(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس السادس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة (ق)، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}
الحمدلله مكرمنا بتنزيل القرآن، وحسن الدلالة والإيضاح والبيان، على لسان صفوته من جميع الأكوان، عبده المصطفى، سيدنا مُحمَّد صلى الله، وسلم، وبارك، وكرم عليه في كل حين وآن، وعلى آله، وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وأصحابه أهل الصدق، والإيقان، وعلى من والاهم، واتبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه، وإخوانه من الأنبياء، والمرسلين من رفع الله لهم القدر، والمكانة، والشأن، وعلى آلهم، وصحبهم، وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
أما بعد، فإننا انتهينا من تأمل بعض معاني ودلالات سورة الذاريات، ونعود إلى سورة قاف، يقول الحق -جل جلاله وتعالى في علاه-:
بسم الله الرحمن الرحيم {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(1)} وهذه السورة الكريمة من المفصل، قيل: إنها أول المفصل، وقيل: الحجرات قبلها، وقيل: غير ذلك.
وكان يقول بعض الصحابة: ما من سورة من المفصل إلا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها في صلاة. وكان -صلى الله عليه وسلم- يعتني بسورة قاف. فكان كثيراً ما يقرؤها في صلاة الفجر، وكان يقرؤها في صلاة العيد، وكان يكرر تلاوتها، وتلاوة آياتٍ منها في خُطبه إذا خطب، حتى قالت بعض الصحابيات: ما أخذت سورة قاف إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، كان يخطب ويقرأ سورة قاف، وكنت في أخريات صفوف النساء أسمعه، فحفظت السورة من فمه - صلى الله عليه وسلم-.
سورة قاف: المعظمة التي فيها خبر الرجوع إلى عالِمِ الظاهر والخاف، وشؤون هذه العوالم ونهاياتها، ابتدأها الحق بحرف قاف، فجاء عن ابن عباس: إنه من أسماء الله، وجاء عن ابن عباس أيضًا ومجاهد: أنه جبلٌ محيطٌ بالأرض. وجاء: أنه خطاب من الحق للنبي مُحمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم-، وجاء: أنه إشارة إلى الأسماء الإلهية المبتدءة بقاف من: قادر وقدير وقهار وقاهر وقيوم. وقيل في قاف: أنه اسم السورة نفسها.
وفي لفظ (قاف) معنىً من الإحاطة، فإنه الحرف الذي يخرج من المخارج كلها من الحلق، واللسان، والشفة، يقول لك: (قاف)، يستعمل فيه الحلق، واللسان، والشفه معًا. وفيه الإشارة إلى أنواع الإحاطات، منها: هذا الجبل الذي تحدث عنه كثيرٌ من الصحابة، ومن بعدهم، أنه محيطٌ بهذه الأرض، ومنها إحاطة القرآن بكل ما يحتاجه الناس، وما يدلهم على الحق - جل جلاله- وعلى المنهج القويم.
وفوق كل ذلك إحاطة الرحمن -جل جلاله- بكل شيء: علمًا وقدرةً وإرادةً وخلقًا وإيجادًا وقهرًا - سبحانه وتعالى-. {لِتَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عِلۡمَۢا} [ الطلاق: 12]
{ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} قسم، وحلف، ويمين بالقرآن، المبيِّن الهادي. النور الدال على الهدى، القرآن المجيد، ذا المجد، والشرف، والرفعة، والعلو، والتمَيُّز على جميع الكتب المنزلة.
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ينال المجد من تعلمه، وعمل به، وقام بحقه، فهو المجيد الذي يُنال به المجد الأصفى، والشرف الأعلى.
{ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} هذا هو اليمين، والقسم، فأين المُقسم به؟ قيل: أنه قوله: {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ(2)}، وقيل: أنه المُقسم به: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ..(4)}، وقيل هو المقسم به قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ…(5)}، وقيل: المقسم به مقدر معروف من سياق الكلام، أي لتبعثنَّ، {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} لتبعثنَّ.
يقول - تبارك وتعالى- في ذكر حالات تنتاب الناس، ومنها ما نازل أولئك الكفار، الذين تعجبوا من أمرين، كون المنذر لهم، والمرسَل إليهم منهم، وكونه مُخْبِراً لهم بأنهم يبعثون ويعودون بعد موتهم، ويحيَون حياةَ الأبد. فما مصدر عجبهم من ذلك؟ إنها ضلالات العقول عندما تعوج، وتنحرف، وتخرج عن المنهج السوي في استخدامها، إنَّ المنذر إذا كان من بين القوم وفيهم، كان ذلك أقوى لتصديقه، لأنه بينهم يعيش، ويعلم حقيقة أحوالهم، ويهمه أمرهم، وشأنهم، فإذا أنذرهم من كان منهم، كان ذلك أولى بأن يصدقوه، وأن يثقوا بقوله، وما كان المنذرون من قبل على مدى القرون في الأمم السالفة إلا منهم. ففيم العجب! لمَ يعجبون من ذلك؟ إنها شؤون النفوس التي تضِلُّ وتزيغ بها العقول، يستغربون ما لا تميل إليه نفوسهم، أو تفرح به وتحبه، ولو كان حقاً صريحًا، ويحاولون أن يكابروا.
{بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ…(2)} ما العجب أن يجيكم نذير منكم؟ وما من أمة إلا خلا نذير، وبعث الله فيها منذر منهم. إيش الغرابة في هذا؟ وكونه منكم علمتم صدقه، علمتم أمانته، علمتم أدبه، علمتم خلقه، علمتم عقله، فهو أولى أن تكونوا أوثق بما يقول لكم فلماذا العجب؟ هذا الطغيان الإنسان ومجاوزته الحد، يتعجب من أمر قوي قويم، واضح بيِّن، ويتعجب وينكر ويكابر.
{بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ…} وفي الإشارة إلى التسمية البديعة التي سمى الله بها من يُكذب بالحق الواضح كافر، أنهم في بواطنهم، وفي قرارات قلوبهم، يعلمون الحق، ولكنهم يسترونه، كافرون: الساترون، لأن الكفر هو الستر. فهؤلاء كفروا ستروا الحقيقة، وغطوا الأمر الواضح البين، وانتحلوا تكذيبًا به، وهم يعلمون أنه الحق. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ...} وكل كافر فقد ستر الحقيقة التي تنم بها وتمتلئ الفطرة وتدل عليها الدلالات. {…فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} كون المنذر منهم، والثاني {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا…(3)} يعني نبعث؟ بعد الموت وأن نكون تراب؟ ونرجع ونحيا؟ {ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} وأمامكم يتعاقب الليل والنهار، ويذهب ويرجع، فإيش الغرابة في الرجوع؟ وعندكم الأرض، الميتة المجدبة اليابسة، قليلاً من مطر ربكم، تحييها، وتخضر، وتزهر، فتتحول من ميتة إلى حية، إيش الغرابة في الرجوع؟ لماذا التعجب؟ لماذا الاستبعاد؟ ذلك رجع بعيد! والدلائل أمامكم كبيرة، وواضحة، وكثيرة، الله أكبر! ولكن مصرين على المناقضة، وعلى المعاندة! {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ(2)} يعرفون صدقه، وأمانته، وورعه، واحتياطه، وعقله، وخلقه الكريم. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2)} أي: مستغرب مستنكر.
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا…(3)} نعود ونرجع {ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} قال الحق -جل جلاله-: لماذا رجع بعيد؟ قد خلقتكم من لا شيء، وإذا أمتكم، علمت ما الذي يحصل لأجسادكم، وكيف تتحلل في الأرض، بأمري، وبقدرتي، وأعيدها كما كانت، بعلمي المحيط.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ..(4)} يقول: وفي هذا أيضًا رد على شبهة حاول بها هؤلاء الماديون، وأرباب التشريح أن ينكروا بها البعث، ويقولون إنَّ هذا الإنسان، وجسمه المكون من العناصر، إذا دفن في الأرض، وعاد إلى تراب، كانت فيه نسبة العناصر، فقد يُغرس في ذلك المكان شجرة، وتذهب من عناصرهذا الإنسان في التراب، فتطلع منها الشجرة فيكون فيها، وفي ثمرها من عناصر ذاك الإنسان، فيجي إنسان آخر يأكل من ثمرهذه الشجرة، فتدخل هذه النسبة من العناصر في هذا الإنسان، فإذا حُشِر هل تحشر هذه العناصر منه أو من الأول؟ يقولون بعقولهم أيضًا - مثل عقول الكفار-: إن حُشرَت من الأول نقصت في الثاني، وإن حُشرت من الثاني نقصت من الأول. يقول الجبار الأعلى: أنا المكون لهذه العناصر، ولهذا التراب، ولهذه الأجساد، فإذا رجعتها إلى التراب، هل نسيت العناصر، ونسبتها؟ وهل عندي أزمة في إيجاد العناصر؟ وهل نسبة كل إنسان وخصوصيته في عدد العناصر، أو في نسبتها هذه العناصر؟ عدد العناصر عند ذا، وعند ذا، وعند الكل، لكن نسبتها؟ فإذا كان نسبتها، فيعيد كل جسد -جل جلاله- بالنسبة التي كانت عليه في أيام حياته.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ..} وما الذي نقص؟ وما الذي تحول في الشجر؟ وما الذي راح إلى هناك؟ وإذا أردنا أعدنا كل شيء إلى مجراه، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} يحصي دقائق الأشياء، بتفاصيلها وذراتها، فما الإنكار هذا؟ ماذا تنكرون؟
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ..} بل، وحرَّمنا على الأرض بعض الأجساد الذين أحببناهم، فلم نأذن للأرض أن تمس أجسادهم، ونبقيها كما هي. فهذا الذي أبقى هذا الجسد، ولم يُمَكِّن الأرض أنْ تأكله، وهو خلاف القانون، والعادة التي جعلها الله في هذه الأرض، أيعجز أن يكوِّن جسده؟ ومن الذي منع الأرض أن تأكل هذا الجسد؟ إنَّ هذا المنع دليل واضح على القدرة الطليقة، فما لكم تنأون عن الحقيقة؟
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} وهذا ما نمكن الأرض تنقص منه شيء، وهذا نعيد تحلله إلى عناصر التراب، ثم نعيده عندما نصنعه مرة أخرى، كما صنعناه أول مرة، ونبقي من الآيات العجيبة، عجب الذنب هذا العظم الصغير في آخر العمود الفقري عند العصعص، كمثل حبة الذرة، ما تأكله الأرض، ولو أكله أي حيوان ما ينهضم ويرجع. ولو تدقه ما يتفتت. ولو تطحنه في طاحونة ما ينطحن، ما هذا العجب؟ ومنه يكون بقية الجسد، وينبت، ولذا في كثير من الآيات، ومنها في هذه السورة، جعل الله تعالى الحجة الواضحة لإعادة الأجساد، حياة هذه الأرض بعد موتها، وطلوع هذه الأشجار، فإنَّ الحق -تعالى- بين النفخة الأولى، وقد صعق من في السماوات والأرض، يُنزل قبل النفخة الثانية مطرًا يغوص في الأرض إذا وصل إلى عند عجب الذنب، نبت عليه الجسد، كما تنبت الشجرة من الحبة، تُطرح الحبة في الأرض، تصير شجرة، نواة كما هذه صغيرة، ما تساوي أنملة واحدة من أصابع من أنمل أصابعك، تبقى نخلة كبيرة طويلة، وفيها ثمر، قده كما أصبعك، ولا كما جسدك كله؟ كما عشر أجساد من أجسادك؟ معجزة الله من النواة! يقول لما تشوفون هذا قدامكم، إيش الغرابة في أني أخلق جسد؟ ومن هذا العظم الصغير، أرد الجسد كما كان، كما أنبت من هذه الحبوب التي ترونها أشجاراً، ذات أوصاف، وميزات، وخصائص، ومعاني، وثمرات، وأشياء كبيرة من بذور صغيرة! إيش الذي يُعكرعليكم وضوح قدرتنا على الإعادة؟ {كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡقٍ نُّعِیدُهُۥۚ… } [الأنبياء:104] قد خلقناكم من لا شيء، لذا قالت الملائكة لسيدنا زكريا -عليه السلام- لمَّا تعجب، وعند تبشيره بالولد، قال: { ٱمۡرَأَتِی عَاقِرًا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِیًّا* قَالَ كَذَ ٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنٌ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَیۡـًٔا} [مريم: 8-9] أنت أصلك منين جئت؟ وأنا أخلق ما أشاء، الله أكبر!
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} {وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ فِیۤ إِمَامٍ مُّبِینٍ} [ يس: 12] {وَكُلُّ شَیۡءٍ فَعَلُوهُ فِی ٱلزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِیرٍ وَكَبِیرٍ مُّسۡتَطَرٌ} [القمر:52-53] وسيأتي معنا في نفس السورة {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)} اللوح المحفوظ، وأم الكتاب، كتب الله فيه ما هو كائن بالتفصيل.
بل كذبوا بالحق الواضح الصريح لما جاءهم على يد الأمين الناصح الفصيح - صلى الله عليه وصحبه وسلم - {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ(5)} مختلط، فهم في أمر مريج، أمر متغير، متقلب، مختلط. وكل من كذب بالحق مرج أمره، اختلط اختبط عليه حاله، وعقله، وشأنه، وصار متناقض في كلامه، متخبط في وصفه للأشياء، وتصوره لها، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ(5)} يقول الله -جل جلاله- والآيات أمام أعينهم واضحة، فلماذا بهذا المرج؟ لماذا بهذا الاختلاط، والاختباط، والتغير، والتناقض؟
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا…(6)} وقد تقدم معنا في سورة الذاريات {وَٱلسَّمَاۤءَ بَنَیۡنَـٰهَا بِأَیۡی۟دٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47} كيف بنيناها؟ كوناها، وخلقناها، ورفعناها بلا عمد؟ كيف بنيناها، وزيناها بالنجوم، والكواكب بينكم وبين السماء، ترونها مزهرة عجيبة مضيئة؟ {…وزيناها وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ(6)} ما فيها فتحات، ولا ثقوب، ولا فتق، ولا ثقب، محكمة الصنع. {وَبَنَیۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعاً شِدَادًا} [النبأ:12] قوية، محكمة الصنع، متقنة البناء، لا تتشقق، ولا يحصل فيها فتق، ولا يحصل فيها ثقب، ولا تضعف، آية. {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} والأرض اللي هم عليها هذي، ما ينظرونها؟ من كونها؟ من مهدها؟ {وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَـٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَـٰهِدُونَ} [الذاريات: 48]
ويقول: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ…(7)} الجبال الشامخات، حتى لا تميد بكم، فأنتم مستقرون عليها مطمئنون، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} يعني: حسن جميل، يثير البهجة عند ناظره وآكله، {…وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل نوع من أنواع النباتات، بهيج، نضر، حسن، جميل، يبعث البهجة.
{مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً…} تبصرةً، إراءةً لوجه القدرة، وتبيينًا للحقيقة. {تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ…(8)} لعظمة المكون، وقدرته على الإعادة، وضرورة الرجوع إليه {…لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ذا إنابة إلى مولاه يستبصر، ويتذكر، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أما المُعرِض؟ أما المُعانِد؟ أما المُكابِر؟ فكما قال الله: {وَكَأَيٍّ مِّنْ آيَتٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]
وتثــبـط المتـشكـكون فـكـأنهم ليـســوا هـنا إن الـوجـــود بــأســـره بـالأحــديـة مـعـلــنا
بـهـرت بـدائعـه العقـول فغدا الموفق موقنا وتشكك وتثبط المتشككون فكأنهم ليسوا هنا
ما كأن أمامهم آية؟ وهم آية، وماحواليهم آية، وما فوقهم آية، وما تحتهم آية، وعن أيمانهم آيات، وعن شمائلهم آيات، وما كأنه شي آيات! والعياذ بالله تعالى.
وتثبط المتشككون فكأنـهـم ليســوا هنا تبــًا لمـن يشــك فـي الحـق وقـد تبينا
فاللهم زدنا إيمانا، ويقينا، ومعرفة، وإدراكا للحقيقة، وثبتنا على أقوم طريقة، وألحقنا بخيار الخليقة، يا رب العالمين. يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8)} يا منزل هذه الآيات، يا رب البريات، اجعل كل حاضر معنا، وسامع لنا من المنيبين.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} كما قال: {أَفَلَا یَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَیۡفَ خُلِقَتۡ* وَإِلَى ٱلسَّمَاۤءِ كَیۡفَ رُفِعَتۡ* وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَیۡفَ نُصِبَتۡ* وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَیۡفَ سُطِحَتۡ* فَذَكِّرۡ …} [الغاشية: 17-21] ذكرهم، قل: آيات الله قدامكم، وقدرته بادية لأعينكم، ماذا تنكرون؟ ارجعوا إليه، وانتبهوا. {فَذَكِّرۡ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] فإن كانوا على الإصرار، على المعاندة، والكبرياء، والتكذيب بالأمر الواضح. {لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ* إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ* فَیُعَذِّبُهُ …} [الغاشية:22-23] فيعذبه من؟ ربه بيعذبه {فَیُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَكۡبَرَ} [الغاشية:24] اتركهم ولا تعجل عليهم {فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدًّا} [مريم: 84]، {إِنَّ إِلَیۡنَاۤ إِیَابَهُمۡ* ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا حِسَابَهُم} [الغاشية: 25- 26] اللهم ادخلنا جنتك بغير حساب.
قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا(9)} هذه الأمطار، يجعل الله فيها بركة، والله يبارك لنا في أمطارنا، ويجعلها سقيا رحمة، وهناء، ولطف، وعافية، ولا يجعلها عذابًا علينا، ولا لأحد من المسلمين. قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} -بساتين- {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي: الحب الذي يحصد، ويأخذ من ذلك الثمر، وأنبت به جنات، بساتين، وحب الحصيد.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} طوال طويلات {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ(10)} نضيد متراكب، متراكم، مرتب، تجده وسط ما نسميه الحربة عندنا، منظم منضد مرتب تمام، عندما تفتح القشرة، تجد نعومة، وملوسة فيها، ومصفوف صف عجيب، وكل واحد متراكم مع ثاني، تخرج عود بعد عود، وكل واحد مرصوص لها طلع نضيد، ويقولوا أيش من قدرة ذي التي رتبت هذا؟ إيش من أجهزة التي نظمت هذا؟ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم- يقرأ بعضهم يقرأ: والنخلة باسقات، يقول: ما أطولها! ما أطولها! يقول الصحابي. باسقات طويلا، لها طلع نضيد.
{رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ…(11)} من عندنا، سبحانك لك الحمد، {…وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا…} هذا الماء المبارك المنزل من السماء، {…وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ} خروجكم أنتم من القبور، ورجوعكم إلى ظهر الأرض، كما فعلنا بالحبوب هذه، والثمار وطلعنا كذا، هذا سواء سواء، الذي يقدر على ذلك، ما يقدر على ذا؟ {…كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ} خروجكم من قبوركم ليوم البعث، والنشر، وقوفكم بين يدينا بقدرتنا، كما أريناكم القدرة أمام أعينكم في هذا الإخراج، وفي هذا التركيب، وفي هذا الصنع البديع العجيب.
لك الحمد يا ملك السماوات والأرض، ويا من بيده ملكوت كل شيء، ارزقنا اليقين التام، وارفعنا إلى أعلى مقام، واجعل لنا حظًا وافرًا من الارتقاء في مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، في هذه الليالي، والأيام، بارك لنا في شهرنا رمضان، بركة تفتح لنا بها أبواب الفهم في القرآن، والاتصال بنوره، وسره، ودلالته، وإشارته، وفهم رمزه، وفهم إشارته، وفهم ما انطوى فيه، ما طويت فيه من معاني بديعات، وشؤون رفيعات، ومعارف واسعات، يا منزل الآيات على قلب خير البريات، ثبتنا أكمل الثبات، وجنبنا جميع البلايا، والآفات، وأصلح لنا الظواهر، والخفيات، وبارك في مجامعنا، بركة تجمع لنا بها الخيرات من جميع الجهات، في ألطاف، وعافيات تامات كاملات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، يا جزيل المنن والهبات، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، أنجز لنا كل ذلك، ورحمة من عندك، نسعد بها في الدنيا والآخرة، برحمتك، يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
07 رَمضان 1444