تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. )، الآية: 23

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}

مساء الإثنين: 12 صفر 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدُلله مُكرمنا بالرسالة وخاتمها، والنبوة وإمامها، والتنزيل عليه فيما أوحاه بما أوحاه إليه وجعله لنا نوراً نرتقي به أعلى مراتب القرب لديه، اللهم أدم صلواتك على مَن رحِمتنا به الرحمة الوسيعة، ورفعْتنا به المراتب الرفيعة، وعلى آله وأصحابه ومَن سار في سبيله وشَرِب مِن سلسبيله، وعلى آبائه وإخوانه مِن أنبيائك ورسلك الذين بشّروا به وبعظمة فعلهِ وقيلهِ وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقرَّبين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد…

فإننا في نعمة ومنَّة وفضل تأمُّلنا لكلام ربنا وتوجيهه، وتعليمه، وإرشاده وتبيينه -جلَّ جلاله- قد وصلنا في سورة الإسراء إلى قول الرحمن -جلَّ جلاله-: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ..(23))، فأمر بهذا الأمر، وحكم بهذا الحُكم، ودعا إلى هذا الشأن، توحيده تعالى والإحسان إلى الوالدين يُقيمنا في فطرتنا والتناسب معها والتوافق مقام مَن يصلُحُ حالهُ ويسعد مآلهُ؛ بإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وكان مِن أعظم الحقوق بعد حق الله وحق أنبيائه ورسله حقوق الوالدين

حقوق الوالدين، والإحسان إليهما رُبِط بتوحيد الرحمن -جلَّ جلاله- وفصَّل لنا الحق وهو الخالق، كيف نتعامل مع الوالدين؟ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ ..(23))، -عندك- فلا ينبغي أن يكون محلُّ الوالدين، ولا مسكنهما، ولا موطنهما إلاَّ عندك(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ) -السِن الكبيرة- (أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ)، وفي قراءة (أُفَّ)؛

  • (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23))، اختر أكرم الأقوال لتخاطب بها الوالد والوالدة. 
  • (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)) لا تتضجَّر، ولا تُظهر التضجُّر أمامهما، ولو أحتاجوا إلى أن تُخرِج الوسخ مِن تحتهما وتوضِئهما. 
  • (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ)، فقد كانا يفعلان ذلك بك فرحين مسرورين. 
  • (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..(24))، تذلَّل وتواضع لهما حتى إذا تحدَّثتَ أمامهما لا ترفع يديك. 

(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..(24))، وقد جاء رجل إلى النبي  ومعه شيخ كبير، قال: مَن هذا؟ مَن هذا الذي معك؟ قال: أبي، قال له :

  • لا تمشِ أمامه، 
  • ولا تقعد قبله؛ أي: لا تجلس حتى يجلس هو، 
  • ولا تستسبَّ له؛ يعني: لا تتسبب في سبِّ أبيك بسوء خُلقك مع أحد أو سبَّك لأبي آحدٍ، 

ولم يزل عليه الصلاة والسلام يُبيِّن هذا الحق الذي ذكره الرحمن والذي يسعى عدو الله وجنده لإبطاله على ظهر الأرض مخالفة للفطرة والتكوين الذي كَوَّن الله عليه هذا الإنسان وهذا العالم.

وكان مِن تكوين الله لهذا الإنسان أنهُ في مختلف أحواله يحتاج له إلى مرجعية، ويحتاج له إلى موقَّرين ومكرَّمين، وكان مِن عهد آدم عليه السلام يُتعلَّم بوحي الله، معرفة القدر للوالدين، ومعرفة القدر للأقارب مِن الإخوان وذوي الأرحام، ومعرفة القدر لكبير السن؛ وتوارث بنوأدم هذه المعاني فكان؛ 

