبل الخطير الكبير؛ لنكون على استعداد، وتزوُّدٍ بخير زاد، وتهيُّؤٍ إلى دار المعاد.

يقول جلّ جلاله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)) فلا يبقى منها شيءٌ بعد أن تصير كالعِهن المنفوش، وبعد أن تُدَكَّ بالأرض دكًّا دكًّا (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) [الحاقة:14].

وكذلك تصير نَسْفًا فتبقى الأرضُ قَاعًا صَفْصَفًا (فيذرُها) أي: هذه الأرض التي يَحشُر الخلق عليها (قَاعًا): أرضًا مستويةً، (صَفْصَفًا): ملساء؛ (قَاعًا صَفْصَفًا): مُستويةً ملساء.

(لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107))، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا): كَـوادي، (وَلَا أَمْتًا): كذُروة أو شيء مرتفع.

(لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا): أي شيء منخفض، (وَلَا أَمْتًا): أي شيء مرتفع؛ بل مستوية ملساء.

قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ)؛ (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ):

  • فالداعي الأول إسرافيل بالنفخ النفخة الثانية في الصور، ويقوم الكل.

  • ثم بعد ذلك يدعوهم الداعي إلى أرض المحشر فيتوجّهون. 

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) لا يملك أحدُهم أن يذهب يَمنةً ولا يَسْرةً إلا حيث وُجِّهَ لموقفهِ في القيامة، أين يكون، ومع من يكون، وعلى أي حال يكون!

(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ)، (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ) أي: خشعَ أصحابها، قلوب أصحابِها؛ ولمّا أنَّه كان من شدّة خشوعهم من الفزع والهول لا يظهر لهم صوت.

قال: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ) وإنَّما خشع أصحابُها وأربابُها، خشع الناس الذين كانوا يومئذ، والجِن الذين كان يمكن أن يكون لهم صوت، فلا صوت لهم الآن.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ) سكنت، (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ) جلّ جلاله وتعالى في عُلاه من هيبته وجلاله؛ فكلٌّ خضع وكلٌّ خشع.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) وهو صوت الأقدام على ظهر الأرض في مَشْيِها إلى المحشر، فلا تسمع إلا حفيف الأقدام على ظهر الأرض تسير؛ فهذا هو الهمس. 

  • والهمس يُطلق على الصوت الخفيّ.

  • ويُطلق على وقع الأقدام على ظهر الأرض، فلا تسمع إلا همسًا.

  • كما يُطلق على حركة الحَنك والشَّفَة واللسان من دون صوت؛ همسٌ، فلا تسمع إلا همسًا من هيبة الموقف. 

وهذا في بعض أوقات القيامة وعند بداية الحشر، فمن الهَول يسكت الكل ولا يتكلم أحد، كما قال ﷻ في الآية الأخرى: (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) [النبأ:37-39].

يقول جلّ جلاله: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) ثم يأتي بعد ذلك دور الخطاب والسؤال والجواب والكلام الذي يتكلّمون فيه في المواقف، وفيه الذين يَكذِبون والذين تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ففي هذا الموقف موقف التوجُّه إلى المكان المُعَدّ لكلٍّ في المحشر لا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا؛ حفيفَ الأقدام تمشي على ظهر الأرض، والناس كلهم؛ أولهم وآخرهم في هَيبة ورجفة للقلوب من هول المُطَّلَع.

قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109))، يقول جلّ جلاله: ومع إثباتي للشفاعة للأنبياء وللملائكة وللشهداء وللعلماء وللمؤمنين على قدر مكانتهم عندي، فإنَّ ذلك لا يكون شيءٌ منه إلا بإذني وإلا بإرادتي وإلا بِرِضاي، فالمُلك له أجمعُ، وجميع الشفعاء له -سبحانه وتعالى- خُضَّع، وأعظمهم شفاعةً زينُ الوجودِ المُشفَّعُ، أول شافع وأول مُشفع ﷺ، المُخاطَب من قولِ؛ ملك يوم الدين: (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79] صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

(لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ) من أذِن له الرحمن في أن يشفَع فيشفَع بإذن الله فيمن أذِن الحق تعالى أن يشفَع فيه، فالإذنُ للشافِع أن يشفع، والإذن للمَشفوع أن تكونَ الشفاعة فيه وتُقبَل الشفاعة فيه، وهي مقبولة في كل مؤمن أذِنَ الله أن يشفَع له؛ ملكٌ أو نبي أو ولي أو شهيد وما إلى ذلك، وفي الخبر: أنَّ الشهيدَ يُشَفَّعُ في سَبعينَ من أهلِ بَيتِه، كلهم قد وجبت له النار، فيُسلَمون من دخول النار بشفاعة هذا الشهيد، من قبيلته وأهل بيته، سبعون، يَشفَع فيهم هذا الشهيد الذي قُتِل في سبيل الله، وما كان له قصدٌ إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.

(يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) فلا مجال لمن يُخالِف أمر الله ورسوله ثم يتَّخِذ آلهة من دون الله ويقول يشفعون لنا، من الذي أذِن لهم؟ متى قال لك ربك أن الأصنام تشفَع؟ متى أخبرك صاحب الحُكم في ذلك اليوم أنَّه يقبَلُ شفاعة هذه الأصنام؟ أو من عُبِد من دون الله تبارك وتعالى؟

  • إنَّما يقبلُ شفاعة أنبيائه،

  • وشفاعة العلماء بشرعه إذا عمِلوا به،

  • وشفاعة أرباب الوجاهة لديه سبحانه وتعالى من الشهداء ونحوِهم.

قال ﷺ في الحديث الذي جاء بالسند الحَسن: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"، وهكذا ولا تنفع الشفاعة إلا مؤمنًا، قال تعالى عن الكفار: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48] (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ).

للوُجهاء عند الله شفاعات لكن لا تنال الكفار، ولا تنال من لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

(يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) -الله أكبر-، وقد جاء في عدد من الروايات الصحيحة قول بعض الصحابة لرسول الله: أسألك الشفاعة يوم القيامة، وقول بعضهم: أسألك مرافقتك في الجنة، وإلى غير ذلك مما ورد.

فهو ﷺ مِن أول من يُؤذن له في الشفاعة، أو الشفيع الأعظم لدى الربِّ -جلّ جلاله-، ولا يشفعُ هو ولا من دونه إلا بإذنه، (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255] -جلّ جلاله-.

قال: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) قال قولًا مرضيًا؛ وهو قول "لا إله إلا الله"، فتنفعُ الشفاعة فيمن:

  • شهد أن لا إله إلا الله،

  • ومات على لا إله إلا الله؛

ففيهم تُقبَل الشفاعة، ولا تُقبَل عند من حُرِم هذا القول المَرضي.

(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، وقد رضي الله لنا قول الكلمة الطيبة "لا إله إلا الله"، اللهم كما أنعمت علينا بها فحقِّقنا بحقائقها، وزِدنا من أنوارها، وأحيِنا عليها، وتوفَّنا عليها، واحشُرنا في زُمرةِ كُمَّلِ أهلها يا الله.

(وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) كما يأتي أيضًا معنى آخر أي: رضي له الحقُّ أن يقولَ ويتكلم، كما قال: (لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ:38]، فهؤلاء الذين يأذَن لهم من أنبيائه والمُقرَّبين لديه سبحانه وتعالى من: الملائكة، أو العلماء، أو الشهداء؛ هم الذين يأذَن لهم فيستطيعون القول، ويستطيعون الكلام ويُرتَضى قولُهم ويُقبَل، وسيدهم يُخاطَب: "ارْفَعْ رَأْسَكَ، وسَلْ تُعْطَ، وقُلْ يُسْمَعْ لِقولِك" فهو المرضيُّ القولُ ﷺ، "وقُلْ يُسْمَعْ لِقولِك، واشْفَعْ تُشَفَّعْ" صلوات ربي وسلامه عليه.

ويقولُ: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)) -وهذا الرحمن- (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ (110)) أي ما هو مُقبِل عليهم وما تركوه وراء ظهورهم.

(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من شأن الموقف الذي يمشون إليه، (وَمَا خَلْفَهُمْ) مِمّا يُسألون عنه، ويُخاطَبون به وينتهي حسابهم إليه.

 (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) جميعَ العباد، وقيل أنَّه أيضًا عائدٌ إلى من أذِن له الرحمن ورضيَ له قولًا من الأنبياء والملائكة، والعلماء والشهداء؛ (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) -جلّ جلاله-.

(وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) لا هؤلاء ولا بقية العباد، كلهم لا يحيطون به علمًا،

(وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ) -ما بين أيديهم وما خلفهم- (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) فمهما علِمَ مَلَكٌ أو إنسيٌ أو جانٌّ أشياء مما بين يديه أو مما خلفه، فعلمه محدود وقاصر، لا يحيط بكل ما بين يديه ولا بكل ما خلفه، وإنَّما يُحيط بذلك الله -جلّ جلاله-.

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110))؛

والمعنى الثاني: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ) -بالربِّ-، لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علمًا فكيف يحيطون بالرب -جل جلاله- علمًا؟؛ لا بأسمائه ولا بصفاته ولا بذاته العلِيَّة.

(وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) هو يعلمُ ويحيطُ علمُه بهم وبكلّ شيء، ولا يحيط به أحد؛ بل كما قال في آية الكرسي: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة:255].

(وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) والإحاطة بالله -جلّ جلاله- مُمتَنعةٌ؛ لأنه لا أحد مثل الله حتى يحيط بالله -جلّ جلاله-، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، وكلما ازدادت معرفتهم بالله كالملائكة والأنبياء، ازدادت معرفتهم بعجزهم عن الإحاطة بالله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-، حتى قال سيدنا أبوبكر الصديق: "لا يعرف الله إلا الله"، أي لا يحيط بالله في ذاته وأسمائه وصفاته إلا هو وحده -جلَّ جلاله-، ومهما عَلِمَ الخلائق، فأعلمُهم يقول ﷺ: "أعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ سبحانك لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ" -جلَّ جلاله-.

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)، وهو يحيط بهم -جلّ جلاله- (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّوم (111)) ذلَّت وخضعت، وخشعت الوجوه من قِبَل الأولين والآخرين، لا ملوك، ولا رؤساء، ولا جبابرة؛ كلٌّ خاضع.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) ذلَّت وخشعت.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ) الذي أحيا ما أحيا بإرادته، وأمات ما أمات بإرادته، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2].

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)؛

  • (الْقَيُّومِ) القائم على كل نفس بما كسبت،

  • (الْقَيُّومِ) بتدبير عباده، وتسيير شؤونه، ومُكَوّناته، ومصنوعاته، ومخلوقاته، تقديمًا وتأخيرًا، وإحياءً وإماتةً، وهدايةً وإضلالًا، وصِحةً وإمراضًا وتقريبًا وتبعيدًا،

  • وما مِن ذرة من ذرات الكائنات إلا والجبّار الأعلى قَيّوم عليها، يَرقُبها ولا يزيد فيها شيء ولا ينقص إلا بأمره وإرادته، فهو قيّوم، حي قيوم -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وهو قيوم قائم بنفسه سبحانه وتعالى، غير مفتقر لمن عداه، وكل من عداه مُفتقر إليه، أبدي سرمدي، ليس له بداية ولا نهاية، لا افتتاح لوجوده ولا آخرية لبقائه سبحانه وتعالى.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وهذه هي النهاية التي ينتهي الكل إليها، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111))؛ (خَابَ): خسِر وهلَك من حمَل الظلم،

  • وأعلى الظلم وأكبره؛ الشرك بالله -جل جلاله وتعالى في عُلاه-،

  • ومن اتخذ مع الله إلهاً آخر،

  • ثم كل ظلم يحمله المكلَّف يُجازَى به في القيامة، و"إن الظلم ظلمات يوم القيامة"

وإنَّ ظُلم الناس لا يتركه الله حتى يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا تُظلم نفسٌ شيئًا. 

قال تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) -نعوذ بالله من غضب الله- فحَملةُ الظلم الأكبر وهو الشرك -والعياذ بالله- أصحابُه مُخلَّدون في النار، وما عدا ذلك من ظُلم العباد بعضهم البعض فلا يتركه الله حتى يقتص ويعطي كل ذي حق حقه -جلّ جلاله-، بل حتى بين الإنسان والحيوان، بل حتى بين الحيوانات بعضها البعض؛ إذا تصرَّفت بغير ما خُلِقَت له من عُدوان بعضها على بعض بغير حق "حَتَّى يُقَاد للشاةِ الجَمَّاء من الشاة القَرْنَاء"، فتنطحها بقدر ما نطحتها في الدنيا، وذلكم أن الله حَكَمٌ عدل، لا يظلم مثقال ذرة سبحانه وتعالى، يقول -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].

(وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) فيا خيبة الظالمين! مهما اغترُّوا، ومهما ظنوا أنهم أدركوا شيئًا وأنهم قهَروا العبادَ بشيء، فيا خيبتهم ويا ما أخطر مُستقبلَهم ومآلَهم! (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).

(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) اللهم ارزقنا كمال الإيمان ووفقنا للعمل الصالح، فهذه التجارة الرابحة، (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112))؛

  • (لَا يَخَافُ ظُلْمًا) أن يُجازَى بغير عمله، أن يُزاد في سيئاته.

  • (لَا يَخَافُ ظُلْمًا) أن يُعاقَب بسيئات غيره؛ (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا)

  • (وَلَا هَضْمًا) ألّا يُجازى على حسناته ولا يُنقَص شيء منها (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].

(فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) ولا نقصاً من شيء مِما يستحقُّ من الحسنات (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].

(فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) هذه محكمة الإله الحق العدل -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-، الذي جاء في الخبر أن مُناديه ينادي في القيامة: أنا الله الملك العدل الذي لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعنده مَظْلَمةٌ لأحد من أهل النار حتى اللّطمة فما فوقها حتى آخذها منه، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مَظْلَمةٌ لأحد من أهل الجنة حتى اللَّطمة فما فوقها حتى آخذها منه -جلّ جلاله-.

(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فاجعلنا وأهلينا وأحبابنا ممن يعملون الصالحات على كمال الإيمان، وزِدنا إيماناً وتوفيقاً للعمل الصالح.

فهذا زادُنا من هذه الحياة: إيمان وعمل صالح، هذا خير ما نكسب في هذا العمر، خير ما نكسب على ظهر هذه الأرض؛ إيمان وعمل صالح.

زِدنا يا رب إيمانًا، وزِدنا توفيقًا للأعمال الصالحة، فهذا كسبُنا وهذا زادُنا وهذه عُدّتُنا وهذا الخير الذي نتحصّل عليه من هذه الحياة، ولا شيء غير ذلك يُعتَدُّ به ولا يُنتفَع به من بعد الموت إلى الأبد إلا الإيمان والعمل الصالح.

 (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (113)) عليك يا نبينا يا خاتم الأنبياء (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) وَصَرَّفْنَا وبيّنا ونوّعنا فيه من الوعيد؛ أخبار الآخرة والجزاء على الأعمال، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يَقُون أنفسهم ويحمونها من غضبنا وسخَطنا والنار الموقدة والعذاب الذي لا يطاق، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ (113)) هذا التذكير والتصريف من الوعيد (يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) اعتباراً وتنبُّهًا.

فمن رحمة الله تعالى صرَّف لنا الآيات، وصرَّف لنا في القرآن أخبار الوعد والوعيد ونتائج الحسنات ونتائج السيئات، وعرض لنا المواقف التي تكون في القيامة عرضًا -جلّ جلاله-.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يقون أنفسهم ويحمُونها من النار والعذاب الشديد والغضب الجبّارِ.

(أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) تذكُّرًا وانتباهًا ورجعةً وحُسنَ مُحاسبةٍ للنفس، واستقامةً على ما يُحبُّ الحق.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (114)) له الفضل وهو المتعالي على عباده أجمعين؛ بالفضل خلقهم من العدم وأسبغ عليهم النعم، وعاملهم سبحانه بإرسال الرُسُل وإنزال الكتب والبيان والتوضيح، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37]، (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَىٰ قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:50]، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [اﻷحقاف:34] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

قال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي صاحب الملك الحقيقي، مَلِك مَلِك، لا تكُون ذرة إلا بإذنه، ولا يكبُر شيء ولا يصغر إلا بإذنه، ولا يتلوّن ولا يتحوّل إلا بإذنه، مَلِك، مَلِك؛ هو الملِك، هو صاحب المُلك.

والناس مَن تملَّك على رقاب أحد من الناس يُسمُّونه ملك، مسكين ساعة تكون عينه كذا فيقول لا أريدها كذا، وساعة أذنه تطن يقول لا أريدها كذا، وساعة يجيء عليه انقلاب! أي مُلك هذا؟ الملك له، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2]، (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الانعام:73].

(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) يقول الله لحبيبه: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114))، يقول: كان عظيم الهِمّة في التبليغ وعظيم الحِرص على أداء الأمانة، فكان إذا قرأ عليه جبريل شيئًا من الآيات المُنزَلة، فابتدأ بقراءتها وهو يستمع إلى قراءة جبريل لِتُسمَع عنهُ خشية نسيانها، فقال له: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ) استمع إلى جبريل حتى يُكمل وإنا نحفظه عليك (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ) [الأعلى:6]، كما قال سبحانه وتعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) -في صدرك- (وَقُرْآنَهُ) -بيانه على لسانك- (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) -أي على لسان جبريل- (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة:16-19] -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- إلى المعاني التي تُذكَر في ذلك فيما يأتي معنا.

رزقنا الله وإياكم فهمًا في كتابه، ووعيًا لخِطابه، وتَبعيّةً لسيّد أحبابه، ورفعَنا أعلى مراتب اقترابه، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشرِّ ما عندنا، زِدنا وأهلَ مجمعنا ومن يسمعنا وأهلَيهم وأولادَهم إيمانًا بك وتوفيقًا للعمل الصالح في جميع اللحظات التي تبقى لنا على ظهر هذه الأرض، وارزقنا الفوز في يوم العرض، لا تخُيّب منا أحدًا في يوم غدًا يا حي يا قيوم يا أكرمَ الأكرمين، لا تخيّب منا أحدًا غدًا، واجعلنا في خواص السعداء، وزِدنا ما أنت أهلُه، ومُنَّ علينا بكل خيرٍ ونوالٍ وجودٍ وإفضالٍ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وعجِّل بتفريج كُروب أمَّة نبيك محمد، ورُدّ كيد المعتدين والظالمين والغاصبين والمُفتَرين، وارحم اللهم الضعفاء والفقراء والمساكين ومن يُؤذَوْن بغير حق من عبادك، اللهم تدارك أمَّة نبيك محمد، اللهم أغِثْ أمة نبيك محمد، وردّ كيد المعتدين الظالمين في نحورهم وادفع عن المسلمين جميع شرورهم يا قوي يا متين.

 

 بِسِرِّ الفاتحة

 وإلى حضرةِ النَّبِي مُحَمَّد 

 اللَّهم صَلِّ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ، 

الفَاتِحَة

 

 

تاريخ النشر الهجري

24 شوّال 1446

تاريخ النشر الميلادي

22 أبريل 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام