تفسير سورة طه - 5 - من قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37)) إلى الآية 55
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) إذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) )
مساء الإثنين 20 رجب الأصب 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بنور الوحي والتنزيل، وبَيانه على لسان عبده الهادي الدليل، سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى ملائكة الله المُقَرَبين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أمَّا بعد،،
فإنَّنا في نِعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله- وتَعليمه وتوجيهه وإنبائه وإرشاده، فيما أوحى إلى قلب نبينا المصطفى -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-، وَصَلنا في سورة طه إلى قوله جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)) -ما سألتَ وما طلبتَ- (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37)) وَمِنَنُ الرحمن -جلَّ جلاله- مواطنها: الأنبياء، وأتباعُ الأنبياء، وأهل السوابقِ من العِباد الصالحين، تتوالى عليهم مِنَنَهُ ويَظهَرُ فيهم فضله الكبير -سبحانه وتعالى-.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ) وذَكَّرَهُ بما كان قد مضى له في ماضي أحواله، وإن كان كل مخلوقٍ يُمكنه أن يتدبر ويتأمل ماضي بداياته فيجد فيه من اللطائف والمِنن والتيسيرات الشيء الكثير؛ فإنَّ الأصفياء والخُلَّص من المُقَرَّبين شأنهم أكبر في عناية الحق بهم وما يُفيضُ عليهم من بداياتهم، وأعلاهم الأنبياء والمُرسَلون صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولذلك قال لنبينا محمد ﷺ: (وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ) كل ما يجيء لك هو خَير لك من الذي قَبل (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) عنايته ورعايته بك من حين ولادتك، ومن حين وُجودك وأنت يتيم، فَرَبّاك ورعاك وعَطَفَ عليك، وهيّأ سبيل ارتقائك وتَنَقُلِك في أطوار الحياة (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) لا يَعرفك الناس ولا يعرفون قدرك وكيف هدى من شاء على يدك (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ) [الضحى:1-8].
وهكذا قال لسيدنا موسى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ) من بداية حملك، من بداية ولادتك (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) الصندوق الذي يوضع فيه الأمر العزيز (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أي: البحر (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) ناحية قصر فرعون (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ..(39)) عدو للجبار تَنَكَّرَ لربه -جل جلاله- الذي خَلَقَهُ مِن عَدَم، وأسبغ عليه نِعَم ثم تجاوز الحد فادَّعى الربوبية، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ثم جاوز ذلك وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38].
يقول: (عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)؛ لأنَّ أعداء الله هم أعداء أنبيائه وأعداء أنبيائهِ هم أعدائه، ولا يمكن لأحد أن يكون عدوًا للأنبياء من دون أن يكون عدوًا لله، ولا يمكن أن يكون عدوًّا لله من دون أن يكون عدوًّا للأنبياء.
فالمعاداة مثل الموالاة، إذا صحَّ الإيمان بالله (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة:257] وأولياء المؤمنين هُم: الملائكة والأنبياء والصالحون والمؤمنون، قال تبارك وتعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة:51]، فولاية كفار مع ولاية الله ما تصلح، ولا يمكن أن تكون، مستحيلة (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55].
وقال تعالى في أصناف من الكفار: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ) يظنون أنَّهم سيمنحونهم العِزة؟! أنَّهم سيحمونهم؟! أنَّهم سيحرسونهم؟! أنَّهم سيرفعونهم؟! (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء:139]، لا مُذِلّ لمن أعزَّ ولا مُعِزَّ لمن أذل، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
وقال تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) اتركوهم يوالون بعضهم البعض، لا ينزل أحدٌ منكم إلى حَد موالاة كافر، (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أن تقوموا على هذا الميزان والطريق، وإلَّا (تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:72-73].
وهكذا يقول: (عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) فأعداء الأنبياء أعداءُ الله، وأعداء الله أعداء الأنبياء، من غير شك، وكل من عادى نبيًا فهو عدوٌّ لله، بل من عادى وليًا من أتباع الأنبياء، وقد روى البخاري في صحيحه عن نبينا، عن ربنا تعالى أنَّه قال: "من عادى لي وليًا فقد آذنتهُ بالحرب".
وهكذا قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)؛ هذه مهمتهم في الحياة وهذا طريقهم المرسوم، يبحثون عن خارطة الطريق من أحد؟! هذا هو الطريق: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) هذا الطريق الموصل إلى عز الدارين وسعادة الدارين (أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]،
والفريق الثاني طريقهم معروفة على ظَهر الأرض، يقول سبحانه وتعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) [التوبة:67-68] في المُقابل (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72].
يقول: (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ..(39)) إذًا فلا تجوز مُعاداة المُسلِم، كما لا تَجوز مُوالاة الكافر، في عَظَمِة شَريعة الحَق الخالِق أُسُس حُسن الجِوار وحُسن التعامل والبِر والقِسط بكل من لم يُحارب، وكل من لم يُقاتل، كل من لم يَصُد عن سبيل الله، كل من لم يَظلِم، كل من لا يَعتدي، لأنَّ الشريعة قائمة (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193]، (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [الممتحنة:8] (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء:90]؛ لكن هل يُريدون أن يَعتَدوا ويَغصِبوا ويَظلِموا ويَنتَهِكوا الحقوق، ويقولون لا أحد يَتَحَرَّك، لا أحد يَمَسّنا، عجيب والله! كيف هل هذا تصرُّف يدل على عَقل؟ هل يَرجِع إلى فِطرة سليمة؟ أم يرجع إلى ماذا؟ دَعونا نَظلِم كما شِئنا وأنتم إذا أحد تحرك منكم فهو غلطان!، ولكن نحن نعمل الذي نريد، أهذا منطق هذا؟! أهذا عَقل هذا؟! مَن يَقبَلُه؟!
وهكذا لا يَجتَمِع موالاة الكُفار ومُوالاة الأنبياء في قَلب أبدًا، وبذلك قال اليهود لسيدنا محمد: مَن المَلَك الذي يَأتي بالوحي؟ قال: جبريل، يأتي بالوحي للأنبياء كلهم، قالوا: لا، هذا عدونا، هذا نَزَل بالعذاب على قومنا، لو كان مَلَك غيره يأتيك بالوحي يمكن نَتَبِعَك، أمَّا جِبريل هذا عَدُونا، فأنزل الله: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [البقرة:97-98] ما قال أعداء جبريل بل عدَّهم أعداء له سبحانه! (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) أنتم تقولون أنَّكم أعداء جبريل؟! فأنتم أعداء الله وملائكته ورُسله، والله عدوكم -للكافرين- أعوذ بالله من غضب الله، فلا مُعاداة لِنَبِيٍ ولا لِمَلَكِ ولا لِوَلِيٍ على الخُصوص، ولا لمؤمن على العُموم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، المُعاداة لِمَن عادى الله "نُحِبُ بِحُبِكَ الناس ونُعادي بِعَداوَتِكَ من خالَفَكَ مِن خَلقِك" (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ).
قال الله لموسى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ..(39)) وهذا أيضًا من عجائب تَصَرُّف القُدرة الإلهية بالحِكمة؛ أنَّ أهل الإيمان وأهل الصدق مع الرحمن من أهل التقوى في السر والإعلان تُقذَف في القلوب محبتهم، وتَجِد حتى كثير ممن غَلبتهم نفوسهم فعادوهم أو سَبوهم فإنهم يحسون في بواطنهم أنَّ هؤلاء أخيار، وتَجِد في خُصوص المُؤمنين قُوة محبة تسري لهم من حين ما يَسمعون بهم، ومن حين أن تَقَع أعينهم على وجوهِهِم قَبل أن يُكَلِّموهم ولا أن يُعامِلوهم (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي)، ويقول ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ، يا جبريل إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا ابن فلان" انظر إلى فلان ذاك الآدمي على ظَهر الأرض، أنا أُحِبه "فأحِبَّه" أي: تَقَرَّب إلي بِحُبِّه واعبُدني بِحُبِّه، قال: "ثم يَأمُر جبريل أن ينادي في أهل السماء: يا أهل السماء إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا ابن فلان فَأَحِبُّوهُ"، قال: "فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".
ولهذا اختَلى بَعضُ المُشركين بأبي جهل ليلة بدر، ليلة الحادثة والواقعة، قال له: اصدقني الآن -بيني وبينك- لا أحد عندنا، ترى محمد هذا صادق أو كاذب؟ قال له: ما كَذَب محمد، هذا ما يَكذِب أصلًا، هو يَعرِفهُ ويعلم بذلك ولكن غلبته نفسه، قال له: ولم أنت تُعاديه؟! أنت تعلم أنَّه نبي! وقام يأتي بفلسفة نفسية ساقطة هابطة، كنا نحن وبنو هاشم فرسا رهان وكانوا فيهم السقاية وفينا الحجابة وفينا الرفادة وهكذا، حتى قالوا: مِنَّا نبي، من أين نجيء بنبي نحن؟! كما قال في اليهود أنَّهم كذَّبوا به حسدًا من عند أنفسهم هم يعلمون أنَّه رسول الله، (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) ، (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89] هم يعرفون أنَّه رسول -فسبحان الله-، فَتَغلب الناس نُفوسهم وشَهواتُهم حتى تَصِل لهذه الحدود، تُكَذِّب بالحَق، تُكَذِّب بالصدق، وتَنتَهِج سبيل الهَلَكة الأبدية؛ استجابة لهوى ولنفس ولدعوى -نعوذ بالله من غضب الله-.
وفي أول مَعصية في بني آدم، ولد آدم قابيل قام يقتل هابيل ووقعت مصيبة أبدية، وما هو السبب؟ ولا هناك سبب ولا داعي (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:30]، فما تُقتَل نفسٌ ظُلمًا إلى يوم القيامة إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ منها، لأنَّه أول من سَنَّ القتل، انظر إلى أين أوصل نفسه! لا داعي، ما السبب؟ مُجَرَّد أهواء وشَهَوات ونفوس، وهذه النفس خبيثة أخبث من سبعين شيطان، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزَكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وَلِيّها ومولاها.
قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)) تُصاغ، وتَم ترتيب أمورك بعنايتي ورِعايتي، (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) فكان مُحاطًا بعناية خاصة من الرحمن في شؤونه وأحواله كُلِّها، من مظاهر هذه الحوادث التي حَصَلَت:
-
(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ) أيام رَضاعك وأنت ما زلتَ صغيرًا، وحَرَّمنا عليك المَراضِع الأخرى، ما مَكَّناك ترضع من أجل أن ترجع إلى عند أُمك، وجعلنا أختك تأتي (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ) يُرضِعهُ لكم،
-
(فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ) -الله أكبر- بأي ترتيب هذا؟! بأي خطَّة هذا؟ ولا استطاع فرعون بدولته أن يكتشف شيء من هذا، ولا أن يَرُد شيء من هذا، (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) وتعلم أن الحق - كما قد جاء في بعض الآيات - أنَّه وعدها أن يَرُدُّه إليها وأن يجعله نبي، فعندها خَبَر مِن وحي الله إلى أم موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]، (فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ..(40)).
مُختَلَف مراحل حياتك يقول له الله أنا كنت معك فيها: (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39) وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ (40)) بدون قصد قتلتَ النفس ولكن النفس كانت صائلة مُعتدية، ويجب ردها، ولما رددتها باللطمة كانت فوق لطمتك حال -أحوال النبوة- وقتله (فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ) [القصص:51] لو أحد يوكز أحد لا يموت؟ الآن لو واحد يوكز واحد يموت، كيف يموت؟! هل في يده قنبلة أو كيف؟! لكن (فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ)،
قال: (فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ) وبدأ ريح خبر عندهم أنَّك أنت القاتل، وبدأوا يأتمرون عليك، وقلنا لك اخرج ولا مكنّاهم منك، وجئت إلى عند شُعيب وتم لك الخير والزواج والعيشة مع نبيّ، والآن جئت نُنَزِّل الوحي عليك، ما هذه الصناعة؟! (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)).
قال: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (40)) اختبرناك اختبارات واحدة بعد الثانية، واحدة بعد الثانية، وكلها نُنَجّيك منها، وكلها نرعاك فيها -لا إله إلا الله-.
-
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40))، (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ..) [القصص:29]، (عَلَىٰ قَدَرٍ) وقتٍ مُعين وحال مُخصص، لِنُوحي إليك ونُنَبِّئك ونرسلك.
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)) جعلتك خالصًا لي -الله أكبر- لا يشركُ أحدٌ شأن وجهتك ونيّتك، قال: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فهيأتك لمقام النبوة والرسالة، وخصّصتك بالكلام المباشر (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النساء:164] صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
(اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ (42)) هذا الذي قلت إنَّه يكون لك وزير ويسندك في أمر مهمتك في الحياة، بلاغ هذه الرسالة، (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي (42)) وأوحى الله إلى هارون ومرَّ عليه سيدنا موسى، وذهبا معًا إلى فرعون.
(اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي) ما أتيتكما من تأييد ونُصرة وتسديدٍ وعلاماتٍ، (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)) لا تعجزا ولا تغفلا عن الذكر، فَنِعم الذكرُ لله -خير مذكور- وهو القائل (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، "ذهب الذاكرون لله بخيري الدنيا والآخرة"، قال بعض الصحابة: يا رسول الله إن شرائع الإسلام كثُرت علي، فمرني بعمل أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"، اللهم أعِنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وجدنا أخيار الأمة وصلحاءها يصبغون حياتهم وحياة أولادهم، بل حياة مجتمعاتهم بأنواع الذكر في أحوالهم: في البيوت، في الشوارع، في الأسواق، في المهن والحرف والأعمال؛ ذِكر، ذِكر، ذِكر، أنواع من الذكر؛ نثر، شعر، ذِكر، مناسباتهم، أفراحهم، أتراحهم ذكر، ومنهم من كان في مدرسة حضرموت وكثير من مدارس الصالحين في شرق الأرض وغربها؛ صبغوا أنفسهم وصبغوا بيوتهم ومجتمعاتهم بذكر الله تبارك وتعالى -الله أكبر-.
قال: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) لا تُقصِّر؛ لأنَّ به إمدادكم من حضرتي، وبه إفاضة الفضل عليكم، وبه نصركم (وَلَا تَنِيَا) لا تعجزا، ولا تتوانا ولا تتأخرا ولا تكسلا عن ذكري، (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)) ما تُقصرّان فيه.
(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)) صاحب طغيان، تجاوز فيه الحدود، وتجاوز الحد: طغيان، وهذا تجاوزَ الحدود إلى إنكار الألوهية لله والجحود به سبحانه وتعالى، ثم ادّعى الربوبية لنفسه، ثم (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، قال: فكان ما أوتي من مالٍ ومُلكٍ وصِحة وبالٌ عليه، ولو أنَّه كان يصيبه الصداع أو أي شيء يقول لن يصل لي لأنَّه يقول (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، لكن وقعت وبال عليه، فلا مال ولا غنى ولا مُلك ينفع صاحبه إن لم يمدّه الله بتوفيقه وتأييده، صاحب الصحة صاحب المال صاحب الوجاهة صاحب السلطة؛ إن أمده الله بتوفيقه وهداه للعبودية له ينجح ويفلح؛ وإلاَّ تكون وبالٌ عليه ما ينفعه شيء منها، بل تكون سبب لزيادة بُعدهُ وطرده وإثمه وعقابه -لا إله إلا الله- (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [آل عمران:178]، -جلَّ جلاله- (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56] هذا مكر ما فوقه مكر، نعوذ بالله من غضب الله ونسأله التوفيق لمرضاته.
فإنما تكون النعمة عليك بأن يوفقك؛ في حالة المرض، في حالة الصحة، في حالة الفقر، في حالة الغنى، في حالة الاستتار، في حالة الظهور والشهرة؛ أن يُوفِّقك لمرضاته والصدق معه، والإخلاص لوجهه، والعمل بما يُحِب؛ هذه النعمة! من دون هذا ما ينفعك شيء.
(مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:28-29]، يقول سبحانه وتعالى: (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ) ويرد موارد الهلَكة (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ) [الليل:8-11] عند الهلكة لن ينفعه المال، لا شيء ينفع، إذا لم يوفقك ويأخذ بيدك لا شيء ينفعك، فيا رب وفِّقنا لما تحب وترضى.
قال: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)) ومقابل طغى سيقول اضربوه أو دكدكوه أو اقتلوه؟ لكن قال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)) يعني انويا هدايته وإنقاذه من النار والخطر الذي هو فيه، لأنَّني ما تَعبَّدت عبادي بإرادة الضرر لعبادي إلا بالرحمة، وما أنزلتُ الكُتب إلا رحمة ولا أرسلت الرُّسُل إلا رحمة، وما تَعبَّدت أحد يَضُر عبادي ويتمنى الشر لهم، نعم يُعادي بعداوتي من خالفني من خلقي مع تمنِّي الخير لهم، مع تمنِّي الهداية لهم.
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا) بحكم هذه الأسباب التي أقمتها في الوجود (نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ (45)) فهو طاغية وقَتّال، وكم قتل منا نحن وحدنا بني إسرائيل ألوف، (نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ).
قال: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)) -الله أكبر- (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) يقول سيدنا المصطفى لسيدنا أبو بكر وسط الغار (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40] -الله أكبر-، ونقول لأهل الصدق والإيمان ممن قذف الله في قلوبهم نور الأدب معه والصدق واليقين بما جاء به (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وسيرد كيد الكافرين والفاجرين.
يقول: (قال لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا) بعنايتي وتأييدي ونصرتي (أَسْمَعُ) ما يقول وأثبِّتكم على ما تقولون، وكيف تحاولون وتجيبون عليه فيما يقول، (وَأَرَىٰ) ما يقابلكم به وما يتصرف فيه فلا أُمكِّنهُ منكم، حتى من أول مقابلة ارتجف فؤاد فرعون من موسى، وبعد مدة وهو عنده ما قدر أن يمسّهُ بشيء -لا إله إلا الله-، حتى جاءوا الاستخبارات التابعة له ووزراء السوء يقولون (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127] ما ذكر موسى بشيء، لم يتعرّض له، مفجوع من موسى -لا إله إلا الله سبحان الله-، ولا قدر أن يواجه موسى إلى أن جاء وقت غرقه.
قال: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46) فَأْتِيَاهُ) اذهبا إليه (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ (47)) نحن رسل من إلهك الذي خلقك وربك الذي كوَّنك وأنشأك من العدم، وحَّولك من نطفة إلى علقة إلى مضغة حتى أوجدك على هذه الأرض وأعطاك كل هذا.
قال: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) أي: فآمن بهذا الإله (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ (47)) من غير حق، تفرض عليهم الخدمات، وتقتِّل منهم الأبناء.
(قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ (47)) علامات على صدقنا من ربك (وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ) فكل متَّبع للهدى على سِلمٍ منَّا، لا نَضُره ولا نُؤذيه ولا نمسّهُ بسوء، عليه السلام منَّا بواجبنا ومن ربنا سبحانه وتعالى أمان.
(وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا (48)) تلقينا عن الإله الذي خلقنا وخلقك، أنَّ العذاب المستقبل الشنيع الكبير واقع (عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) من كذّب بربه وتولى عن توحيده والانقياد لأمره عليهم العذاب، فكل من خالف أمر الله، أنت أو غيرك ممن قبل أو ممن في وقتنا ويأتي بعد عليهم العذاب.
(أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) فما للمكذبين والمتولِّين إلا العذاب والعياذ بالله تعالى، فهم المُعرِّضون أنفسهم لسوء الحساب، المُعرِّضون أنفسهم لسوء المنقلب، كل من بلغته دعوة الله على لسان أي نبي أو أحد من أتباع الأنبياء فأبى وأصرَّ واستكبر، عرَّض نفسه لسوء العذاب وسوء المصير، وسوء المنقلب، والعياذ بالله تبارك تعالى (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ).
(قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49)) ما قال من ربي؟ متكبر، قال له من ربك؟ نحن جئنا من ربك، ما قال من ربك (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا) أنتم من ربكم؟
(فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ) قال له: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)) أعطى كل شيء خَلَقهُ بحكمة وعلى عجائب من الفضل ثم أكمل خلقه وكمَّله، أحسن كل شيء خلقه، (ثُمَّ هَدَىٰ) هذه المخلوقات لمصالحها وما يصلُح لها في معيشتها وحياتها؛ إن كانت نحل، وإن كانت نمل، وإن كانت سِباع، وإن كانت أغنام، وإن كانت أسماك، وإن كان أوادم، وإن كان جن، وأنواع حيوانات البر والبحر والكائنات؛ كمَّلَ كل شيء خلقه.
(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة:7]، (أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)؛ مصالحه وكل ما يتعلق بالحكمة من خلقهِ، رتبها له وألهمهم إياه، (ثُمَّ هَدَىٰ)؛ مَنْ يُعَلِّم الرضاع للحيوانات؟ مَنْ يُعَلِّم تربية الحيوانات لأبنائها وبناتها؟ مَنْ يُعَلِّم الطيور تعليم الطير لمن عندهم من أبنائهم وأولادهم؟ مَنْ يُعَلِّم النحل أن تقصد نوع من الزهور وتأكله؟ مَنْ يُعَلِّمَها الشكل الهندسي السداسي الذي تصنعه في بيوتها؟ مَنْ يُعَلِّمَها أن تبدأ بالشمع ثم تضع فيه العسل؟ مَنْ؟ (أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) وأنت تقول أنا ربكم الأعلى؟ (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) افتح عينك، افتح عقلك، افتح بصيرتك، ترى نفسك عاجزًا حتى عن تدبير جسدك نفسه وأجهزته، ربنا الذي خلقك وخلق الكائنات ورتبها وقدرها، ماذا عملت أنت من هذا؟
(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أعطى كل شيء نصيبه ومصلحته ومقصود خلقه والحكمة من إيجاده ثم هداهم لذلك؛ فعالم الطيور مُنظّم، وكل نوع منها له مهمات معينة، وعالم الدواب في الأرض كذلك، وعالم البحر وما فيه، وكل واحد مُرتب ومنظم، حتى الأشجار وكيفية نباتها وكيفية سقْيها مرتبة من قِبله سبحانه وتعالى (أفرأيتم ما تحرثون أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة: 63-64]، (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل:60].
من ربكم؟ (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)) افتح عقلك، افتح عينك، أنت ماذا تدَّعي؟ ومن الذي كوّن هذه الكائنات كلها؟ أين ذهب عقلك؟ أين ذهب فهمك؟ أين ذهب إحساسك؟ (الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ).
(قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51)) طوائف قد مرت قبلنا وقرون كثيرة كانوا ما يرجعون؟! أو ما هي أخبارهم بالضبط؟ قال: فما بالهم؟
(قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي (52)) خلقها بقدرته وسيرها بحكمته، والمكلفين منهم سيجازيهم بما عملوه ومرجعهم إلى الله، علمه عند ربي، ما نحن بعالمين إلا ما علمنا الرب (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32].
(فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51)) قال: القرون الأولى مثلك جاءهم رسل جاءهم أنبياء، والذين كذّبوا ذهبوا للنار، والذين صدقوا دخلوا إلى الجنة، وما معنى؛ ما بال القرون الأولى؟ تريدهم الآن أن يرجعوا إلى الحياة ويرجعوا إلى عندك؟ لكم موعد معين، كلنا جميعًا سنرجع فيه ونبعث فيه هناك.
(فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) في قدر منه وقضاء ومرسوم رسمه يُبين فيه كل ذرة وحركتها وسكونها، فلا تتخطاه (فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي) -لا يُخطئ- (لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)) بل كل شيء عنده بقدر، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر: 49-50] وقال لك: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:51].
(لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا (53)) وفي قراءة مهادًا، قال: أنت كوّنت الأرض، أنت؟ أنت من أين جئت؟ لماذا تقول أنا ربكم؟ ربنا هذا الذي خلق الأرض، أنت ماذا خلقت من الأرض؟ ما عنده حجة، وكل الملحدين ما عندهم حجة، كل الكافرين ما عندهم حجة، (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ) [الشورى:16] ما عندهم، قال: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4] ما عندهم شيء.
قال: الذي خلق الأرض (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) أي سنة جئت؟ أنت متى جئت إلى الأرض؟! من متى خُلِقَت؟! ومن الذي خلقها؟ ماذا خلقت منها؟ ربنا الذي خلق الأرض هذه ومهّدها لنا، نستطيع العيش فيها من دون اضطراب، وجعل مصالحنا فيها وطعامنا وشرابنا ومنها يخرجه سبحانه وتعالى.
قال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) -لا إله إلا هو جلّ جلاله وتعالى في علاه- (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) مهَّدها لكم (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6]، (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) طُرُق للعيش، للصناعة، للحراثة، للحدادة، للزراعة، للبناء، جعل لكم فيها سبلًا، (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) -جلَّ جلاله-.
يقول الله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (54)) أولو العقول والحِكَم والوعي (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى).
هذه الأرض التي أنتم عليها (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ (55)) تكوين جسد آدم من التراب خلطناه بالماء فصار حمأ مسنون، يبّسناه فصار صلصال كالفخار، ثم نفخنا فيه من روحنا (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ (55)) ترجعون إليها، ثم وقت البعث (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55))
فالله يرزقنا الإيمان واليقين والإخلاص والصدق، ويصلح أحوالنا والمسلمين، ويرزقنا كمال الإيمان به، يا خالق السماوات والأرض ثبِّتنا على ما تحبه منه وترضى به عنه، ولا تخزنا يوم العرض، واربطنا بنبيك محمد ربطًا لا ينحل، وارفعنا به إلى أعلى محل، وأصلح شؤوننا وأمته أجمعين في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
الفاتحة
23 رَجب 1446