  •  لكل بيت، كبير يرجع إليه في أمر ذلك البيت، 
  • ولكل قبيلة، كبير يرجع إليه في أمر تلك القبيلة، 
  • ولأهل كل محلةٍ وحافةٍ وحارة، كبير يرجعون إليه في أمور، 
  • ولكل طالبٍ وتلميذٍ، أستاذٌ وشيخٌ يرجع إليه في الأمور، 

وكان بهذا التكوين والتركيبة تنتظم أحوال الناس وتصفو، ويرقُّ لهم العيش ويطيب، وتُدفع عنهم آفات، ويغنمون في العمر القصير كثيراً من المكارم والفضائل وهكذا. وجاء إبليس وجنده بأنواع العقوق وإبعاد مسألة المرجعية ومسألة التوقير للكبير، وإلغاء الحقوق؛ وصارت أنانية، أرادوا أن يُفسروا جميع معاني المكارم والفضائل الإنسانية إليها فيما وصل إليه سفهاء البشر في زماننا، سفهاء الناس في وقتنا، وتجاوزوا الحدود؛ وأرادوا إبطال أنواع هذه الحقوق؛ ليبقى الحق للهوى والشهوات، وليبلغوا شهواتهم وغاياتهم بمختلف الكيفيات ولو بأسلحة الدمار الشامل، المهم أن لا يبقى لغيرهم لا إله، ولا نبي، ولا عارف، ولا صالح، ولا مقرَّب، ولا حتى حاكم، ولا شيخ قبيلة محل احترام وتوقير وبئس ما يسعون إليه.

أولئك الذين خلوا عن حقائق الإنسانية، وعن حقائق الفطرة، وعن حقائق الشرف؛ لكن المسلك الذي دعا الله عباده إليه يستقيم حاله؛ (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  ..(23))، حتى تحدَّث العلماء عن المصلِّي في صلاة إذا ناداه أبوه أو أمه؟ وقالوا: 

  • إن كان في فريضة فليخفف الفريضة وليَجِب 
  • وإن كان في نافلة؛ فإن كان يعلم مِن طبع الذي نادى سواء كان الأب أو الأم أنه لا يشق عليه الأمر ولا يغضب، فليخفف وليلحق 
  • وإلاَّ فليقطع النافلة ويخرج منها تلبية لنداء أبيه أو أمه. 

وذكر لنا ﷺ في ذلك قصة الولِّي جُرَيج مِن أولياء بني إسرائيل؛ وكان يعبد الله تعالى وكان له أُم. ذات ليلة كان يصلي فنادته أمه فقال: يا رب أصلاتي أم أمي، ولم يكن متوسعًا في الفقه فآثر أن يتم الصلاة؛ 

  • فغضبت أمه لما أبطأ بالرد والجواب عليها، وقالت: لا أماتك الله حتى يُريَك وجوه المومسات، وكان رؤية وجوه المومسات مِن المحذورات والقبائح التي يتنزه الناس عنها، وكان أشبه بعقوبة يعاقب بها الإنسان أن يرى وجوه الساقطات الهابطات الواقعات في الكبائر والفواحش، فَدعتْ عليه بهذه الدعوة وقُبلت منها الدعوة، ثم جاءها بعد ذلك ولبى نداءها وقد غضبت ودعت، وانتقلت أمه إلى رحمة الله. 
  • وكان في صومعة معتزلًا يعبد الله فتعرَّضت له امرأة مِن العاهرات، فلم يلتفت إليها ولم يُجبها، فذهبت ووجدت مَن يسمى بالراعي ومكَّنته مِن نفسها فحملت، فأُُتي بها فوق المومسات التي ولدْنَ مِن دون زواج شرعي، واستفهمت مِن مَن هذا الحمل؟  فكذبت وقالت: من جُريج. قالوا: ها! هذا الذي يتظاهر بالعبادة والولاية والصلاح؟! أمَرَ الملك جنْدهُ أن يذهبوا ويهْدموا صومعته ويُحضروه. 
  • فخرجوا، دُقْ دُقْ ما لكم؟! قال: ما لكم! تعال إلى هنا، فأخذوه وذهبوا به إلى الملك، دخل عند الملك وإذا بعدد محبوسات مِن هؤلاء المومسات فوقع نظره عليهن؛ فتذكر دعوة أمه، ضحك -تبسم-!، وتعجَّب الذين معه، ماله يتبسم لَّما رأى وجوه هؤلاء؟!
  • ودخل إلى عند الملك. قال: أنت الذي عصيْتَ الله تعالى وفعلت بالمرأة كذا؟ قال: أبداً، قالوا: كيف؟ هي تقول ذلك. قال: عندكم الولد الصبي؟ قالوا: نعم. قال: هاتوه. فتوضأ وصلى ركعتين وقال: مَن أبوك؟ قال: الراعي. 
  • قال ﷺ: فأقبلوا عليه يتمسحون به، فأقبلوا عليه يتمسحون به، قالوا: أنبْني صومعتك مِن فضة أم نبنيها مِن ذهب؟ نحن الذين تجرأنا عليك واتهمناك وأنت الطاهر النقي وصاحب الكرامة؛ تَكلَّم الطفل في المهد. قال: لا ابغي ذهب ولا فضة ولا أبغي حاجة ردوها كما كانت ردوها لي من طين وحجارة، إتركوها محل أعبد الله تبارك وتعالى فيه. 
  • فقالوا: لماذا تبسَّمتَ عند مرورك على النسوة؟ قال: تذكرت دعوة أمي، وكنت في صلاة فقالت لي كذا، ودعت علي بهذا، فاليوم جاءت أثر الدعوة حق أمي، ولو كنت أجبتها كنت سلمتُ منكم، ومِن تهمكم هذه، ومما كان. 

 

فكان هذا الشأن يذكره لنا ﷺ في بر الوالدين؛ 

  • بل جاء أنَّ سيدنا موسى عليه السلام رأى رجلًا عند العرش فغبطه بمكانته، فسأل عنه، قالوا: نخبرك بعملك، فقالوا لهُ: إنه لا يحسُدُ أحدًا مِن عباد الله على شيء مِن نعمه، وأنَّهُ لا يمشي بالنميمة، وأنَّهُ يبرُّ والديه؛ فبهذا نال المنزلة عند الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-. 
  • وهكذا جاءتنا الأخبار عن المختارﷺ في عظمة هذا الشأن، حتى جاءنا فيما يروي الإمام البيهقي -عليه رضوان الله- يقول: "ما منْ ولدٍ بارٍّ ينظر إلى والدَيهِ نظرةَ رحمةٍ ؛ إلا كتب اللهُ لهُ بكل نظرةٍ حجةً مبرورةً، قالوا : وإن نظر كلَّ يومٍ مائةَ مرةٍ ؟ ‍ قال : نعَم، اللهُ أكبرُ وأطيبُ". 
  • وجاء في الرواية الأخرى عنه أنَّهُ: "إذا نظر الولد إلى أبيه فسرَّهُ بنظره إليه، كتب الله لهُ أجر حجة تامة". قالوا: يا رسول الله، ولو أكثر النظر؟ قال: الله أكثر، وأطيب.
  • وهكذا كان محمد بن المنكدر يبيت في السطح يُروِّح على أمه، وأخوه يبيت يُصلِّي، ثم يقول له: ما أحب أن أُبدِّل ليلتي بليلتك؛ قيامي على أمي هذا أحبَّ إليَّ مِن قيامك أنت في الصلاة. 
  • وهكذا جاء إليه ﷺ مَن يستشيرهُ في الجهاد فقال له: ألك والدان؟ قال: أمي. قال: "اذهب إليها فإن الجنة عند أقدامها أرجع برِّها" -"فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها"-، فاختار له أن يبرَّ أمه على أن يخرج في الجهاد في سبيل الله ﷺ. 
  • وسئل "أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ"-؛ وقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله. 
  • وجاء عنه ﷺ: "ما برَّ والده مَن نظر إليه شزراً" -"ما بَرَّ والدَه مَنْ شَدَّ الطّرفَ إليه"-؛ يعني: ينظر الشزر إلى والده، نظر شزرا ما يكون في البارِّين. 

وهكذا توالتْ لنا الأحاديث بعظمةِ هذا البر وشأنه عند الحق -جلَّ جلالهوتعالى في علاه-. يقول: (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24))؛ 

وكان أبوهريرة يبقى في غرفة بجانب غرفة أمه يكون في خدمتها، ثم يمر في الصباح عليها؛ 

  • ويقول: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته. 
  • فتقول: وعليك يا بني. يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. 
  • وتقول له: ورحمك الله كما بررتني كبيراً. 

وهكذا حتى جاءنا في الحديث أنهُ لمَّا قدم سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مِن اليمن على رسول الله ﷺ،  

قال: ما بالُ فلانة بنت فلان، ذكر لهم اسم امرأة، 

قالوا: يا رسول الله تركناها في قومها بخير. 

قال: إنها مِن أهل الجنة وإن الله قد غفر لها. 

قالوا: بم يا رسول الله؟ 

قال: جاءهم نذير في يوم أنه قدِم عليهم عدو فاجتاحهم فخرجوا ليلحقوا بعظيم قومهم.  قال: ولم يكن لها شيء تُحتمل عليه، ولها أم فحملت أمها على ظهرها حتى إذا أعيت وضعتها؛ فإذا كانت الرمضاء جعلت بطن أمها فوق بطنها ورجليها فوق رجليها واستلمت هي الرمضاء حتى لا تتأثر أمها، حتى نجتْ؛ فبذلك غفر الله لها، وجعلها من أهل الجنة.

وجاء أيضا مَن قبَّل بين عيني أمه كان له حجابًا مِن النار. -الله لا إله إلا الله-. وهكذا قالوا: كان الإمام مالك عليه الرحمة في درسه مع جماعة وإذا به يستقيم قائما، ثم يجلس، فسألوه قال: أمي كانت في السطح فلما رأيتها قمتُ لها، نزلتْ فقمتُ لها حتى جلستْ، فما جلستُ حتى جلستْ أمي، رحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة، ولم يزلْ الأمر كذلك. 

وجاءنا عن طاووس اليماني عليه الرحمة الله -تبارك وتعالى- فيما روى البيهقي والحاكم يقول طاوس اليماني، يذكر لنا قصة قال: مرض رجل وكان معه أربع أبناء، فأحدهم كان يحب برَّ أبيه فعرض على إخوته قال لهم: إما أنتم مرِّضوه وليس لكم شيء في إرثه، وإما أنا أُمرِّضهُ وليس لي شيء في إرثه، قالوا: أنت تقوم بتمريضه دون أن تأخذ شيئا ؟  قال: نعم. قالوا: خذه فلم يزل يُمرِّض أباه ويبرَّهُ حتى توفي. 

  • قال: فأُوتي في النوم فقيل له إنِّ في المكان الفلاني مئة دينار اذهب فخذها حلالًا. قال: أفيها بركة؟ فقيل: لا. أصبح فحدَّث امرأته قالت له: أذهب خذها، مالَكَ مِن بركتها، بتشتري لك حاجة وبتعيش منها، قال: أبدا ما أريد مال لا بركة فيه، 
  • فأُوتي في النوم في الليلة الثانية فقال: اذهب في المكان الفلاني فخذ منه عشرة دنانير، فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. قال: ما لا حاجة لي بها، وأخبر زوجته. قالت: اذهب هات لنا عشرة دنانير، 
  • فلما كانت الليلة الثالثة أُوتي في النوم قال اذهب في المكان الفلاني تجد دينارًا واحدًا حلال، قال: هل فيه بركة؟ قالوا: نعم فيه بركة، فذهب ووجد الدينار حيث وُصِف له وحفر وأخذ الدينار. 
  • وعاد إلى بيته، فوجد بائع سمك معه سمكتان يريد بيعهما قال: بكم هاتان السمكتان؟ قال: بدينار. قال: خذ الدينار، فأعطاه الدينار، قال فذهب إلى بيته فشقَّ السمكة الأولى فوجد جوهرة عظيمة، لؤلؤة ما قد رؤي مثلها فتعجب فيها، فشق الثانية ووجد واحدة ثانية مثلها فعجب، وبعث الله قلب ملكهم؛ له زمان يطلب جوهرة وصْفها كذا كذا كذا، بحثوا وما حصلوا إلاَّ عنده، كما وصف الملك، مِن أغلى ما يكون، حتى ثمنوها له بِوِقْر ثلاثين بغلًاً من الذهب -حمل ثلاثين بغل ذهب-، اعطوه إياه فاشتروها منه، جاءوا بها للملك اعجبته.
  • قال: هذه ما تصلح إلاَّ بأختها نريد وحدة ثانية مثلها ابحثوا عنها، ولو بإضعاف هذا، هاتوا ضعف فوق ضعف هذا الذهب الذي أنفقنا في هذه، ورجعوا إلى عنده قالوا: معك واحدة ثانية؟ قال: نعم قد بعْتكم هذه. قالوا: نريد نعطيك ضعفها، ضعف ثمن الأولى. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، أعطاهم إياها، فإذا به تسعين وِقر بَغل ذهب وسط بيته أغناه، وتصدَّق به. 

وانظر إلى البركة! دينار واحد؛ فيه بركة، أوصله إلى أين؟!  لكن عقليات الناس ما يعرفون هذا المعنى، في كثرة؟! أخذوه. ولذا تراهم في أحوالهم أصحاب الكثرة ما ظهرت البركة في كثرة ما عندهم، وكثير منهم راح فيما يضرهم أو فيما يعد وبال عليهم والهموم والغموم فوقهم معهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

وبحمد الله كما ذكر في قصة طاووس اليماني حَصلَ أيضًا في زمانا وحدَّثونا أيام كنا في البيضاء في قرية مِن القرى هناك كذلك، مرض رجل وكان معه كمية من العقار والأرض وعنده الأولاد يُنقِّلونه من بيت الواحد إلى الثاني، 

  • فقال لهم أحدهم: لا تتعبون الوالد تنقلونه من بيت إلى بيت، اتركوه عندي أنا بقوم بكل كفايته، 
  • قالوا: مِن شأن بعدين بتاخذ عقارهُ، 
  • قال: لا .. لا .. لا، اسمعوا حتى قسمي من العقار خذوه لكم، اعطونا والدي، أنا قسمي هو.. قسمي هو(والدي)
  • قالوا: بتكتب ورقة؟ قال: نعم. كتب لهم ورقة، إنه ليس له شيء، وإنه تنازل به لهم، فتركوه. 

فقام بحُسن برِّه حتى توفي، وجاؤوا إلى العقار فاقتسموه ولا أعطوا منه ذرة، وذهب في حاله يترزق الحق تعالى، فأقبلت عليه الأرزاق الواسعة، وأخوانه كل الذي غنموه من هذه العقارات، ذهبوا به هنا وهنا، فَرْفَرْ عليهم؛ وإذا بهم فقراء، فصارت نفقتهم من عند أخيهم، فصار هو الذي ينفق على إخوانه جزاء ما عاملَ اللهَ تعالى ببره لوالده وترك مقابل ذلك المال ونصيبه مِن التركة.

يقول تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ..(25))، مِن إرادة البر أو العقوق، مِن الصدق في البر أو التظاهر به، (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ ..(25))؛ سواء في هذه الخصلة التي أشار إليها أو في جميع الخصال؛ 

  • (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25))؛ الأوابين الرجَّاعين كثيري الأوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، وهم الذين يحاسبون أنفسهم والذين يقفون عند الحدود ويراجعون حساباتهم،  أَوَّابِين
  • (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)، ويشير إلى أنَّ الصلاح والارتقاء إليه إنما يكون بجهاد، إنه كَانَ لِلْأَوَّابِينَ، هؤلاء آبوا إلى الله تعالى ورجعوا إليه وحاسبوا أنفسهم فجعلهم في الصالحين. (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا). 

(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)، ونسألك يا من هو أعلم بما في نفوسنا منا؛ أن لا تجعل في نفوسنا إلاَّ ما تحب وما ترضى. (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25))؛ وبسط البساط في القرابات والأرحام والتكوين الأُسري؛ (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26))، أي تنفق المال في غير محله؛ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ..(27))، أي على طريقتهم ومسلكهم، (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))، يقول ضع المال في موضعه، وما يُهدى إليه ويُرشد عامة الناس (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) [الفرقان:67].

يقول: ( .. وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))، مُنكرًا ومُجاحدًا ومُتجرئًا على الرحمن -جلَّ جلاله- يجحد نِعمه، وإفضاله؛ فكأنه هو رب النعمة، ويقول كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) [القصص:78]. وهكذا كان يقول بعض الصحابة والتابعين: 

  • لو أنَّ مُنفقًا أنفق ماله كله في سبيل الله، لم يكن مبذرًا، 
  • ولو أنفق دينارًا واحدًا في معصية الله أو في ما يضرُّ في دينه ودنياه لكان مبذرًا.

( وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))، وجاءنا في الحديث الصحيح أيضًا خَبُر النبي ﷺ عن ثلاثة مِن بني إسرائيل كان أحدهم أعمى، وكان أحدهم أقرع لا شعر في راسه، وكان أحدهم أبرص؛ فأرسل الله تعالى إليهم مَلَكًا؛ 

فلقي ذلك الأقرع وسأله، ماذا تتمنى على الله؟ 

  • قال: أتمنى على الله شعرًا حسن، قذرني الناس ما عندي شعر في رأسي، قال فمسح على راسه فنبتَ الشعر، قال: الحمد لله، ما أحب المال إليك؟ قال: الجِمال، قال: فتناول ناقة عُشراء يعني حامل، وقال: خذها بارك الله لك فيها، فذهب فولدت فتكاثرت حتى اشترى مزرعة واشترى عبيدًا.

قال وجاء إلى الثاني الرجل الأبرص سأله ماذا تتمنى على الله؟ 

  • قال: أتمنى على الله جلدًا حسنًا، قال فمسح عليه فبرأ -كما كان سيدنا عيسى يبرئ الأكمة والأبرص بإذن الله- قال: ما أحب المال إليك؟ قال: البقر، فتناول بقرة حاملة وأعطاهُ إياها، فتكاثرت عنده ونمت حتى ملك الأراضي وملك العبيد الذين يقومون بخدمة هذه المصالح.

قال: وقال للأعمى ماذا تتمنى على الله؟

  • قال: أتمنى على الله أن يرد بصري أحيانًا ما أجد قائد وانا تعبان ويرد الله عليَّ بصري، فمسح على بصره فرد الله بصره؛ وإذا به يرى، قال: ما شاء الله. ما أحب المال إليك؟ قال: غنم، فتناول له غنمة حامل وأعطاه إياه، قال: اذهب بارك الله لك فيه، فولدت وتكاثرت. 

وإذا مع كل واحد منهم واديٍ؛ هذا مِن غنم، وهذا مِن بقر، وهذا مِن جمال، ومعهم المنازل والديار والخدم والقائمون على المصالح، قال: فاختبرهم الله فأرسل المَلَك؛ 

أرسله للأول، مرة يتصور بصورة الأبرص جاء إليه قال: أنا إنسان أبرص مسكين وما عندي شيء وتقطَّعت بي السُبل، هل تعطيني واحدة من جمالك؟ قال: ماذا؟!  تأخذ واحدة مِن الجِمال، والثاني يأخذ واحدة مِن الجمال، والثالث يأخذ واحدة مِن الجمال نعطيه الجمال، اذهب. قال: يا هذا اتقِّ الله أنا أعرفك كنت مثلي أبرص ولا تملك شيء، قال: ماذا تقول؟ هذا مالي ورثته كابرًا عن كابر!! قال: إن كُنتَ كذبْت فردَّك الله إلى ما كنت، قال: فهلك جميع ماله في لحظة وعاد إليه البرص، وإذا به أبرص ولا يملك شيء.

فذهب إلى الثاني وتصوَّر له بصورة رجل أقرع جاء يمشي: يا فلان، تقطَّعت بي السُبل، قال: وأنا رجل أقرع وما عندي شيء والآن تعطينا مِن البقر هذه بقرة أتبلَّغ بها. قال: أعطيك بقرة؟! ومَن جاء أعطيه بقرة وثاني بقرة، يذهبون بالبقر، اذهب. قال: اتقِ الله إنِّي أعرفك كنت مثلي أقرع، ولا عندك شيء. قال: هذا مالي ورثته كابًرا عن كابر، قال: إن كنت كاذبًا فردَّك الله إلى ما كنت، ثم أمبرأ جميع شعر رأسه وهلك البقرة والمال كله في لحظة، عاد كما كان.

قال: فأرسله إلى الثالث تصور بصورة أعمى يمشي، أين صاحب الأغنام هذه؟ أين صاحب هذا المال؟ قادوه حتى وصَّلوه الى عنده، قال: أنا اليوم أعمى وتقطعت بي السبل لا شيء معي، بغيت واحدة مِن حقك هذا الغنم أتبلغ بها. قال: اسمع قد كنت أعمى مثلك، وما كان عندي شيء والله رد علي بصري وأعطاني واليوم لا أمنعك مِن شىء، خُذ ما شئت، ففتح الملك عينيه، وقال له: بارك الله لك في مالك؛ إنما أنا مَلَك أرسلني الله إلى صاحبيك فهلكا ونجوتَ أنت، ورجع. 

   وهكذا شؤون الأموال في حياة الناس وغرائب ما يُنازلهم فيها وما يتعاملون بها ونظرتهم إليها، وهو الذي عَصَد حياة بني آدم عَصْد، وأوقعهم في أنواع مِن الكروب والحروب والآفات، وقطع مَن قطع عن الله -تبارك وتعالى-، وعن الملك العظيم، فالله يُرينا الدنيا كما أراها عباده الصالحين ويرزقنا تقواه فيها ويسخِّرها لنا ويرزقنا صرْفها فيما يرضيه عنا. 

ويُعلِّمنا الحق أنه في وقت ما يكون عندك مال تُعْرِض عنهم؛ أحد مِن الأقارب.. مِن المساكين .. مِن أبناء السبيل .. مِن الوالدين؛  يعني ما تقدر تنفق عليهم شيء، ما عندك شيء تعطيهم (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ  ..(28))، يعني منتظر فرج مِن الله وغيث، لكي تعطيهم، قال: في هذه الحالة عليك بالقول الطيب، وعليك بالخُلق الطيب. قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا (28))، هات الكلام الزين وهات الكلام الطيب، و بَيجِيك الرزق في وقته، و بتُنْفق منه، فما أحسن أخلاق القرآن. 

اللهم خَلِّقنا بأخلاق القرآن، أخلاق نبيك محمد الذي أنزلْتَ عليه القرآن، واسلك بنا من مسالك الصالحين في كل شان، وفرِّج عنا وعن الأمة الكروب وادفع الخطوب وسخِّر لنا الأسباب من جميع الجهات، وأعذنا من الانقطاع بشيء عنك، وارزقنا الصدق معك والإقبال عليك وبذل كل شيء لك وفيك ومن أجلك مخلصين لوجهك برحمتك يا أرحم الراحمين. 

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

 

 

تاريخ النشر الهجري

12 صفَر 1445

تاريخ النشر الميلادي

28 أغسطس 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام