تفسير سورة الفتح، من أول السورة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، الآية: 1

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

 

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) }

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بالإيمان والقرآن وشَهرِ رمضان وبيان الحقِ على لِسان سيد الأكوان حبيبِ الرحمن سيدنا محمد المصطفى من عدنان، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه الغُر الأعيان، ومن تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادِن الصدق والإيقان والعلم والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد:  فإنَّنا في نعمة اتصالنَا بالله وتقوية صلتنا به، وتلقِينا لتعَاليمه وأحكامه ووحيهِ الذي أوحاه إلى قلب خير خلقه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يبسط الله لنا من اتصال بذلك الوحي وسِره، ووقوفٍ على نهي الله وأمره، وتعرضٍ لجود الله ومنِّه وبِره، وصلنا إلى (سورة الفتح).

وسورة الفتح مدنية، نزلت عند رجوع نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في عام صُلح الحُديبية، وذلك أنَّ نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام قد جَبلَه الله على محبة البيت الحرام والكعبة المشرفة، فكان يشتاق إليها ويحنُّ إليها ويُحبها، وقد كانت القِبلة إلى بيت المقدس، فكان أيام كان بمكة يستقبل البيت الحرام ما بين الركنَيْن اليمانييْن ويستقبل بيت المقدس، فلما سافر المدينة صار أمامه بيت المقدس والكعبة خلفه،  فصار يصلي إلى بيت المقدس واشّتاق أنْ يأمره اللهُ أنْ يتحول إلى القبلة -إلى الكعبة- أن يحول القبلة إلى الكعبة ويستقبلَ الكعبة، قبلة أبيه إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- فمضى على ذلك سنة وأشهُر فاشتد شوقُه إلى أنْ يحولُه الله إلى الكعبة، كلم مرةً سيدنا جبريل، فقال له سيدنا جبريل: اسألهُ أنت، فإَّنك أحب إليه مني، وكانتْ آداب النبي صلى الله عليه وسلم وهيبتهُ لله ومعرفتهُ به، منعتهُ أن يتكلم فما سأل- فلم يسأل-.!  ولكنْ، لما رأى الله ما في قلبه، استشعر هو أنَّ الحق تعالى سَيُجيبهُ، فأخذ يرفع رأسه نحوَ السماءِ ينظر نزول الوحي بالأمرِ باستقبال الكعبة، فأنزل الله: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۗ...} [سورة البقرة:144].

ومرَّت على ذلك أيضًا أربع أو خمسْ سنوات، اشتاق إلى أنْ يذهبَ إلى بيت الله، وإلى أن يطوف بالبيت؛ فخرجَ يريدُ العمرةَ، وكانَ أيضًا من المعروفِ بينَ النَّاس تعظيم بيت الله وحرمتهُ، وأنَّ من جَاء حاجًا أو مُعتمرًا لا يُرَد ولا يُصَد عن البيت، ومهما كان من حربٍ بين الأقوام ومعاداةٍ، فإذا وصلوا الحرم لا أحد يعتدي على أحد، ولا أحد يؤذي أحد،  ولا أحد يَصُد عن بيتِ الله تعالى. 

فخرج وخرج معه ألف وأربعمائة من أصحابه، وأحرم من ذي الحُليفة، وساق الهَدي، يدخله إلى ذبحه في الحرم، حتى وصل إلى الحُديبية، عند مدخل حدود الحرم، فمنعته قريش، قال: ما جئنا إلاَّ لنعتمر، ما جينا -جئنا- لقتالٍ ولا جئنا لحرب، إنَّما لنطوف بهذا البيت.  فأخذوا في التفاوض بينهم، وأرسل إليهم سيدنا عثمان بن عفان، ليُبلِغهُم أنَّه ما جاء إلاَّ لِيعتَمر ويَرجع، فمسكُوا سيدنا عثمان وحبسوه عندهم، يعرف أن له عشيرة وقوم وأن لا يناله أذى لذلك اختارهُ وأرسله، ثم لأجل الإرجاف وبث البلبلة، أشهَروا وأعلنوا أنهم قتلوه، وهم إلا حبسوه عندهم ما قتلوه!

ولما بلَغت الأخبار إلى أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم أن المشركين قتلوا سيدنا عثمان، دعاهم إلى البيعة وقام تحت شجرة السَّمُرة، وأقبل الصحابه عليه يبايعونه على الجهاد في سبيل الله، وعلى الموت في سبيل الله، وبلغَ خبرُ البيعة إلى قريش وارتعبت وقالت: هؤلاء قوم خطيرين وصعب مُقاتلتهم، فرجعوا يفاوضون، وأرسلوا يفاوضونه في شأن ما بينهُ وبينهم، حتى انتهَوا إلى الصلح، ولكنْ اشترطوا شروطًا صعبة، بأن ترجع العُمرة هذه السنة ما تدخل، تدخل العام القابل، وتدخل وليس معك شيء من السلاح، إلا الأسياف في غِمْدها، وتجلس ثلاثة أيام بس ثم تخرج، وتوضع الحرب بيننا وبينك عشر سنين، ما أحد يمس أحد، لا قريش تمس أحد من أصحاب النبي محمد، ولا أحد من أصحاب النَّبي محمد يمس أحد من قريش ومن دخل،  ومن دخل في حِلف محمد من القبائل فلهُ ذلك ويُحترم وما يُمس، ومن دخل في حِلف قريش فكذلك يُحترم ولا يُمس، مَن أراد أن يدخل في حِلف النبي، وَمن أراد أنْ يدخل في حِلف قريش، واشترطوا شرطًا صعبًا، مَن جاء منَّا إليكم ترده علينا ومَن جاء منكُم إلينا ما نردهُ عليكُم، وقبِلَ النَّبي تلك الشروط كلها، لِما أعلمهُ الله في طيِّها وضِمنها وغيْبها وباطنِها وعاقبتها من الخير الكبير، وكتب الصُّلح بينهُ وبينهم، وأمْلَى على سيدنا علي، وحضر سهيل بن عمرو، يُكاتبه ومندوبين من قريش فيما حصل بينهم من تشاور، جاء بعضهم ممن رأى الصحابة، قال: يا قومي إني رأيت قومًا لا يُسلِمُون محمدًا، ووالله لن تقتلوا واحدًا منهُم حتى يقتُل منكم واحد أواثنين أو ثلاثة، وإذا أصابوا عددهم منكم فبئس العِيشة، وبئس الحياة، أروا رأيكم هاتوا رأي سوا، على كلٍ، توالى الذاهبون إلى هناك والراجعون حتى أجمعوا أنه لابد يصالحوه، فصالحوه على هذا الذي ذكرنا.

قال لسيدنا علي: اكتب بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، كتَبْ بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، قال سُهيل بن عمرو: ما أدري ما الرَّحمن؟  ما أعرف هذا! اكتب باسمك اللَّهُم، نحن عادتنا نكتب باسمك اللَّهُم، تعسُّف،  قال له النبي لسيدنا عليِّ: امحُه واكتبْ باسمك اللّهُم، محاها كتب، قال: أمَّا بعدُ: فهذا ما صَالح عليه محمدٌ رسولَ الله سُهيل ابن عمرٍو وقريش، قال: محمد رسول الله؟! لو نعلمُ أنك رسولُ الله ما قاتلناك؟! كيف تكتبُ محمد رسولُ الله؟  ما تكتب محمد رسول الله ، اكتب: محمد بن عبد الله.  قال: إنِّي رسول الله وإن كذبتمُوني، أمحُها ياعلي، قال: والله لا أمحوها، أنتَ رسول الله ما أمحوها  قال صلى الله عليه وسلَّم: أرني مَكانها، وأخذ قليل من الماء، ومَرْ بإصبعهِ الشريف ومحاها، اكتب محمد بن عبد الله، وكمَّل من الصُّلح، التفت إليه، وقال: إنَّك ستُكال بمثلِها وتُعطيها وأنت يومئذٍ مُضطهد، يقول لسيدنا علي:  يقع لك مثل موقف هذا وبتمشِّيه، وأنت مضطهد في ذاك اليوم، ولمَّا كانت الفتنة وخرج من خرج من البُغاة عن سيدنا علي أيام إمارته وكتبوا الصُّلح بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا بسم الله الرَّحمن الرَّحيم أما بعد:  فهذا ما صالح عليه علي أمير المؤمنين قال: أميرُ المؤمنين؟! لو كنت أمير المؤمنين ما نقاتلك! اكتب علي بن أبي طالب،  فتذكر سيدنا علي قبل سنين قبل قريب 40 سنة حدثت الحادثة شي وثلاثين سنة حدثت هذه الحادثة وتذكرها سيدنا علي، قال: قد قال النبي، اكتب علي بن أبي طالب، وكتبوا ذلك، حتى تم الصلح. 

تم الصلح بينه وبين قريش، قال للصحابة: بسم الله انحروا واحلقوا رؤوسكم وانحروا الهدي،  ثقُل على الصحابة، مُحرمين يخرجون يرجعون بلا عمرة، مردودين من تحت البيت، من تحت مكة، تباطؤوا ما قاموا!  يَرتجُون أنَّه يمكن يغير رأيه -صلى الله عليه وسلم- أويأتي وحي أو يعمل شيء ويدخلون مكة ، فعِجبْ من تباطؤهُم ماهو عادة الصحابة إلا المباشرة! حتى دخل على أم سلَمة كانت معه قال: ألم تري أني أمرتهم أن يحلقوا رؤوسهم؟! وينحروا هديهم فلم يفعلوا؟! قالت: يا رسولَ الله تُحب ذلكَ منهُم؟ تُريدهم يتبعونك؟ لا تتكلم  مع أحد منهم أُخرج أنت، ادعُ بحلاقك فاحلق وانحر بَدنك فسيتبعونك كُلهم، فكان لها موقف انقذت فيه الجيش، أنَّه لو استقَّر في قلبه -صلى الله عليه وسلَّم- شيء لتعرضوا لخَطر، فخرجَ ودعا الحلاَّق، حلق وقامُوا يقتسمون شَعرهُ الشريف بينهم البين، ولمَّا رأوه يحلق يحلق قاموا يحلق بعضهم بعضًا، نَحر هديه قاموا ينحرون الهدي، ولمَّا حلقوا هبَّت ريح أخذت الشَّعر دخلته بحدود الحرام داخل، استبشروا خيرًا.

 أيام لهم مقيمين عند بئر، أول يوم وصلوا، نزَحوا الماء والبئر ولا قطرة فيها -لم يبقى شيء-  قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء 1400 بيشربون بيتوضؤون بيغتسلون بيسقون نُوقهم وخيولهم، فجاء إلى البئر، وقف عليها وأدلى رجليه، ودعا بسهم من كِنانته، قال: اغرزوه فيها -أنزلوا للبئر اغرزوا فيه هذا السَّهم- فنزلوا غرزوا السَّهم، وبمجرد ما غرزوا السَّهم فاض الماء وصعد؛ طلع حتى صاروا ما يحتاجون نزح! يغرفون منه، وانصرف، ولم يزال في طيلةِ الأيام وهم يشربون ويغتسلُون ويتوضؤون ويسقون مواشيهم، والماء ما شاء الله، يجيش بالرَّي، ما نقص حتى اكمل الصلح، وذبحوا وحلقوا وهمَّوا على الرجوع! قال: انزعوا السَّهم،  اخرجوا السَّهم، خرِّجوا السهم حقي من البئر،  ولمَّا نزعوا السَّهم غار الماء ورجع.

  وكانَ من الاهتزاز عند الصحابة بالموقف الصعب مع وصُوله إلى مكان الحُديبية، جلست القصواء - الناقة التي يركب عليها - وما رضيت تقوم، وهي مُدرَّبة ومُعلَّمة ومُطيعة وجيدة، لكن برْكَت محلها وما رضيت تقوم قالوا: خلَأت القصواء يا رسول الله! قال: ما خلَأت القصواء يعني تأبَّت عن الأمر وعاندت، قال: ما خلَأت القصواء وما هو لها بخُلُق؛ ولكن حبسها حابس الفيل الذي حبَس الفيل عن مكة هو اللي حبس القصواء الآن، وأبْقاها في محلها تركض تجلس لا تقوم، الله تعالى الذي حبس الفيل عن مكة حبسها حابس الفيل، والله لا تدعوني قريشٌ اليوم إلى خطة فيها تعظيم بيت الله إلا أجبتهم إليها.

ولمّا جاءت هذه الشروط وهذا الصلح، راح سيدنا عمر بن الخطاب يقول: رسول الله! ألست رسول الله حقًا! قال: ويحك يا ابن الخطاب! إنّي لرسول الله، قال: ألسنا على الحقّ وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قَتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نُعطي الدنِيّة في ديننا؟! لماذا نرضى بهذا؟! قال: يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال: ألست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونُطَوَّف به؟ قال: بلى! أحدّثتك أنك تأتيه عامك هذا؟! قلت لك السنة هذه؟! قال: لا! قال: فإنك آتيه ومُطوَّفٌ به، ستجي وبتطوف؛ ولكن ليس هذه السنة، بَرَد؛ وبقي شيء في نفسه، راح إلى عند سيدنا أبو بكر: يا أبا بكر! أليس هو رسول الله حقًا؟! قال: ويحك يا ابن الخطاب! إنّه رسول الله، الزم غرزه، رح عند رجلُه اجلس، هذا رسول الله!، قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى! قال: فعلامَ نُعطى الدنيّة في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب! إنّه رسول الله، وليس يَعصيه، وهو ناصره. نفس الألفاظ التي جابها النبي-التي قالها النبي - قالها أبو بكر من إلهام الله له، قال: أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونُطَوَّف به، قال: بلى! أحدّثك أنّك ستأتيه عامك هذا؟ قال لك السنة هذه؟ قال: لا، قال: فإنّك آتيه ومُطَوّفٌ به. نفس الكلمات التي أجاب بها النبي كانت من إلهام الله  لسيدنا أبو بكر ومن مكانته عند الله ورسوله أجاب بنفس الكلمات.

