تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .. ) الآية 85 إلى 89

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)  }

مساء الإثنين 19 جمادى الثانية 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير هادٍ ودليل، عبده المصطفى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في منهجه خير سبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذائقين في محبة الرحمن احلى سلسبيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 وبعد،،

فإننا في تأملنا لكلام ربنا سبحانه وتدبرنا لمعاني آياته، وصلنا في سورة الإسراء إلى قوله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا (85))، وقد ذكر الحق لنا تعالى عددًا من الأسئلة التي كان يُسأل عنها سيدنا رسول الله ﷺ،  في تبليغ رسالته، ومقابلة أصناف المرسل إليهم، بالاستفسارات و الأسئلة، ومن ذلك ما يتعلق بالسؤال عن الروح، وقد جاء سؤال اليهود له في المدينة المنورة عنه، وسؤال كفار قريش قبل ذلك في مكة المكرمة، عندما رجعوا إلى بعض علماء اليهود، وقالوا لهم: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الإنسان، لنتبين أنه رسول أم لا؟  وقالوا لهم اسألوه عن الروح.  وجاء أيضًا أن من العلامات عندهم:

  •  أن يُسأل عن الروح،
  •  وعن الفتية الذين ذهبوا في سابق الدهر،
  •  وعن ذي القرنين،

وقالوا: إن أجابكم عن الكل فليس بنبي، وإن سكت عن الكل فليس بنبي، وإن أبهم بعضًا وأجاب عن بعض فهو نبي، فسألوه، فأجاب: 

  • عن الفتية  أهل الكهف: (..إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف: 13]، 
  • وعن ذي القرنين،  (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) [الكهف: 83]، 
  • وأبْهمَ أمر الروح.

 وجاء أن رسول الله ﷺ بينما هو سائر في المدينة، مر بقوم من اليهود فسألوه، وكان بعضهم يقول: اسالوه، وعندهم في التوراة، أن الروح مبهم -من أمر الرب -جلّ جلاله- لا يفصح عن حقيقتها أحد، فسألوه: (وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا (85))؛ (..قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي..)، يعني من الخلق المخصوص الذي يخلقه بمجرد الأمر من دون أن يجري مجرى ما يتمنى وتكون له الأسباب والتطور والتدريج، كشأن الجسد، خلق أولا جسد أبانا آدم؛ من تراب، ثم من طين، ثم حمأ مسنون، ثم صلصال كالفخار، وأجسادنا في بطون أمهاتنا تتحول من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى العظام إلى كسوة العظام باللحم، ثم ينفخ فيها الروح. وهذه الأشجار وهذه الأشياء كلها خلْق.

من الخلق ما لا يجري مجرى الأسباب والتكوين والتدريج، مثل الروح بمجرد الأمر الرباني. فقال تعالى: (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ..) [الأعراف:54]؛ 

  • فالخلق؛ الذي يبرز في العالم بتسبيب وتكوين وترتيب وتدريج؛ خلق.
  • والذي يبرز فجأة واحدا كاملًا، بلا تطوير ولا تدريج؛ أمر 

والكل للحق تعالى والكل خلقه، (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54]، (..قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي..(85)). ومن هنا سُمِّي "عالم الأمر" ما ينازل هذه الأرواح من تجليات الملك القدوس -جلّ جلاله- فيبرق فيها ويشرق بالنور والمعارف والمعاني من الأمر.

 لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَت *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِن عالَمِ الصُوَرِ

 فعالم الصور يسمى عالم الخلق، (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ..) [الأعراف: 54]؛

  •  فما يجري بمجرى التسبيب والتكوين والتطوير، يقال له: الخلق،
  • وما يجري مما يخلق الله تبارك تعالى بمجرد الأمر من دون مرور بهذه الأسباب؛ يقال له: أمر،

 (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ..) [الأعراف: 54]؛

 لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَت *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِن عالَمِ الصُوَرِ

وقال أيضًا [ابن علوي الحداد]: 

فتوقف وانتظر علمًا *** من علوم الأمر وادكر

 (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ..) [الأعراف: 54]؛ فكان الروح من جملة عالم الأمر، خلقٌ بديعٌ عظيمٌ، له خصائصه وله مزاياه. ويأتي بمعنى؛ هذا الروح الحيواني، الذي يُقذف وينفخ في الأجساد، فتكون حية ما دام فيها، حتى يفارقها، فتنتهي حركتها والخصائص التي اكتسبتها بالروح.

ويطلق كذلك الروح على الروح المعنوي الغيبي الذي هو؛ المعرفة بالله تبارك وتعالى وإدراك الحقيقة.

 كما يطلق على القرآن أنه روحك (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا..) [الشوري: 52]؛ لأنه تحيا بها القلوب وتتروح به الأرواح، وتُدرك به الحقائق، وقال تعالى: (..يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 15].  ويقولون على خلاصة كل شيء ولُبّه وأساسه: روحه.

 وكذلك السؤال عن هذه الروح التي جعلها الله تعالى في هذا الإنسان، فجعل من خصائصها؛ أنه حكم لها بالبقاء، تأخذ مدة بالنسبة إلينا في أجسادنا من حين نفخها في أجسادنا ونحن في بطون أمهاتنا، إلى وقت نزع الروح عند القبض والموت، هذه هي علاقتها بالجسد. ولكن تبقى هي من حين أحياها الله تعالى، قبل وضعها في أجسادنا هذه، وقد كانت مُسَبحة بحمد ربها، وذاكرة له في السماء، ولما كُون جسد كلٌ منا، أنزلت تلك الروح بأمر الله من السماء فنفخت في هذا الجسد، كما أُنزلت روح آدم عليه السلام بعد أن سوى الله تعالى الجسد على الأرض، وكَمَل تصويره (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29].  

وأضاف الروح تعالى إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا لهذا المخلوق من الأمر، فهي حادثة، ولكن الله حكم لها بالبقاء فهي باقية بإبقاء الله لها، فتبقى في عالم البرزخ إلى يوم البعث، ويعيد الله الأجساد، ويعيد الأرواح. إلا أن أجسادًا من هذه الأجساد الآدمية والمكونة من هذه العظام وهذه اللحوم، تبقى في الأرض أيضًا لا تأكلها الأرض:

  •  كأجساد الأنبياء
  •  وأجساد الشهداء
  • وأجساد حاملي القرآن غير الغالين فيه ولا الجافين عنه
  • وأجساد العلماء العاملين 
  • وأجساد المؤذنين المحتسبين لله سبع سنوات فأكثر في شيء من المساجد وأماكن الأذان. فهذه الأجساد الخاصة الخمسة الأصناف لا تاكلها الأرض، 
  • كذلك من بلغت به محبة الله كل مبلغ، ففاضت من قلبه حتى سُقيت بها أجزاء جسده، فتلكم الأجساد التي لا تبلى بعد الموت، ولا يتعرض لها الديدان، ولا الحيتان، ولا ينالها البِلى.

حكمة من حكم الله وآية من آياته، قائمة إلى اليوم. ما للأرض تفرق بين أجساد؟!! ما لها تأكل جميع الأجساد وتأتي إلى هذه الأصناف المخصوصة القليلة وتحترمها ولا تأكلها؟!! لأن للأرض وما فيها ولكل ما يجري فيها، حاكم يحكمها وملك يملكها -جلّ جلاله- فليس شيء متصرف بذاته ولا بنفسه؛ لا أرض ولا غير أرض ولا سماء ولا ما بينهما ولكن سبحان القيوم، قائم على كل شيء؛ يسيّره ويدبّره ويعطيه من القدرة ويعطيه من العلم ويعطيه من الإرادة ما يعطيه، وينزع عنه ما ينزع، فبذا حقيقة الوجود ليست إلا لله الحق الموجود -جل جلاله-

(وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي ..(85))، ولما كانت من عالم الأمر بشرفِها وكرامتها، كان شأنها مع الجسد شأن يُنْبئ ويدل على عظمة المُكون الخالق؛ فلا حركة لهذا الجسد إلا بها؛ كذلك لا حركة للخلق والوجود كله إلا بالقيوم؛ ثم لا يجري في الجسد شيء إلا بعلمه -علم هذا الروح-؛ فالروح هذه تعلم ما يطرأ وما يجري على الجسد وما  الإنسان؛ فكذلك يبين لنا أن ما الذي يؤتى الناس من العلم إلا القليل؛ فسبحان الذي لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. 

وكثير من خصائص هذه الروح تُذكِّر الناس بعظمة الرب -جلّ جلاله وتعالى في علاه- ومع ذلك ما تُرى بالأبصار وكذلك الحق سبحانه وتعالى: 

  • (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103]،
  • (.. قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))،

أي أن العلم وصف الرحمن -جلّ جلاله- وهو بكل شيء عليم، ثم إن من العلم ما أذن الله تعالى أن يعْلمه  ملائكة أو إنس أو جن أو شيء من الكائنات والمخلوقات ومنها ما لا يصل إليه علم أحدٌ منه، والكل علم الله ومنسوب إلى الله. فقال عن هذا الصنف الذي من شأنه أن يعلِّمه من شاء من الخلق قال عن هذا الصنف (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]،- أي من علمه الذي من شأنه أن يعلِّمهُ  الناس، ومن شاء من الناس وكل منهم- لا يحيطُ من هذا العلم إلا بما شاء، وأما ما استأثر بعلمه فلا يعلمون منه شيء أصلا؛ لا الملائكة ولا حملة العرش ولا من سواهم. فسبحان الذي أحاط بكل شيء علما؛ فالعلم في الحقيقة للرحمن.

وما مقدار علوم الأنبياء والإنس والجن والملائكة بأصنافهم من أولهم إلى آخرهم، ما مقداره إلى علم الله تبارك وتعالى؟ إلا ما قال سيدنا الخضر لسيدنا موسى عليه السلام؛ وقد وقف طائر على حرف السفينة ونقر بمنقاره مرة ومرتين في البحر، فقال: "يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا بمقدار مانقص هذا العصفور والطائر بمنقاره من البحر"، يعني ما نقص من البحر شيء. فكم نقص من البحر؟ نصف؟ أو ثلث؟ أو ربع؟ ولا له أثر في البحر أصلا.

كذلك علوم الأولين والآخرين بالنسبة لعلم الله لا تساوي شيئا، فجلّ الذي أحاط بكل شيء علما، قال: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))؛ حاجَّهُ بعض اليهود قالوا أنت تقول أن في التوراة بيان كل شيء وتقول فيما أنزل عليك (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269]، نحن أُوتينا التوراة وعندنا الحكمة؛ فقال: ما علْمكم عند علم الله إلا قليل وليس بشيء وأنزل الله وقال: (..لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ..) [الكهف:109] ربي جل جلاله. 

(وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))؛ لما سأله بعضهم قالوا: أتعنينا؟ قال: أعني الكل؛ نحن وأنتم والخلائق كلهم ما أوتيتم من العلم إلا قليل، علمكم كلكم قليل، ولهذا لما سأل ابن لقمان والده عن: من يحيط بكل العلم؟ فأجاب عن العلم الذي يعلِّمه الله الخلق، قال: كل الخلق؛ يعني فيما أذن الله لهم أن يعلموا، ما يحيط بهذا الذي أذنهم أن يعلموا إلا مجموعهم، كلهم، ما واحد منهم يحيط به، هذا العلم الذي أراد أن يعْلمه الخلق، فكيف بالعلم الذي استأثر به؟ 

هذا الذي أراد أن يعلِّمه الخلق؛ لا أحد منهم، حتى واحد ولا جزء منهم ولا أفراد منهم يحيطون بهذا العلم، يوجد عند المفضول ما لا يوجد عند الفاضل، العلم وصفه الإطلاق؛ لهذا يتعلم سيدنا موسى من سيدنا الخضر، موسى أفضل ويتعلم من الخضر، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))؛ فهذا الذي أوتيه الخلائق، لا أحد منهم يحيط بما أوتوه فكيف بما لم يؤتَوهُ؟!  لا إله إلا الله. 

العلم لله -جل جلاله وتعالى في علاه- قال: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))؛ ولذا لما يتحدثون عن العلم الأعلى الأشرف؛ ما العلم الأعلى الأشرف؟ العلم بأسرار أسماء الله وصفاته وكلماته وعظمته وعلوه، هذا أعلى العلوم ما مثال: 

  • ما أوتي الخلق غير الأنبياء من هذا العلم إلا كقطرة من بحر. 
  • وما أوتي الأنبياء بالنسبة لسيدهم محمد ﷺ إلا كقطرة من بحر. 
  • وما مقدار ما أوتي سيدنا المصطفى ﷺ بالنسبة لله وعلمه إلا كـَ لا شيء. 

(وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))؛ وهذا العلم فيه ما هو أعز وأشرف، وفيه ما يشرِّف الله به أصحابه ويرفعهم الدرجات: (..يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..) [المجادلة:11]، وشأنٌ عظيم تكاد تحار فيه العقول؛ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76]، ولكن لا يحيط بالعلم إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، الله، تعالى في علاه. (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)).

 يقول تعالى: (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ..(86))، هؤلاء القوم أعطيناهم النعمة الكبيرة؛ بعثناك إليهم بالرحمة وأنزلنا إليك وحياً كتاباً مهيماً على جميع الكتب؛ فأعرضوا عنه، ولا يسألوك عما ينفعهم ويعنيهم وقاموا يتعنتون ويسألون عن الروح وأمر لا يعنيهم ولا يتعلق بمهمتهم في الحياة ولا واجبهم ولا سلوكهم فيها وقابلوا هذه النعمة التي آتيتهم بالكفران (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)  [إبراهيم:28]. 

يقول الحق تعالى: بفضلنا ورحمتنا بعثناك إليهم ولو شِئْنَا ما بعثناك وما عرفوا شيء ولا فتح لهم هذا الباب ولو شِئْنَا بعد فتح هذا الباب أن نرفعه عليهم فلا يبقى عندهم شيء وليس لهم شيء؛ (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ..(86))، ولا يجدون هداية ولا رحمة ولا نعمة ولكننّا تفضلّنا عليهم وأعطيناك هذا، (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86))، ما تجد من يتوكّل لك بأن يردُّ منه شيء ويبعث منه شيء، (إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(87))، قال نحن رحمناهم وسنبقي هذا الكتاب فيهم قرونًا إلى آخر الزمان، سنبقي هذا النور لمن أراد أن يتنوّر، لمن أراد أن يتبصّر، رحمة، قال:  (رَحْمَةً مِّنَّا)، (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..(87)).

 (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ..(86))، ويقول في الآية الأخرى:  (قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يونس:16]، يقول : جلست أربعين سنة ما جئت بشيء من كلام الله، والآن جاء الكلام من عند الله، ثم تقابلونه هذه المقابلة!! تعرضون عن هذا الروح الذي يرقّيكم وينقّيكم وينجيكم من النار ويسبّب دخولكم الجنة وتسألوني عن روح الجسد، وهذا الروح أمامكم يطهّركم وينقّيكم وينجّيكم من العذاب، تعرضون عنه!

 يقول الله: (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86))، ما يتوكل لك أحد يأتي لك بوحي ولا ينزل عليك كلامنا (إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(87))، قال الله لحبيبه ﷺ: رحمتك واختصصتك ورحمتهم بك؛ فأنا سأُبقي كلامي هذا بينهم، و(إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، رحمك ورحم بك، وهداك وهدى بك، وتفضّل عليك وتفضّل بك، (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) قدّمك على المرسلين وجعلك خاتم النبيين ورحم أمّتك رحمة واسعة، وحفظه. بعدها، ما رفعه ولا نزعه عنهم إلى آخر الزمان، يوم يُنزع ومن الصدور ومن السطور عندما يبقى في الأرض لا يُعمل به ولا يقامُ بحقه، ويقول: يا ربِّ، أأبقى في الأرض لا يُعمل بي؟ ويغار الله على كتابه وينزعه.

 في ليلة من الليالي يصبح الناس فيها بلا قرآن لا في ذهن أحد و صدره ولا في كتاب، مُحيَ من جميع الكتب ومن جميع الصدور، يصبح الصباح يقولون: كنّا نقرأ كلامه، يقولون نزل أولا على النبي. قال:  ماذا تحفظ منه؟ قال: ولا أحفظ شيء، ولا عاد شيء، أصبحت لا أحفظ آية واحدة، ولا كلمة واحدة؟ ولا كلمة؟ قال: هات، قال: هات ولا شيء، أرجعوا إلى المصاحف تجدونها أوراق خالية بيضاء ولا حرف فيها -في ليلة من الليالي- هذا من أعظم علامات الساعة، تحصل في آخر الزمان، نعوذ بالله من تلك الآيات الخطيرة التي تدّل على فساد الأمة وفساد الزمان وأهله وعلى قرب الساعة. 

قال: (إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، لم يُبقِ القرآن فقط؛ بل يبقيه ويتولّى حفظه، كما أُنزِل عليك، كل من يحاول أن يغيّره بأن يبدّل ويبعد كلمة واحدة أو حرف ما يقدر على ذلك -الله أكبر- معجزة باقية إلى آخر الزمان على مدى القرون، آية من عظيم آيات الله تبارك وتعالى، رَحِمنا بها (..إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))؛ وَيَسْيَجْعَلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ وَمَنْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَامِعِ بَعْدَ بِعْثَتِكَ هذه، بل بعد وفاتك، بعد وفاتك بألف وأربعمائة سنة وخمسة وثلاثين سنة من وفاة نبينا الآن ونحن جالسين نتأمّل هذا القرآن. 

 (..إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، سأبقي هذا القرآن في يوم جيلا بعد جيل ينتفعون ويرتفعون ويستمعون من فضل الله على نبينا محمد ﷺ، تفضّل الله علينا:

  •  (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، 
  • (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) [فصلت:44]،
  •  (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]،
  • (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..(9))،

  وسَأبقي في أمّتك أخياراً، وسَأبقي في أمتك صادقين ومخلصين، وسَأبقي في أمتك متّصلين بالقرآن وبسنّتك الغراء، وسيجد ابن مريم في أمّتك مثل حواريّه، كل هذا من فضله؛

  • (..إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، وَسَتُقَاتِل الْأُمَّةُ الدَّجَّالِ، وسأنزل عيسى بن مريم حكماً مقسطاً يحكم بينهم بالكتاب الذي أوحيته إليك، والشّرع الذي أنزلته عليك، وبسنّتك الغرّاء. 
  • (..إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، حَتَّى يَبْعَثَكَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودُ، وَيُؤتِيكَ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودُ، عطَاءً بِغَيْرِ حُدُودٍ، ثم يَجْعَلْ مَنْزِلَتَكَ فِي الْجَنَّةِ الْوَسِيلَةِ -أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَوْقَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى- هَيَّ لَكَ مِنْ دُونِ مَنْ سِوَاكَ.
  •  (..إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87))، سبحان الذي تفضّل على خير مرسل، سيدنا محمد ﷺ الأكمل، اللهم أكرمنا بقربه واملأ قلوبنا بحبّه واحشرنا في زمرته وحزبه.

  وأخذ بعض الكفار يقولون: هل عندك آية أخرى غير القرآن هذا؟ وقالوا: نقدر نأتي بمثل القرآن -ولو شئنا لقلنا مثل هذا-  قال الله قل لهم: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ..(88))، بجميع قدراتُهم ومعلوماتهم وإمكانياتهم (..عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..)؛ أنا أتحداكم! هاتوا مثله! هاتوا مثله في عظمته وبلاغته ودلالته ومعانيه وما يجمع من الحكم والأحكام والحقائق! هاتوا مثله! ولا أحد يقدر يأتي بمثله وعجزوا في زمانه وبعد زمانه إلى اليوم هذا.

 (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..) -يعجزون- (..وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ..(88))، تعاونوا .. تكاتفوا مع بعض بالقوة  هل ستأتون بمثله؟!! هيا يا أهل التكنولوجيا، هاتوا لنا بمثل القرآن، فيه خبر ما قبلنا وحكم ما بيننا وما بعدنا؛ هاتوا! هاتوا كلام. ما يقدر أن يؤتى بمثله، لا في بلاغته ولا في صحته ولا في دلالاته ولا في جمعه للمعاني، ولا في حديثه عن الكائنات والوجود بإعجازه العلمي، وإعجازه بالدلالات وإعجازه الاجتماعي وإعجازه السلوكي، هاتوا مثلهم، هاتوا يا مفكّرين يا عباقرة، هاتوا لنا بمثل القرآن، والله ما قدروا ولن يقدروا (..لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)).

 (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ..(89))، قال الله: بينّا ونوّعنا ورددنا وكررنا بأساليب كثيرة متنوعة ودلالات واضحة في هذا القرآن، ضربنا (صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) من كل شيء بديع عجيب يصح أن يكون مثلا في بابه، مثلا من الأمثال يضرب به المثل في كل ما تحدّث القرآن عنه، إن تحدّث عن الروح أو تحدّث عن الجسد أو تحدّث عن السماء أو تحدّث عن الأرض. 

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89))، وعرض الله لنا أقوالهم تأتي معنا يقولون: (… لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا (92))، أصبحت لعبة ومسخرة -على كيفهم- يعني حبيب الله قال: هذه أمانة ورسالة جاءت من عند الله سبقني بها المرسلون وأنا خَاتمْتُهم، 

  •  تقبلوها؛ ولكم العز والشرف والكرامة 
  • أو ترفضوها؛ فأصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم وأنتم تندمون.                                   

ولكن قاموا؛ هات لنا كذا وهات لنا كذا، وأعمل لنا كذا؛ حتى أهلكَ الله من أهلك، و هدى من هدى. 

اللهم اهدنا فيمن هديت، املأنا بالإيمان واليقين، الحقنا بعبادك المتقين والحقنا بالمقربين السابقين، وأعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا يا أكرم الأكرمين، وأملأ قلوبنا بالإيمان وبعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ولا تكلّنا إلى أنفسنا ولا لأحد من خلقك طرفة عين، يا أكرم الأكرمين. 

بنور القرآن والإيمان واليقين؛ خلّص أهل السودان، وخلّص أهل غزة، وخلّص أهل الضفة الغربية، وخلّص أهل أكناف بيت المقدس، وخلّص المسلمين في بلداننا العربية والعجمية وفي مشارق الأرض ومغاربها، ورد كيد الكفار والفجار والأشرار وأعداء الدين، ولا تبلّغهم مرادًا فينا ولا في أحدٍ من أهل لا إله إلا الله يا قوي يامتين.

 ثبّتنا على الحق فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد واجعل هوانا تبعًا لما جاء به سيدنا محمد، وأملأ قلوبنا بمحبّتك ومحبّته، وحسن متابعته، والقيام بواجب نصرته وخدمة أمته، وتبليغ دعوته على خير الوجوه وأكملها حتى تتوفانا مسلمين مؤمنين صادقين نحبُّ لقاءك وتحبُّ لقاءنا يا أكرم الأكرمين. 

 

 بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

21 جمادى الآخر 1445

تاريخ النشر الميلادي

02 يناير 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام