خاتمة تفسير سورة طه -16- من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ (133)} إلى آخر السورة، وأول سورة الأنبياء

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ (135))

والآيات الكريمة من سورة الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)


مساء الإثنين 28 ذو القعدة 1446هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله، مُكرِمنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لسان عبده ورسوله خير هادٍ ومرشدٍ ودليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار في سبيلهم مقتديًا بهم في النية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتبجيل والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد،

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام الإله الحق الخالق، وما يُبيِّن من الحقائق وما أوحاه إلى خير الخلائق، وما يهدينا ويرشدنا ويدلُّنا، وهو المُوجِدُ المُنشِئُ الفاطِرُ المُحيطُ علمًا بكل شيءٍ جلِّ جلاله، انتهينا إلى أواخر سورة طه، ومررنا على قوله جلِّ جلاله في أواخرها: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (133))، وهكذا مضى حالُ الخَلق المُكلَّفين على ظهر هذه الأرض وهم وراء اتِّباع أهوائهم مع وضوح الحُجّة والدليل، يقترحون وجود آيات وعلامات، وكلما اقترحت أمةٌ على نبيها وجود علامة كان وجود هذه العلامة حُجَّةً أكبر عليهم، وكان بعد ذلك إن لم يُؤمنوا أن يُستأصلوا بعذابٍ يعُمَّهم.

حتى أنّ خواصَّ المؤمنين من أمَّة سيدنا عيسى عليه السلام لمَّا طلبوا من سيدنا عيسى آية إنزال مائدة من السماء: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:112] لماذا تقترحون الآيات هذه والعلامات، والأمر واضح وبيّن؟ لماذا؟ (قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:113]، (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ *قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة:114-115] كان من أشد الناس عذابًا يوم القيامة مَن كفر ممن نزلت عليهم المائدة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ وهكذا بعد نزول الآية يشتدّ الأمر.

ولهذا نقرأ في أول السورة الآتية: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُم)[الأنبياء 3-1] إلى آخر ما قال، وجاء أن جماعة من قريش قالوا لنبينا ﷺ: أيسرّكَ أن نؤمن بك ونصدِّقك؟ فاقلبْ لنا جبل الصفا ذهبًا، هذا الجبل اقلبه الصفا ذهبًا، وأتاه جبريل قال، يقول الله: إن شئتَ فعلتُ ذلك، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم، وإن شئتَ استأنيْت بقومك قال: بل أستأني بهم، يهلكون عن بَكرة أبيهم ويقعون عبرةً للمعتبرين، وإلى النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، لأن الذين من قبلهم كذلك: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:6] جاءتهم الآيات وما آمنوا.

يقول الله تعالى في الرد على أولئك: (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ) أما يكفيهم الآية التي فيها بيان ما في الصحف الأولى؟ وما هي؟

  • هي القرآن المُنزَل على محمد ﷺ، أعظم الآيات آتيناها نبينا، وتحدّاهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، وينبئهم عمّا في الصحف الأولى، المنزلة على الأنبياء من قبل، ويخبرهم بها،

  • المعنى الثاني: هو صلى الله عليه وسلم؛ هذه كُتب الله المنزلة فيها صفاته، فيها البشارة به، فيها بيان أحواله، وجاءكم بنفسه -البيّنة لما في الصحف الأولى- أما يكفيكم هذا؟ -لا إله إلا الله- (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل [الشعراء:197] علماء بني إسرائيل قد قرأوا وصْفه وحليته ونعته وجاء كما قال الله؛ ألا تكفي هذه الآية؟ (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ)

وهكذا يقول الحق -جلَّ جلاله-: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ) قبل أن ينزل القرآن، قبل أن يُبعث سيدنا محمد ﷺ، لقالوا -إذا رجعوا إلينا في القيامة-: (لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) ما جاءنا أحد، وإلاّ فإنّنا سنؤمن بك وسنطيعك وسنتّبع أمرك، ونترك أهواءنا، لكن ما جاءنا أحد، ما أنزلتَ كتابًا، ما أرسلتَ رسولًا، (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134)) هذا الذل المهين، (وَنَخْزَىٰ) هذا الخزي العظيم، (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) [النحل:27].

  • نذِلّ في الدنيا؛ بالمعاصي وبالهلاك،

  • ونُخزى في الآخرة؛ بالفضيحة والعذاب والهوان، (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الأحقاف:20].

(مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ) قال: لكن قد بعثنا الرسول وأنزلنا الكتاب فأي حُجةٍ لهم؟ أي شيء يتذرعون به، يتأخرون عن الإيمان؟ لا حُجّة لأحد من أهل الكفر في الشرق والغرب، بعد هذه الآيات الواضحات، وبيان خير البريات ﷺ، وما أحدث الله على يديه من الآيات؛ ولا يزالون في كل ما يتحركون فيه أو يعملونه في ترجمة كلامه وبلاغه الذي قاله، وهو الذي أخبر عن هذه المراحل وعن هذه الأحوال التي يقومون بها اليوم أو يتعاملون بها اليوم أو يعيشون فيها اليوم، قد تحدّث عنها ﷺ، فأي حُجة في هذا الإهمال والإغفال والالتهاء بأغراض النفوس من إرادة السلطات والتولي على الأموال والثروات؟ وانتهى كل شيء، كأنهم خُلقوا لهذا! ما أقل عقولهم! ما أفسد فكرهم! ما أقل وعيهم وإدراكهم! ومع ذلك هم المُغترون والمتكبرون والمدّعون لما يدعون إليه.

(أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134)) يقع علينا الذل والهوان والخزي الشديد (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:89-87]، يقول تعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بها) [الأحقاف:20]، فهل كان ذلك شيء له قيمة؟ له حقيقة فائدة؟ له عاقبة؟ ما هذا الذي استكبرتم به وافتخرتم به وأنفقتم قواكم في طلبه، ما يكون هذا؟! (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الأحقاف:20]

فأيُّ شيء من عاقبة للأمر الذي كنتم ترقصون عليه وتفتخرون به وتبذلون حياتكم فيه؟ ماذا كانت عاقبتكم؟ ما هذه اللعبة؟ هذه المسخرة؟! هذه السفاهة، هذه البلادة؟! (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20]؛ تستكبرون في الأرض بأفكار ليس لها حقيقة، ليس لها أساس، تستكبرون في الأرض بأسلحة، تستكبرون بغير حق، بغير حق تستكبرون في الأرض، تستكبرون في الأرض بالسُلطة ومدّ اليد على خلق الله، ما هذا؟! هذه أمور سفاهة وقبائح لماذا تستكبرون بها؟ الاعتزاز والعظمة بي وبطاعتي وبالعمل بما أوحيت، هنا الفخر والعز، ما الذي أنتم فيه؟ ما هذا؟ (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)؛ تُقنّنون للفاحشة، تقنّنون للخمور، تُقنّنون للظلم -والعياذ بالله- وتضعون له قوانين، تفسقون، تخرجون عن الطريق (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) فلهم الهون في يوم القيامة.

والحمد لله على نعمة الإسلام، ويا ربِّ ثبتنا عليها، يا رب العرش، يا رب الأرض والسماء، كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.

(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ (135)) بعد إقامة الحجج وإيضاح الأدلة وإقامة البراهين، لا يبقى حاجة لطول الكلام، ولكن ينتظر كلٌّ ما هو مستقبِلُه في العمر القصير مما يُحدِثُ الله في هذه الدنيا؛ ينصر نبيه ودينه ويحفظه على الرغم من المكابرين والمعاندين والجاحدين، ويجعل العاقبة لأتباع النبي الأمين، ثم من بعد الموت؛ ما الذي ينتظر جميع المجرمين والظالمين والكافرين والمعاندين؟ ما الذي ينتظر المؤمنين؟ ما الذي يُلاقونهُ في الحياة، ثم عند الوفاة، ثم في البرزخ، ثم يوم الموعد والجمع؟ (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) [يونس:102].

(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ) ينتظر ما ستبدي له الأيام وما يقابله في بقية عمره، وما بعد العمر، ما بعد الحياة الدنيا، انتظروا ونحن ننتظر.

(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ) عند ظهور الحقائق لمن شاء الله تعالى في شيء مِما يحدث في الأرض، علامات صدق محمد ﷺ تتجدد في الوجود والعالم، واسمه يُرَدَّد في شرق الأرض وغربها، وإذا الآذانات تُعلَن في المنارات وفي مكبرات الأصوات: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله" وقد حاولوا إخماد هذا الصوت أول ما ظهر، وقد كان محصورًا في مكة وبعدها بدأ ينتشر، والآن منتشر في شرق الأرض وغربها، فأين الجهود التي تجمّعت في إخفاء هذا الصوت فما اختفى، بل برز، وما يمر قرن من القرون إلا وخطط موضوعة لكي يختفي هذا الصوت فما اختفى، كم حركات قامت؛ في روسيا، في الصين، في أمريكا وجاءوا إلى البلدان العربية والبلاد الإسلامية وأقاموا فيها أنظمة ليختفي هذا الصوت فما اختفى، (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) [التوبة:40].

(فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ (135)) وممّا جَالَ في أفكار الناس من أرباب الإلحاد والذين حَمَلوا شِعار "الدِّين أفيون الشعوب"، و"لا إلٰه"، و"الحياة مادة" كانت هذه شعاراتهم وقامت عليها دول، وجاءوا إلى بلدتنا هذه، ومن أجل القضاء على هذه المظاهر؛ خَطَفوا، سَحَلوا، سَجَنوا، عَمِلوا؛ أقاموا في البلاد خمسة وعشرين سنة وذهبوا وعادت البلاد كما كانت وزيادة؛ لِيعلموا أن فوق الكَون مُكَوِّن، والمُلك بيده لم يسَلَّمه لأحد (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) [آل عمران:26].

وجاءوا إلى مصر، وجاءوا إلى سوريا، وجاءوا إلى أماكن، وتلاشى هذا الفكر بما فيه وانتهى، واليوم أُسُسه التي كانت تقوم عليها الحضارة انتهت وصار الكل يستحقرها، والكل يَرى أنها بائدة، وقد كانت تقول: نحن سنُعيِّش الناس في جنة بالنظام هذا الاشتراكي المُناقض لنظام الحق -جَلَّ جلاله-، وماذا عَمِلوا؟ لا اشتراكي ولا رأسمالي أنقذ الناس ولا نفعَ الناس، ولا خَلَّص الناس من المشاكل، والكل يغرق فيه، ولا يزال أصحاب النظام الرأسمالي إلى اليوم يَنهَبون ثروات الناس ويأخذون حق الغير، ما هذا النظام؟! ما عندكم نظام يكفيكم؟! فَشَل! لكن نظام الحق تبارك وتعالى -الله أكبر-.

في خلال سنتين حَكَم فيها عمر بن عبد العزيز حوّل الناس إلى أغنياء قلْب وأغنياء أيدي، وديرَ بالذهب من بلد إلى بلد ولم يجدوا من يَقبَله، خلال سنتين! وهذه خططهم الخَمسية بعد خَمسية، وخَمسية في خَمسية، وقاموا خمسين سنة والمشاكل تزداد، في أي النظامين؛ الرأسمالي أو الاشتراكي داروا بالذهب ولم يقبله أحد؟ نراهم كيف يُقبِلون عليه ويَلقُمونه، نِظام الله هو الحق والهدى.

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) القَويم المُعتَدِل، الذي لا انحراف فيه ولا غُلُو ولا إفراط ولا تفريط.

(وَمَنِ اهْتَدَىٰ) خَرَجَ من الضلالة بنور الحق والهدى فهذه حقيقة لابد أن يَعلَمها الكُل، وتَبدو لهم في كُل فرد من المُكَلَفين من عند الغرغرة يَعرِف هذه الحقيقة، فرعون وهو في البحر في الغرق، قبل أن تَخرج روحه: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90] أي أن كلامي ومملكتي ودولتي باطل في باطل والحق ما جاء به موسى، قبل أن تخرج روحه لكن لا يُقبَل منه الإيمان في تلك اللحظة (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91] من عند الغرغرة لا يفيد الإيمان، من عند الغرغرة إلى الأبد يَعلَم الناس هذه الحقيقة؛ الحق فيما جاء به محمد وما أوصله المُرسَلون من قِبَلِ الله إلى الخلق على ظهر هذه الأرض، وكل ما خالفه فكرًا واعتقادًا ونظامًا وحياةً باطل باطل باطل باطل، (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج:62]، فالحمد لله على نعمة الإسلام ونعمة الحق.

مِنْ قَبل سنين قد تُحُدِّث أن بعض المُفَكِرين من الذين بَسَطوا لهم نفوذ على ظهر الأرض، قالوا: هذا الحج مشكلة؛ يُجَمِّع طوائف المسلمين من الشرق والغرب، ولابد لنا أن نوقفه، وآخِر محاولة، أيام جاءوا بلعبة كورونا وحاولوا و لكن لم يتوقف، وفي تلك الفترة قليل الذين يطوفون حول الكعبة يَعتَدُّون، واليوم حول الكعبة طول السنة نرى مئات وألوف، -الله الله الله الله الله الله- (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة:32].

وهكذا محاولاتٌ في إخفات أصوات الحق ونور الحق (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9]، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ).

بسم الله الرحمن الرحيم
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4))

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1)) يُبيِّن الحق أحوال عباده رحمةً منه، ولطفًا بعباده، وبيانًا للحق لِيَعلَمَهُ مَن يَعلَمُه، فما هناك شيء تكتسب به اليقين لإدراك الحقيقة مثل القرآن، كلام ربك الذي جعله مُهيمنًا على الكتب، وختم به الكُتب وأنزله على خاتم النبيين، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:193-195] اللهم انفعنا بالقرآن، اللهم ارفعنا بالقرآن، اللهم اجعلنا عندك من خواص أهل القرآن.

يقول في سورة الأنبياء: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) فالحَقيقة التي يُحَدِّثُهُم عنها أنبياء الله بأمر الله تعالى؛ من وقوع المُجازاة والمُكافأة والمَثوبة والعقاب على ما فعلوا قريبٌ منهم، كيف قريب منهم؟ بمعاني:

  • المعنى الأول: أنَّه واقعٌ حتمًا آتٍ لا ريب فيه، وكلُ آتٍ قريب، كلُ آتٍ قريب.

  • الثاني: أنَّ الناس الذين مَضى، لهم من البقاء على ظهر الأرض من حين خَلَق الله أباهم آدم، الذي بقي لهم قليل جدًا بالنسبة للذي مضى، فالأمرُ إذًا قريب.

(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1]؛ فكانت بِعثَة نبينا دليل قُرب الساعة، مَرَّ الآن، هذه الألف والأربعمائة التي مَرَت، هي أَخَذَت مِنا ما بين الخَمسة والثلاثين جيل إلى الخَمسة والأربعين وما يقارب ذلك، كانت لا تكفي جيلين في الأمم السابقة قبلنا، لِقِصَر الدُّنيا، كان الواحد منهم يُعَمِّر ألف سَنة، ونحن في ألف وأربعمائة من عهده ﷺ إلى اليوم كُلنا أنسابنا وأجدادنا الذين كانوا موجودين في عهده إلى اليوم بينك وبينهم أقل شيء خمسة وثلاثين جيل قد مَرُّوا: أبوك وأبو أبيك وأبو جده وكلهم مضوا لم يبق منهم أحد، أو خمسة وأربعين وما بين ذلك يزيد قليل أو ينقص قليل، من جميع الموجودين على ظهر الأرض، هذه الخمسة والأربعين جيل كانت في جيل ونصف من الأول من الأمم السابقة وذهبوا، فما بقي منهم أحد في الدنيا! ذَهَب أكثرها ما بقي منها إلا القليل. 

حتى يقول ﷺ: "بُعثتُ في نَسَمِ القيامة" ماهو نَسَم القيامة؟ قال النَّسَم: الأرواح، الأرواح الموجودة، أرواح القُرب من القيامة، أي البقية الذين هم قريب من وقت القيامة أنا بُعثت فيهم، "بُعثتُ في نَفَسِ القيامة، وكادت أن تَسبِقَني فَسَبَقتُها"، حتى قال في الرواية الأخرى: قال: "فَسَبَقتُها، فَبَيني وبَينَها كَهاتَين"، فسبقتها كما هاتين، ما بين أصبع السبابة والوسطى في تَكوين الحق في عامة بني آدم، يكون هذا قريب من هذا، أقرب شيء، ما بينه إلا مسافة يسيرة، ويُضرَب به المَثَل في القُرب واستعمله ﷺ في كثير من الأحاديث: "كهاتين"، "بُعثت أنا والساعة كهاتين" في الحديث الآخر يقول.

إذًا فأكثر المُدة التي حَدَّدَها الله لبقاء الإنسان على ظهر الأرض إلى أن تقوم الساعة قد مضى أكثرها وأكثرها وأكثرها، لا أقول نصف ولا ثلثين ولا ثلاثة أرباع، أكثر قد مضى، ما بقي إلا اليسير القليل.

إذًا الاقتراب أيضًا بالنسبة لميزان الله اقتراب قوي، قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) [الحج:47] فالأمر مُقترِب، لكن الناس يَغتَرُّون بالقليل مِنَ القليل، القليل من القليل يغترون به؛ ولهذا صاروا يتضرّرون إذا طال أمل أحدهم، وإذا طال أمل أحدهم لا أحد من طوال الأمل عندنا يُؤمّل أن يعيش خمسمائة سنة، يعلم أنه لن يظل، لا يمكن، يعلم بنفسه أنَّه لابد أن يموت، كلهم هكذا، ولكن طول الأمل هذا يضرهم لهذا بحسب عقولهم.

أمَّا الحقيقة أن عُمر الأمة من أيام النبي محمد إلى أن يُنفخ في الصور قليل جدًا بالنسبة لما مضى، لكن لا يستوعبون هذا، هم مغترون بالساعات هذه والأيام هذه ويعدُّونها شيء كبير؛ لهذا صار يضرهم طول الأمل ويتصوَّرون أنهم سيعيشون ثمانين سنة، تسعين سنة، مئة سنة والأعمال تصل الى هنا، كل واحد يعلم أنَّه لن يعيش، لم يعش غيرهم، كيف هم سيعيشون؟! لم يقدر أن يُبقي نفسه -الله أكبر- بل لا يكاد تمر مائة سنة على الأرض إلا والذين كانوا في أوائل المائة الأولى لم يبقَ منهم أحد، إلا من أَندَر النادر، أندر النادر- لا إله إلا الله- هكذا سبحان الله.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) قال بيقين؛ أنتم سَتَرِدُون موقف القيامة لتُعرض عليكم أعمالكم فلماذا الغفلة؟ ومع هذا اليقين فأعماركم قصيرة، وأعماركم القصيرة لو نُسِبت وأُضيف لها أعمار مَن قبلكم لكانت كلها بالنسبة للقيامة وما بعدها قليل، إذا كان يوم الحساب وحده يمتد إلى مقدار خمسين ألف سنة، هذا عُمر كم من الأمم؟! عمرك أنت وعمر أبوك وجدك وجد جدك؟! (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:4-7] البُعد هذا في نظر المغفلين والغافلين والملحدين والكافرين من جهتين:

  • جهة أنهم هذه السنين الحقيرة القليلة، يُعظِّمونها وكأنها كل شيء.

  • والثاني أنهم يَشكّون في أمر الآخرة ويستبعدونه، وليس فيه شك (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا) [الحج:7]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ:3]، (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].

يقول جلِّ جلاله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) وراء الأهواء، ابتليناهم واختبرناهم بشهوات، بمُتع زائلات، وذهبوا وراءها ونسوا مَن خلَقهم، ولماذا خلق هذه الأشياء، غافلون.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) عن المُذَكِّرات والمنبهات والآيات وكلام الرسل وكلام صلحائهم وكلام أخيارهم، يعرضون عنه لأن نفوسهم لا تميل إليه، لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ (2)) (مِّن ذِكْرٍ): آيات، تعليمات وأخبار وأنباء من ربهم على أيدي الرُّسُل والنبي محمد ﷺ، (مُّحْدَثٍ): نزوله وبلاغه

(إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ (3)) (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ) [الإسراء:47] يتكلمون، (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد:16]، (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) -والعياذ بالله- (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:124-126]، والآيات تتوالى والحق تعالى يوالي عليهم؛ آيات بعد آيات، سورة بعد سورة، تذكير بعد تذكير.

(مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ (3))؛ (لَاهِيَةً) مُشتغلةً بالحقيرات والفانيات ومتعلَّقةً بها فقط.

(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (3)) وأسرُّوا النجوى بينهم، بالغوا في الكِتمان، الكلام بينهم البين (هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ (3)) هل أتى نبي قبله ليس ببشر؟ كلهم الأنبياء بشر، بعد ذلك تريدون لكم نبي ليس بشر، أنتم وحدكم؟! من أول ما خلق الله آدم بشر وأرسله إلى أولاده، ومن عند أولاده شيث بشر، وإدريس بشر، ونوح بشر، وهود بشر، وصالح بشر، وإبراهيم بشر، كلهم الأنبياء بشر، والآن تريدون نبي ليس ببشر؟ كيف هذا؟! ما هذا اللعب؟ (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)) هذا يَسحَر!

(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (4))، قل لهم: إن أسررتم وإن جهرتم، الأمر عند الحق تعالى كله واضح وبادٍ ومكشوف وهو الذي سيحاسبكم، وانتبهوا لأنفسكم.

(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)) إلى آخر ما يأتينا أو إلى ما يأتينا في معاني هذه الآيات البديعات العظيمات.

فالله يملأ قلوبنا بالإيمان واليقين، ويرزقنا الإخلاص والصدق والتوفيق، ويثبتنا على الحق فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد، ويرزقنا اغتنام الأعمار وصرفها فيما يُرضيه عنا، إنَّه أكرم الأكرمين.

قد سَمَّى الله السورة "سورة الأنبياء" لأنه كَرَّر علينا فيها ذِكر الأنبياء وما لاقوا وما قاموا به من أمره، وما قابلته أُمَمُهم وما أهلك الله أُمَمَهم؛ لأن في ذِكر الأنبياء حياة لقلوبنا، حتى جعل الله تعالى في البيت العتيق ذِكرًا للأنبياء، يقول: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران:96-97] (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125]

وجاءت هاجر تسعى بين الصفا والمروة من أجل أن تنقذ إسماعيل وجاءها جبريل، والسعي بين الصفا والمروة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158]، وكان الحَفر بِرِجل سيدنا جبريل، وكانت زمزم مشاعر إلى أن جاء خاتم النبيين وقال: "خذوا عني مناسككم"، فاقتدوا بي، في كل خطوة تخطونها في الحج، امشوا خلفي صلى الله وسلم عليه وعلى آله، أيام مباركة، رزقنا الله اغتنامها وإياكم.

ربما تكون الليلة آخر ليلة من ليالي شهر ذي القعدة، ويكون اليوم الآتي يوم الثلاثاء آخر يوم لاحتمال أن تُهل رؤية هلال شهر ذي الحجة في الليلة القابلة، لذا من وفقه الله ونوى أن يُضحي فما يحتاج له من قَلْم ظفر أو حلاقة شعر، يكون في يوم الثلاثاء غدًا؛ حتى لا يَمس شيء من ظفره وشعره في الأيام العشر إلى أن يذبح الأضحية.

وسُنة التكبير عند رؤية أي بقرة أو غنمة أو أي إبل في الأيام العشر، كلما رأيتها كبّر: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، لتنبعث أسرار التكبير في قلوبنا للعلي الكبير بكل ما أدركنا عظمة هذا الكبير، خرجت أوهام تكبير الصغار والذين لا يساوون شيئًا، وإذا تم ذلك تولانا الكبير بعنايته ولطفه -جلَّ جلاله- مَن عظَّم أمر الله تولاه وأيّده سبحانه وتعالى.

وهكذا قال: "ما مِن أيامٍ في الدنيا العملُ الصالحُ أحبُّ إلى الله فيهن من أيام العشر"، خير أيام الدنيا أيام العشر "فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل"، لمَّا جاءت هذه السُنَّة كانت بلاد المسلمين تضج من أول ليلة في ليالي العشر بأنواع التسبيحات والتهليلات والتحميدات، ومنها: لا إله إلا الله عدد الليالي والدهور، لا إله إلا الله عدد الليالي والشهور، كانت تُسمع في البيوت وفي الشوارع في الأسواق، في الحرمين الشريفين في اليمن وفي مصر وفي الشام وفي كثير من الأماكن، ولما عمّت الغفلة اختفت هذه وجاءت أصوات ثانية تسمعها! الله يُحيي فينا حقائق الدين والإيمان واليقين.

ثم بعد ذلك يأتي إحياء ليلة التروية وهي ليلة الثامن، وليلة عرفة وهي ليلة التاسع، وإحياء ليلة العيد آكد وهي ليلة العاشر من شهر ذي الحجة.

ويأتي التكبير المُقيد؛ التكبير المقيد بعد الصلوات إذا صليت فريضة أو نافلة فتُكبِّر بعدها، وهكذا مذهب الشافعية مُتّسع في أن سُنَّية التكبير من فجر يوم عرفة بعد كل صلاة، فإذا أذَّنَ الفجر في يوم التاسع فصليت سنة الصبح يُسَن لك أن تُكَبِّر، بعد فريضة الصبح يُسَن لك أن تُكَبِّر، صليت الضحى يُسَن لك أن تُكَبِّر، صليت سنة الظهر القبلية يُسَن لك أن تُكَبِّر، صليت الظهر يُسَن لك أن تُكَبِّر، وبعد كل صلاةٍ فرضًا أو نفلًا تُكَبِّر: التاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، إلى عصر يوم الثالث عشر.

أمَّا الحاج يتأخر التكبير إلى يوم العيد، فلا يزال التلبية أفضل له حتى يرمي جمرة العقبة بعد الرجوع من عرفة ومزدلفة، فينقطع التلبية ويعود إلى التكبير اتباعًا لسنته ﷺ.

وجاءنا عن سيدنا عمر بن الخطاب لمَّا حج وكل يوم يريد الخروج لرمي الجمرة أول الزوال يُكَبِّر، فيُكَبِّر بتكبيره أهل المسجد، فيسمعهم أهل السوق فيُكَبِّرون بتكبِيره، فترتجّ مِنى تكبيرًا، حتى أنَّهم في أطراف مكة يسمعون لجيج التكبير، فيقولون: خرج أمير المؤمنين الساعة للرمي، يعرفون أنَّه الآن خرج للرمي، كانوا الصحابة تهتز الجبال بتكبيرهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وهم أقرب الناس من محمد ﷺ ومِمَّا جاء به.

ويَبتَدِئُ وقت الأضحية بصلاة العيد، إذا طلعت الشمس ومرّ الوقت الذي يسع صلاة العيد يبتدئ الآن وقت الأضحية، لا يجوز الذبح قبل ذلك، قال ﷺ: "من ذبح قبل الصلاة فإنَّما هي شاة لحم قدمها لأهله، ومن ذبح بعد الصلاة فقد وافق السنة فهي أضحية"، وقام واحد من الصحابة كما نقرأ في الصحيح يقول: يا رسول الله أردت أن أسبق الناس اليوم، سمعت منك أنَّه أفضل عمل في يوم النحر إراقة الدماء، وأنا قبل الصلاة ذبحت وجئت، قال: "هي شاة لحم"، قال: يا رسول الله، أنا أريد أن أُبدِّل، عندي عَناق صغير لم يبلغ بعد، ولكنه سمين وجميل، أحسن عندي من ثنية، أيجزئ عني؟ قال: "يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك"، أنت فقط، يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك، وفيه الصلاحية التي أعطاها الله نبيه وتخصيص ما شاء، قال: "أنت، تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك" ﷺ.

الله يجعله من أبرك المواسم، ويقبل الحاجين والمعتمرين وزائري سيد المرسلين، ويوفقهم للخيرات، ويقسم لنا فيما يؤتيهم ويتفضل عليهم، ويجعلهم سبحانه وتعالى مفتاحًا لباب الفرج للمسلمين، والغياث للمسلمين، ورفع أيدي الظالمين المعتدين الغاصبين الذين يجددون قتل الأطفال والنساء والعُزَّل والأبرياء في كل يوم، الله يدفع شرهم عنا وعن المسلمين، ويحول الحال إلى أحسن، ويجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى وختم لهم بها في عافية، إنَّه أكرم الأكرمين.

 

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي الأمين

صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

05 ذو الحِجّة 1446

تاريخ النشر الميلادي

01 يونيو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام