(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر من أول السورة ، إلى قوله تعالى:
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ (2) ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (3) وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٞ مَّعۡلُومٞ (4) مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞ (6) لَّوۡ مَا تَأۡتِينَا بِٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (9) }
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية بدار المصطفى بتريم
الحمدُ لله منزل الكتاب، ومبيِّنه على لسانِ سيد الأحباب، محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله والأصحاب، وعلى من والاه في الله واقتدى به إلى يوم المهاب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل حضرة الإقتراب، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين.
وبعد،،
فإننا في نعمة التأمل والتدبر لمعاني كلام ربنا وخطابه وتوجيهاته وتعليماته وإرشاداته وبياناته جلّ جلاله -وتعالى في علاه-، انتهينا من تأمُّل معاني سورة سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، الذي أسكن ذريته بوادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرَّم ليقيموا الصلاة، وقد لبَّى الله سبحانه وتعالى وأجاب دعوته وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وإلى منازلهم. وذلك البيت، إلى يومنا هذا وإلى أوقاتنا هذه، ورزَقَهم من كل الثمرات؛ فالحمد لله. ولا تزال الكعبة المشرفة ومكة والمدينة مواطن النصر والتأييد والتسديد والرفعة والعزة والكرامة إلى آخر الزمان؛ ذلك حكم الله وفضل الله وجود الله وقدر الله، الذي لا يستطيع أحد أن يغيره أو أن يبدله. ووصلنا إلى أوائل سورة الحِجر.
يقول سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ (الر)، والعجب أن هذه الحروف المقطعة نطق بها صلى الله عليه وسلم في أوائل سور معيَّنة على فصحاء العرب وبلغائهم وأرباب العمق فيه، وكل منهم لم ينكر شيئا من ذلك ولم يسأل ما هذا ولا ما معناه ووقفوا مندهشين أمام عظمة ما ينطق لسان المأمون من قِبَل الرحمن ﷺ.
(الر)، حروفٌ تدل على معانٍ عظيمات تكونت منها السورة وجميع القرآن وجميع الكلام، ومن جنس هذه الحروف كلام الناس أيضا ولكن لا يستطيعون بمجموعهم أن يأتوا بكلام مثل هذا. فسبحان الذي أنزله على قلب عبده المصطفى.
( الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ )، الآيات التي نتلوها عليك، (تِلۡكَ) في هذه السورة، آيات الكتاب، الآيات التي تتلوها بوحينا وتنزيلنا، آيات الكتاب، الكتاب المُنزل من قِبلنا؛ وينطلق ويشمل جميع الكتب المنزلة؛ فإن القرآن حوَى ما في الكتب من أسرار ومعارف ومعاني وعلوم، وزاد بخصائص فيها.
فقال: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1))؛ وآيات (قُرْآنٍ مُّبِينٍ)، بيّن واضح جلي، يبين ما غمض وما أشكل من الحقائق والطريق إلى الخالق -جل جلاله-. فهو مُّبِين في نفسه، بيّنٌ، واضح، عظيم، نافع، مفيد، مُنور، مُذكرٌ، مُطهرٌ، مُصفٌ، مُرقٌ، منقٌ، وهو يُبين الطريق والسير، وهو يُبين الحق ويفرق بين الحق والباطل، ويُبين الخير ويفصل بين الخير والشر، ويبين الهدى ويفصل بين الهدى والضلال ( وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ).
رزقنا الله حسن التبيّن بهذا البيان وبأنوار القرآن؛ فنعم الهدى هدى الله، ونعم الاهتداء بنور وحي الله تبارك وتعالى. ومن ألتمس الهدى في غيره أضله الله، كل من ألتمس الهدى وطلب التوصل إلى الهداية والحقيقة من غير القرآن يزداد ضلالاً فوق ضلاله، "ومن ابتغى الهدَى في غيرِه أضلَّه اللهُ"، فالحمد لله على هذا الهدى، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ) [البقرة:120].
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1))، فلك الحمد يا من أوحيت هذا القرآن على قلب النبي ويسرته بلسانه، و مكنتنا من قراءته، فوفّر حظنا من الإيمان به ومن تعظيمه ومن معرفة معناه ومن العمل به ومن القيام بحقه ومن الاتصال به، وأجعله أمامنا يقودنا إلى الجنة يا الله.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)). فيهنأ من اتصل بالقرآن حتى صار من أصحاب القرآن، وأهنى وأهنى وأعظم من اِرتقى في الامتزاج بالقرآن حتى صار من أهل القرآن. فإن القرآن يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة، وإن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
(الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)) الحقيقة لجميع الخليقة ( رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)) قرأ أكثر القرآن (ربَّمَا) بالتشديد، وقرأ عاصم ونافع (رُبَمَا) بالتخفيف.
(رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)) جميع الكفار الذين بلغتهم الدعوة، ثم رفضوها وماتوا كفارًا يتمنون أن لو كانوا مسلمين، يودون ذلك ويتمنون ذلك وأَنَّىٰ لهم (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24]، (وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) [الفجر :23]، (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الانعام :27].
(رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)). فيا من أُكرِمتُم بالإسلام؛ احذروا أن تهبطوا وتتمنوا أنكم كأحدٍ منهم، همُ كلهم من أولهم إلى آخرهم يتمنى أن لو كان مسلمًا، يتمنى أن لو يكون في حالة أفقر مسلم وأتعب مسلم في الحياة الدنيا، ما يقدر على ذلك؛ لأن حالة هذا المسلم الذي كان في الدنيا فقيرًا أو مريضًا أو جائعًا أو متعوبًا؛ حالةً جميلةً لذيذةً في بقاء أبدي، في نعيم سرمدي، وأمر كبير لا يُحصِلهُ ذلك الكافر؛ بل مصيره هوانٌ وخسارٌ وعذابٌ وألمٌ وشدةٌ وجوعٌ؛ لا شبع بعده وضمأ لا يروى أبدا منه، بل يزداد سرمدًا، فيتمنى أنه كان في درجة أتعب مسلم من المسلمين في الحياة الدنيا، فلا يتمنى ذلك، فاعرفوا من أنتم؟ وما نعمة الإسلام التي عندكم؟ لقد ضُحِك عليكم من وحي إبليس وجنده حتى عظمتم شيئاً من فانياتهم وترهاتهم؛ وما هي والله بشيء. وإنهم سيتمنون أن لو كان ملكهم ورئيسهم مثل أفقر واحد من المسلمين، فلا يقدر على ذلك.
( رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2))، أولها عند الغررة، عند بداية كشف الستارة وظهور الحقيقة ومعاينة الملائكة والعالم الذي غُيِّب عنا؛ يود لو كان مسلم، يود لو كان مؤمن، ما نفعه ملكه، ما نفعه رئاسته، ما نفعه ماله؛ يود لو كان مسلم، عاين الحق وشاهد نتيجة الكفر وما يكون حال أهل الإسلام؛ فيتمنى أنه مسلم. وإذا وصل إلى قبره وَدَّ أنه لو كان مسلم وتمنى لو كان مسلم. وإذا نُفِخ في الصور ورأى المسلمين -في حال وهو في حال- وَدَّ لو كان مسلم. وإذا أُمر بأهل الإيمان إلى الجنة وَدَّ لو كان مسلم، وأِدِخل إلى النار. وإذا كان في النار ومر به مدة وزمان، ثم يخرج عصاة المؤمنين الذين لهم ذنوب لم تُغفر لهم ويُعذبون، كلما خرجت طائفة يودوا (لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، فيخرجون مثلهم ولكن هم لا يخرجون؛ إلى أن يبلغ بهم هذا الوداد والتمني غايته عندما يخرج آخر من يخرج من المسلمين، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، يُخْرج من النار.
لا جعلتُ من آمن بي بشهادة كمن كذّب بي أبدا. وذلك فيما جاءنا في الحديث الصحيح أن هذه الساعة التي يشتد ودادهم (لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، وتمنيهم (لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، حينما يخرج آخر المسلمين من النار وذلك أنهم في آخر المصير عندما يريد الله إخراج من بقي في النار من المسلمين، ينظرون إليهم ويقولُ هؤلاء الكفار: ألستم كنتم مسلمين؟ أنتم معكم شهادة: أَنْ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، يقولون: نعم، فما أغنت عنكم، أنتم مثلنا في النار، أنتم معنا في النار أيضا، فيقولون: إن علينا ذنوباً أُخذِنا بها وسنخرج، فيغار الله تعالى على أهل إيمانه ويأمر بإخراج كل من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؛ فيخرجون، وآخرهم خروجًا الذي سماه صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم جُهينه فيخرجون وحينئذٍ يبلغ الغيظ والحسرة في قلوب أهل النار والكفار مبلغها ويودوا (لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، لما ذكر هذا عند خروج من يخرج من النار فحينئذ يَوَدُّ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، وقرأ:
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
( الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)).
فهم يتمنون النعمة التي أنتم فيها فلا تحقروها، هذه النعمة التي أنتم فيها نعمةٌ تُوجب سعادة الأبد، فاحمدوا الواحد الأحد واسألوه أن يثبتكم على هذا الإسلام والإيمان، واعتزوا بالله ودينه أن هداكم للإيمان، فوالله لا يبلغ هذه الذروة والرفعة، ملوك الأرض الكفار ورؤساؤها الكفار بأصنافهم من كل من بلغتهم دعوة الله فأبوا وأصروا واستكبروا وأبوا إلا الكفر، أولئك الذين يتمنى أحدهم أنه كان مثل ذاك الأعمى، الأكسح، الأصم، المسلم، الفقير؛ يتمنى؛ لو كنت مثل هذا لنجوت، لو كنت مثل هذا لرُحِمت، لو كنت مثل هذا لم أشقَ هذا الشقاء، والشقاء الأكبر على كل من كفر. (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5] واقبلَوا وحي الله وارفضوا الوحي المضاد وحي إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الانعام:112]، ويقبله قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) [الانعام :112-113]؛ أعلن شعارك يا محمد، (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )ۚوَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) [الانعام :114].
( رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2))، قال الله لحبيبه: يا حامل الحق والهدى، يا صاحب الدلالة على الصدق، يا حبيب الحق، يا محمد قم بأمر ربك وما أنزل إليك وبلِّغ أمتك وهذا الصنف من الناس ذرهم -أتركهم-، ذرهم -أتركهم- ياكلوا ويتمتعوا كأنهم حيوانات، ما عرفوا عظمة الإله الذي خلق، ولا الحكمة التي خلقهم من أجلها، ولا سر الرسالة والنبوة، ولا عظمة المرجع إليه والجزاء في المصير؛ يغفلون عن هذه الأشياء الخطيرة الكبيرة ويلتهون بـِ حضارة، ثقافة، تطور نمو!، ما هذا؟! وما هو هذا؟! وما هي نتيجة هذا؟! وماهي نهاية هذا؟! من خلقك؟ ولماذا خلقك؟ وإلى أين تصير؟ قال: اتركه يأكل ويشرب لايعرف إلا هذا، مغرور بنفسه؛ عنده تكنولوجيا، نووي هيدروجوني، غاز ثقيل، يأتي بفكر جديد كل ساعة؛ وهذا هو شُغْلهُ، لهذا خلقتم؟! لهذا جئتم؟! ما هذه الغاية ؟ حيوانات أنتم أو بني آدم؟ من خلقكم؟ ولماذا خلقكم؟ وإلى أين تسيرون؟!
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا .. (3))، كما قال في آية أخرى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) [ محمد :12]، وأين عاقبتهم؟ وأين النتيجة؟ وأين الثمرة؟ وأين المستقبل؟! الذي تتكلمون عنه ، المستقبل، اضمن مستقبلك وأعمل لمستقبلك، يقولون لهم هكذا: انظر للمستقبل (وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [ محمد :12]، هذا المستقبل! ضمنتم المستقبل؟! خططتم للمستقبل؟! (وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [ محمد :12]، أعوذ بالله من غضب الله. المستقبل؛ مستقبل من مات على لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، في جنات الخلد، ونعم الجزاء؛ هذا المستقبل الكبير العظيم.
قال: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا .. (3))، فهذا شأنهم وفي هذا حَطٌّ لأن يكون الإنسان ساقط لهذه الغاية ما له غاية شريفة؟ ما له مقاصد رفيعة؟ أكل وشرب فقط؟
(يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَل ) يقطعهم الأمل، رغبتهم في الحياة الدنيا ومتاعها، يلهِهم عن تصديقك والايمان بك ورؤية الآيات التي بُعثتَ بها والحق الواضح لأعينهم.
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ .. (3))؛ فهذا شأنهم وهذه غايتهم لا يعلمون (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]، (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) [النجم:29-30].
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)) فسوف يعلمون الحقيقة وصدق خير الخليقة إذا برقت بارقة رفع الستار؛ وأدرك الكل عظمة الخالق الجبار، وقال: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلم يكن الجواب إلا (لِلَّهِ الْوَاحِدِ ..) [غافر:16]. اترك أسماء الذين تعرفهم في زمانك من دول شرق وغرب، وأسماء الذين مضوا من نمرود وفرعون وهامان وعاد وقوم نوح؛ لا وجود لهم؛ (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]، لا مُلك لغيره، هذا زور وغرور اغتروا به سنوات معدودة، راحت، والآن يعلم الكل، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) كلهم سيعلمون أن الصادق هو الأمين المأمون وأن الحق ما قاله المرسلون رسل الله المأمونون على انقاذنا وهدايتنا وإرشادنا، لا كل من لعبت به نفسه وهواه وقال: أنا سيدكم تعالوا، أنا أُسيِّركم، أنا أُقدِّمكم، أنا أُأخركم، أنا أرزقكم؛ تفٌّ لك؛ كذِبتْ. إنهم يقولون بقول فرعون، وإن لم يصرحوا ويقولون: أنا ربكم الأعلى؛ كذبتم. ربنا الله، ربنا الله وحسبنا الله ووكيلنا الله ورازقنا الله واعتمادنا على الله:
ربي عليك اعتمادي *** كما إليك استنادي
صدقا وأقصى مرادي *** رضاؤك فارض عنا يا رب رضوانك رضاؤك الدائم الحال
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3))، أما رأوا ما فعلنا بالأمم! وظنوا أنهم يتأخرون أو يحيدون أو يخرجون عن سنتنا، كيف فعلنا بالأمم قبلهم؟ وأهلكنا أمة بعد أمة وطائفة بعد طائفة، من جميع مكذبي المرسلين؛ أرباب العتو وأرباب الفساد أرباب الشهوات، أرباب الطغيان أرباب العدوان أرباب التعالي على الخلق على بعضهم البعض؛ أهلكناهم
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4)) قضاء قضيناه بوقت محدود يقضونه، قد رُقِم في اللوح المحفوظ في أمر الله وسبق في علم الله الأزلي
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ…) وما من قرية إلا ولابد أن تهلك لكن ما تهلك قرية ولا طائفة ولا جماعة ولا دولة ولا ينزل فيها وباء ولا يرتفع منها ولا يحق عليها دمار، أو هلاك أو ينزل بها من الأرض زلزال، ولا تنزل عليها صواعق ولا تهلك وتنتهي؛ إلا كل واحد بكتاب معلوم ووقت محدود؛ قدَّره المكوِّن الفاطر، المبدئ، الخالق، القوي، المالك، المدبر، المقدم، المؤخر، الواحد، الأحد، الله الله الله. املأ قلبك بالله وعقلك ولسانك و كلَّك يا مؤمن واشكر نعمة الإسلام وامتلئ بقولك الله. (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4)) محدد معين بداية ونهاية.
(مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا) ما تتقدم عليها (وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5))، بل كله مقدر. يا دولة صغرى، يا دولة كبرى، يا شرق، يا غرب، يا أمم، يا جماعة، يا طوائف وقت محدد، هل لكم صلة بالقوي القادر الذي بيده الأمر في اليوم الآخر؟ وإلا هلكتم؛ لأن كله سينتهي، ذا وذا وذا وذا وذا، -الله الله الله الله الله- فاتخذْ إلى الرحمن سبيلا واتخذْ مع الرسول سبيلا فإن هؤلاء الظلمة في القيامة يقولوا: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) [الفرقان:27]، وأنتم مؤمنون بهذا الرسول -الحمد لله- عظموه واقتدوا به، واتخذوا معه سبيلا حتى لا تندموا ذاك اليوم ، اتركوا الندامة لهم والندامة لمن كذب برسول الله.
قال: (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5))، شُغْلهم في الحياة الدنيا ألهاهم، من الأمل والفرح بهذا التمتع والأكل على ظهر الأرض وقضاء الشهوات؛ يستهزئون بالأنبياء، يستهزئون بالكتب، يستهزئون بالمرسلين، يستهزئون بورثة الأنبياء، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6))، مَجْنُون!! الذي دعا إلى التوحيد والذي هدى إلى سواء السبيل، صاحب الخلق العظيم، صاحب الكرامة، صاحب الشهامة، صاحب الكرم، صاحب الإنصاف، هو مجنون؟!!! وعبدة الأحجار عُقَّال؟! والساجدين للأصنام عُقَّال؟! والقاتلين للنفوس بغير حق والذي يسطو قويُّهم على ضعيفهم هم العقال!!! لكن هذا شأنهم يستهزئون، إتركهم يقولوا لنا: مجانين، إن كان هذا الجنون؛ فنحن به فخورون. إن كان النبوة والرسالة والصدق والحق والهدى جنون؛ فلنا العز ولنا الشرف. خذ عقلك لك يا أبله! يا بليد يا مشرف على جهنم!
خذ لك عقلك الذي ترافق به إبليس وفرعون وهامان، خذ عقلك، وهم يقولون: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6))، يأتون بكلام غريب، من أين؟ وقال فرعون لقومه: ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]، (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) [الذرايات :52-54].
(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ)، هل تأتينا بالملائكة؟! هيا هات لنا الملائكة أمامنا، فأصبح الأمر لعبة، و كَون الله و تسييره وتدبيره لعبة لقومه! نَزِّل لنا ملائكة، اعمل لنا ما نشتهيه، هو لعب في الدنيا ولا ماذا؟! فملك موجود وإلا أقول أنتم المسيرين للأمور، وهل ملائكة الله تحت أمركم؟ وتحت تشهيكم؟ (لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)). قال الله ذكرهم وكل شي عندهم فهل سيعقلون؟! ذكَّرهم بالحقيقة (مَا نُنـزلُ الْمَلائِكَةَ..) وفي قراءة أخرى ( مَا تُنـزلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ …) وننزلهم بالحق، بالحكمة والأمر الذي يقتضي ذلك من إرسال رسول، أو إنزال كتب، أو ملائكة يحضرون مجامع الذكر، أو ملائكة يعينون بأمرنا المؤمنين، أو ملائكة يعذبون الكفار في الوقت الذي يريد عذاب فيهم. أمَّا أن ننزل الملائكة على ما يشتهون هم فقد (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) [الكهف: 5]، وقد (اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) [الفرقان:21].
(مَا تُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ .. (8))، وقل لهم إن من حكمة الذي خلق: لو أظهر لكم الملائكة فلم تؤمنوا لعجّل بإهلاككم في نفس اللحظة والساعة (.. وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ (8))، وكما قالوا في الآية الأخرى يقولون في أمر نزول الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، يقولون: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ) [الأنعام:8]، لو أظهرنا لهم الملك؟ سُنَّتنا هي أن نرسل البشر لهم يبلغونهم أمرنا، ما هو لعبة هؤلاء الملائكة أن نراهم! قال الله سبحانه وتعالى: (.. وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8))، ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا…) [الانعام:9]، كيف يكلمهم الملك؟ يتصور لهم بصورة رجل!! سيقولون: هذا رجل ليس ملك! وبعدين! (…وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) [الانعام:9]، نفس اللبس يرجع عليهم، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهكذا قال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ..)، (مَا تَنـزلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ .. (9))، هذا القرآن الذي أعطيناك من عندنا، جاء بأمرنا على يد جبرائيل تتلقاه عنا، وقل لهم: تحدِّهم أن يأتوا بمثله، وقل لهم أن يأتوا بخبر من قبلكم وأنباء من بعدكم، فهل يستطيع أحد منكم أن يأتوا بمثله؟ أو رأيتم شيئاً منه تخلَّف؟ أو وجدتم أعدل منه وأحدث منه في اجتماع أو حكم أو علائق أو اقتصاد أو غير ذلك؟
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ .. )، نزلنا عليك هذا القرآن، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9))، لا يستطيعون تغيير ولا تبديل، قل؛ يا أعداء الحق ورسوله، من أيام بعثة النبي لليوم، حاولتم تغيير القرآن، فلِم لم تستطيعوا أن تغيروا فيه آية واحدة ولا حرف واحدة؟! نحن نقرأه بالاسانيد المتواترة، كما نطق به لسان نبينا الذي أنُزل عليه، مضبوطة حتى مدودهِ، وفي حالة قراءته له بالحدر أو بالترتيل أو بالتجويد أو بالتدوير؛ كله محفوظ عندنا. ما قدرتم على حرف واحد. النطق بالإمالة وغيرها محفوظ عندنا، والحروف التي أمال فيها أحيانا والحروف التي لم يُمل فيها عندنا محفوظ، ما قدرتم أن تغيروا شيء، من الذي أعجزكم؟! ولو استطعتم لغيرتم وللعبتم، لكن ما قدرتم، ولن تقدروا.
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)). إحفظنا بما حفظت به الذكر يا رب، إحفظ علينا الإسلام والإيمان، واربطنا بعبدك سيد الأكوان، ولك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، فزدنا إسلامًا وزدنا إيمانًا وزدنا عافية وبارك في أعمارنا وارزقنا صرفها فيما يرضيك عنا وارزقنا حسن الاستعداد للقائك، واجعلنا من رفقاء أنبيائك وخاتم أنبيائك و أوليائك وأصفيائك واحشرنا في زمرتهم وأدخلنا الجنة معهم برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
16 ذو القِعدة 1443