تفسير سورة الأنبياء -03- من قوله تعالى: {بلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.. (18)} إلى الآية 24
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
مساء الإثنين 27 ذو الحجة 1446هـ
نص الدرس:
الحمد لله، على نعمة الوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير هادٍ ومُعلمٍ ودليل، سيدنا محمدٍ الهادي إلى سواء السبيل، صلِّ اللهم وسلم وبارك في كل لمحةِ نفسٍ على عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أهل التفضيل، ومن تبعهم بإحسانٍ في النيةٍ والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتمجيد والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد،
فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام إلهنا الخلَّاق، وما أنزل على قلب رسوله عظيم الأخلاق، وتدبُّر ما علّم وأرشد وبيَّن وهدى جلّ جلاله.
وصلنا في سورة الأنبياء إلى قوله سبحانه وتعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)) يَرُدّ على الذين يجترئون على الألوهية والربوبية وينسبون اللعب إلى الحق، وهو المُنزَّه -جلّ جلاله- عن ذلك، وعن كل نقصٍ وعن كل ما لا يليق بعظمته، ويقولون في خلق السماوات والأرض أنَّها لعب وباطل، وأنَّ كلًّا يعمل ما تشتهيه نفسه وكل ما قدَر عليه، ولا خطاب ولا حساب ولا عقاب؛ هذا هو اللعب بعينه، قال الله: بل الأمر غير ذلك، وما خلقناها إلا لحكمةٍ، ومرجع ومصير لنا، ومحاسبةٍ لكل أحد عن القليل والكثير والصغير والكبير.
ولذا وجدْتَ زعماء الحضارة في عصرنا، ومُدّعي الدعاوى الكثيرة في زماننا لا يعرفون التفاهم إلا بقوة السلاح، ولذا يحرصون أن لا يملك غيرهم سلاح قوي، وإذا خُوطِبوا بأي خطابٍ يرجع إلى القِيَم أو إلى الأخلاق أو إلى الإنسانية، لم يزنوا له وزنًا ولم يكن عندهم مكان حتى تأتي هذه القوة المادية، وعندها يتخاطبون وحدها؛ فهم في التفاهة إلى هذا الحد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، قومٌ لا قِيم لهم، ولا مبادئ حقيقية لهم، إلا التسلُّط والقوة وهَدم المصالح المادية فقط، غير هذا لا يَتخاطبون مع أحد ولا يتكلمون مع أحد ولا يَزِنون لأحدٍ وزنًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فما أتفههم وما أتفه عقولهم -والعياذ بالله جلّ جلاله-.
وفي أمثالهم قال ﷺ: "من علامات الساعة أن يتكلم الرجل التافه في شؤون العامة"، و "أن يتكلم الرُّويْبِضَةُ، قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ" فهو رجل تافه ساقط يتكلم في شؤون العالم، لا له قيم ولا له أخلاق ولا له معرفة بمن خَلقه ولا لماذا خُلق، ويتكلم هو وأمثاله، هذا كلام الرويبضة في أَزْمِنَتِنا القريبة من القيامة؛ ولكن هذا كلام الله وكلام رسوله، ما أجلَّه وما أجمله وما أعلاه! رَزقنا الله الإصغاء إليه والإنصات والعمل به.
يقول تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)) من زوجة ومن ولد ما إلى ذلك، ما نحتاج لأحد منكم يا بني آدم، لكن هذا أمرٌ بعيد عن الإلوهية، والحق مُنزهٌ عنه، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (18)) نقذف بالحق: كُتب ننزلها من السماء، ورُسل نختارهم ليبلِّغوا عن الله، ونور هدىً ورشادٍ وشريعة؛ هذا هو الحق.
(نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ) كُفر وإلحاد، ومعصية وعناد، ودعوة إبليس ومَن أطاعه.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) وأصل الدمغ: الضرب على الرأس حتى يصل إلى الدماغ فيُفني الإنسان، يُميت الإنسان ويُخرِجه.
فيدمغهُ: الحق يُدمغ الباطل، أي: يُذهب أي مكانة له وأي سُلطة وأي دعوة، فإذا به باطل (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد:17].
(أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) -كل وادٍ على ملئهِ وعلى قدره سالت المياه- (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ) -من الذهب والفضة- (زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد:17] وهكذا ضرب لنا مثل الحق والباطل -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
فلا تزال كلمة الحق -لا إله إلا الله محمد رسول الله- هذه رأس كلمة الحق باقيةً، ومرفوعًا قدرها وقدْر من تحقق بحقائقها -حقَّقنا الله بحقائقها- إلى آخر الزمان، ثم إلى أن يأذن الله بهلاك العالم وبقيام الساعة، وثم بعْث الناس للحُكم بينهم، وإذا بالباطل زهوق، قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] فيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فلا ينجو إلا مَن آمن به وبرسله، واتبع ما جاؤوا به.
قال تبارك وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21]
يقول جلّ جلاله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)) يا من اجترأتم على الألوهية والربوبية، يا من اجترأتم على النبوة والرسالة؛ وهي اصطفاء الخالق لمن ارتضى من خلقه.
يقول: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) يا ملحدين ويا مكذبين بما جاء، وصفكم الباطل ما تجنون منه إلا النكال، النكد المُعجَّل في الدنيا، ثم العذاب الغليظ في العُقبى.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) تنسبون إلى الله ولدًا، تنسبون إلى الله زوجة، تنسبون إلى الله ظلمًا، تنكرون وجود الله تبارك وتعالى، تستهزئون برسله، تكذبون أنبياءه، تُخالفون شرعه الذي جاؤوا به عنه تعالى؛ لكم الويل، لكم الويل: الهلاك والدمار والحسرة والندامة والعذاب مما تصفون من كل باطل (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت 23-24] ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
وقال سبحانه وتعالى: (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدة:64]؛ بأقوالهم لُعنوا وطُرِدوا من الرحمة كما قالت اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة:64]، وهكذا (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) [التوبة:30]، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:4-3] -جلَّ جلاله وتعالى وعلاه-.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (19)) يقول الله أنتم وكل من معكم في الأرض، وكل الذين أسكنّاهم السماء، كلهم لي؛ خلقًا ومُلكًا، فهم عبيدي (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:95-93] فماذا تقولون على الله؟ لماذا تنسبون الولد إلى الله؟ لماذا تنسبون الزوجة إلى الله؟ لماذا تنسبون الشريك مع الله؟ ما لكم؟ ما لكم؟ كل من في السماوات والأرض خلقه، صنعته، فعله، عبيده، مُلكه، هل أحد ثاني خلق؟ فما هذا الكلام؟!
(وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كلهم مُلكه، كلهم صنعته، كلهم خلقه، كلهم مِن إيجاده -جَّل جلاله-؛ كان الله ولم يكن معه شيء (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان:1] كل واحد منا قبل مئة سنةٍ، أين هو؟ ومن قبل خلْق آدم لا شيء ذكر لآدم ولا أحد يعرف آدم ولا له وجود، بعدها الله كوَّنه -سبحانه وتعالى- وقال للملائكة: (إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30] -لا إله إلا الله، لا إله إلا الله-
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) -بيَّنا له الطريق- (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3] إما شاكرًا؛ يستقيم ويطيع، وإمَّا كفورًا؛ يؤثر الشهوة والهوى ويجحد ويغالب ويكابر ويعاند ويعصي -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
يقول: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ) أي من اختارهم واصطفاهم وخلقهم ملائكة وأسكنهم في الجنة، فلهم مكانة في القرب منه، سمّاها بالعِندية قال: (وَمَنْ عِندَهُ) وهم أعداد كبيرة، أضعاف أضعاف أضعاف أعدادكم، ليس فقط الموجودين في وقت من الأوقات، ولكن من حين خلقنا أباكم آدم إلى أن تقوم الساعة هم أضعاف أضعاف أضعافكم، أعداد كبيرة.
(وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ (19)) لأنهم عرفوا الحق وعرفوا الحقيقة، وخلقهم الله تعالى على الاصطفاء والعصمة، فهم مُتولِّعون بالله وبعبادة الله.
(لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) لا يشهدون لأنفسهم استقلالًا ولا قوة معه -جلّ جلاله-، بل يرون أنهم المخلوقون الضعفاء العاجزون أمام الإله، وليس لهم إلا ما أعطاهم، ليس لهم سمع إلا ما أعطاهم، ليس لهم بصر إلا ما أعطاهم، ليس لهم علم إلا ما أعطاهم (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32] ليس لهم قُدرة إلا ما أعطاهم، ليس لهم إرادة إلا ما أعطاهم، ليس لهم حركة إلا ما أعطاهم، ليس لهم سُكون إلا ما أعطاهم.
(لَا يَسْتَكْبِرُونَ) يقولون نحن عندنا، كيف نحن؟! أنت عدمٌ أصلاً لم تكن موجودًا، أوجدك هو، ثم أعطاك السمع والبصر والقوة، وبعدها تأتي تتكبر وتقول أنا أنا؟! من أنت؟ انظر بدايتك وانظر نهايتك، مَن أنت؟ ما معه شريك -جلَّ جلاله-، ما له شريك في الألوهية ولا في الربوبية (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)) كما قال.
(وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) والذي يدَّعي مع الله تعالى قُدرة من دون الله، وإرادة من دون الله تعالى؛ فقد استكبر عن عبادة الله.
(لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يَعيَون ولا يتعبون، ويقال إذا تَعب الجمل واشتدّ تعبه، يُقال إنَّه حسير، جملٌ حسير، وحَسَرَ، قال الله: تلك عبادتهم ليلًا ونهارًا، وطول الوقت (...وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ): لا إعياء ولا ثقل ولا مشقة في الطاعة والعبادة -الله أكبر-.
(وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)) لا ينقطعون ولا يسأمون ولا يملّون ولا يضجرون، ولا ينقطعون عن تسبيح ربهم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
وهكذا يجعلنا نحن إذا أَكرمنا بدخول الجنة نُسبِّحه ليلًا ونهارًا، ونُلهَم التسبيح كما نُلهم النفَس، تعرف النفَس؟ أنت تتنفس طول حياتك في الدنيا، والنفَس لا يشغلك عن باقي الأعمال، وكذلك الملائكة لا يشغلهم شيء عن التسبيح، مثلما لا يشغلك شيء عن التوقف وأنت تتنفس، تنام وأنت تتنفس، وتمشي وأنت تتنفس، وتشرب وأنت تتنفس، النفَس مستمر معك، وهم في أحوالهم كلها كذلك يُسبِّحون (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ).
وكذلك المؤمنون في الجنة -إكرامًا لهم- لو كان إكرامهم الحور والقصور هذا نقص وقصور؛ لكن لما أعطاهم الإيمان وتوفّاهم على (لا إله إلا الله) يكرمهم في الجنة، يُلهمون التسبيح كما تُلهَمون النفَس، مثل ما تتنفس في الدنيا، مشغولين بربهم -جلّ جلاله- حتى وهم يأكلون ويشربون، وحتى مع القصور والحور لكن قلوبهم معه، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) هكذا يَصِف الملائكة.
كذلك إذا أُدخلنا الجنة -إن شاء الله- نكون بهذا الحال، نُسبحه دائمًا، هو يذْكرنا ونحن نذْكره، نزداد منه قربًا، نزداد به معرفة، نزداد منه رضى، نزداد له محبة، نزداد منه محبة، نزداد نعيمًا، زيادة أبدية سرمدية لا يشوبها نغص ولا كدر ولا هَم ولا حزن ولا مرض، بل ولا وسخ ولا شيء من العوائق؛ ذلك النعيم الأجلّ -اللهم لا تحرمنا إياه، واجعلنا من خواصّ أهليه يا الله-.
قال تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) ومع ذلك فقد وظّفهم في وظائف، ومنهم أعداد كبيرة، كبيرة كبيرة كبيرة؛
- أحدهم منذ خلقه وهو قائم بين يديه عابدًا، وهكذا مستمر من يوم خلقه إلى الآن، إلى أن تقوم الساعة، قَومةً واحدةً،
- وأحدهم يتعبّده بالركوع، يقوم يُحرم ويركع، وفي الركعة مقامه من حين ما خُلِق إلى الآن إلى أن تقوم الساعة،
- وبعضهم في السجود، هؤلاء أعداد كبيرة، ملايين من الملائكة، ساجد إلى أن تقوم الساعة، فإذا نُفِخ النفخة الثانية في الصور، جاءوا وقالوا: سبحانك يا رب ما عبدناك حقّ عبادتك، ولا عرفناك حقّ معرفتك.
فجاء في الخبر أن النبي ﷺ كان مع جماعة من أصحابه فقال: "هل تسمعون ما أسمع؟" قالوا: ما نسمع شيئًا يا رسول الله. قال: "أسمع، أطَّتِ السماءُ، أطَّت، وحُقَّ لها أن تئِطَّ، ما من موضع شبر فيها إلا ومَلك واضع جبهته ساجدًا لله" أطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أن تئِطَّ -لا إله إلا الله-
(بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)) كما قال الله تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) لا يوجد ملل ولا كسل ولا سآمة ولا ضجر (لَا يَفْتُرُونَ).
يقول الله: هذا وصفي وهذه عزتي، وهؤلاء عبادي أكرمتهم، ما لهؤلاء البشر الذين على ظهر الأرض يجحدون ويطغون ويعرِّضون ويعارضون، وما شأنهم؟!
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21)) هل حصّلوا -في أرضي التي خلقتهم فيها، وأردت أن أكرمهم بالخلافة عني وبشرف الإيمان بي والطاعة والعمل بشريعتي- هل وجدوا في وسط هذه الأرضِ آلهة من دوني (.. يُنشِرُونَ): يحيون، يخلقون؟ هل وجدوا؟!
يأتوا لهم بحجر، يأتون لهم بخشب، يأتون لهم بحلوى، كلها من أجزاء الأرض التي خلقتها أنا، وبعد ذلك يصنعون منها آلهة! همْ هؤلاء يخلقون شيئًا؟! هؤلاء لا يخلُقون، وهم أصلًا هم مخلوقون، هم هؤلاء أنفسهم، والأعجب من ذلك أن تصنيعهم على أيديكم أنتم! كيف أنتم تصنعونهم وبعد ذلك تعبدونهم؟! لا يوجد عقل! غاية في التفاهة والسفاهة!
ولهذا يقول: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يُحيون، يَخلُقون شيء؟ يُعيدونه بعد الموت؟ هل أحد منهم يفعل هكذا؟! ليس لديهم آلهة لها صفة الألوهية أصلاً؛ لا أصنام ولا أبقار ولا شمس ولا قمر ولا أي شيء عُبِد من دون الله تعالى لا يَخلُق، هو مَخلوق، هو نفسه مَخلوق، لا يَخلِق شيء، لا يقدر أن يَخلِق شيء، (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل:20] كما قال.
فكيف يُعانِدون أَنبيائي؟ كيف يُقابِلونك يا صَفوَتي يا محمد بهذه الجَفاوة؟ ماذا وجدوا من آلهة في الأرض؟ لا في السماء ولا في الأرض غيري إلٰه يستحق العبودية، ما هناك شيء، -الله، الله، الله-.
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يُحيون، يَخلُقون، واحد لا يقدر أن يَخلِق.. مِن أين الأُلوهية له؟! الأُلوهية للخالِق الذي يَصنَع ويُكَوِّن ويُبدئ ويُنشِئ، (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:1]، مَن لَيس عِندُه هذه الصِّفة، كيف يَكون إلٰه؟ لا يَصِح، لكنهم لا يُحسِنون استِعمال العُقول، أعطاهم عُقول لكنهم خَبَّطوا، ما أحسنوا استعمالها، ما أحسنوا استعمالها!
يقول تعالى: أم لهم (آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا) -في الأرض أو في السماء- (آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ (22)) أي آلهة غير الله (لَفَسَدَتَا) مَنْ الذي سَيَحكُم؟ مَنْ الذي سَيَأمُر؟ ومَنْ الذي ستَنفُذ إرادته؟ لا يَتَأَتى -لا إله إلا الله-، لو جعلنا مُديرَين لشركة لفسدت، لو جعلنا رئيسين لجمهورية لَتَخَّبَطَت، هذا يقول القرار كذا، وذاك يقول أبداً يكون كذا، هذا يقول سأتصَرَّف، وهذا سأتصَرَّف، قلبوا الدولة رأس على عَقِب، لا يَتأتى، والكون كله سائر بهذه الدقة والترتيب والقانون الإلٰهي، مَنْ فيه؟ واحد يُسَيِّرُهُ، واحد يُدَبِّرُه.
قل: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (22)) وما استَقَر أمرها، لكن قائمة قَومة، يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) [المرسلات:25-26]، ويقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:6-12] مُتقَنة قوية، هل لها صيانة منكم؟ هل أحد يتولى حراسة منكم؟ حِفظ منكم؟ مَن يَصونها؟
وهذه سَبع شِداد، مَرَت القرون بعد القرون بعد القرون، لا انفطار ولا تشقُّق ولا كَسر ولا شيء، (سَبْعًا شِدَادًا)، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) [النبأ:12-13]
وكم سنين للسراج الوهاج هذا، الشمس فَوقنا؟ هل صيانتها في شي من الدول هذه؟ (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) السُّحُب (مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [النبأ:14-16] هذه الحِكمة كُلها، وأنا الذي أتصرف هذا التصرف، لا أحد معي غيري، وبعد هذا؛ ينكرون البعث، (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17] وقت فقط حددته سيأتي، لا شيء غير هذا، لا سبيل لإنكاره ولا سبيل للتكذيب إلا مُكابَرَة، إلا مُكابَرَة ومُعانَدَة، لا معنى لها، -الله أكبر-.
الأمر ليس لعب، لا والله ليس لعب، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص:27]، وأولو الألباب (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]، لا تجعل مصيرنا إلى العذاب هذا الذي لا يُطاق، وتوعدتَ به كل من رَدّ بلاغ الأنبياء، وكل من كَذب برسلك -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وعَصاك مِن خَلقِك مِنَ المُكَلَّفين، يقولون: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران:191-192] الخزي دخول النار، هذا هو الخزي الشديد المُنتَظَر لِكل من يموت على الكفر والإلحاد والظلم، يكون مَن كان، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ (22)) تَنَزّه وتعالى وتقدّس وتَعاظَم، (رَبِّ الْعَرْشِ) مُكوّنه وخالقه، ما الأرض التي عندكم هذه! وأنتم تتقاتلون عليها وعلى أشبار فيها وعلى أمتار فيها! ماذا تساوي؟ كواكب أمامكم لا تستطيعون عَدّها، وسماوات، والعرش محيط بالكل وفوق الكل، ورب العرش!
يا جماعة اعقلوا واعرفوا قَدرَكُم وقَدر أَنفُسكم، وعظِّموا إلٰهكم، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) كل ما يقولونه من أوصاف، هو مُنَزَّهٌ عنها ومُقَدَّس عنها (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)).
وهذا وصفه الحق، أنه إلٰه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ (23)) لماذا؟ لأنه إلٰه، لأنه خالق، لأن الكُل خَلقُه وصنعته ومُلكُه، مَنْ الذي سيسأل؟ الذي سيسأله يجب أن يكون واحد فوقه، مَنْ فوقه؟ يعني الكل خَلقُه وعبيده، فكيف يُسأل؟ لكن العقول إذا زاغت، وما أُحسِن استعمالها، تُخَبِّط الإنسان، تجعله عاقل وليس بعاقل، بل مجنون!
في الآخرة يقولون: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10-11]، كثير منهم يقول: لماذا الله يعمل كذا؟ لماذا يفعل كذا؟ أنت مَنْ؟ وهو الله، ما معنى الله؟ يعني إلٰه، -الله-، أنت لم ترضَ أن تُنْزله حتى تنزيل المُتخصِّص! لو واحد مُتخصص في صناعة، في زراعة، في طِب، في هندسة، في طيران.. لا يمكن أن تعترض عليه، أي واحد سيأتي ليعترض عليه، يقال له؛ لماذا تفعل كذا؟ من أين جئت أنت؟ أنت تَعرِف التخصُّص هذا؟ اسكت ساكت واذهب، صلاحيات المُديرين، صلاحيات الوزراء، صلاحيات الأُمراء؛ الذين مِنْ دونهم لا يمكن أن يعترض عليهم! هذه صلاحياتي، أيش لك أنت؟ أنت؟ اسكت!
وهذا إلٰه، ولم يعطوه حتى صلاحية مدير! أيش من أوادم هؤلاء؟ كيف وقع إله؟ إذًا هو ليس بإلٰه، و إلٰه فإلٰه، فإلٰه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ (23)) المُساءَلةُ؛ لم فَعَل؟ هذه صِفة مخلوق مقهور، هذا القاهر الخالق -جلَّ جلاله- مَن يسأله؟ واحد فوقه أعلى منه؟! ممكن يسأله، لكن لا أحد أعلم منه، خالق كل شيء، الكُل مُلكه، فالذي يتصرف في مُلكه، وأحد يأتي غير المالك يسأله: لماذا تتصرف هكذا؟ -لا إله إلا الله-.
يقول: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) بِحُكم أنه الإلٰه الحقُّ الخالِق، وهو أعلم وأعظم وأحكَم، وأين تَصِل عقولهم، ومدى ما أعطاهم هو من عِلم وعقل وإدراك، أين يصل عنده؟ فهو الأعلم بكل شيء، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78] جئت أنت بالسمع والبصر والذي أعطاك العِلم وتسأله هو، أتجعل نفسك إلٰه فوقه أم ماذا؟ أنت مَخلوق، مَخلوق، مَخلوق! عبد، عبد، عبد، عبد، فالزم حَدّك!
أعطِ المَعية حقها *** والزم له حسن الأدبْ
واعلم بأنك عبده *** في كل حال وهو ربّ
اعلم بأنك عبده *** في كل حال وهو رب
إذًا إذا أهدتْنا عقولنا إلى أنه الإله الخالق، انتهت المسألة، ماذا نسأله؟ نسأله عن ماذا؟ بل نقول: ماذا تأمرنا فَنَمتَثِل؟ ماذا تنهانا فنَنزَجِر؟ ونحن عبيدك، ونسألك رحمتك وفضلك، هذا مُقتضى أننا أدركنا أنه إلٰه إذا أحسنّا استعمال العقول، فإذا عقلك هداك إلى أن هذا المدير مختص بفعل هذه الأشياء، وأن هذا متخصص في الهندسة الفلانية يعرف أشياء أنت ما تعرفها، ما لك حق الاعتراض عليه، وما هداك عقلك إلى أن الإله الذي خلق فوق أن يسأله مَخلوقوه؟! وأن يعترض عليه عبيده؟ ألم يهدك عقلك لهذا؟! اذهب الى مصحة سلامة ليصلِّحوا لك عقلك، ولكن أكثر الناس لا يعقلون؛ يعني لم يحسنوا استخدام ما أُكرموا به من العقل، أعطاهم الله عقل، كان المفروض أن يُحسنوا استخدامه في معرفة الحقيقة، عَوَّجوه وذهبوا وراء الشهوات والأهواء، ما عاد أدركوا الحقيقة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]، (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) [فصلت:17] بيّنا لهم الحق بواسطة النبي صالح، (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) [فصلت:17]، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) ومارضوا أن يقبلوا الحق اختاروا أمر فرعون، (أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود:96-100].
يقول: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) بِحُكم أنهم مخلوقون عبيد؛ السيد يسألهم، السيد يُخاطبهم، خالقهم يقول: لم فعلت؟ لِمَ فعلت؟ الله، الله، الله، الله، الله، ولهذا معنى نفي السؤال عن القيامة، يعني سؤال استفهام، ليس استفهام، إنما كالذي يقول لِمَ، قال: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن:39] أي، لا يقال هل عملت كذا؟ إنما، لِم عملت كذا؟ لِم فعلت كذا؟ الأمر واضح وبيّن ما عاد هناك استفهام فيه، الله أكبر.
يقول: (وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات:24-26] -لا إله إلا الله-، قال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) بمقتضى الخالِقية والخَلقِية.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً (24)) هل وجدوا أحدًا غيره يَخلق، يَرزق، يُقَدِم، يُؤخِّر، يوجِد؟ هل وجدوا أحد؟ هم مُتَحَدَّون كلهم بجميع قواهم وإمكانياتهم أن يخلقوا ذبابة، ذبابة، تعرف ذبابة؟ وإلى الآن؛ تطوّر وتقدّم إلى أن تشبع، اخلق لي ذبابة! ما يقدر، تكنولوجيا، ذكاء اصطناعي، هات ذبابة! نريد واحدة ذبابة، واحدة، واحدة بعوضة، اترك الذكاء الاصطناعي أنا أريدك تجيء لي فقط بذبابة!
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج:73] والأغرب من ذلك، لو حبة سُكَّرة صغيرة أخذها الذباب، لا يقدرون على إرجاعها، ولا يمكن، (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج:73] لأنه هو لما يأخذ مثل حبة السكرة، بسرعة تتحلل في فمه، لو تريد أن ترُدّ عناصرها لن تقدر، (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا) [الحج:73] لو تريد أن تمسكه وتخرجه لن تقدر، لن تجده، قد تحوّلت! (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج:73] هم والذباب كلهم عبيدي وخلقي، القوة لي.
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) [البقرة:165] يزول الغرور عنهم، (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165] لا أحد فيهم قوي، كانوا يقولون إنهم هم الأقوياء، لكن عندما يرون العذاب، يرون أن القوة له وحده فقط، هو القوي (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165] لكن الذين آمنوا وصلُحوا وأصْلحوا؛ من الآن يرون القوة لله جميعاً، أما أولئك، فحين يرون العذاب يُؤمنون أن القوة لله جميعًا، أما المؤمنون الصالحون فمن الآن القوة لله جميعًا -جلَّ جلاله-.
يقول سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ (24)) هاتوا، هاتوا الدليل، هاتوا حُجَّة، مِن ممّن تتخذونه آلهة من هؤلاء خالق؟ مَنْ مِن هؤلاء الآلهة يحيي الموتى؟ من منهم يحرس السماء؟ من منهم؟ أمر غريب!
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ (24)) أنا جئتكم بوحي من الله فيه خبر كل من كان في زمني ومن يأتي بعدي، ماذا لمن آمن، وماذا لِمَن كَفَر، وماذا لمن أطاع وماذا لمن عصا، (وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) أممٌ وطوائف، ماذا فعل الله بهم وما كانت نهاياتهم.
(هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي (24)) وليس فيهم أحد يثبت شريكًا مع الله تبارك وتعالى، كل الذين ادَّعوا الشّركاء دعوة باطلة، ليس فيها شيء أبدًا يثبت ببرهان أنّ مع الله شريك، ولا أنّ مع الله إلهًا غيره سبحانه وتعالى.
(هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ (24)) ولا استعدّوا لِتَعَلُّم الحق، لا يَعلَمون الحق، ولا عندهم قابلية يَتَعَلمون، (لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) ومُصِّرون على الباطل، وراءه فقط، قالوا لواحد من أتباع مسيلمة؛ أنّ مسيلمة يأتي بكلام غريب- هل تُصَدِّقْ أنه هذا نبي؟ قال لا، كيف تتبعه؟ قال: كذاب ربيعة أحبُّ إليَّ مِن صادق مُضَر، وبعد ذلك؟ عصبية وهوى، قال: هو مِنْ ربيعة، هذا كذاب ينتمي إلينا، ولا أريد صادق مُضر، صادق مُضَر، محمد سيد الوجود ﷺ.
هذا مختار ربك الذي خلقك يا أبله، لا إلٰه ربيعة ولا مُضَر، ربّ السماوات والأرض خالق كل شيء اختاره واصطفاه وأرسله إليك رحمة ونِعمة، لكنه لا يريد (لَا يَعْلَمُونَ).
(لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24)) أي إنه واجب، مادام إنهم ما عَلِموا الحق فعليهم أن يصغوا ويُنصِتوا لِمَن يُعَلِّمهُم الحق ولمن يبين لهم الحق، لا، بل معرضون، ولا يريدون، بل يعادون ويعاندون، ويفزعون مِمّن يتكلم من الحق، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت:26] وإذا عَلِموا عن ناطق بالحق، يُرتّبون ترتيب يُنهونه يبعدونه يعمَلون له، يُطلقون عليه دعايات، لا يريدون الحق (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر:5] أن يقتلونه، كل أمة همت بقتل رسولها، بل ولا يكاد داعي صدق من أتباع الرسل إلا وهَمَّ ناس من أهل زمانه ليقتلوه، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ) قال الله (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:5-6].
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ) [غافر:26] هل قتله؟ ما قتله، ما قدر وهو مات، وقبل أن يموت كان يقول: (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] هل عندك دين أنت أصلًا؟ أين الدين الذي عندك وعندهم هؤلاء؟ يعبدونك من دون الله! هذا دين؟! أنت تأكل وتشرب وتخرى وتتأمّر على الخلق -بلا حق- وتقتل! أي دين عندك أصلًا؟ يقول: أخاف أن يُبدِّل دينكم، أصلًا ما عندك دين أنت، هو الذي جاء بالدين!
(أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] هل هناك فساد أكبر من فسادك هذا؟ تدَّعي الألوهية من دون حق وتقتل عباد الله وتستسخرهم! هذا الفساد بكله! هو ينهي الفساد، لا يَأتي بالفساد موسى، لكن هكذا منطق الكفار والفجار: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].
سيدنا موسى قال: (وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) [غافر:27] والنهاية بعد ذلك، لم يقدرعلى قتل موسى، لا إله إلا الله، وبقي موسى بعده في الأرض ومن معه (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137].
قال: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24))، قال: وهذه الدعوة التي تدعو بها يا محمد، كل من أرسلنا قبلك، ألوف من الأنبياء ومئات من الرسل، كل من أرسلناهم يدعون بهذه الدعوة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
اللهم ارزقنا حُسن عبادتك يا الله، يا أكرم الأكرمين، اجعل هذا العام الهجري، العام القمري، ينصرِف عنا بامتلاء قلوبنا باليقين والإيمان، وبِصَرف الآفات والعاهات عنا وعن أهل الإسلام، يا حي يا قيوم، تداركنا برحمتك، وأغثنا بغياثك، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأيقِظ قلوبنا من كل غفلة وسِنَة.
يا إلهنا تداركنا والأمة، وأحسن خاتمة عامنا هذا، واجعل العام القادم مِن أبرك الأعوام على أمة حبيبك محمد ظاهرًا وباطنًا، في كل خاص وعام، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، ثبِّتنا على الحق فيما نقول، ثبِّتنا على الحق فيما نفعل، ثبِّتنا على الحق فيما نعتقد، اعصمنا من الشرك واغفر لنا ما دون ذلك، اسلك بنا أشرف المسالك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين
صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم
الفاتحة
28 ذو الحِجّة 1446