تفسير سورة طه - 2 - من قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} إلى الآية 16
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
{ (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}
مساء الإثنين 29 جمادى الآخرة 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله الواحد الأحد، الحيّ القيّوم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامعِ الأوّلين والآخرين ليوم المِيقات المعلوم، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا وقُرَّةَ أعيننا مُحمّداً عبده ورسوله، الهادي إليه والدّالّ عليه، والموصوف من قِبَلِه بأنه ذو الخُلُق العظيم، والمخاطَب منه بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53]، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم النّشور، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَعادن الهُدى والنّور، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصّالحين.
أمّا بعد،،،
فإنّنا في نِعمة تأمّلنا لكلام ربّنا، وتدبّرنا لتنزيله، وإصغائنا لخطابه، ومُقابلة تَكرُّمه علينا، وتَنزّله بالتّفهيم والتّعليم والتّوجيه والإرشاد؛ بالإصغاء والاستماع والتّفهُّم، ناويين أن نُنفِّذ أمر الله، ونَعمل بِوَحْيِهِ وتَنزيله إلى مصطفاه، حقَّقنا الله بذلك، وسلكَ بنا أشرف المسالك.
انتهينا في سورة طه، وقد مررْنا على أوائلها، في خطاب الحقّ جلّ جلاله، في أظهر الأقوال لمعنى (طه (1))، وقد سَمعنا ما قال أهل التّفسير مِن أئمة الدّين، من الصّحابة والتّابعين وتابعيهم:
-
وأنه قيل فيه أنّه من أسماء الحقّ،
-
وقيل فيه أنّه إشارة إلى الطّاهر الهادي،
-
وقيل فيه أنّه قَسَم،
-
إلى غير ذلك،
ومِن أظهر ذلك أنّه من أسماء عبد الله محمد ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وأنّ الله خاطبهُ (طه (1)) أي: يا طه، (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3))، جعلنا الله وإيّاكم ممّن يخشاه، حتّى نَتذكّر بما أوحاه، خير الذِّكرى وأوسع التّذكرة، لنكون على تَبصرة فيما نَدين به ربّنا في الحياة القصيرة؛ فَنلقاهُ على خير حالة يَرضاها، ونَحوز بها رِضوانه الأكبر، ومُرافقة حبيبه الأطهر، اللّهمّ آمين.
يَقول الحقّ: هذا الذي تَتَلقّاه يا عبدنا محمّد، نازلٌ إليك حالة كونه (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) جلّ جلاله، ولم يَشركهُ في خلقها ولا خلق شيء منها أحد سُبحانه، فهذا الذي أنزل عليك هذا الوحي إذاً؛ فما أنت عليه وما تدعو النّاس إليه هو الحقّ الخالص الذي لا ريب فيه؛ لأنّ ما سِوى ذلك ليس آتياً من عند خالق الأرض والسّماوات، وأنت الذي تتكلّم بما يأتيك من ربّ الأرض والسّماوات، ويُنزِله عليك (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4))، العاليات المُرتفعات، بِصُنعٍ وإحكامٍ مُتقن؛
-
قال جلّ جلاله وتعالى في علاه: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12] مُحكمات الصُّنع، مُتقنة.
-
وتبقى إلى أجلِها المعلوم حتّى يأذن خالقها بتشْقِيقِها فَتَتَشَقّق، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:1-2].
-
(يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) [الطور:9-10]، فسبحان الباقي الواحد الحيّ القيّوم، الذي لا يتغيّر ولا يزول.
قال تعالى: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) وعلِمنا ما دلّت عليه آيات الكتاب والسّنة مِن المعنى التّنزيهي التّقديسي للرّبّ جلّ جلاله، في كونه (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ)، يُدبِّر الأمر كما يشاء، جلّ جلاله وتعالى في علاه، وأنّ ذلك المعنى اللّائق به، بَعيد عن ما يُنازل خيالات المخلوقين وتَصوّراتهم، فالحقّ أكبر وأجلّ مِن أن يُتخيّل بخيال أو يُتصوّر في بال، وكُلّ ما خَطَرَ على بالك فالله بخلاف ذلك، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
(الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) فقد استوى على العرش على الوجه الذي قَاله، وبالمعنى الذي أَراده، وهو أجلُّ من أن تُكيِّفُه عقولنا، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)) ما تحت الأَرَضِين.
قال تعالى: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)) فما الجهر إلا راجع إلى نَشاطكم، وإلى اسْتئناسكم وإلى ما يُنازِلكم، فَتَجمعون بين الجهر والسِّرّ، "مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ"؛ لَا لِيَسمع حاشاه جلّ جلاله؛ فهو يَسمع الخاطر الذي يَخطرعلى قلبك مِن قبل أن يَنطق لسانك، وهو السّميع بكل شيء.
-
(فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، كلّ ما أخفيْته في باطنك يعلمه، وما لم يَرِد على باطنك بعد ممّا سَيرِدُ يعْلمهُ،
-
(يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)؛ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، وليس هذا إلّا لله جلّ جلاله.
قال سبحانه: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ..(8)) لا معبود بحقٍّ إلّا هو، ومَن أفرده بالعِبادة بحقّ وصدْق فإنّه يُخلِص له في القصد؛ فكما أنّه يوقن ويتحقّق أن لا معبود إلّا الله، فكذلك يتحقّق بأن لا مقصود إلّا الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]، فلا يقصِد إلا وجه الله -جلّ جلاله- في جميع ما يَعبده به ويَقوم به، لا مقصود سواه.
-
ومن تحقق بذلك أيقن أنّه وعمله وما وُفِّق له وجميع ما حَوَالَيْه ممّا سوى الله لا يقوم بشيء منها بذاته قط، ولا وجود لها بذاتها، وأنّ الموجود الحقّ بذاته هو وحده؛ فلا موجود بذاته إلّا الله، وكلّ موجود سِواه فبِإيجادهِ ويَقبل العدم، وهذا عامّ لجميع الكائنات، كل موجود كان عدماً ويَقبل العدم، لو أراد أن يُعدمه المُوجِدُ لَأَعْدَمَه أيّ وقت؛ فلا موجود إذاً إلّا الله.
-
ومن تحقّق بذلك استحيا أن يَشهد غير الحقّ في أحواله وشؤونه، وحينئذ يُوقن ويتحقّق أن لا مَشْهُودَ إلّا الله، وكلّها مُندرجة في معنى لا إله إلا الله.
حقِّقنا اللّهمّ بحقائق لا إله إلا الله، ومَكِّنها من قلوبنا وأسرارنا، وأَحْيِنا عليها وتوفَّنا عليها، وأكرِمنا أن تكون خاتمة كَلِماتنا من الحياة الدّنيا لكلّ فردٍ منّا لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نُبعث إن شاء الله.
(اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8)) الأسماء الحَسَنة الجميلة، من كلّ اسم هو لله تعالى، سمّى به نفسه، أنزله في كتابه القرآن، وفي كُتُبِهِ التي أنزلها على الأنبياء، أو علّمه أحد من خلقه، أو استأثر به، كما قال نبيّنا في دعائه: "أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٌ هُوَ لَك، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِك"؛ معنى كلام نبيّنا أنّ الله -تبارك وتعالى- سمّى نفسه بأسمائه، وأَنزل في الكُتُب من أسمائه ما أنزل، وسمّى بها نفسه، أو أنّه عَلّم خلْقه، من يَختصّ مِن خَلقه بأسماء له سبحانه وتعالى: "علّمته أحداً من خَلقه" ووراء ذلك كُلِّه فله أسماء لا يَعرفها مَلَك ولا إنسيّ ولا جنيّ ولا غير ذلك، "أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَك"، وكُلّها حُسنى، وكذلك له الصّفات العُلى، صفات الكمال كُلِّها، وكُلّ ما وَصف به نفسه جلّ جلاله.
قال تعالى: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8))؛
-
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]،
-
ومن جُملتها ما ذكر لنا ﷺ: "أن لله تسعة وتسعين اسماً"، هكذا جاءنا في الصّحيحين، "مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة".
-
ثمّ جاءنا في بقيّة كُتُب السّنة عَدُّها، واختلاف الرّوايات أيضاً في بعض الأسماء؛ مِن عَدّها في رِِواية ولم يَعدّها في رِواية أخرى، والأمر واسع.
فنسأل الله بأسمائه الحُسنى وكلماته العُلى، أن يُنقِّيَ قلوبنا عن الشّوائب، وأن يَرزقنا الصِّدق معه في جميع الشّؤون، وأن يُثبِّتنا فيمَن يَهدون بالحقّ وبه يَعدلون، وأن يفرّج كروب المسلمين، وأن يَرُدّ كيد المُعتدين والظّالمين والغاصبين والمُفترين أجمعين، وأن لا يُبلِّغهم مُراداً فينا ولا في أحد من المسلمين، وأن يتوفّانا على الإيمان واليقين والمحبّة، وأن يَجمعنا بسيّد الأحبّة في أعلى رُتبة، اللّهمّ آمين. (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف:180].
يقول الله لحبيبه: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9)) في مُؤانسةٍ يُؤانس بها عبده المصطفى ﷺ، ويُذكِّره بأحوال مَن تَحمّل أعباء الرّسالة مِن قَبله من الأنبياء والمُرسلين صلوات الله عليهم، وما لَاقَوْه وما أُوذُوا به وما كان:
-
فيقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34] صلوات الله عليهم،
-
فعلى كلّ عاقل يعيش في هذه الحياة أن يَصدُق مع الله، ويُحقِّق حقائق إيمانه، ولا يهتزّ لشيء ممّا يجري؛ فإنّ كل ما يجري، أمثاله ونظائره قد حصلت فيما سبق،
-
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر:51-53]؛
فأيّ شيء حصل، فمثله وأشدّ منه قد حصل من قبل؛ والنّتائج محسومة:
-
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]
-
و(لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف:30]،
-
وَمَنْ أَظْلَمَ فعليه الويل، (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الجاثية:22]،
-
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]، وهكذا حُكْمُ الله وحِكمته في تَسيير الكائنات وما فيها.
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9)) أخباره وخبره وقصّته، وقد كرّر الله تعالى في القرآن قصّة موسى كثيرا، أكثر ما كرّر من قصص الأنبياء قصّة موسى، على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم، وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين.
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا ..(10)) بعد رُجوعه من مَدْيَن، اسْتأذن النّبيّ شُعيب، عمّه الذي زَوّجهُ ابنته، على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة والّسلام، أن يعود إلى أمّه وإلى أخيه هارون وإلى بلده وإلى أُخته، ويسير بأهله (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) [القصص:29]، (إِذْ رَأَىٰ نَارًا) وذلك أنّه في هذا السّفر، وقيل كان معه الخادم ومعه وَلد له أيضًا، وُلِد من زوجته.
فلمّا كان في ليلة مُظلمة وقد ضاعت الطّريق عليه أراد أن يَقْتَبِس، فَجاء بالقَبَس يُريد أن يُقْبِس ناراً فلم يَقْتَبس له شيء، فالْتَفَت وإذا بِنَار بديعة، شديدة الإنارة، قويّة، قال: (إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا)، مكانكم، لا تتحرّكوا بحركتي ولا تمشوا معي، اثْبُتوا في هذا المكان، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا)، آنَسْتُ:
-
أَحْسَسْتُ، رأيت، أبْصرت مع الحسّ والإبصار والرّؤية لهذه النّار،
-
وجدت في قلبي مُؤانسة أو شيئا يُطمئن، طيّب،
(إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي)، رجاءً، أرجو أن، (آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ)، أحمل شيئاً من هذه النّار في حَبل أو عصا وآتيكم به، (آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10))؛
-
أو لَعَلِّي أيضاً أجد من يَهدينا في الطّريق، ويَدلُّنا على مسارنا لنمضي إلى مَقصدنا في هذا الطّريق.
-
(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)) يعني أنّي لا أخلو من وُجود أمثال هذه الفوائد عند ذَهابي إلى هذه النّار، وليس معنى أُحصِّل واحد منها، أحصّل الاثنين أو الثلاثة، و لكن ما أخلو من شيء من هذا أجده،
-
(آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10))، أُحصّل الجميع، أحد يَهدينا ويأتي بالقبس ويهدينا للطّريق وما إلى ذلك.
وكان هذا إذًا من عجائب تسيير الله تعالى للشّؤون التي يُجريها في الخلق، أراد أن يُنبئ موسى وأن يُهيّئه لِمقام التّكليم الخاصّ الذي عُرِف به من بين الأنبياء ﷺ، أنّه كليم الله، جاءت بِبِداية القصّة أنه يُريد أن يُقبس، فما طلعت له النّار، يرى النّار يَأنس إليها ويطمئنّ، سبحان الله جلّ جلاله؛
-
ليكون سبباً لِحُصوله إلى هذا المقام الشّريف الذي هيّأه الله، فسبحان المُسبّب،
-
لا تدري، يُوصلك إلى ما أراد بأيّ سبب من الأسباب، وشيء يكون وراء الحِسّ ووراء العقل ووراء الفِكر،
لا توجد نار توصل إلى نبوّة أو رسالة، ولكن لمّا أراد الله يُوصل موسى إلى درجات، سبّب هذا السّبب، وأوقد هذه النار في هذه الشّجرة في مشهد موسى عليه السلام، قال: (لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)).
كما أنّه لمّا أراد هَلاك فِرعون وإذهاب طُغيانه من على الأرض، وأن تَحِقّ العَاقبة فيه وفي من اتّبعه، قال: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)، ما الذي حصل من الأسباب؟ قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص:6-7]، أين أمّ موسى لتُرْضِع موسى؟ وما علاقة هذا بأن يتحوّل المُستضعفين إلى أقوياء؟ وأن يُدكّ عرش هذا الباغي والطّاغي، سبب بعيد غريب، المُسبّب يَفعل ما يَشاء ويُدبّر بحكمة عظيمة، فوق عقول الإنس والجنّ والملائكة وكلّ المخلوقات؛
فحَقُّ المؤمن أن يستسلم لهذا الإله، وأن يَنتظر فَرجه وخيره، من أيّ سبب يأتي ومن أيّ باب، وأكثر ما يحْصل من الخيرات للعباد تأتي من حيث لا يَحتسبون، بل أكثر النّصُرات للأنبياء وللصّالحين في الغالب بعدما يحصل اليأس، وما يُظَنّ هناك سبب، يأتيه النّصر، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُنَجِّي مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110]؛
-
إذًا فلا تيأس، أنت أمام إيمان بإله قويّ، متين، قدير، عظيم، فَعّال لما يُريد؛
-
تَعلّقْ به، ثِقْ به، أخلصْ لوجههِ، اصْدق معه، توكّل عليه، اسْتند إليه،
-
لا تيأس، مادام إلهك الله، وأنت مؤمن به، وأَنْعِمْ بالله، جلّ جلاله.
يقول؛ فجعلَ هذا سبب، (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]، سَبَبُهُ، ومرّت السّنين، حتّى تأتِ الآن النّتيجة لهذا السبب، وجاءت نبوّة سيّدنا موسى، وجاء إلى فرعون، وحقّق الله تعالى ما سبق ذكره في إرادته، أنّه يريد هذا.
وتمّ ما أراده الله تبارك وتعالى، واشتد الأمر على موسى وقومه؛ وحتى أَذِنَ الله لهم أن يسْروا، (فَأَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الدخان:23] وسرى، وظن فرعون أنه سوف يستأصلهم وينهيهم، وأصبح، وقد سرَوا في الليل، فقال: وراءهم.. وجاء بجنوده، وحصل غرق فرعون، ودمَّرنا ما كان يصنع فرعون، وانتهت النتيجة؛ لكن بعد سنين طويلة! ولهذا:
-
أنَّ الله لا يعجل لعجَلة أحد من خلقه.. قضى أقضية، وقدّر قَدَر، كلها تأتي في أوقاتها بحسب حكمته.
-
لا يعجل لعجلة أحد من خلقه؛ فكُن مطمئن وواثق، وما قاله سبحانه وقاله رسوله؛ فهو الحق الصدق الصِّرف الذي لا يتخلف أبداً.
أما ما يقوله المحلِّلون، أما ما يقوله المفكِّرون، يقولون شيء ينقص وشيء يزيد، وشيء يأتي وشيء لا يقع أصلاً! كلام خلق، لكن إذا هو تكلّم، إذا رسوله تكلم؛ حق حق!
قال سيدنا عبد الله بن رواحة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروفٌ من الفجر ساطعُ
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أنَّ ما قال واقعُ
فقلوبنا به موقِنات أنَّ ما قال واقعُ..
ولما جاءت الشدة في الأحزاب، وضاق الخناق، وظن الناس الهلاك:
-
وقال المنافقون: (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) [الأحزاب:12-13] هذا حال المنافقين؛ فلا تُشابههم.
-
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ) شابههُم، انظر إلى حال المؤمن (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22] وجاء نصر الله.
وفي ليلة هبت الرياح على القوم وفرُّوا وهربوا، ورجع النبي ﷺ بعد أن فرَّ القوم إلى المدينة، وضع لامَّة الحرب -لِباسُه- ودخل سيدنا جبريل يقول: يا رسول الله هل وضعتَ لامَّة الحرب؟ قال: نحن الملائكة لم نضعها بعد..! أشار إلى بني قريظة. وقال:
-
اخرُج إليهم -هؤلاء الذين خانوا العهد- كانوا يُدخِلون المشركين من عندكم ليقتلوكم.
-
أخرج إليهم، فإني نازلٌ إليهم.
رد النبي ﷺ ثيابه ونزل وأمر المنادي ينادي: ألا لا يُصلينَّ أحدٌ منكم العصر إلّا في بني قريظة. حتى لما خرج من بيته يسأل بعض الصحابة -الذين يقومون- قال: هل مرّ أحد هنا؟ قالوا: دحية الكلبي على فرس، قال: ذلك جبريل؛ تصوّر بصورة دحية ومشى ومضى.
فكان المبلِّغون يبلِّغون: لا يصلِّي أحد منهم العصر إلّا في بني قريظة، فالذين وصلَهم البلاغ متأخر؛ خرجوا -أدركهم الوقت- (العصر يخرج، تغرب الشمس) فاجتهدوا في كلام النبي، اجتهدوا في كلام النبي ﷺ:
-
جماعة منهم قالوا: أنه لا يريد أن نؤخر الصلاة عن وقتها، أراد أن نستعجل بالخروج، أراد أن لا نتأخر في المدينة؛ فامتثلنا أمره، فسنصلِّي قبل أن تغيب الشمس علينا.
-
قال الآخرون: إنه قال لا تصلُّوا إلا في بني قريظة، فلا نصلِّي، سواء أن غربت أو ما غربت، جاءت أو بعدت؛ ليس لنا في الأمر شيء..!
كلهم يجتهدون في تنفيذ أمره، في تنفيذ ما دلّ عليه كلامه، فهؤلاء صَلّوا وهؤلاء مَشَوا، والمتأخرون منهم أخّروا العصر والمغرب، ما وصَلُوا الى بني قريظة إلّا بعد العشاء، وصلَّوا وقضوا العصر.. أخبروا النبي بعمل الفريقين، لم يكن في أحد الفريقين صاحب هوى، ولا صاحب لعب بالدين؛ فلم يعنِّف أحداً؛ فهذا أساس المذاهب الحقَّة الصحيحة السُنية التي أخذت المعاني من (الكتاب والسنة) بلا هوى من أهلها؛ هذا هو معناها.. فلم يعنِّف أحداً، وقَبِل مِنَ الجميع اجتهادهم في معنى كلامه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)) من يهديني الطريق، فلما أتاها؛ وصل إلى النار؛ وإذا بالنار غير النار! أمرها غريب، فبقي يتعجب فيها:
-
لا ضوءُها مثل ضوء النار،
-
ولا لونها مثل لون النار،
-
والشجرة خضراء خُضرتها قوية، والنار تلتهب فيها، كيف أُوقدت النار، وكيف هذه النار لا تحرق الشجرة..!
بينما هو واقف يتعجب في الآيات؛ وإذا بالنداء من الرحمن، إذا بهِ يسمع نداء ربه -سبحانه وتعالى- ويَسمع بكُلّيةٍ من كل جانب -لا مثل صوت الناس، ولا مثل كلام الخلق- فلما نودي: (يَا مُوسَىٰ (11))، يسمع.. عُمرُه ما قد سمع من قبِل، ولا سمع مثله، (يَا مُوسَىٰ) لا هو من فوق ولا من تحت، ولا عن يمينه ولا عن شماله؛ ومظهره ومجْلاه؛ أنه من الشجرة وحاشا الله -تبارك وتعالى- أن يَحِلَّ في شيء، وأن يَحِلَّ فيهِ شيء؛ ولكن هكذا كانت آلة تبليغه نداء الرحمن..
فكان يسمع بكُلّيته: (يَا مُوسَىٰ)، لبيك من المنادي؟ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) الله! امتلأ.. لأنه مُهيأ ومُؤهّل لمقام النبوة والرسالة وللخطاب الرباني،
-
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تحلّى بكمال التواضع والأدب الذي يليق بالعبد مع الرَّبّ الذي يريد أن يُكرمك، أنت في موطن إكرام.
-
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أخرِج نعليك من رجليك، فإني جعلتُ بينكم يا خلقي على ظهر الأرض إذا وفدتم على عظمائكم وملوككم؛ أن تخلعوا نعالكم!
-
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أنت أمام خطاب من ملِك الملوك والربِّ الأعلى،
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) فأهوى سيدنا موسى إلى نعليه؛ فخلعهما.. (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ): المُطهَّر؛ الذي اخترتُهُ من بين الاودية أن أُنبئك فيه وأُخاطبك فيه وأُكلمك وتَسمع كلامي فيه، (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(12)):
-
هو اسم الوادي أيضاً، اسمه طوى.
-
(إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) اخترته لأُناجيك فيه؛ فتشرَّف بذلك، فتقدَّس الوادي؛
إذاً فبقاع الأرض وإن كانت كُلها أرض وكلها أرض الله؛ ولكن تختلف بقعة عن بقعة، يختلف مكان عن مكان، يختلف المسجد عن محل سينما، عن محل قمامات، تختلف الأماكن! ومنها ما هو مقدّس.
(إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) -لتكليمي وخطابي، مَيّزتك- (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13)) ألقِ سمعك، فصار كُلُّه سمْع -عليه صلوات الله وتسليماته- (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) لِما يُلقى إليك، ويشار به عليك: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) لا طريق لمَلَكٍ ولا إنسيّ ولا جنّي، ولا شيءٍ من الكائنات أن تقرُب منّي، ولا أن تنال رضاي؛ حتى تعلم عظمتي وألوهيتي، وأنه لا إله إلا أنا؛ (فَاعْبُدْنِي) أدِّ حقّ العبادة، تقرَّب إليّ بشهود عظمتي وجلالي وألوهيتي وكبريائي، وأنني الذي استحق العبادة وحدي دون مَن سواي: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14))؛ إشارة إلى روحٍ من أرواح العبادات: الصلاة، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) أدِّها على الوجه الأتم الأكمل، (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) ما معنى لذكري؟
-
لتكون ذكَّاراً لواحد، هذا معنى من المعاني..
-
لتأنسَ بي كل ما ذكرتني فتقيم الصلاة، معنى من المعاني..
-
(لِذِكْرِي)؛ لذكر المواقيت التي وقّتُّ فيها الصلاة إذا جاءت، هذا معنى من المعاني..
-
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) لتتوسع في معاني ذكرك لي، حتى يشمل ذكري ذكرك إياك؛ حِسّك ومعناك، وتتفانى في عظمتي؛ هذا معنى عظيم.
-
فوق ذلك كله (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) لتنال ذكري إيَّاك، فأذكُرك أنا، بما أنا أهله.. وحينئذٍ تحوز: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
يقول أهل اللغة: قد يُضاف المصدر، -الذكر هنا: مصدر- قد يضاف إلى الفاعل، ويضاف إلى المفعول، (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي): لتذكرني -إذا أضيف إلى المفعول- لتذكرني أنت.. (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي): لأذكرك أنا، (لِذِكْرِي) لتنال ذكري -إذا أضيف إلى الفاعل- (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)؛ الله أكبر.
-
(وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] يا سلام!
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) هنا كان يقول بعض العارفين: إن أنواع عبادتنا لله -تبارك وتعالى- ما بين أقوال وأفعال وأحوال:
-
قال: فأعظم وأفضل الأقوال "لا إله إلا الله"، (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا)،
-
قال: وأفضل الأعمال الصلاة؛ الصلاة لله، والصلاة بالله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ)،
-
قال: وأفضل الأحوال طمأنينتُك بشهود الله؛ (لِذِكْرِي)،
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14))؛ لا إله إلا الله؛ لتفنى بي عمَّن سواي.
(إِنَّ السَّاعَةَ) -الموعد الذي حدَّدتُه لجمع الأولين والآخرين- (آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) -لا شك فيها- (أَكَادُ أُخْفِيهَا ..(15)) يعني:
-
أَخفيتُ تحديد وقتها، والإعلام بالساعة التي أريدُ أن أقيمها فيها عن الإنس والجن والملائكة.
-
(أَكَادُ أُخْفِيهَا) ففي معنى من المعاني على نسقِ كلام العرب (أَكَادُ أُخْفِيهَا) يعني: حتى عن نفسي، فكيف أخبر بها غيري، (أَكَادُ أُخْفِيهَا).
-
وجاء بالمعنى الآخر: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) يعني أُظهرها؛ لأنه يأتي من المتضادات.
-
(أَكَادُ أُخْفِيهَا) حتى لا يعلم أحد متى قُربها أو بعدها؛ ولكن جعل لها علامات تدل على قربها؛ لذا قال: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) أخفي الأمر بها أصلاً.
-
(أَكَادُ أُخْفِيهَا) في ذاتها حتى كأنها لا تقوم وهي قائمة، ولمَّا يكون أمر مُتيقّن ووقته مخفي فالهيبة منه أشد.
-
(أَكَادُ أُخْفِيهَا) حتى لا يُعلَم عنها إلَّا اقترابها فقط، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1].
أخبِرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن الأمارات "قالَ فمتَى السَّاعةُ قالَ ما المسئولُ عنها بأعلمَ منَ السَّائلِ قالَ فما أمارتُها" قال: الأمارات كذا كذا وكذا، أي علامات قُربها.
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ)، يقول -سبحانه وتعالى- في الآية الأخرى، لحبيبه ﷺ وبارك وكرم عليه وعلى آله: (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) [محمد:18] أي علاماتها:
-
ولا تأتيكم إلا بغتة،
-
تحديد نفس الأمر؛ لا يعلم به إسرافيل النافخ في الصور ولا غيره!
-
إلا هو -جل جلاله وتعالى في علاه- إذا جاء قال: انفخ في الصور (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر:68]
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا..(15)) قالوا وأيضاً من جملة معاني الخفا فيها: تطاول المُنكرين لها، حتى ينكرونها ولا يؤمنون بها؛ مع أنَّ خلْقهم وإيجادهم وإيجاد الكائنات من حولهم دلالات على أنَّ ما قاله الأنبياء حق، وأنه صدق، ولا بدّ تأتي هذه الساعة، ولكن مع ذلك يُكذّبون ويُنكرون، ويأتي المؤمنون بها ويتناسونها وكأنها غير موجودة ولا يستعدون لها.
(أَكَادُ أُخْفِيهَا)؛ لأجل تكون النتيجة بعد ذلك إذا جاءت يأخذ كلٌّ جزاءه؛
-
(لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15))،
-
(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم:39-41].
-
يقول: (لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ) -وعندها- (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
-
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
اللهم أرنا ما يسرُّنا ولا تُرِنا ما يَغمُّنا، وسامِحنا فيما جنينا، واعف عنا.
قال: (لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)) فلا يَصُدَّنك عنها -يخاطب الله الأنبياء- ؛ لتعلموا مهمة واجب مسارهم في الحياة:
-
أنكم تصادفون الملْحدين والمكذّبين والمكابرين،
-
لا يهزونكم ولا يستخفُّونكم،
-
ولا تلتفتوا إليهم،
(فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا (16)) من المكذبين بالساعة، يغْرونك بالشهوات، يغرونك بالمال، يغرونك لتتخلى عن دينك وإيمانك، (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا) عن الاستعداد لها والتهيؤ لحضورها، (مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، وكل من لا يؤمن بالساعة فهواه متحكِّم عليه.
إنما يُخلّص المكلفين من الإنس والجن من سُلطة الأهوية المُردية عليهم، يُخلِّصهم من سلطتها:
-
إيمانهم بالساعة،
-
والمرجع إلى الله -تبارك وتعالى-،
-
والدار الآخرة،
وعلى قدر قوة الإيمان بالله؛ يتغلّب على الهوى، حتى أهل اليقين التام يملكون هواهم بدل أن يملكهم الهوى، ويكون هواهم تبعًا لما جاء به الهادي إلى سبيل السواء، القائل في قوة الإيمان -أي كماله- : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به". وكل من لم يتمكن من قلبه الإيمان بالساعة والإيمان بالآخرة والإيمان بالمصير؛
-
فهواه مُغَلَّبٌ عليه،
-
وهواه غالب عليه،
-
ومسلَّط عليه.
كما قال -الله تعالى- في وحيه لداود: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26]، لما نسوا يوم الحساب تغلّب عليهم الهوى، فضلوا عن سبيل الله.
(فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16))، فمن أنعم الله عليهم بالإيمان به وبالرسل واليوم الآخر والساعة؛
-
فحقٌّ لهم أن لا يبيعوا أنفسهم لأحد ممن على ظهر الأرض، في أفكارهم ولا في خططهم، يصدونهم عن حسن استعدادهم للقاء الله.
-
عليهم أن يعرفوا المنزلة التي أنزلهم الله فيها: هداهم إلى الحق وإلى الهدى، فلا يكونوا أتباعًا لمن لا يؤمن بالساعة؛ في فكرٍ ولا في مسلكٍ يخالف شرع الله كائنًا ما كان.
(فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فإن فعلت ذلك؛ تردى، تهلك، إن اتبعتهم هلكت، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران:149-150] وإن نصرتم الله ينصركم، (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
فاجعلنا من أنصارك يا رب، وانشر نور النُّصرة لك مع الصدق والإخلاص في قلوبنا وقلوب أهالينا، وأهل مجْمعنا ومن يسمعنا ومن يتابعنا وأهاليهم ومن في ديارهم، وانشره في الأمة يا رب يا رب.. وأَلهِم الذين يقاتلون الكفار المعتدين الظالمين الغاصبين؛ أن لا يكون لهم قصد في قلوبهم إلا أن تكون كلمتك هي العليا يا الله، وإذا حقّ ذلك فهم المنصورون، المنصورون:
-
من نصروا الله،
-
من أرادوا وجه الله دون سواه.
قال: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16)) وبدأت المخاطبة الربانية الرحمانية بين موسى والكليم، ما تلك بيمينك.. إلى آخرها.. ما أعجبها وأطيبها!
الله يُنعم علينا بلذة المناجاة ما دمنا في هذه الحياة، ويذيقنا لذة المناجاة قبل أن نخرج وتأتينا الوفاة، يا رب لا تحرمنا لذة مناجاتك، وأسعدنا بقرب أهل مودّاتك، وزدنا من خيراتك ما أنت أهله ظاهرًا وباطنًا، وعجّل بتفريج كروب المسلمين.
اللهم بارك لنا وللأمة في شهر رجب المقبل علينا، "بارِك لنا في رَجبٍ وشعبانَ وبلِّغنا رمضانَ" واجعلها أشهر فرج للمسلمين، أشهر غياث للمسلمين، الطُف بنا وبالأمة فيما تجري به المقادير، كن لنا عونًا ونصيرًا في كل ما إليه نصير، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
03 رَجب 1446