تفسير سورة الشورى -18- من قوله تعالى: { كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ.. } الآية 52 إلى الآية 53

الأدب في الدين للإمام الغزالي - آداب الإخوان والجار
للاستماع إلى الدرس

الدرس الثامن عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) 

السبت 29 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مُكرِمِنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لِسان عبده محمدٍ خير هادٍ ودليل، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه خير جيل، وعلى من والاه واتبعه في أقوم السبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسَلين مَحَل التكريم والتمجيد والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم ومن تَبِعَهُم وعلى المَلائِكة المُقَرَبين وجَميع عِباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ؛

فَيَذكُر الحَق -جلَّ جلاله- تجلياته للعباد، وما يُمَكِّنُ مِنهُ البَشَر من إدراكِ كَلامِهِ -سبحانه وتعالى- الذي هو صِفةٌ من صِفاته، والمُرادُ: إدراكُ مَعاني هذا الكَلام مُتَرجَماً بِلُغَة الموحى إليه والمُتَجَلى عليه،  وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [ابراهيم:4]، ثم أنه -سبحانه وتعالى- جَعَلَ هذه الأنواع من كَلامِه للبَشَر:

  • الوحي،

  •  أو الكَلام من وراء الحِجاب،

  •  أو إرسال الرسول، فَيوحي الرسولُ و المَلَكُ بإذن الله ما شاء.

  • كما جعل رؤيا الأنبياء وحيٌ شريف مُعَظَم. 

وقال ﷺ فيما يتعلق برؤيا المؤمن أن الرؤيا الحسنة من المؤمن "...جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"، وقال ﷺ : "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له"؛ 

  • فأشار إلى أن للرؤيا الصالحة إذا صَدَقَت وصَفَتْ بِصَفاء حال رائيها وناقِلها. 

  • فلها إتصالٌ بأسرار الوحي أو إنباء الحق -تبارك وتعالى- لعباده بأخبار وما إلى ذلك.

ونَقرأ في القرآن ما كان من تأويلِ سيدنا يوسف -عليه السلام- للرؤيا، وما بنى من سياسة دولة العزيز في تمويل الناس على حسب الرؤيا التي رآها (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) [يوسف:43] إلى آخر ما ذكَر -جل جلاله-.

إلا أنه من المَعلوم أن العِصمةَ مخصوصةٌ بالأنبياء؛ 

  • ولذلك مرائيهم في النوم وما يُلقى في  قُلوبهم ويُقذَف، وكل ما تعلق بذلك، فهو بالنسبة لهم حقٌ لا ريبَ فيه.

  • والذي جاءوا به عن الله وأقاموه هو الميزان الذي يَحكَمُ على ما يَقَع في الخواطر أو يُرَى في المرائي أو يُقذَفُ في قلوب غيرهم.

فيكون غير مقبول إلا ما وافق ما جاءوا به، وكل ما خالف ما جاءوا به فهو مردود على أصحابه ولا يؤخذ به، لا برؤيا ولا بدعوى كَشف ولا بدعوى نفثٍ في الروع ولا بأي شيء. 

ولكن إذا كان ذلك لا يخالف؛ فهذا هو الميزان الذي يُقبَلُ. ويُقبل به، وبه تُقبَل تلك الرؤيا؛ فعلامتها: 

  • لا تأتي بتغيير شيء من أحكام الله ولا من شريعته، ولا تحليل حرام ولا تحريم حلال.

  • ولا إلى مخالفة سنة.

  • ولا إلى تعّدي حدودٍ في الشرع.

وما كان من ذلك فكله مردود. كل ما يخالف السنة أو يُتعدّى به حد الشرع فهو مردود على أصحابه. ولهذا في لفظٍ في البخاري: "الرُّؤيا الحسنةُ من الرَّجلِ الصَّالحِ جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوَّةِ":

  • فهي -رؤيا- حسنة.

  • والرجل حسن صالح، رجل تقي. 

فهذه هي الرؤيا التي لها اعتبارها، وقد اعتبرها ﷺ، حتى قال للذي جاء له ويذكر له رؤيا لبعض من مات، وأنه رآه في مَنامِه في هيئةٍ حسَنةٍ ولكنّه مغُطي يده، "فقالَ: ما لي أراكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟" قال له: إنه كنت استعجلت على نفسي وقطَّعت يدي، "فقيل له: لن نُصلِحَ منكَ ما أفسَدتَه"، فبقيت؛ فلما قُصَّ الرؤيا عليه ﷺ قال: "اللهم وليديه فاغفر"، فمعناه: أنه اعتبر صحة الرؤيا من الرجل، ورتَّب عليها ما قاله.

وكذلك قصَّ عليه الآخر: أنه رأى أخوين، مات أحدهما قُتل شهيداً في سبيل الله، ومات الثاني بعده بسنة، ولكنه رأى هذا الذي مات من غير شهادة مرتفعة درجته فوق ذاك؛ فأشكَل عليه، فقصها على النبي ﷺ فأقرَّه، قال: أليس شَهِد بعده كذا كذا جمعة؟ -وجاب جُمَع السَّنة كلها ذكرها- وصلَّى معنا فيها؟ أليس صام معنا رمضان؟ لم يصمه ذاك؟ قال فبهذا ارتفعت درجته على درجة ذاك؛ فاعتبرها ﷺ من هؤلاء الأخيار من الصحابة -عليهم رضوان الله جل جلاله-.

إذًا فبهذا الميزان تقوم على ذلك هذه الصِّلاتُ بين الخلق وخالقهم -جلَّ جلاله-.

وكان في المتأخرين شيخنا الحبيب سالم بن عبد الله الشاطري، قال: أعرف خواطري؛ إذا ورد عليه خاطر يكون كما هو، وذكَر وقائع وقعت له كثيرة. فهذا يحصل لكثير من الصالحين ومن أولياء الله -سبحانه وتعالى-؛ وإليه الإشارة بمثل ما جاء: 

  • "إنَّ في أمتي مُحَدَّثون، وإنَّ منهم عمر".

  • و: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". 

وإلى غير ذلك مما جاء من الروايات، لكن كل هذا بالنسبة لغير الأنبياء تحت الميزان؛ تحت ميزان ما جاء لا يُقبل. ولهذا كان يقول سيدنا الجنيد بن محمد -عليه رحمة الله، وهو سيد الطائفة في بغداد-: إنَّا لا نقبل كشفاً من أحد، ولا خاطراً يخطر عليه ولا رؤيا؛ إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة. بشاهدي عدل نقبله، من دون شاهدي عدل ما نعتبرها، فهذا هو الميزان.

بعد ذلك، علِمنا تجلّي الحق -تبارك وتعالى- حتى على الحيوانات وحتى على الجمادات: 

  • فقال للسماوات والأرض: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]. 

  • ويقول -سبحانه وتعالى- عن الأرض في القيامة: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) [الزلزلة:4-5].

  • ويقول عن النحل: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل:68].

فمشَت على المنهج الذي كلَّمها به الله -سبحانه وتعالى-، وهي حيوان من الحيوانات؛ فكان تجلِّيه عليها بإلهامها هذا الأمر، ثم خُلِقَتْ ملتزمة له كما أمرها -سبحانه وتعالى-.

إذًا، فهذه جوانب ونواحي أشار إليها بقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)).

وكذلك بأنواع الوحي وزيادة لك: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا حبيبنا يا خاتم أنبيائنا يا محمد (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) أعطيناك من أنواع الوحي شيئاً عظيماً، ومنه الروح الذي تحيا به القلوب، وتحيا به الأرواح، ويُنقَذ به الناس إلى حياة الأبد في النعيم والسعادة، فسمَّى:

  •  الوحي الذي نزل عليه والقرآن: روح، 

  • وجبريل الذي ينقله: روح،

 (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء:193-194]. وخَصَّ الكتاب بأن تولّى حفظه، وأن جعله مهيمناً على جميع الكتب: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة:48]، فكانت خصوصيات لرسول الله ﷺ في تجلِّي الحق عليه، ما لم يتجلى به على شيء من الكائنات والموجودات الأخرى.

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) روحاً من أمرنا: من غيبنا؛ فإنَّ الحق تعالى فرّق -كما أورد البخاري في صحيحه- بين الخلق والأمر: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الاعراف:54]،

  • فجعل الخلق لكل ما يُرى ويُحس ويُشاهد، وما له جسم وما له صورة. 

  • والأمر هو العالم الغيبي المعنوي، ما لا يخضع للأجسام والأشكال، ولا له حجم أو الاشياء، هذا عالم الأمر. 

ولمّا سُئل عن الروح قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الاسراء85].

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) من شأن الغيب المطلق أوحينا إليك روحاً تحيا به القلوب، تحيا به الأرواح، تحيا به الأسرار، ينتقل به الناس، كما قال تعالى:

  • (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الانعام:122]،

  • (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الانفال:24]،

  • (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)،

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) إذاً فأنت حامل الروح من عالم الروح، من عالم الغيب،  (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) فإذاً هو يحمل روح الروح ﷺ. 

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (51)) من وحينا، فهذا الروح: 

  • يشمل القرآن.

  • ويشمل الهدى الذي بُعِث به.

  • والدين -الإسلام يشمله-. 

أنواع ما يُوحى إليه ﷺ، فكان: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا).

  • وفي هذا توالى تفصيل ما علّمه الله -سبحانه وتعالى- إجمالاً في عالم الروح وقبل خلق الخلق، 

  • ووالى عليه -سبحانه وتعالى- تفصيلات ذلك، وأشار إليه في الآية وقال: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114]. 

  • والى عليه تفصيل ذلك، فمن جُملة ذلك قال ﷺ: "إنِّي عِندَ اللهِ في أُمِّ الكِتابِ لخاتَمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينتِه"، وهو في مقام ختم النبوة ﷺ.

ومع ذلك كله، فهو يدري أنه سيحمِلُ الأمر وسيُبعَث، وهو كالأنبياء، بل هو أعظمهم، في ولادتهم على النور والهدى والإيمان. وإذا "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ"، فكيف الأنبياء؟!

  •  وسيدنا عيسى في المهد: 

    • (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم:30] في المهد! في المهد! 

    • (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ) وهل سيصلي الآن وهو لازال في المهد؟! 

    • (وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) [مريم:31-32] ماهذه العلوم الواسعة الكبيرة وهو لازال في المهد؟! فكان سيدنا محمد أعظم من ذلك، وأجلَّ من ذلك!

  •  وقال في سيدنا يحيى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ) [مريم:12]، قيل: النبوة، وقيل: الحِكمة والعلم والمعرفة -وهو لازال صبيا- فرسول الله أعرف منه من غير شك.

فقوله: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ..(52)): 

  • تفاصيل ما نوحي إليك الكتاب مُنجَّماً، نجماً بعد نجمٍ، 

  • وقيامك بالدعوة إلينا وإلى الإيمان بنا، 

  • ومَن الذي يؤمن ومَن الذي لا يستجيب، 

نُبرزه لك ونُفصّله، أعطيناك العلم مُجملاً فنُفصّله لك الآن، ونبيّنه لك، ونوضّحه بتفاصيله.

 ولذا وقف المفسّرون عند قوله: كيف يقولوا لك هو ذا الإيمان؟! و: "كل مولود يولد على الفطرة" والإيمان!؟ والأنبياء كلهم مؤمنون من أول ما يُخلقون، وغيرهم حتى يوحِّد من غير الأنبياء بحكم الفطرة، فكيف الأنبياء! وأخذوا يقولون معنى شرائع الإيمان، وتفصيل الإيمان، ويأتون بما يستنبطونه في المعنى، وهكذا.

والحق تعالى -كما عَلِمنا من سياق الوحي والكتاب العزيز- أنّه: 

  • أولًا: يُفَصِّل لنبيه ﷺ؛ ما أجمله له في تعليمه إيَّاه من قبل، 

  • ثم يُنزّل كثيراً مما حَشَاه في روحه الكريمة إلى الذات بعد تكوينها -والذات هو حبس الروح في  هذه الذات- فينكشف له شيئا فشيئا.

وإذا كان عموم الناس يجدون في بواطنهم معاني إذا صَفَوا وتَنَقَّوا، وأخلصوا، وحضروا مع الله؛ انكشفت لهم معاني ومعارف وعوارف. وهذا في عموم الأرواح، فكيف بروح سيد المرسلين ﷺ ؟

مَنّ عليه يقول ونحن الآن نفصل لك ما أَجْمَلنا، ونزيدك علماً (مَا كُنتَ تَدْرِي) بهذا التفصيل والزيادة، وخذها مِنّا، (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) هذا الوحي وما يترتّب عليه من تفصيلات لك، وتعليمات لأمتك، ومن يأتي من بعدك: (جَعَلْنَاهُ نُورًا)، (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ) بهذا النور إلينا وإلى الوصول إلى حضرتنا (مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا).

فنسألك يا ربِّ أن تجعلنا ممن شئت أن تهديهم بهذا النور، يا عزيز يا غفور، بحبيبك بدر البدور؛ في بواقي رمضان سيد الشهور اهدنا بهذا النور.

(وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا..(52)) إلى الحق والهدى، وإلى سلوك ذلك، وإلى الارتقاء في كشف الحُجب واعتلاء الرُّتب؛ حتى يصير واصلاً إلينا، محفوفاً بالعناية من قِبَلنا، من عبادنا الذين نستخلصهم -الله أكبر!-

  • قال لسيدنا موسى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه:41]، (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) [طه:39]. 

  • ويقول لسيدهم: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [النجم:48]، ﷺ.

(وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) هذا الذي أوحينا إليك (نُورًا) وما أعظمه من نور! تتنوَّر به العقول والقلوب والأرواح؛ (نَّهْدِي بِهِ) علمًا ومعرفة ومحبة وشهوداً (مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، فكلّهم اهتدوا بما أُوحِيَ إلى محمد ﷺ، وما أُنزل على محمد ﷺ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) [التوبة:100]، من جميع الصّديقين والمقرّبين والعارفين، كلهم اهتدوا بهذا النور. 

(وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا..(52))، اجعلنا من عبادك الذين شئت أن تهديهم بهذا النّور، ووفّرت حظهم ونصيبهم من الهداية بهذا النّور.

يا نور! اجعلنا نوراً بحقِّ النّور، واجعل لنا سراية من هذا النّور بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، وفي أسماعنا وفي أبصارنا، وفي لحومنا وفي دماءنا، وفي عروقنا وفي جميع أجزائنا وكُلّياتنا، يا نور!

وكان في دعائه ﷺ يقول: "اللَّهُمَّ اجعَل لي نورًا في قَبري، ونورًا في قَلبي، ونورًا في سَمعي، ونورًا في بصَري، ونورًا في شَعري، ونورًا في بَشَري، ونورًا في لَحمي ونورًا في دَمي،…"، دم فيه نور ودم ما فيه نور!

يقول الحبيب حامد بن علوي بن طاهر الحداد -كنا لقيناه في مدينة جدة- يقول: إنّ الوالد احتاج إلى إجراء عملية عندما كان في شرق آسيا، ورفض الوالد العملية، وقالوا له إن بعض الدكاترة والأطباء أقنعوا الوالد بأن العملية سهلة ويسيرة والنجاح فيها هو الغالب وكذا. قال الابن: جئت أكلمه، فقال لي: يا ولدي، أنا ماني فزعان من العملية ولا من الموت، فهمت أنكم ستضعون لي دما، ما أدري دم من هذا؟ وأبوك له 40 سنة ما عصى الله، ستضعون لي دم مَن؟ أنا رفضت العملية لهذا السبب؛ ما أردت دمي يختلط بدمه؛ لأن دم فيه نور ودم ما فيه نور، وستُعطونني دم واحد ما أعلم يُصلي أو ما يصلي، مسلم أو غير مسلم؟! أنا رفضت العملية لهذا السبب، لا يوجد خوف من العملية ولا خوف من الموت، ولكن أبوك له 40 سنة ما عصى الله، وستضعون له الآن دم من أين؟!

 لا إله إلا الله! 

وهكذا، (جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، خاطب الله حبيبه: 

  • (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52))، أنت مفتاح باب الهداية لعبادي، وأنت سبب هداية الخلق إلينا. 

  • (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) إنَّ التوكيدية ولام التوكيد (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي)، 

  • (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فنعم الهادي بإذن ربه محمد بن عبد الله ﷺ. 

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53))، وفي هذه الكلمات أيضاً معاني عظيمة وإشارات لطيفة وكبيرة.

رزقنا الله حُسن الوعي لأسرار الوحي، وفَهْم ما أنزل الله على قلب أصفى خلقه وأحبّ عَبيده إليه محمد ﷺ.

نوِّر قلوبنا بهذا النور، اجعلنا من خواصِّ مَن يتنوَّر به في البطون والظهور، ويسير على درب المصطفى بدر البدور في جميع الأمور، حتى نُدرك سِرَّ مَحبّتك، وأنت القائل: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ال عمران:30]. فيا برّ يا شكور: وفِّر حظَّنا من هذا النور، وتَولّنا في جميع الأمور، ولا تُخلِّفنا عن رَكْب أهل الحضور، يا عزيز يا غفور، برحمتك يا أرحم الراحمين، ومِنّتك يا عظيم المِنّة، يا أكرم الأكرمين! 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي

 اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة.

 

 

 

تاريخ النشر الهجري

02 شوّال 1446

تاريخ النشر الميلادي

31 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام