تفسير سورة النحل، من قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ..}، الآية: 90

تفسير سورة النحل
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، الآية: 90

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله على عظيم إفضاله وجزيل نواله، مُكرِمنا بخاتم إنبائه وإرساله، سيدنا المصطفى محمد ﷺ ومن سار على منهجه الأرشد ووالاهُ في ذاتِ الله الواحد الأحد، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِنْ الأنبياء والمرسلين مَنْ مُيِّزوا على من سواهم بالعلو والرفعةِ والمجدِ والسُّؤْدَد، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرَّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنُّه كرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد،،

فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله-، وتنزيلهِ ووحيهِ، وتعليمهِ وإرشاده، تفضُّلًا منهُ وتطوُّلًا على عباده، انتهينا في سورة النحلِ إلى قول الله -جلَّ جلاله-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)). اللهم اجعلنا مِنْ المتذكِّرين، وقد كان سيدنا عبد الله بن مسعود يقول عن هذه الآية: "إنَّها أجمعُ آيةٍ في القرآن". أعظمُ آيةً آيةُ الكرسي، وأجمعُ آية للأمرِ والنهي آية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)).

وقد جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل وعند البخاري في كتاب "الأدب المفرد" في نزول هذه الآية أنَّ سيدنا عثمان بن مظعون -رضي الله تعالى عنه، أخ النبي من الرضاعة- مرَّ عليه يوماً، فجلس يتحدث معه، ثم شخَّص ببصرهِ ﷺ نحو السماء وأخذ يرقبُ أمراً نازلاً حتى انتهى فوضع بصرهُ على اليمين وتحول إلى اليمين وأخذ يستمعُ ويقرأ ثم رفع البصر نحو السماء حتى غاب الشخصُ الذي يرقبه ُثم تحول إلى جلسته مع سيدنا عثمان قال: فسألته، فقال: أتاني جبريل، قال: ما قال لك؟ قال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). يقول: عثمان ابن مظعون فقرأتها على أبي طالب، قال: فعَجِبَ بها، ثم قال: يا بني غالب اتبعوه، فإنَّ الله أرسلهُ إليكم يأمر بمكارم الأخلاق ﷺ.

وهكذا جاءنا عن أَكْثَم ابن صَيْفِيّ، لمَّا بلغه خروج رسول الله ﷺ أراد أن يعلم خبرهُ، وبعث مِنْ قومه من أتوا إلى رسول الله ﷺ  وقالوا: نحن وفد أكثم إليك يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال لهم: أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، بعثني إلى خلقه، وقرأ الآية عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)) وفي قراءة (تَذَكَّرون). قال: فعجبنا بها، وأخذنا نتلوها فكرر، قلنا له: ردها علينا يا رسول الله. قال: فكررها حتى حفظناها، فرجعنا إلى أكثم وتلونا عليهِ الآية وأخبرناهُ بما قال رسول الله، فقال: يا قوم إني أراهُ يأمرُ بمكارم الأخلاق، وينهى عن مَلائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً، ولا تكونوا أذناباً، لا يسبقكم الناس إليه.. اذهبوا. وعزم أن يتوجه إلى رسول الله ﷺ فسافر، فأدركهُ الموت في الطريق، فمات على حالٍ جميلة، وفيه نزل قول الله: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء:100] جلَّ جلالهُ -وتعالى في علاه-. 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ..) عباده، والمكلفين من الإنس، والجن الذين خلقهم، وأرسل إليهم عبدهُ محمداً ﷺ بالهدى، ودين الحق. (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..) الإنصاف، وأداء الواجبات، والفرائض.(يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ويأمر بالإحسان؛ (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) وهو التفضُّل والترقي في العبادة، كأنه يرى الرَّب -جلَّ جلاله- والعمل بالمندوبات، وكثرة الطاعات. ما سمعتم الكلام عن من اشتهر في الأمة بأرباب الطرق لكل مَن أقام أمرهُ منهم على أُسس الأئمة الهادين المهتدين، مِن العلم والعمل، والإخلاص، والورع، والخوف من الله -عزَّ وجلَّ-. (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) بترك المكروهات، والشبهات، فإن كان في العدلِ ترك المحرمات، ففي الإحسانِ ترك المكروهات والشبهات، التي قال عنها الهادي ﷺ: "إنَّ الحلال بَيِّنٌ وإنِّ الحرام بيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ.." طلب البراءة والنزاهة والكمال لدينهِ وعرضه "..ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام".

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ)؛ وقد دخل إيتاء ذي القربى ما كان منه واجباً في العدل، وما كان مندوباً في الإحسان، ولكن نصَّ عليه؛ اعتناءً بشأن صلة الأرحام، برالوالدين وصلة الأرحام في جانب الطاعات لهُ شأنٌ عظيم، ومقامٌ فخيم، وأثرٌ عميق جسيم في القرب من الله، ونيل رضوانه، ونيل الدرجات، والمثوبة الكبيرة، وصلاح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم. البر.. والصلة، (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ).

وقد جاء عن محمد بن كعب القرظي يقول: دعاني عمر بن عبد العزيز وقال لي: صف لي العدل. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، قال: صف لي العدل. قال قلت له: بَخٍ سألت عن جسيم وأمرٍ عظيم، عامل مَن كان أكبر منك مِن الناس كأبيك، وعُدَّ مَن أصغر منك كإبنك، ومَن ساواك كأخيك، رجالاً ونساءً، واحذر أن تضرب سوطا واحداً غضباً لنفسك فتعتدي، فينتقم الله منك.  هذا العدل..، قال: عامل واعتبر كل مَن كان أكبر منك أب، كل مَن كان أصغر منك ابن، كل مَن كان في سنك أخ. وقال: وعاقبهم على قدر ظلمهم، وقدر أجسادهم، على قدر ظلمهم وقدر أجسادهم، واحذر أن تضرب سوطا واحداً غضباً لنفسك فتعتدي، فتكون من العادين فيحاسبك الله. 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، وكم عَمِلَت هذه المعاني والآيات في مثل: عمر بن عبد العزيز أيام خلافته حتى حرمته المنام ليلة، وليلة، وليلة.. وليالٍ كثيرة، مرت عليهِ سنتان، وأشهر ستة أشهر، لم يغتسل فيها من جنابةٍ إلاَّ مرتين؛ شُغلاً بحالهِ مع الله، واستعدادًا للقائه -تعالى في علاه-، وأظهر اللهُ فيه مِن صدقهِ ونيتهِ في العدل، أن وفرَّ الأموال للخلق حتى دير بالذهب، فلم يرضَ يقبله أحد مِن بلد إلى بلد وأمر بردَّهِ إلى بيت المال -عليه الرضوان-، وكان ما كان مِنْ ظهور البركات في ذلك الزمن اليسير.

فقل لدعاة الإقتصاد في العالم أفي خلالِ سنتين تُغْنون شعوبكم حتى لا يقبلوا الذهب؟! ما رأيناكم بعد التبجح الكبير، وبعد سنين إلاَّ تستمرون في النهبِ والسلبِ، وتعملون الحيل؛ لأخذ ثروات الغير.. فماذا عندكم مِنْ اقتصاد؟ يا كذبةَ على أنفسكم وشعوبكم، وعلى أهل أزمنتكم؛ لكنَّ الصدق عند أهل الصدق، ولقد قال الرحمن: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]. وصدق الله، وأيقن مَن أيقن بذلك مِن المؤمنين، فإن عملوا لإصلاح القرى والمدن أقاموا أُسس الإيمان والعمل الصالح، الإيمان والتقوى. وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]. ويقول:-جل جلاله- (لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [المائدة: 66]، (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) [الجن: 16]، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123]. 

خبر صدق ماهو تجربة ولا نظرية.. هذا خبر صدق حق واقع (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ..) -كما سيأتينا قريباً في هذه السورة في الصفحة المقبلة- (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (97)). وعزةِ الذي أنزل القرآن كل الذين صدقوا في الإيمان وعملوا الصالحات مِن رجال أو نساء حيوا حياةً طيبة في أي زمان كانوا، وتحت أي ظرف كانوا، وفي أي بلادٍ كانوا، نالوا الحياة الطيبة وهم في الدنيا. ولمَّا قالوا لبلال: أما كنت تُحِسُّ بأثر السياط وأنت تضربُ في مكة وأنت تردد "أحدٌ أحد" تُنشِد تُغنِّي بالتوحيد!! قال: خلطت ألم تعذيبهم بحلاوة الإيمان فزادت حلاوة الإيمان على ألم التعذيب. وابتدأت حياتهُ الطيبة بإيمانه وعمله الصالح وهو في تلك الأيام، ثم في عالم الصورة والحسّ.. ما مرت الأيام إلاَّ وهو يعلو الكعبة يؤذِّنُ على ما كانوا يضربونه عليه ويعذبونه عليه! يُعلِنهُ مِن فوق الكعبة… الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلاَّ الله أشهد أنَّ محمد رسول الله -عليه الرضوان-.

وهكذا.. كان ما كان، لكل مَنْ آمن وعمل الصالحات؛ ولكن ضعف العقل، ووجود الغطرسة، والكبرياء، والإنحرافِ والشذوذ؛ أعَاشَ الكثرة الكاثرة من بني آدم، والجن يجربون نظريات مِن عندهم وآمالٍ يريدون بها الحياة الطيبة، وكل مَن قام بذلك بأي مستوى وعلى أي نظام يخالف ما أنزل الله؛ لم ينتهي إلى حياة طيبة، ولا يزالون يُكررون على أنفسهم، ولا يَنتهون إلى الحياة الطيبة، ولن ينتهوا إلاَّ أن يأخذوا منهج الذي خلق الحياة -جلَّ جلاله-، إذا أخذوا منهج خالق الحياة وطبقوهُ في حياتهم طابت حياتهم؛ بتطييب المُحيي المميت، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [المُلْك:2].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) حق المؤمن إذا سمع الخطاب مِن هذا الإله أنْ يقوم بالأمرِ كما ينبغي. ومَرَّ بعض المتدبرين في ختمة.. قال لي فيها: غير ختمة الأسبوع غير ختمة الشهر؛ لي ختمة لي فيها ستة عشر سنة! أين وصلت فيها؟ قال: إلى عند قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، كم لك؟ قال: لي أيام وأنا في العدل أُقيمه في عينيَّ، وفي رجليَّ، وفي فرجي، وفي بطني، وفي أعضائي، وفي قلبي.. أعدل! وفي أسرتي وفي نفسي، وفي أهلي، وأنا أيام واقف عند قوله (بِالْعَدْلِ). 

وهكذا.. وقال بعض أولئك العارفين المتذوقين خطاب الرَّب، قال: مررت على قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فناصفتُ ربي وأخرجتُ نصف ما أملك لوجهه. كما سمعتم سيدنا عمر بن الخطاب في غزوة تبوك جاء بنصف ما يملك. قال: ثم وصلتُ إلى قوله: (وَالْإِحْسَانِ) فأخرجت الباقي. (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) وجئت للباقي وأنفقتهُ له.

وحدثنا ﷺ أنَّ غنيينِ من أثرياء بني إسرائيل كلٌّ عمل منهما عملاً، قال: فلمَّا مات أوقف الله الأول. 

  • قال: ما عملت فيما أنعمتُ عليك؟

  • قال: يا ربي بذلتهُ في مرضاتك وفي سبيلك، وما تحب، ووثقتُ بطولكَ وجودك على أهلي وولدي.

  • قال: فقال الله: أما إنَّ ما كنت ترجو لأهلك وولدك قد أنزلتهُ بهم.

  • وأنا بعد موتك أغنيهم وأُدريهم وأدِّر عليهم الرزق..

  • قال: ووقف الآخر، فقال: ما عملت؟

  • قال: خفت على ولدي العَيلة والفقر، فأتركتهُ لهم.

  • قال: فقال الله: أما إنِّ ما كنت تخشاه على أهلك وولدك قد أنزلته بهم.

هلك المال الذي ورثوه في أقرب الوقت، وعاشوا فقراء طول أعمارهم..! هذا الذي أراد بعقلهِ القاصر أن يرزق وهو يعرف نفسهُ خرج مِن بطن أمه لا يملك شيء! وكأن الذي رزقهُ لا يقدر أن يرزق أولاده من بعده.

ولمَّا قالوا لعمر بن عبد العزيز: أبقِ شيئا مِن مالك لولدك. قال: ولدي! إن كان مِنْ الصالحين فإنَّ الله يتولى الصالحين، وإن كان غير ذلك فلا أُعين فاسد على معصية الله!

أترك له شيء يعصي الله به! إن كان من الصالحين فعندي واحد قوي يتولى أمره ويأخذ به وهو يتولى الصالحين -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ)، خذ منزلتك، خذ درجتك، ولو تبتدئ من الآن في ترتيب العدل.. في نياتك ووجهتك، وأدبك، وحالك مع أسرتك، و نظرتك إلى العالم وما فيه! 

  • ذكّروكم بنعمة الله.. منكم مَن يعيش في كسب أعلى ما يمكن كسبه من الدنيا، وأكثرُ الناس في الأرض في هموم، وغموم، وحروب، وكروب واشتغالهم بتُرهات وفانيات، ومعاصي، وما يوجب العطب والغضب!

  • هذه نعمة من الله لمن أنعم عليه بهذه النعمة، وهم المخلصون الصادقون في كل مكان على ظهر الأرض -وهم قليل- وأكثر أهل الأرض مشغولون بما لا ينفع، بل مشغولون بما يضر، بل مشغولون بما يوجب هلاك الأبد!

فاقْدُروا النعمة، واعرفوا عظمة المُنعِم، وقوموا بحقِّ العدل والإحسانِ، وإيتاء ذي القربى، لا يبقى في دياركم ولا منازلكم ظلم، ولا إساءة، أقيموا العدل والإحسان، فإنَّ خالقكم بذلك أمركم، ولا يبقى في مجتمعاتكم عاقٌ لوالدينِ، ولا قاطعٌ لرحمِ؛ فإنَّ الرحمن قال: (وَإِيتَاءِ..) إعطاء (..ذِي الْقُرْبَى) المعروف، والإحسان، والصلة.

(وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ) كل ما يُستشنع من الذنوب والمعاصي، ومِن أفحشها بعد الشرك بالله -تبارك وتعالى- الزنا واللواط. (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ)،فطهّروا دياركم ومجتمعاتكم عن هذه الرذائل والقبائح التي يدعو إليها عدو الله؛ لا لينفعكم.. لا والله، بل ليضركم، لا لتهنأوا.. لا والله، بل لتتعرضوا لعذابٍ وألمٍ ووجع شديد لا يطاق! بل لتتعرضوا في الحياة الدنيا قبل الآخرة لهمومٍ وغمومٍ وأمراض وآلام!

  • دعاة الشر ودعاة نشر الفواحش على ظهر الأرض.. هم أعداء أنفسهم، وأعداء كل من يسمعهم، ويتبعهم -كائنين من كانوا- شعوبا أو دول، صغارا أو كبار؛ الدعاةُ إلى الفحشاء أعداء أنفسهم وأعداء كل من يتبعهم ويستمع لهم، ظاهراً وباطناً، دنيا وآخرة، وإن انطوت الحيلة والتلبيس على كثير من عباد الله!

  • يا عبدة الفروج والبطون! يا عبدة اللذائذ الحقيرة الزائلة! التي تهتكون بها الأعراض! وتهتكون بها القيم، وحقائق الإنسانية في الدنيا: ما أنتم إلاَّ متبوؤون مراتب إبليسية لم يستطع إبليس في عالم الإنسانِ أن يبثها إلاَّ عبركم، فما أرذلكم! وما أرذل ما وصلتم إليه!

  • هم دعاة الفسق في زماننا.. يكونون مَن كانوا، هم أعداء أنفسهم، وأعداء أهل بلدانهم، وأعداء كل من يستمعهم، ويطيعهم ويتبعهم! أعداء الإنسانية أعداء القيم، أعداء الفضائل!

أمِن أجل الشهوات الخبيثة تركتم القيم وفطرة الإنسان التي فطرهُ الله عليها؟! وهتكتم الأعراض وفيها الأمراض في الدنيا قبل الآخرة! وإذا كانت قيمة الإنسان أن يقضي هذه الشهوة الخسيسة ويبذل لها عقله وفكره وماله.. فما قيمته إذن؟! وما مهمته؟!  وما كرامته؟!  وما شرفه؟!  وما عزته؟!  إنَّكم لأجل المال تتركون كثيراً من الشهوات لتحصيله؛ لِأجل السلطة تتركون كثيراً ممَّا تشتهون لتحصيلها! ألِأجلِ أمر الرَّب وحياة الأبد وسعادتها لا تتركون هذه الرذائل؟! ولكن مَن لم يُرِد الله أن يُطَهِّر قلبه، لم يعش إلاَّ في القذر، والوسخ! يا ربِّ طهِّر قلوبنا، يا ربِّ نقِّنا عن شوائبنا.

(وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)؛ كل مخالفة لأمر الرَّب منكر، كل مخالفة لأمر الإله منكر؛ أمرٌ يجب أن يستنكره ذو الفطرة والعقل السليم والقلب السليم، ما خالف أمر الله منكر. ومع ذلك كله خصَّ مِنْ بين المنكرات والفحشاء واحد بذكرهِ بالخصوصية: (وَالْبَغْيِ): الظلم، ظلم بعضكم لبعض؛ أفراد وجماعات، وأحزاب وهيئات ودول.. ما رأيناها تعيش كثيرٌ منها إلاَّ على الظلم! وعلى البغي! هذا الذي ينهى الله عنه!  أيُريد مَن يُصِرُّ على ما نهى عنه خالقهُ أنْ يُعيشَ نفسهُ أو أهل بلده في حقيقة سعادة أو حقيقة طمأنينة، أو حقيقة شرف أو حقيقة هدوء، أو حقيقة أمن؟! لا والله؛ لكن (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]. المخالفون لأمرِ الله؟! مَن؟ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه:124].

والعقلاء من جميع المنصفين على ظهر الأرض؛ يستطيعون أن يتحدَّوا هؤلاء في أفكارهم -شعوباً ودول- أن يُحَصِّلوا حقيقة الإستقرار والطمانينة، والأمن والعيشة الطيبة مع مخالفة أمر الله، وبغير منهج الله، لا وجدوه فيما مضى، ولن يجدوه فيما يأتي؛ إلاَّ بالرجوع إلى أمر الله. الأرض ليست لهم، ولا خلقوها.. خالقها حكم بهذا الحُكم على مَن يعيشوا فيها، و: (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد:41]، ولا السماء لهم، ولا خلقوها (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4].

فيَا ما أسعد مَنْ يعيشوا على ظهر الأرض آخذاً منهاج خالق الأرض ومكوّنها، هو الجدير بالسعادة، هو الجدير بالطمأنينة، هو الجدير بالسرور والأنس والحبور المتصل بسرور القبور ويوم النشور ودخول الجنات. اللهم أكرمنا بالتقوى، وارزقنا العمل بهذه الآية.. نأتمر (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) يا رب، وننتهي انتهاءا تاماً كاملاً عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نظلم أهلنا ولا أولادنا ولا فقراءنا ولا الضعفاء فينا، ولا نظلم أنفسنا.

يا رب أعذنا من الظلم ودعوة المظلومين، أعذنا من البغي، أعذنا من المنكر، أعذنا من الفحشاء، يا رب أرزقنا القيام (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ)؛ وفي ذلك الفوز والسعادة. ثبتنا يا رب على ما تحب، واجعلنا فيمن تحب. واختم شهر رجب بقيامك بالامتثال للأمر، والانتهاء عن هذا النهي في الآية هذه وحدها؛ فهي أعدل آية، أجمع آية، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)) ارزقنا التذكَّر يا كريم، وجد علينا يا رحيم. 

وبارك لنا في خاتمة رجب وذكرى الإسراء والمعراج، وتعظيم مشاهده التي أشهدته إياها ليُبَلِّغنا إيَّاها؛ حقيقة نتائج أعمالنا وكسبنا في الحياة، ولا هناك مختبر يُحَلِّل كهذه الإراءة من الجبار الأعلى الخالق لأصدق الخلقِ؛ هذه نتائج الأعمال، فلا شيء أصدق من ذلك. هذه نتائج الأعمال.. المشاهد التي شاهدها ﷺ في تلك الليلة، فلنتأملها، ولنأخذ نصيبنا منها، ولنعلم أنَّهُ الأصدق وأنَّهُ الناطق بالحق عن الحق (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4]. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..

بارك الله في الوافدين والزائرين، وفي هؤلاء الشيوخ الأجلاء، وفي سلوكهم، وفي ما ينفع الله على أيديهم ومن يهتدي بالهدي، ومن يقتدي بالقدوة الحسنة، ومن يتصل بالسير إلى الحق -جلَّ جلاله-. وبارك الله لنا وللأمة في خاتمة رجب وفي شعبان والموسم الكريم المبارك لزيارة النبي هود عند أهل حضرموت، جعلها الله من أبرك الزيارات على المؤمنين وعلى أهل العالم وأهل الوجود كله إنَّه، أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

23 رَجب 1444

تاريخ النشر الميلادي

13 فبراير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام