تفسير سورة طه -14- من قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. (123)} إلى الآية 130

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) 

مساء الإثنين 14 ذو القعدة 1446هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مكرمِنا بالتنزيل، وبيانِه على لسان عبده المصطفى خيرِ هادٍ وداعٍ ودليل، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خيرِ جيل، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسانٍ في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين محط التبجيل والتشريف والتكريم والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وَبعدُ؛

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله-، انتهينا في أواخر سورة طه إلى عرْضه -سبحانه وتعالى- لنا الجزاء فيمن اتبع هداه وفيمن أعرض عن ذكره، ولم يزل الناسُ من عهد آدم إلى ليلتنا هذه ما بين مُتَّبِعٍ لهدى الله، وما بين مُعْرِضٍ عن ذكر الله، وقد قال الله أنه عهد إلى آدم حينما أهبطه إلى الأرض، يقول: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)) -فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي-.

(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا (123)) آدم وحواء ومن في ذريتهم، وإبليس ومَن يأتي مِن ذريته أنواع الشياطين إلى آخر الزمان، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يبْتنى الأمر في الحياة على معاداة بعضكم لبعض وهي حكمة من حِكَم الله -جلَّ جلاله-؛ ليختبر العباد، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].

ولم يزل الأمر كذلك، مُقابلةٌ بين الخير والشر، وعداوة بين أهل الخير والحق والهدى، وأهل الشر والزيغ والضلال، (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27]، يخرجون عن سنن الله وعن هديه، ويعرضون عن ذكر الله، ويريدون أن يستميلوا الناس إلى باطلهم وإلى ضلالهم، وحَكَم الله الحُكم وحكمُه لا مُعَقِّبَ له.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) لا يَزِلُّ ولا يزيغ، ولا يخرج عن سواء السبيل باتباعه لهُدى الملك الجليل -جلَّ جلاله-، لا يمكن أن يكون الضالُّ مَن اتَّبعَ هدَي ذي الجلال، واستقام على نور الإنزال، وما جاء به خاتم الإنباء والإرسال، لا يضل عن سواء السبيل ولا يشقى، ولا يضل في الآخرة عن أماكن جزاء الله له بالتكريم والتفضيل عند الحشر إلى ظل العرش، إلى العرض على الحق، إلى الحوض المورود، إلى المرور على الصراط؛ لا يضل عن شيء من ذلك، ولا يسقط في النار، (وَلَا يَشْقَىٰ)، لا تناله حقيقة الشقاء.

وحقيقة الشقاء:

  • الانقطاع عن الحق

  • المخالفة له

  • الوقوع في سَخطه

وما يترتب على ذلك في الدنيا:

  • مِن كفْر وفسوق،

  • وارتكاب المحرمات،

  • وترك الواجبات،

  • وكِبْرٍ وعُجْبٍ وغطرسة، وما إلى ذلك..

كله؛ مظاهر للشقاء؛ وهو انقطاع ذلك الإنسان عن قُرب ربه، وعن رضا ربه، وعن محبة ربه، وعن معرفة ربه،

ثم في الآخرة، مظاهر الشقاء:

  • فضيحة،

  • وكشفٌ للأستار عن جميع قبائحه

  • وسيئاته وذنوبه -والعياذ بالله تعالى-،

  • وإعطاء الكتاب بالشمال ومن وراء الظهر،

  • وخسران عند الوقوف بين يدي الله،

  • وخِفّة في كفة الحسنات،

  • وسقوط في النار عند المرور على الصراط،

  • وعذاب شديد

هذا شقاء.

لكن، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، لا يحصل له شيء من ذلك، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا (124))، فالأفراد مع الهيئات والجماعات؛ فيهم من يتبع هدى الله، والأكثر معرضون عن ذكر الله، عن ذكر إيجاده لهم وإنعامه عليهم، عن ذكر خَلْقه لهم وخَلقِهِ للسماوات والأرض وتسخيره للكائنات، عن ذكر قرآنه ووحيه، عن ذكر أوامره ونواهيه، يعرضون عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، عن ذكر رسوله وما بُعث به وما جاء به عن الله.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) أولها في الحياة الدنيا أنواع الضنكِ:

  • من ضيق الخاطر

  • ومن تعب النفس

  • ومن تبلبل البال

  • وتكدُّر الباطن

فهذا أمر ملازم للمعرضين عن ذكر الله، ولو ملك أحدهم الدنيا من طرفها إلى طرفها، ثم كلما ازدادوا حرامًا وآثامًا، ازدادت عليهم المصائب؛ فهذه بداية المعيشة الضنك.

ثم وسطها ما يلاقون في القبور من ضيق، ووجود التنِّين الذي يلسعهم، تسعةٌ وتسعون، أو تسع مئة وتسعة وتسعين من التنين ينهشهم، ولا يزالون كذلك إلى يوم القيامة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، لو أنّ تنِّينًا منها نفخ على ظهر الأرض ما نبتت شجرة.

ثُمّ وراء ذلك عذاب الآخرة (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127))؛

(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)) لا حُجّة له، أعمى!، لا يستطيع أنْ يُقيم برهاناً ولا حُجّة ولا تبريرًا لكفره ولا لفسقه، ماذا يقول؟ ماذا يقول؟ أعمى! وأعمى أيضًا في بعض مواطن القيامة؛ منها عند الحشر لا يرى شيء، أعمى البصر كذلك في مواقف، ثم تُفتح أبصارُهم؛ لكي ينظروا الى أنواع العذاب وأنواع الشدائد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ويُحشر النّاس في ظلمة، ومنهم من يُنوِّرُه الله، ومنهم ما سمعتم ما وَرَد في الحديث الشّريف يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ":

  • سلك الله به طريق الجنّة في الدّنيا بتوفيقه لأعمَال أهل الجنّة وصفات أهل الجنّة والاتّصاف بها؛

  • سلك الله به طريق الجنة عند الحشر، يُنَوَّر وقتَ الظلمةِ؛ النّاسُ في ظلمة، فيرى طريقه الحق ويمشي لا يضل، (فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123))

  • سلك الله به طريقًا إلى الجنة، يثبّت قدمه عند المرور على الصّراط، فيمرُّ على الصراط كلمح البصر، أو كالبرق الخاطف.

سلك الله به طريقًا إلى الجنة! وهذا لأنّه ذكر الله في الدّنيا، "سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا" أراد أنْ تقوم أعماله في الحياة على منهج ربّه، فطلب العلم من أجل أنْ يُطبّق منهج الله، فيسلك به السبيل إلى الجنّة -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125)) كُنتُ أختلق حجج وأنْظِم صور وبراهين، وأعرف أتكلم.. والآن لا أعرف شيء، وفي بعض المواقف يتكلّم عليه فرْجه وتتكلّم يده، وتتكلّم رجله، ويتكلّم بطنه.. ويقول: فعلنا وفعلنا بالمعاصي (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65]؛ (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21] -جلَّ جلاله-، وقد كُنتُ بصيراً، كنت في الدنيا…

(قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا): قرآن ورسالة ونبوّة، وأوامر ونواهي؛ نسيتها، أي تركتها، أهملتها، أعرضت عنها، (وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ): تُترك في النار في العذاب مكانك، كما تركتَ آياتِنا نتركك في عذابنا، (وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126))

(أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا): أعرضتَ عنها وتوليت؛ آياتنا: قرآن، نبيّ مرسل، أوامر ونواهي، ومنهج ربّاني، آيات الله (أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)، تركتها وأعرضت عنها.

(وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ)؛ ونحن نتركك في نار جهنم، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- تصلى، لا نذكُرك بشيء من رحمتنا، ولا من عطفنا، ولا من نعمتنا، لأنّك كفرت النّعم، وتعرّضت للنِّقم، وخالفت المنهج.

(أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) جاوز الحدَّ وخرجَ عمّا يليقُ به مخلوق وعبد مُنْعِم عليه، وكُرِّم وأُرسلت إليه الرّسل وأُنزل إليه الكتب.

(أَسْرَفَ)، اتّبع الشهوات والأهواء.

(وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ) من ملائكة، وكتب، ومرسلين.

(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ) بعد عذاب الدنيا، وبعد المعيشة الضنك أيضاً في البرزخ؛

(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) وفي لفظ آخر قال في الآية الأخرى: (أَشَقُّ) [الرعد:34] فهو أعظم شدةً، وأقوى مشقّةً على أصحابه، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26] -اللهم أجِرنا من عذابك-.

هذا الإنسان المغرور يقول؛ أنا متقدم، أنا متطوّر، أنا عندي وأنا ما عندي، وبعد ذلك لو يُضرب رأسه ضربة خفيفة ينتهي كل شيء، عينه تؤلمه قليلًا فينتهي كل شيء، سِنّهُ يُؤلمهُ ينتهي كل شيء، ألَم في بطنهِ ينتهي كل شيء، بزلزلة خفيفة تحت الأرضُ يتهدّم بيته ومدينته وأجهزته وكمبيوتره، وذهبَ ولا بقي له شيء، كيف يقْوى على عذاب الله؟ ما أطغى هذا الإنسان! ما أكفره! (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17] ما أعجب تنكُّره! كيف يصبر على النار؟ كيف يصبر على عذاب الله وهو عاجز؟! كيف يتعرض لعذاب الله؟

(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127)) أدْوَم وأطول، أما عذاب الدنيا وعذاب البرزخ له ميقات وينتهي، لكن عذاب الآخرة لمن مات كافرًا ليس له ميقات، يُعذَّب مئة سنة، مئتين، ألف، ألفين، مليار، مليارين، ولا نهاية على الدوام -أعوذ بالله- (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا) [المائدة:37]، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء:169] -أعوذ بالله من غضب الله-.

(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ)، فكيف ننسى هذا الخطير الباقي من أجل سريع الفَوت، سريع الزوال، سريع الانقضاء، سريع الارتِحال، سريع الانتهاء يقول تعالى: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ).

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ (128)) يبيّن لهم هذا الوحي وهذا الرسول (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ) أما بينّا لهم؟! قبلكم مضى؛ قوم نوح، قوم عاد -قوم النبي هود-، قبلكم مضى قوم سيدنا صالح -ثمود-، قبلكم مضوا قرون (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38] ومضى النمرود، ومضى فِرعون وقارون وهامان، ومن قبْلِهم ومن بعدهم ممن لا يعلمهم إلا الله.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ (128)) وماذا يكونون هم فيمن مضى؟! نحن من أيام بِعْثة نبيّنا إلى أنْ تقوم الساعة آخر الدنيا، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1] والذي مضى ألوف وألوف الألوف من السنين ومن الأمم والطوائف انتهوا، وكُلّه مِن أجل ميقات مُعيّن مُحدّد حدّده الجبّار، ينتهون إليه (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17] وقت مُحدد.

(كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ (128)) وكانت قريش يذهبون رِحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن -رِحلة الشتاء ورحلة الصيف- ويمرّون في الطريق على مساكِن قوم ثمود وقوم لوط، في الطريق يمرّون عليها (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) وينظرون كيف أهلكنا من قبلهم؛ (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128)) هل أحد منكم يستعمل ما أعطيناه من نعمةِ عقلٍ؟ لُبٍّ وإدراكٍ، هل أحد يحسِن استعِمال هذا؟ فيتذكّر ويتبصّر وينقذ نفسه.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ) وأنت تعيش في الدنيا؛ أكبر مِنك ماتوا، وأصغر مِنك ماتوا، في سِنّك ماتوا؛ عدد كثير، لا تصل إلى أربعين سنة إلا والذين تعرِفهم مِمّن قد مات أكثر مِمّن تعرفهم من أصدقائك الأحياء، أما تتذكر؟! وهذا مصيرٌ حتْمي أنت راجِع إليه! والأمم قبلك وكم وكم وكم وكم! (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:39].

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [إبراهيم:9] وقالت لهم رسلهم، وقالوا لرسلهم، وفي النهاية تغطْرسوا وتكبّروا بما أعدّوه من قوّة، وقال الذين كفروا (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا) وما هي بأرضهم، هي أرض الله (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) [إبراهيم:13-14] ودائمًا في كل زمانٍ تقدير الذين كفروا: أرضنا سنُخرِجُ، سنعمل.. والله يقول: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، ويقول للصادِقين المُخلِصين: (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) وكم تكرر هذا؟ وكم تكرر هذا؟ (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [إبراهيم:14-15] ومن ورائهم جهنَّم، وانتهت الأمم ومضوا كلهم.

وهكذا نحن آخر أمّة، وكم من عجائب! (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا (129)) كلمة سبقت مِن ربّك؛

  • في تحديد مواقيت الهلاك للأفراد والجماعات، في أوقات مُعيّنة،

  • ثم لحظة قيام الساعة مُحددة تمامًا عند الله، أخفاها عن خلْقِه.

(وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129)) أي لولا الكلِمة التي سبقت من الله بتحديد هذه المواقيت، والأجَل المُسمّى (لَكَانَ لِزَامًا) لكان لِزامًا أن يتعجّل العذاب والجزاء للناس في اللحظة، يقول الله: إنّهم لا يُعجِزوننا، وإننا نستطيع أن نُهلِكهم في أي لحظة ونُعذِّبهم في أي لحظة، أمام كلِّ نبي، ولكن نُؤَخِّرُهُمْ، نُؤَخِّرُهُمْ، نُؤَخِّرُهُمْ لأجل مُسمّى.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129)) أي ولولا أجل مُسمّى (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف:187] الساعة، هو الذي يعلمها -جلّ جلاله الله أكبر- (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17] ساعة مُحددة ستأتي، ولا أحد يقدر يتأخّر ولا يتقدّم.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ (130)) فإنّ أهل الكفر والشرور والفُسوق في الدُّنيا يكْثِرون الأقوال والاستهزاء والاستِخفاف؛ أحيانًا يدَّعون العِلم ويقولون: عندنا الحُجَّة، ماذا عند الأنبياء وأتْباع الأنبياء؟ كلام كثير، لا ينفع، لا ينفع، كُلّه هُزُؤ، كُلّه لعب.. وعامتُهم يُكذِّبُ بعضُهم بعضًا، فالذين يأتون مَنْ بعدَهم يُردُّون كلام السابقين، وذهبوا وذهب الكلّ، والكلمة كلمة "لا إله إلا الله" كلمة الحق الدائمة الباقِية التي لا ينجو إلا أصحابها، ولا يدخل الجنة إلا أهلها، هذه كلمة الحق، كلام الله وكلام رسوله هو الحق، أمَّا عدا ذلك؛

  • (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) تارةً يُسمّون الأنبياء مجانين، وتارةً يُسمّونهم سحرة، وتارةً يُسمّونهم كذا، وتارةً يقولون عنهم كذا، وأتباع الأنبياء كذلك، وورثة الأنبياء يُسمّونهم أسماء كذلك.

  • (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) تُرَّهاتٍ وأباطيل في المُدّة القصيرة المُحددة لهم، وينتهون وينتهي كُلّ شيء.

  • (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) والْزَمْ مُوجِبَ سعادتِك وما يقتضِي فوزَك وما أحبَبنا مِنك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ (130)) ثم رسمَ المنْهجَ الكامِلَ الذي به السعادةُ والفوز -ثبّتنا الله عليه، وجعلنا من أهله-.

(فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) لا تُبَالِي بهم.

وَلَوْ أَنَّ كُلَّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا ** لَأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالًا بِدِينَارِ

فَسَيَنْفَدُ الصَّخْرُ كُلُّهُ، إذا كُلّ كلبٌ يعَوَى تعْطَيْهُ حَجَرًا، سَتَنْفَدُ الْحِجَارَةُ مِنَّا وسيرتفع ثمنها، أُترُكها تعوي وامشِ، امشِ في طريقك واترك الكلاب تعوي، وكل من خالف الله ورسوله كلب، لا يزعجك نِباحه، دَعْهُ ينبح، لا يضُرُّه شيء، كما أنَّ ضوءَ البدرِ يستنبِحُ الكلبُ -لا إله إلا الله-.

قال: (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ) اسْتَقِمْ، قُمْ بِالأَمْرِ النَّافِعِ وَتَمَسَّكْ بِهِ

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)

  • (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ومنها صلاةُ الفجر، فَسَبِّحْ فيها وقُمْ بِحَقِّهَا.

  • (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) صلاةُ العصر.

  • (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) المغرِبُ والعِشاءُ.

  • (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) الظهر؛ آخرُ نِصفُه الأول وأولُ نِصفُه الآخر، هذه أطراف النهار. 

(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) إنّك بالاستقامة على المنهج تصل إلى ما يُرضيك، (لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) وجاء في قراءةٍ: (لَعَلَّكَ تُرْضَى) أي نُعطيك ما يُرضيك من عندنا، (لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ).

وهكذا قال: وأمَّا ما نفتِن به الناس في الدنيا فلا يَكُنْ قاطعًا لك (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه:131].

اللهم ارزقنا من رزقك الخيرَ والأبقى، وألحِقنا بأهل التُّقَى، وتولّنا في كلِّ شأنٍ من الشؤون، يا من يقول للشيء كن فيكون، واربطنا بالأمين المأمون، وارفعنا به إلى أعلى مراتِب ممّن يهدون بالحق وبه يعدِلون، في خير ولُطف وعافية ويقين وتمْكين مكين.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي الأمين

صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم

 الفاتحة

 

 

تاريخ النشر الهجري

16 ذو القِعدة 1446

تاريخ النشر الميلادي

13 مايو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام