(233)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
مساء الإثنين 26 ذي القعدة 1445 هـ
الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان رسوله خير هادٍ ودليل، سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل -صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله المطهرين- وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من والاهم في الله واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى جميع آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أمَّا بعد،،
فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- مررنا في أوائل سورة الكهف على عدد من الآيات، ومررنا على قوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) وفي أول الآية أمرهُ أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، والله يلحقنا بهم ويجعلنا منهم وفيهم ومعهم.
قال الله لحبيبه: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (28))، وقال عن الصنف الآخر من الناس: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا(28)) أي: حُرِمَ خيرية الذكر للرحمن، وأُغْفِل قلبه عن ذكر الله تبارك وتعالى مع كثرة المُذكِّرات؛
(أفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) [الواقعة:68-69]، -لاإله إلا الله- (فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ) [النمل:60] (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ* أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-64] كلها مُذكِّرات بالله وهو مايذكر! مأخوذ بقلبه في تُرَّهات وبطالات، سَكِر وراء مال، وراء سُلطة، أو وراء شهوات، فَعدِم ذكر الله في القلب؛ كل شيء يُذكِّره بالله وهو لا يَذكُر، يَغفل قلبه عن ذكر الله والبلايا كلها في هذه الغفلات، ولو أنَّ المؤمنون بالله أحسنوا ذكر الله لكان لهم من بركةِ ذكرهِ إياهم ما يقيهم كل الأسواء في السِّر والنجوى.
قال بعض الصحابة: "يا رَسولَ اللهِ، إنَّ شَرائِعَ الإسلامِ قد كَثُرَت عليَّ، فَمُرنِي بَعملٍ أتشَبَّثُ به، فقال: لا يزالُ لِسانُك رَطبًا مِن ذِكرِ اللهِ"، ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذابِ اللهِ من ذكرِ اللهِ، "ألا أنبئُكُم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عند مليكِكم وأرفعِها في درجاتِكم وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والورِقِ وخيرٍ لكم من أنْ تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكرُ اللهِ".
وبهذا تعلم أنَّ حقيقة الذكر ليس مُجرد مرور الألفاظ على اللسان؛ تَذكرهُ، تَذكرهُ؛
تَذكُرهُ وتمجده وتُعظمه وتُسبحه، خصوصاً في مثل أيام العشر المُقبلة على الناس؛ أيام العشر من ذي الحجة؛ خير أيامكم فأكثروا فيهن من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، يقول ﷺ: "فأكثروا فيهنَّ منَ التَّهليلِ والتَّحميدِ والتسبيح والتَّكبيرِ".
وأمَّا من أُغفلت قلوبهم عن ذكر الله، فأهلٌ أن لا يقبل منهم رأي، ولا تُؤخذ منهم مشورة، ولا يُطاعون في شيء.
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا(28))، (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * ولَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم:9-12] (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان:24].
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا(28))، هؤلاء ما حقهم أن يُسمع رأيهم، وما حقهم أن يُستشاروا، وما حقهم أن يُؤخذ بآرائهم ولا بأفكارهم -من أُغفل قلبه عن ذكر الله- فهم محل الظُلمة ومحل الغي، ومحل الضلالة؛ ماذا تأخذ منه؟! ماذا تستفيد منه؟! فكيف يتحول قدوة لك؟! وكيف يتحول أسوة لك؟
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (28)) في دعواه؛ ادعائه العلم، ادعائه الرفعة والمقام، ادعائه الإحاطة بالأشياء، (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (28)) في شهواته، ما يُريد إلا الخبائث وما يُريد إلا المساوئ.
(وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28))، ضائعاً، هلاكاً، يُوقعه في الندامة؛ يُوقعه في الندامة والخُسران الكبير، وهكذا كل من أُغفل قلبه عن ذكر الله واتبع هواه؛ فلا يكن أمره إلا فُرط، هالكاً، ضائعاً.
(وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) يُفرِط في الثناء على نفسه، يُفَرِّطُ في القيام بحق ربه، يندم، يخسر، يهلك، والعياذ بالله تعالى.
(وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النحل:123]، ذكَر الأنبياء والمرسلين ثم قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، فقال تبارك وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) [الحديد:21]، آمنوا بالله ورسله.
خالق السماوات والأرض اصطفى منا المرسلين، يجب أن ينزل المرسلون مكانتهم في قلوبنا، يجب أن ينزل مكانتهم في عقولنا وأفكارنا، وما نقدم على الأنبياء والمرسلين أحدًا كائنًا من كان في أي مكان وفي أي زمان، هؤلاء صفوة الرب (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75] فهم الأعقل، وهم الأعدل، وهم الأفضل، وهم الأجمل، وهم الأكمل، وهم الأتم، وهم الأقوم، وهم الأعظم، وهم الأكرم، وهم الأصح، وهم الأصلح، وهم الأنصح وهم الأرجح، وهم الأفلح؛ أنبياء الله ورُسله يجب أن نعرف مكانتهم ونُعظمهم.
والجنة كلها أُعدت للذين آمنوا بالله ورسله، إذا قال الكفار واستنكروا ما يحصل في حالة القيامة: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ) [يس:52]، تناديهم الملائكة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، كلام رسله اليوم، اتركوا مفكرينكم هؤلاء العباقرة الذين معكم؛ أحد مثل صورة النمل، أحد يصيح، اليوم كلام المرسلين، الناس يرجعون لمَّا قال المرسلون هو قول الحق (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52] صلوات الله وسلامه عليهم.
رزقنا الله تعظيمهم ومحبتهم وحقيقة الإيمان بهم، وأفضلهم وخاتمهم وأعظمهم، نبي الله محمد ﷺ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:253]، فأعلاهم أولي العزم، فوق الكل خاتم الرسل محمد بن عبد الله يا رب صلِّ عليه، الحمد لله الذي جعلنا من أمته.
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ ..(29)) أعلم بين جميع المكلفين.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29))، الذي جئتكم به من الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والأوامر والنواهي والحلال والحرام.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29))، هذا الحق الذي لا سواه حق ومصدره؛ منشئكم ومنشئ السماوات والأرض ومنشئ الوجود كله.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29))، -جلَّ جلاله- ما هو الذي يجيء بفكر، أحد يفكر بالليل يجيء لنا بفكرة وفي الصبح يجيء لنا بنظرية علمية ويجيء لنا بنظام ويجيء لنا بقانون من عنده.
(الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29)) العالِم بكل شيء، المحيط بكل شيء، قال جئتكم بالحق من الله.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29)) خالقكم الذي رباكم وقلَّبكم من نُطَف، إلى عِلق، إلى مُضغ، إلى عظام، فكساها لحمًا، ونفخ فيها الروح وأنشأ خلقًا آخر، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78] هذا الذي خلقكم جئت بالحق من عنده، وهو قوله الحق، وهو الأعلم بكل شيء -جلَّ جلاله-.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)). لا تنفعونه ولا تضرونه، "يا عبادي! إِنَّكم لن تبلغوا ضُري فتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكُم، وإِنسَكُم وجنَّكم، كانوا على أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلِكَ فِي مُلْكِي شيئًا، يا عبادي! لوْ أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم، وإِنسَكم وجنَّكم، كانوا على أفجرِ قلبِ" أعظم واحد؛ إلحاد وشرك وكفر كلكم وقعتم على مثل هذا القلب "كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلكَ مِنْ مُلْكِي شيئًا، يا عبادي! إِنَّما هي أعمالُكم أُحْصيها لَكُم؛ ثُمَّ أُوَفِّيكُم إيَّاها، فَمَنْ وجدَ خيرًا فلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَنْ وجدَ غيرَ ذلِكَ فلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29)) هذا لسان النبيين والمرسلين ولسان أعظمهم وخاتمهم نقول لكل عاقل على ظهر الأرض من جميع المكلفين من الإنس والجن: (الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ (29)) خالقنا وخالقكم؛ أحسنوا التفكير، أحسنوا النظر، امشوا على بصيرة في هذه الحياة، عيوننا وعيونكم تنظر، الناس يأتون ويذهبون، ويأتون ويذهبون، أجيال ذهبت وأخرى تأتي، أكبر منا ماتوا، أصغر منا ماتوا، وفي سننا ماتوا، وماذا بعد هذه الحياة؟ ومن الذي خلق؟ فكروا تمام، اتركوا هذا الإنشغال بالتُّرهات والبطالات واللعب هذا الذي أنتم فيه!
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(29)) من شاء أن يتعرَّض لدخول الجنة فليؤمن، ومن شاء أن يُعرِّض نفسه لدخول النار فليكفر، فمن شاء دخول الجنة فليؤمن، ومن شاء أن يُعرض نفسه للنار فليكفر والله غني عنكم. (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء:7].
(فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(29) تهديد بليغ، يقول أنا غني عنكم مااحتاج شيء منكم (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ *إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:57-58]، هو خلق الخلق ليربحوا عليه، لا ليربح عليهم.
ما لهم؟ سكروه. وراء المخدرات، وراء المدرجات، وراء اللواط، وراء مخالفة الجنس وشهواتهم؛ من خلقكم؟ ولماذا خلقكم؟ أخُلقتم لهذه الخبائث وهذه الخسائس؟ بئس الخلق؟ وبئس ما خُلقوا له؟ يا بني آدم، لنا كرامة خُلقنا لأمور عظيمة وخُلقنا لأجل بقاء ودوام، خُلقنا لإحقاق حق وإبطال باطل، ولإحلال الحلال وتحريم الحرام، ومنهج من عند الخالق الذي أوجد، ما هو يلعب بعضنا على بعض!
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [آل عمران:64] أنا لي حق وضع القانون! وأنا لي حق القرار! وأنا لي حق الفيتو! ليس لك شئ ما هذا؟! ما هذا اللعب؟! ما هذه السخرية، نتخذ بعضنا بعضا سخرية؟ ما هذا؟! يعبد بعضنا بعض؟ نحن خلق سواء، نحن عبيد لواحد نخضع لجلاله.
ومجرد ما أدركت الملكة بلقيس أنَّ هذه نبوة ورسالة أمامها، ليس كلام مخلوقين (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل:44] ومن دقة فهمها ما قالت: أسلمتُ لسليمان، سليمان نبي مُعظم ويجب أن يُقتدى به، لكن الإسلام للذي فوق، ولكن هو عبد مثلي، لكنَّه مُكرم عند ربي ويجب أن أتبعه، لكن أنا معه أسلمت لله، ما قالت: أسلمت لسليمان، بل أسلمت مع، مع سليمان في تبعيتة ومعرفة قدره، لكن لله رب العالمين.
كانت تعبد الشمس وفي لحظة أدركت، عرش يتنقل من وسط مأرب إلى فلسطين، ماذا؟ في حاملات، طائرات هذا عندهم، يدققون عليه لنذهب، من الذي حمله؟ وفي كم أيام، وفي كم ساعات؟ (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل:40]، ماذا؟ تتعجب في أصحاب الصواريخ هذه والطائرة بدون طيار؟!، ما هو الذي يحمل هذا في لحظة، قبل ما يرتد الطرف؟ يقدرون يصلِّحون؟ متطورين في التكنولوجيا، تنقلوا العرش من مأرب إلى فلسطين قبل أن يرتد الطرف؟ ولا يقدرون، انظر العظمة أمامك، عبد من عباد الله صدق مع الله من أولياء أمة النبي سليمان، قال: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚفَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي) [النمل:40] لا اغتر ولا تَجَبَّر، ولا عجِب بنفسه؛ ولكن قال (ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:40].
ولما جاءت ووجدت العرش أمامها قالت: هو هو، ما هذا؟ علمت أنّ هذا لا مُدَّعي، ولا ملِك، ولا صاحب سُلطة، ولا يريد جاه، ولا يريد؛ هذا مرسول من ربِّ الأرض والسماء، بسرعة (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ) [النمل:44] وإذا هو هو هذا بنفسه عرشها: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل:44] الآن حجج كبيرة وآيات حتى هم يكتشفونها؛ شيء في الفضاء، شيء في البحر، شيء في طبقات الأرض جيولوجيا، تُفيد الصدق هذا، صدق من جاء به، ولا يؤمنون، ولا يثمنون، يُغالطون ويكذبون، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل:14].
بمُجرد ما رأت الآية وأيقنت أن المسألة فوقها، لو كان ملك عادي، (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل:34] أهل الأغراض الدنيوية، كذا هم شغلهم، حصَّلت هذا ليس له شغل في هذا، لا هو صاحب دنيا ولا صاحب ملك، هذا صاحب صلة بالرب الرحمن المُنشئ، هذا مرسول من قِبَل الله، بسرعة آمنت، وهكذا.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(29))، تهديد عظيم من الجبار قال: لا تنفعوني ولا تضروني، ولكن إن أردتم جنتي طريقها الإيمان، وإن أردتم النار طريقها الكفر؛ لأن العاقبة الحتمية لكم ومستقبلكم الكبير يحدثكم أنا الخالق عنه، ليس أنفسكم ولا أهواءكم، ولا حكوماتكم؛ أنا الخالق، وأحدثكم عن المستقبل العظيم، ما هو المستقبل العظيم؟
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ (29)) هيئنا، رصدنا للظالمين (نَارًا (29)) -اللهم أجرنا من النار- من يقدر عليها؟ جعل الله هذا للتذكرة، هذه نار الدنيا وهي خفيفة بالنسبة لنار الآخرة، جزء من سبعين جزءا من حرارة نار الآخرة، في كل الحرارة التي في نار الدنيا، قالوا: يا رسول الله، كانت كافية. قال: "قالَ: فإنَّها فُضِّلَتْ عليهنَّ بسبعينَ جُزْءًا"، -اللهم أجرنا من النار-، فيها أودية لو سُيِّرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرارتها، -اللهم أجرنا من النار-.
(إِنَّا أَعْتَدْنَا (29)) قال إنَّا أرصدنا، صلَّحنا لهم، رصد لهم هنا، أرصدنا وهيئنا لهم.
(لِلظَّالِمِينَ (29)) الذين بلغتهم رسالة الله على أيدي أحد من الأنبياء أو أتباع الأنبياء فأصروا واستكبروا، أصروا على الكفر، أصروا على الاستبداد، أصروا على الظلم، أعتدنا لهم نارًا موقدة تطلع على الأفئدة، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56].
(نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ (29)) من كل جانب، (سُرَادِقُهَا (29)) سرادقها: سورها المحيط بها، وفي الخبر في الحديث؛ أن للنار أربع جدران محيطة بها من النار، عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة -يا الله-، وكذلك من سرادقها؛ الدخان الذي ينبعث منها فيملأ ما حواليها، يحيط بها من كل جانب، وشررها.
(انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات:30-33]، فَلَو أنَّ شرارةَ خَرَجَت إلى الأرض في أقصى المَغرِب لَوُجِدَت حَرارَتها من أقصى المَشرِق، تَحرِق الأرض كلها؛ شرارة، -اللهم أجِرنا من النار-.
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً…) [الواقعة:71-73]، نُذَكِّركُم بنار الآخرة عندك قُدرة لذلك ؟!، هيا تعال إلى النار وضَع إصبعك، كم قُدرَتك على النار؟!. -لا إله إلا الله-.
قال: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا …(29)) مع دُخانِها وشَرَرِها، جُدران أربعة مُحيطةَ بها من كُلِ جانب، ثم إذا أذِنَ الله بِتَخريب الطبقة الأولى، هذه المُخَصصة بِعُصاة المُوَحِدين، فَيَخرُج آخِر من يَخرُج مِن النّار بعد سبعة آلاف سنة، تُخَرَب هذه الطبقة، فتبقى الست، فَتوصَدُ وَصْداً، ويُدارُ عليها السور -الجدران الأربعة- من كُل جانِب (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) [الهمزة:8].
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا …(29))، لا يَغتَروا بِقَنابل، لا يَغتَروا بأسلحة، لا يَغتَروا بِمُلك، لا يَغتَروا بِنُفوذ في الحياة الدنيا (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا …(29)).
(وَإِن يَسْتَغِيثُوا …(29))بماذا يَستَغيثوا؟ طعامُهُم من الزقوم، (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات:64-65]، -لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم- (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الصافات:66]، يَغُصُّون بها ويَتعَبون ويَشتَد العَطَش، فَيَستَغيثون، ويقولون: هاتوا ماء، لأنَّهم كانوا في الدنيا إذا غَصوا أواشتد الظمأ، قالوا: هاتوا ماء، هاتوا شراب، والآن هُم في النار أيضًا يَستَغيثون، ولا يغاثوا، وأيّ غياث هذا ؟ بِماء كالمُهُل، مُهل؟! ماجُمع من ذَوَبان وشِدة حَرارة وسَواد؛ هذا مُهل، فهو مُنتِن قَيح وصَديد و يَفور من النار، ولما قد سأله مرة ابن مسعود، قال له: ما المُهل؟ أحضر قليل من الفضة والذهب، أوقد عليه النار حتى ذابت، قال: هذا أشبه شيء بالمُهل؛ فما يذوبُ من النحاس والحديد والفضة والذهب بالنار، فيسيل بسبب النار ويَغلي هذا مُهل، فما كان شديد الحرارة، مسودًا، مائعًا بعد الصلابة، مُهل.
(إِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ… ۚ(29))، -أعوذ بالله- إذا قَرَّبوه مَلائكة النار إلى وجهه، تَخرُج فَروة رأسه ووجهه من شِدة حرارته، تقول له: اشرب، اشرب، قال سبحانه وتعالى: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ) [الصافات:67].
قال سبحانه وتعالى: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:54-55] وشَرْبَ الْهِيمِ في القراءة الأخرى، (الْهِيمِ) [الواقعة:55]: هي الإبل العطشى التي تشرب في الحوض الجَمَل العَطشان، الإبل العَطشى تَشرَب كثير لأنها تُخَزِّن الماء، تمكث بعد ذلك عشرة أيام بلا ماء ما يَضُرَّها، تبقى مدة أطول من ذلك مايَضُرَّها، يقول: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:55] ويَشوي الوجوه، ويُقَطِّع الأمعاء، (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15] -لا إله إلا الله-،(وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ) [ابراهيم:16-17] ماهذه القوة! اشرب، اشرب (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) [ابراهيم:17]، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [ابراهيم:17] اجلس في العذاب هنا مكانك لايوجد موت، ويتمنون الموت (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف:77]، هذا محل خلود، ما يأتيهم الموت، خلاص، الموت قد انتهى، قد لكم موت من أول على هذه الدنيا، وانتهت المسألة، الآن، ياأهل الجنة خلودًا فلا موت، يا أهل النار خلودًا فلا موت -لا إله إلا الله-.
(بِئْسَ الشَّرَابُ… (29)) يا أخَسّ شراب، بماكنتم تَستَحِلون الخَمر أو المُسكِرات أو المُخَدِرات وما حرَّم الله، خذوا هذا الشراب -أعوذ بالله-، (بِئْسَ الشَّرَابُ …(29)) يشوي الوجوه ويُقَطِع الأمعاء (وَسَاءَتْ…) جهنم هذه التي أعدها الله، النار التي أعدها الله.
(وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)) مُرتفق: ما تَرتَفِقُ به، من اجتماع، من مَجلِس، من مَنزِل، من اتكاء هذا مُرتَفَق، يجتمعون فيها؛ ولكن (وَسَاءَتْ) ساء الإجتماع، يلعن بعضهم بعض (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)).
ما يُطلَب الرفق فيها، ما تُحَصِّل شيء من الرفق، طَلَبت الرفق؛ ياحَميم، يا زَقوم، ياضَريع، يا مَقامِع من حديد هذا الذي فيها، لا يوجد محل رِفق فيها، (سَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29))، ما يُطلَب الرفق فيها، المُرتَفَق فيها، المُتَكَأ والمَجلِس فيها؛ نار تغلي وحَيات وعَقارب وأغلال وسَلاسِل وحَميم وزَقوم، هذا الذي فيها (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)) -لا إله إلا الله، لا إله إلا الله-.
لكن في أهل الجنة، يقول سبحانه وتعالى، وفيما أكرمهم به وأعده لهم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- يقول سبحانه وتعالى، يقول جلَّ جَلاله وتعالى في علاه عن عباده الصالحين: (أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:75-76] وأما هذا (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)).
(بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ …(30))، -معهم يارب-.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ (31)) هذه الفوارق بين المؤمنين والكافرين، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5] والله ما تقوم الفوارق لا بِوظائف، ولا بِرئاسات، ولا بِملابس، ولا بِشهادات، ولا بِوزارات؛ كل هذه الاعتبارات ما لها أثر، هباء منثور، الفارق الإيمان والكفر، طاعة ومعصية، نار وجنة، هذا الفرق الحقيقي بين الناس فقط، (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20] لا خَيرَ في خَيرٍ بعدهُ النار، كما لا شَر في شرٍ بعدهُ الجنة.
(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18] سواء كان مؤمن غني أو فقير، صحيح أو مريض، طويل أو قصير، أبيض أو أسود، أمير أو مأمور، معروف أو مَجهول بين الناس (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا…) [السجدة:18] كبير أوصغير، ذكر وأنثى، أمير أو مأمور، صحيح أو مريض، طويل أو قصير، أبيض أو أسود؛ ما يستوون، ماهو بالبياض ولا بالسواد ولا بالإمارة ولا بالوظيفة بل بالإيمان (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18] هذه الفوارق الحقيقية، والله ماغير هذه فوارق، إلا خيالات وضلالات مع الناس، يعيشون بها في الدنيا، تصبح لا أثرَ لها، لا أثرَ لها أصلاً بل من افتخر بشيء منها واعتز وقعت عليه ذلة فوق ذلة.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-والعياذ بالله
(عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء:97] قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107] -اللهم اجعلنا منهم- فَعِزُنا وكَرامَتُنا وشَرَفُنا أن يَزداد إيمانُنا وتَكثُر أعمالنا الصالحة، فلنتنافس في هذا، (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
ومن أعظم مواسم ذلك، أيام العشر، قوة الإيمان والعمل الصالح اغنمها "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله فيهن من أيام العشر"، تسبيحها، تهليلها، تكبيرها، تحميدها، الصلاة على النبي فيها، قراءة القرآن فيها، الصدقة فيها، أعظم من كل بقية أيام الدنيا كلها، يَعدِل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل لَيلة منها بقيام لَيلة القدر، وصوم يوم عرفة بسنتين، لغير الحاج، يكون سنتين، يعدل صيام سنتين، يُكَفِر الذنوب سنتين، في رواية بصيام ألف يوم، في رواية عشر آلاف يوم، صيام يوم عرفة لغير الحاج، الحاج لا يُسَن له يصوم، قال بعض أهل العلم، إذا كان لا يشغله عن الدعاء وهو قوي، ولكن جماهير أهل العلم يقولون، ما دام في الحج، فَشُغله الدعاء والتضرع والتذلل، لا يصوم، لكن المسلمين غير الحجاج يصومون يوم عرفة، يوم عظيم، العمل الصالح شَرَفهُم وعِزَتُهم وكَرامَتهُم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)) فإن هذه جملة معترضة أو هي الجواب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)) فإذا كانت جملة معترضة، فالجواب (أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ (31)) (جَنَّاتُ عَدْنٍ (31))، (عَدْنٍ (31)): إقامة، العدن: الإقامة، المراد الإقامة الأبدية الدائمة، السرمدية الخلد، جنات عدن، أي جنات خلود ودوام واستمرار.
(أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ (31))، يعني من تحت قصورهم، من تحت أمرهم الأنهار تجري، كان يفتخر بالكذب فرعون، يقول: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ …) [الزخرف:51]، ليست تحت رجليه تجري، يعني من تحت مملكته وتحت القصور تحت مملكته، وهؤلاء أهل الجنة، لهم أنهار تجري بأمرهم تحت قصورهم، وإذا أراد يُدخل شيء من الأنهار إلى وسط القصر عنده يَتبَعُه، لا يوجد فرق بين يطلع وبين ينزل،يمشي كله سواء، هل عندهم مضخة أو أي حاجة ؟! يطلع وينزل، يقول لنهر العسل تعال هنا مُرْ من تحت السرير فيمر من تحت السرير، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس، ديار ضيافة كلٌ يُضَيف على حسب قدرة هذه ضيافة رب العالمين
"قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ".
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)) -فيا فوز المحسنين- كل ذرة من اعمالهم محفوظه لهم، ذرة اخلصت مع الله فيها صدقت مع الله فيها عَمِلتها بتواضع -فيا فوزك-، ذرة واحدة وإذا نظر الرحمٰن إليها وبارك فيها (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا …) [النساء:40] ويضاعف ويضاعف ويضاعف إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة عاد فوق المضاعفة غير هذا (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40] أجر لَدُني ماهو على قَدر عَمَلَك، اعمالك مهما تضاعف، لكن هذا من لَدُنه من عنده هو -الله- يعطيك من عنده، ما رأيك ؟ كيف يفرح واحد لو قالوا له أعطوا العُمال حاسبوهم، وزَيِّدوا لهم واعطوهم عَلاوة، ماعدا فلان اتركوه، أنا سأعطيه، كيف يفرح ؟ ماذا سَيُعطيه؟! مثل واحد؟ مثل اثنين؟ مثل ثلاثة ؟ المَلِك بنفسه سَيُعطيه (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40] كما قال في الصيام " كل عمل ابن آدم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، فإنَّه لي، وأنا أجزي به" إذا قبل منك الصوم، هو الذي يتولى الجزاء، يا رب وفقنا.
قال:(إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30))، كل ما أخلصت فيه لوجه الله، لا شيء يَضيع، كلمة طيبة، أدب، تواضع، إصلاح، كسب، نية، صدقة، آية تقرأها مُخلص لوجهه، محفوظ، محفوظ حفظ قوي من قِبَل القَوي، يُجزيك عنها، -الله أكبر- (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)).
(أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ (31)) جنات الخُلد والدوام
(تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ (31)) جمع سور سور سور، جمعها أساور.
(مِن ذَهَبٍ) (أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ (31)) لأنَّه ما غَرَّهم ذَهَب الدنيا، فلهم هذا الذهب، الذهب العظيم الحقيقي، من عيار كم هذا ؟ لو أُخرِجَت قطعة منه، ما يساويها ذهب الدنيا كله، (أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ(31))، في آيات أخرى من فضة، (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ) [الإنسان:21] من فضة، من ذهب، من دُر، من ياقوت؛ يلبسون، ومبْلغ الحِلية في الجنة مبلغ ماء الوضوء، إلى أين تغسل يديك ورجليك يَحلُّونَك، زِدت زادوك، مبْلغ الحلية في الجنة (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا(31)) في أي مصنع صُنعت؟؟ (خُضْرًا) اللون الأخضر العجيب (مِّن سُندُسٍ)، (سُندُسٍ): رقيق الحرير، رقيق الديباج المنسوج بالذهب سندس (وَإِسْتَبْرَقٍ): غليظ، غليظ الحَرير، (سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ (31)).
(مُّتَّكِئِينَ فِيهَا (31)) ليس مثل أولئك لا هم يتكئون ولا لهم مُرتَفَق (عَلَى الْأَرَائِكِ(31)) أسِرَّة، أَسِرَّة وسط الحِجال، وأَسِرّة من ذهب ومن فضة ومن زمرد ومن ياقوت، وأَسِرّة مرتفعة، وعليها الفُرُش والنمارق أي: الوَسائد.
قال: (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ (31)) (مُّتَّكِئِينَ): ما بين مُضَتجِعين ومُتَرَبِعين، (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ(31)) يُقابِل بعضهم بعض، ويجلسون مع أهاليهم (نِعْمَ الثَّوَابُ (31)) ذاك (بِئْسَ الشَّرَابُ (29)) وهذا (نِعْمَ الثَّوَابُ (31)) فرق والله بين هؤلاء (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ (20))[الحشر:20] (بِئْسَ الشَّرَابُ (29))لأهل النار، وقال لأهل الجنة (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31)) ماذا تريد من رِفق؟ ماذا تريد من راحة موجود، تَضَجِع، تَتَكِئ، تَجتَمِع بالناس، تَسكُن، تنزل، احسن شيء، تشرب، تأكل، ماالذي معك ؟! (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ) [الزخرف:71، (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31)) الرفق كله فيها، كل ما تَطلُبه وتتمناه وَسَطَها (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)).
فَخَلُّونا نُقَضي الحياة القصيرة في الصدق مع الله ياعباد الله، ما أسرع ما تنطوي أمامنا أمر كبير وشأن عظيم إن فاتنا هذا النعيم، فلا بورك في الحياة ولا في الدنيا من طرفها إلى طرفها ولا يَضُرنا شيء نقص عنا منها إذا أدركنا هذا النعيم الكبير.
فيارب ثبتنا على الحق والهدى *** ويارب اقبضنا على خير ملة
(وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)) وكان ﷺ إذا وصف الجنة، يَصِف، يَصِف، يصف، ثم يقف ويقول: "وفيها ما لا عَينٌ رَأَت، ولا أذنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَر" اقرأوا إن شئتم قوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]، اسمع هم نَفسهم يَدخُلون فيها ما لم يَخطر لهم على بال من قبل، وهم أنفُسهُم لا يَتَصَوَّرون الذي يَعقُب، ما هم فيه في كل وَقت يَزداد، ما هو لَهُم على بال، و مُمتد وعلى طول.
فالذي يحصِّله اليوم ما كان على باله أمس، ولم تكن نَفسه تعلمه أمس، والذي يحصِل عليه في الغد ما كان اليوم على باله ولا تعلمه نفسه اليوم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17] فَضلُ الرحمن (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17] وإنَّها الجنةُ أبداً، أو النار أبداً، هذا المُستقبل القَطعي لجميع المُكَلَّفين، نار أبداً، وجنة أبداً (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [ الحديد:20].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5] -لا إله إلا الله-.
فنسألُ الله أن يجعلنا من أهل القرآن، وينظر إلينا بما نظر إليه إلى أهل القرآن، ويجعل الأيام المُقبلة علينا من أبرك مواسم العشر والحج على جميع أمة النبي محمد؛ موتاهم وأحياهم، في شرق الأرض وغربها، ذكرهم وأنثاهم، عربيهم وعجميهم، إنسيهم وجنيهم.
اللهم اجعلها من أبرك الأيام، اللهم اجعلها من أزهى الأيام، اللهم اجعلها من أسعد الأيام لنا ولأمة حبيبك محمد ﷺ في كل خاص وعام، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، يا ذا العطايا العظام، والمِنَن الجِسام، يا رب الأنام، يا من يُعطي ولا يبالي، يا من يجود ولا يبالي، يا من يكرم ولا يُبالي، يا مولى الموالي، أكرمنا بالنقاء، وأدخلنا مع أهل التقى، و أصلح شؤوننا بما أصلحت شؤون الصالحين حساً ومعنى.
بسرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
28 ذو القِعدة 1445