تفسير سورة طه - 1 - من أول السورة: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} إلى الآية 8
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8))
مساء الإثنين 22 جمادى الآخرة 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله رب العالمين، مُنزِل الذكر الحكيم على عبده الرؤوف الرحيم، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وأصحابه والثابتين على منهاجه القويم، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مُختاري ومُنتخبي إلهنا العظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد..
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتدبُّرنا لآياته وتنزيله وتعليمه، وما أوحاه إلى قلب حبيبه خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، انتهينا إلى أوائل سورة طه -صلى الله على سيدنا طه- فمن المشهور بين الأمة أنه اسم من أسمائه الكريمة -عليه الصلاة والسلام- بينما يقول:
-
بعض أهل التفسير: هو من أسماء الحق،
-
وبعضهم يقول قسم،
-
وبعضهم يقول: ياء النداء،
-
وبعضهم يقول هو إشارة إلى اسم الطاهر الهادي فيقول: (طه) أي يا طاهر يا هادي.
-
ويقول من يقول: إنه خطاب بمعنى يا رجل، إلى غير ذلك مما ذكروا في معاني طه.
ومن المعلوم أن الله أتبعه بالخطاب له فهو أيضًا يتناسب مع أن يكون اسم من أسمائه ﷺ.
بسم الله الرحمن الرحيم (طه(1))، يا عبدنا الطاهر الهادي، يا من سُمّي بـ "طه"، (طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)):
-
يقول أنت صاحب المُهمة الكبيرة في ختم النبوة والرسالة، وأنزلنا عليك القرآن تذكرة لِمن يخشانا؛ وهو كل من عرَف الله، وكل من أُكرِم بمعرفة الحقيقة أنه عبدٌ للإله الذي برأ الخليقة -سبحانه وتعالى- فاكتسى بذلك هَيبة، هيبةً لله واستعدادًا للقائه فخافه وخشيه، وهؤلاء صنف لا يزال الحق تبارك وتعالى يُبديهم في الأمة إلى آخر الزمان، فضلًا من الله؛ بل وكثَّرهم في أمة نبيه محمد ﷺ أكثر مما أوجد أعدادهم في الأمم السابقة.
-
وكان من معاني (لِتَشْقَى (2)) أي: تتعب، وذلك أن تعبه ﷺ النفسي كان من إنكار المُنكرين وتعرُّضهم لعذاب الأبد ولهلاك الأبد، وخشيته على أمته أن يَقِلّ فيهم المهتدون والمنتفعون والمرتفعون والمُدركون للحقيقة، فبيَّن الحق -تبارك وتعالى- له أنهُ لا يكون شيءٌ ذلك من أمته؛ بل سيكثر وينتشر أمر دينه في الأمة، حتى يَعُم الشرق والغرب، ويَعُم العرب والعجم والإنس والجن، ويُحفَظ في هذه الأمة على مدى القرون.
-
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3)) أي: لكن تذكرةً لمن يخشى، وسيتوفر أهل الخشية في أمتك على مدى القرون، حتى جاءنا في الخبر:
-
"أمّتي كالمطر لا يُدرى خيرٌ أوله أم آخره"،
-
وجاءنا أيضاً: "في كل قرن من أمة سابقون"،
-
وجاءنا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم، لا يضرهم من خذلهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" فسلّى الحق تعالى نبيهم ﷺ.
-
كذلك كان من المعاني التي تحدّث عنها المُفسِّرون في (طه) ما كان يُكثِر ويطيل من القيام -عليه الصلاة والسلام- حتى يُراوِح بين رجليه ويطأها بأحدهما ويرفع الأخرى ويزاول بين القدمين، فقال له الحق: (طه) بمعنى أمر من الوَطئ، أي طِئي الأرض برجلك معًا؛
-
(طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2))؛ لتتكلَّف في شأن القيام به فوق قدرتك وطاقتك.
-
(طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى(2))؛ لتتعب (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3))
(طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى(2)) وذلك أن أبا جهل وبعض المشركين معه أخذوا يقولون: إنما نزل عليك هذا القرآن، وتترك دين آبائك لتشقى وتتعب، انظر ما يُنازلك من شظف العيش وتعب في الحياة فقال الله: (طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى(2))، إنما يتصوَّرون باطلًا من الشقاء؛
-
وإن الشقاء بعيدٌ عنك وعن من اتّبعك؛ فأنت أصل السعادة ومظهر السعادة وأنت أسعد الخلق،
-
وأنّ حقيقة السعادة لأي مخلوق أن نتعرّف إليه، وأن نُكرِمه برضانا وقُربنا،
-
وإن هؤلاء لا يعقِلون حقائق السعادة ولا هذا المعنى الثابت القوي القويم الصادق الحق الدائم.
لا سعادة على الحقيقة لمخلوق إلا بمعرفة الخالق ومحبته وتعظيمه، وبالنسبة للمكلّفين امتثال أمره -جلّ جلاله- واجتناب نهيه، هذه حقائق السعادة وبها نسعد، أسعَدنا الله بأعلى السعادات.
والذين يظنون أن السعادة في توفر المال أو في صحة الجسد أو في توفر وسائل الراحة كما يسمونها؛ واهمون وخاطئون، وإنّ كثيرًا مِمَن يعيش على ظهر الأرض من مُلاّك الأموال يعيشون من أتعس الناس نَفْسًا وحِسًّا وشعورًا وهدوءًا، وهم أبعد عن الطمأنينة، وهم أبعد عن الهدوء، وهم أبعد عن حقيقة الراحة، يعملون ما شاءوا من مُشتهيات الأبدان مأكلًا أو مشربًا أو مسكنًا أو مركبًا أو منكحًا أو غير ذلك، ولا يزدادون إلا تعبًا، ولا يزدادون إلا قلقًا، ولا يزدادون إلا ضيقًا.
فما السعادة بحقيقتها في أموال ولا في تيسير أسباب ولا في مُلك ولا في شيءٍ من هذه الظواهر والمظاهر؛ من أُكرم من قِبل خالقه بمعرفته تعالى وتحقيق العبودية له والقيام بأمره؛ فهو المسعود وهو صاحب السعادة وتظهر الحقيقة: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105]، فمنهم شقيٌ وسعيد؛ فليس السعيد فيهم بصاحب المُلك في الدنيا، ولا بصاحب المال في الدنيا، ولا بصاحب الجند والعسكر في الدنيا، ولا بصاحب الأجهزة والاختراع في الدنيا؛ ولكن من مات على "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، من مات على الإيمان، من سلِم من النار وأدخل الجنة؛ (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
إذًا فلا نسمح لإبليس وجنده أن يلعبوا علينا في فلسفة السعادة والشقاوة كيف هي، وأن يقولون أن سعادتنا بيدهم أو عندهم ومما في أيديهم؛ لا والله، بل جميع الكافرين على ظهر الأرض أشقى الناس، كل من كُتِب عليه أن يموت كافرًا فهو من أشقى الناس وأتعس الناس ولو مَلكَ الدنيا بما فيها، وإنما يزدادون إثمًا بأموالهم و بمُلكِهم، وهو صورةٌ لا حقيقة لها في السعادة ولا في السرور والأُنس والحُبور، يفعَلون ما يَفعَلون، ثم يَبحَثونَ عن الراحة فلا يَجِدونَها، ويَلجَأونَ إلى المُسكِرات والمُخَدِرات؛ وما يزدادون إلا تعبًا وأمراضًا حِسِية فوق المرض النفسي، ويحاولون بالمُجون وبالأغاني أن يُسَلّوا أنفسهم، ولا سَلوَةَ لمخلوقٍ انقَطَعَ عن الخالِق: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)).
لا نَحتاج إلى أحدٍ من أهل الشَّرق والغَرب يُعَلِّمنا ما معنى السعادة وما معنى الشقاوة وبمَ تُكسَب السعادة، الله الخالِق عَلَّمَنا ذلك، وأرسلَ الرُّسُلَ بذلك، وبَيَّنَ:
-
أن السعادة: أن يَرضى عنك.
-
أنَّ السعادة: أن يَتَعَرَّفَ إليك، فَتَعرِفَه.
-
أنَّ السعادة: أن تُدرِكَ الحقيقة في أنك عَبدٌ مَخلوقٌ وتُوَفَّق لِطاعَتِه.
لِيَكون مآلُك نَعيمُه الأعظَم ورِضوانُه الأكبر وَجودُهُ الأفخم، "مما لا عَينٌ رَأَت ولا أذنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَر"؛ هذه السعادة.
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ)، عَبَدَة الأهواء، عَبَدَة الأنفُس، عَبَدَة الشَّهوات، عَبَدَة الأصنام، عَبَدَة الأبقار، عَبَدَة النجوم، عَبَدَة ما يُسَمونه عِلم، عبدة الرؤساء، عبدة بعضهم البعض، (مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ) [هود:106-109] قد عُبِدَت هذه الأشياء كُلَها في طوائف من قَبلهم، فماذا حَصَل لهم؟ هَلَكوا في الدُّنيا، وكُل من بَلَغَتهُ دَعوةَ الله فَأباها هَلَكَ في الآخرة إلى الأبد وشَقِي شَقاوَة الدوام -والعياذ بالله تعالى-.
والمَوجودين على ظَهرِ الأرض (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) [هود:109] مَن عَبَدَ الهَوى، مَن عَبَدَ الشهوة، مَن عَبَدَ الاكتشافات، مَن عَبَدَ السُّلُطات، كُل مَن عَبَدَ غير الله؛ فلابُد يُوفى نَصيبهُ كامل مِن الهَلاك، من الشقاء -والعياذ بالله- (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ)؛ ولا يَسعَد إلا مَن عَبَدَ الله، اللهم أعِنّا على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عِبادَتِك.
(طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3)) اللهم اجعَلنا ممن يَخشى، واجعَل القُرآنَ تَذكِرَةً لَنا، هذا القُرآن الجامِع لأسرار الكُتُب المُنزَلَة، الواسع في المعاني والمَعارِف، نِعمَةَ الله تبارك وتعالى علينا؛ (تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3)) تُذَكِّرُهُ:
-
حَقائِق الأشياءِ والأمور،
-
تُذَكِّرُهُ حقائق ما جَرَى في عالَم الأرواح.
هذه السورة، جاء في روايات عند ابن خُزَيمة وعند الطبراني وعند البيهقي وغيرهم -أئمة الحديث- عنه ﷺ أنه قال: "أن الله قَرَأ طه قَبلَ أن يَخلُقَ آدم بألفي عام"، بعد أن خَلَقَ المَلائكة وخَلَقَ السماوات وقَبل ما يُكَوِّن أبونا آدم بألفي سَنة، أَسمَعَ المَلائِكَةَ سورة طه، وفي رواية: "طه ويس"، فلما سَمِعَت المَلائِكة أو قد أعلَمهُم الله أنه من الوحي الذي سَيُنزِلهُ إلى الأرض على الأنبياء لأُمَمِهِم، فَلَما سَمِعَت المَلائِكة قالت: "طوبى لأُمَةٍ يَنزِل عليها هذا، طوبى لأُمَةٍ تَقرَأُ هذا، طوبى لأُمَةٍ تَتَكَلَمُ بهذا"؛ فكانت أُمَّةُ محمد، لم تَنزِل سورة طه على أحد من الأنبياء حتى جاءَ نَبِيُنا خاتم الأنبياء، ونَزَلَت عليه طه بمكة المكرمة.
يقول الله تبارك وتعالى: (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3))، إنما يَخشى مَن عَرَف، ومن عرف؛ فَمِن ضَرورَة المَعرِفة: الخَشية والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال، فعلى قَدرِ مَعرِفَة الله تَخشاه، على قَدرِ معرفة الله تَرجوه، على قَدرِ مَعرِفَتِك لله تُحِبه، على قَدرِ مَعرِفَتك لله تُعَظِّمُه وتُقَدِّسه وتُسَبِّحُه وتُنَزِّهُه -جل جلاله وتعالى في عُلاه-، يا رب تَعَرَّف إلينا وَوَفِّر حَظَنا من سِر المَعرِفة، وهي مواهب كبيرة خصَّ الله:
-
أنبياءه وملائكته منها بالنصيب الوافي،
-
ثم جَعَلَ حَظًا وافِرًا للصِديقين والمُقَرَبين،
-
ثم أَكرَم عُمومَ المُؤمنين بنصيبٍ من هذه المعرفة،
ومَعرِفَتهم من أولهم إلى آخرهم هي بالنسبة لذاتِ ربنا وعَظَمَتِهِ كلا شيء، سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، لا إلٰه إلا هو، فيا رب وَفِّر حظنا من هذه المعرفة الغالية الرفيعة العالية الشريفة العظيمة الكبيرة الجسيمة، يا حي يا قيوم.
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3))، أنزلنا عليك هذا القُرآن فَنُزِّلَ (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)): جمعُ عُليا؛ عُليا وعُليا وعُليا، كما يَجمع الدنيا والدنيا على دُنا، ويُجمَع كُبرى وكُبرى وكُبرى على كُبَر. عُلى: السماوات العُلى العاليات، جمع عُليا، (خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى). وهذه النقطة الكبيرة التي يجب أن تعمل فيها العقول والبصيرة:
-
ما درجة مخلوقين أمام مَن (خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4))؟
-
كيف يُصغى لمخلوقٍ ولا يُستَمَع لِخالِق الأرض والسماوات؟!
-
كيف يُقبَلُ مِنهاج مَخلوقٍ ويُرَدُّ منهاج الذي تَفَرَّدَ بِخَلق السماوات والأرض؟
-
ليس في الذين يَضَعون الأنظمة للناس والقوانين من خَلَق، كيف يُطاعون ويُتَّبَعون؟ بأي استِحقاق؟!
يقولوا لنا نحنُ تَعَلَّمنا وعَرَفنا أحسن منكم، اتبَعونا كونوا عبيد لنا! أنتم مَخلوقون مثلنا: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [آل عمران:64]؛ الحَقُّ في التشريعِ والأمر والنهي للخالق: (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4))، وغيرهم (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، أي بلاد هُم خَلَقوها؟ أي قارَّة هم خلقوها؟ أي مدينة هم خلقوها؟ (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ)، (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4] -جل جلاله-.
فهذا شأن الألوهية والربوبية، وفيه شَرَفُ المؤمنين وأحقيتهم، وأنهم أهل الحق دون سواهم، من جميع المشركين والكافرين والفاجرين، يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا)، هل نَزَل عليهم من الله أي كتاب؟ (فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) [فاطر:40]؛ كُلُهم ساكنين في أَرض، من يُمسِكها وفَوقهم سماء؟ من يُمسِكها؟! ومَع ذلك من دون أن تَزول هذه الأرض، زلزلة قليلة منها يُنهيهم، زلزلة قليلة من زَلزَلاتِها يُنهيهم الله، من دون ما تزول السماء، صاعقة من صواعقها تُفنيهم، فلماذا يُكابِرون؟ ولماذا يُريدونَنا أن نَرُدَ وَحي رَبِنا ومَنهَج رَبِنا وتعليم رَبنا لَهُم؟! مِن أَجلهُم! مَن هُم؟!
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41] -جل جلاله وتعالى في عُلاه- هكذا يقول لنا جل جلاله: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا) هاتوا أي دَليل واضِح صحيح منطقي، (أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4].
فالحقُّ ما قال الله، وما أوحاه إلى مُصطَفاه، والحقُّ ما جاءَ به محمد ابن عبد الله، يا ربنا أنت الحقَ و وَعدُكَ الحق وقَولك حَق و القرآن حَق والنبيون حَق ومحمد ﷺ حَق والساعةُ حَق، وكُل أصناف الكُفر باطِل، كُل أصناف الفُسوق باطِل، الله هو الحَق.
(تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ)، بمظهرِ رَحمانيتِه؛ خلق وكَوَّن وأبدع وأتمَّ وأتقن، وخلقكم من عدم وأتاكم أسماع وأبصار وقلوب وأفئدة وعقول -جل جلاله- وأنزل كُتب وأرسل رُسل، ماذا تريدون بعد هذا؟ رحمن، (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5))، ويأتي العرش بمعاني:
-
يأتي بمعنى مبنى، وكان الله تعالى ذكر عن الملكة بلقيس لها (عَرْشِ)، وقال سليمان: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل:38]،
-
ويأتي (الْعَرْشِ) أعالي كل شيء،
-
ويأتي أيضاً (الْعَرْشِ) بالمُكَوَّن الذي كوَّنه الله تعالى فوق السماوات والأرض؛
فلو وُضعت السماوات والأرض، "والسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي لكانت في الكرسي كسبع دراهم مُلقاة بفلاة"، ماذا تساوي في صحراء كاملة سبع دراهم؟! "ولو وُضعت السماوات السبع والأرضون السبع والكرسي في العرش لكانت كسبع دراهم ملقاة في فلاة"؛ فكان هذا (الْعَرْشِ) محيط بالعالم أسفله، وكله خلق.
يقول تعالى: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5))، يقولُ صار كل شيء تحت قُدرته وإرادته وعلمه وإحاطته، فالعرش فضلًا عن كل ما دونه تحت حُكمه وهو من خلقه، يزيد فيه ما يشاء أو ينقص منه ما يشاء، حكَمَ بإبقائه فيبقى بحكمه بإبقائه، ولو أراد إفناءهُ لأفناه؛ فإذا كان هذا العرش، فما بقية العوالم كلها تحت القهر، كلها تحت الأمر.
(الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5))، هذا الاستواء، حقيقة المراد به من جميع الوجوه لله هو الأعلم، وكل ما تعلَّق من المعاني بالاستواء، كل ما تعلّق بمستحيل على الله؛ من حيث حصرٍ ومن حيث جسمانية وما إلى ذلك؛ فمردود وباطل، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، وكل ما لم يختلف ويتناقض مع أوصاف الحق تبارك وتعالى وأمر شرعه؛ فمقبولٌ من حيث العموم، وتعيين وتحديد ما أراد الله بذلك، فلا يُحيط به غيره سبحانه وتعالى؛ ولذا جاء جميع أهل السُّنة على الإيمان بأن (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5))؛
-
بالمعنى الذي قاله، بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي أراده سبحانه وتعالى، بالمعنى الذي قاله وعلى الوجه الذي أراده، أما ابتداع بذاته فهذا الذي يتناقض مع قُدسيته تبارك وتعالى، ومع عظمته، ومع عدم مُشابهته لشيء من الكائنات -جل جلاله وتعالى في علاه- ولم ترِد في كتابٍ ولا في سنةٍ ولا على ألسن أحد من الصحابة ولا التابعين عليهم رضوان الله ابتداع بذاته.
-
وهذا الاستواء هو أيضاً كمعنى المعية لا تتعلق بالذات فهو معنا أينما كنا، فهو المُنزّه عن الحاجة إلى مكان، كما هو المُنزّه عن الحاجة إلى زمان، كما هو المُنزّه عن الحاجة إلى أي شيء كان؛ فهو الغني عن كل شيء والمفتقِر إليه كل ما عداه -جل جلاله- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15] -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ فلا يحتاج إلى مكان ولا زمان، بل لا مكان إلا ويحتاج إلى الله؛ في إيجاده وإبقائه وتهيئته ووصفه، وإن أراد إفناءه سيفنيه -جل جلاله- ولا زمان إلا وهو محتاج إلى الله، والله غني عن الزمان وعن المكان وعن كل شيء -جلّ جلاله-؛
لذا لما سأل بعضهم إمام الحرمين، يقول له: ما دليل استغناء الحق تعالى عن المكان مع قوله: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5))، قال له: دليله (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ) [الأنبياء:87]، قال: كيف؟
-
قال: لما عرج الحبيب إلى العرش أثنى على الله، قال: "سبحانك لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، خاطبهُ بـ: أنت،
-
وسيدنا يونس في أعماق البحر وسط بطن الحوت قال: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ) [الأنبياء:87]، وخاطبهُ بأنت،
فأين المكان؟ أنت هنا وإلا هنا، خاطبه بـ"أنت" في أعماق البحر، خاطبه بـ "أنت" فوق السماء، لا يحتاج إلى مكان أصلًا -جل جلاله وتعالى في علاه-، وبذلك قال لنا: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة:7]؛
-
فالمعية والاستواء بمعاني الصفات والعظمة والإحاطة والعلم هذا صحيح ثابت لكل شيء،
-
وأما الذات العليَّة؛ هو الغني، وكل شيء محتاج إليه، مُفتقر إليه -سبحانه وتعالى.
يقول: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) -من كل الفضاء والكواكب والنجوم والموجودات- (وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6))، يُطلَق الثرى على التراب المُندَّى، وآخر ما يُوجدُ على ظهر الأرض، أندِية البحور؛ فهي (ثرى) وما تحتها قال أنها ملكه، خلقه، صنعته؛ (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6))، ماذا بقي في عقلك؟ الكل لهُ، الكل ملكه، الكل خلقه، الكل عبيده، الكل صنعته، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ).
(وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7))، يقول: ليس المرادُ مِن جهرك بالقول قراءة دعاء أو ذِكر لأجل تُسمِعهُ، إنه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، ولكن لمعنى غلب عليك؛ لاستئناس منك، لنشاطٍ مع قومك، فتذكرون الله بالجهر لا ليسمع؛ لأنه يسمع كل شيء، والجهر والسر عنده سواء -جل جلاله-.
(فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7))، أي وما هو أخفى من السر؛ فيطلقون السرّ على ما تُسارُّ به أخيك، ويكون أخفى منه ما تُكنِّه مما لم تُخبر به أحد، وما تُكنه مما لا تخبر به أحد أيضًا سرّ هناك أخفى منه وهو ما سيطرأ عليك، ما تعلم لا أنت ولا غيرك، قال الله كل هذه الأصناف في علمنا أحطنا بها: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، علِمَ ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لا يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)؛ فهذا العلم مخصوص بالله -جل جلاله-.
(فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللَّهُ) -بتعرُّفُه إلينا على لسان رسوله- (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ)؛
-
لا معبود بحق (إِلَّا هُوَ)،
-
وإذا عبدته وحده فمن حقك أن لا تقصد (إِلَّا هُوَ)،
-
وإذا تحققت بذلك علِمتَ أنك والكائنات مِن تكوينه؛ فلا موجود بذاته (إِلَّا هُوَ)،
-
وإذا تحققت بذلك فلا ينبغي أن يكون لك مشهود (إِلَّا هُوَ).
(اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8))، الحَسَنة الجميلة، وهي كثيرة منها تسع وتسعون، جاء ذكْر العدد في الصحيحين، وجاء ذكر الأسماء في كُتب السنن وفي روايات اختلاف في عدّها.
ومع ذلك فأسماءه الحُسنى غير محصورة، قال نبينا في دعائه: "أسألك بكل اسم هو لك، سمّيتَ به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، ومعنى كلامه ﷺ أن لله:
-
أسماء سمى به نفسه،
-
أسماء أنزلها في الكُتب
-
وأسماء علَّمَها من شاء من ملائكته، من أنبيائه،
-
وأسماء ما علِمها أحد غيره "أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، نسألك بأسمائك الحسنى وكلماتك العُلى أن تجعلنا ممن يخشع، وأن تجعلنا ممن يتذكر، تجعلنا ممن يتنوّر ويتبصر، تجعلنا في خواص أمة حبيبك الأطهر، وأن تجعلنا مِن رفقائه وأن تُسعدنا بلقائه وأن تحشرنا تحت ظل لوائه، يا حي يا قيوم، وأن تفرِّج كُربَ أُمته في المشارق والمغارب؛ فلا شقاء على كل من صدق مع الله، مِن كل مَن أراد وجه الله تبارك وتعالى، والشقاء على مَن قصد غير وجه الله كائنًا من كان.
اللهم تدارك أمة نبيك الذي أنزلت عليه القرآن، ارفع عنهم الظلم والطغيان وارفع اللهم عنهم السفك للدماء بغير حق، وارفع اللهم عنهم العدوان بغير حق، اللهم رُدّ كيد الظالمين في نحورهم واكفِ المسلمين جميع شرورهم، اللهم رُدَّ كيد أعدائك أعداء الدين في نحورهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم واشغلهم بأنفسهم واكف المسلمين جميع مكرهم وكيدهم، يا حي يا قيوم يا قوي يا متين يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد، تدارَك أمة نبيك محمد، أغِث أمة نبيك محمد واجعلنا في خيار أمة نبيك محمد، في أسعد أمة نبيك محمد، في أنقى وأتقى أمة نبيك محمد، بجاه نبيك محمد يا واحد يا أحد يا كريم.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
25 جمادى الآخر 1446