 رجعوا، و لما رجعوا في الطريق أنزل الله الآيات: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)} فقال صلى الله عليه وسلم: أُنزلت عليّ سورة هي أحبّ إليّ من الأرض وما عليها، أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها، ودعا الناس، سيدنا عمر لما حَصَلت منه هذه المراجعة، رجع خاف على نفسه، وفزِع أن يكون أساء الأدب، جاء إلى عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم مشغول بشأن بينه وبين الحق، كلّمه سيدنا عمر أول مرة، ما أجابه، ثاني مرة، ثالث مرة.. فقال لنفسه: يا ابن الخطاب وقِعت فيها! ثلاث مرات تكلّمه ما يجيبك؟! ربما صلّحت شيء، يمكن هذا الذي عملته سوء الأدب، الآن…؛ لا عاد ينزل فيك قرآن يفضحك! قال: فأسرعت براحلتي وتقدّمت أمام الجيش، وإذا بالسورة نزلت، فقال صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي الصحابة، وتبعوه: يا عمر تعال ارجع! قال: ماذا؟ قال: رسول الله يدعوك، قال: نزل فيّ شيء؟ نزل شيء؟ قالوا: ما ندري تعال، فقد دعا الناس كلهم! فكما يقول بعض ساداتنا الأنصار، قال: بينما نمشي إذا بالناس يتجمعوا، يقول: ماذا؟ ماذا بالناس؟ وإذا أباعرهم -جمالهم- تجمّعت نحوه .. قالوا: أُنزل على رسول الله وَحي فدعا الناس، قال: فأوجفنا وجرينا، فوجدت النبي على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس تلا عليهم: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ..} قال سيدنا عمر: أوَ فتحٌ هو يا رسول الله؟! قال: إنّه لفتح، فإذا بِطَيُّ هذا الصلح الفتح العجيب، ترتّب عليه فتح خيبر، ترتّب عليه فتح مكة، وترتّب عليه أنواع من العطاء.

 قال الله لحبيبه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} أي: أيّدناك من عندنا وأعطيناك فتحًا في باطنك، فتحًا في شؤون دعوتك، وصولها إلى القلوب، فتحًا في الأرض، تأخذ أرضًا بعد أرضٍ لدخول دين الله فيها. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ..} ورتّبنا وقضينا لك بالفتح، أكّده فقال له: {..فَتْحًا..} جاء بالمصدر، وذكر عظمته وشأنه: {..مُّبِينًا} واضحًا جليًّا لا يشُكّ فيه أبدًا مرتاب، لا يشُكّ فيه عاقل. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} والفتح يأتي منه: فتح مُقيّد وفتح مُطلق، لكن أقواه الفتح المبين هذا، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} أعلى مراتب الفتح أعطيناك، وقضينا لك بفتح مكة وغيرها، كان بداية إبراز هذه الفتوح الكثيرة من صُلح الحُديبية، فبِصُلح الحديبية {فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، ترتّب عليه أنّ الناس سَكَنت نفوسهم وهدأت قلوبهم فاستمعوا إلى الدعوة، وشاهدوا النبي والصحابة، وعلموا أنه الحقّ، فأسلم في أيام الصلح أكثر ممّن أسلم من بداية الدعوة إلى يوم الصلح، ثلاثة عشر سنة في مكة، وست سنوات في المدينة، تسعة عشر سنة، أسلم في خلال السنتين أكثر ممّن أسلم في التسعة عشر سنة كلها، فتح! {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.

وكانوا قريش على غير هذا الحال، قالوا يدخلون مكة، ويقعدون ثلاثة أيام، كان أول: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ..} [الأحزاب:10]، وكان أوّل: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ..} [آل عمران:153] حتّى لمّا تعجّب بعض الصحابة يقول: كيف هذا يكون هذا فتح؟ صُددنا عن البيت، ورجعنا من تحت الكعبة، فبَلغَ النبي الخبر قال: بل هو فتحٌ أعظم! أتذكرون لأن سخّر الله لكم قريش بكبريائها وخيلائها فأعطتكم هذا الصلح وأن لا تمُد يدها لكم، وما تذكرون: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ..} [الأحزاب:10]؟ وما تذكرون: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران:153] وأنا أدعوكم في أخراكم؟ والآن فاتحين البلد لكم، منتظرينكم في العام الآتي، تأتون وتدخلون آمنين مطمئنين وتؤدّون عمرتكم وترجعون، وذكر لهم، قالوا: صدق الله وصدق رسوله، هو فتحٌ أعظم يا رسول الله! وإذا بالإسلام ينتشر، وفيما بعدها توجّه إلى اليهود، واليهود ماعاد يقدرون يستعينون الآن بالمشركين ولا بحلفاء قريش، وفتح الله له خيبر، والسنة التي بعدها، نقضت قريش العهد والصلح وسار إلى مكة المكرمة، وفتح مكة المكرمة كلّه سببه الذي جعله الله في ترتيب الحياة في العالم الحسّي: صُلح الحُديبية، فكان فتحًا.

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..} أي: 

  • كتبَ لك أنّك لا تؤاخذ على شيءٍ أصلًا، ولو حصل منك ما حَصَل من ذنبٍ أوّلًا أو آخرًا فلست بمعاقبٍ على شيء ولست مُؤاخذ بل مغفورٌ لك: واحد هذا معنى -أول معنى هذا-. 
  • والمعنى الثاني: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..} درجاتك التي ترتقي فيها وتعتلي إليها، كلّما ارتقيت درجة رأيت ما تحتها كالذّنب، ما كنت فيه من قبل، فهذا كله مغفور لك. 
  • والمعنى الثالث: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..} يُكثّر المغفرة لأمّتك أوّلهم وآخرهم، فيغفر للكثرة الكثيرة في أوّل الأمة وآخر الأمة ما لم يغفر للأمم السابقة. 

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..} وهو المعصوم سيّد المعصومين من الذنوب والسيئات والمخالفات و الخطيئات وخلاف الأولى، فالأنبياء معصومون من الحرام ومن المكروه ومن الشُّبَه ومن خلاف الأولى، لأنّهم القدوة، ولو عملوا ما هو أقل، لكان الله شرع الأقل ولا يكون ذلك، ولكن جعلهم يفعلون في كل حال ما هو الأوْلى وما هو الأفضل -صلوات الله وسلامه عليهم-، وسيّدهم سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم. {لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..}

ثم كان وبعد نزول الآية يجتهد في العبادات، حتى جاء تورّم القدمين من القيام بعد الحُديبية. وجاء في رواية الإمام أحمد وغيره: أنه كان يَكِدّ في العبادة حتى يخرج إليهم كأنّه الشَّنّ البالي، و سُئل في كثرة قيامه وعبادته وقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فكان يقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا!"، "أفلا أكون عبدًا شكورًا!" فهو سيد الشاكرين -صلوات ربي وسلامه عليه-.

{..وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ..} بأنواع الإتمام للنّعم في الدنيا والبرزخ والآخرة بما لا يقف عند حد ولا يُحيط به غير الله أحد، {..وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ..} -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، ثم سيأتي معنا المعاني البديعة في هذا الفتح.

ثمّ كان فتح مكة في شهر رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وكان في العشر الأواخر من رمضان فَتَحَ الله مكة، كما كان قبل فتح مكة بخمس أو ست سنوات غزوة بدر في رمضان، وكانت في مثل صبيحة الغد،  في اليوم السابع عشر من رمضان، وكان يوم الفُرقان كما سمّاها الله تعالى في كتابه، وأذلّ الله فيها الكفر والشرك، ونصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم توالى الأمر إلى فتح مكة، وكلا الغزوتين كانتا في رمضان، ونسأل الله في رمضاننا هذا أن يُعيد علينا بركة الغزوتين: بدر وفتح مكة، وينصرنا ويفتح على المؤمنين، ويُصلح شؤونهم، ويرد كيد الكافرين والفاجرين. اللهم بنبيك الأمين وما آتيته من النصر والفتح،  افتح علينا وانصرنا، انصرنا على القوم الكافرين، وتولّنا بما أنت أهله ظاهرًا وباطنًا يا أكرم الأكرمين ويا ربّ العالمين، فإنّهم وجندهم يُدنّسون الأفكار والأخلاق ووصلوا إلى ديارنا ومنازلنا و أهالينا وأولادنا فإليك المشتكى وأنت المستعان، ونستنصرك فانصرنا، ونستغفرك فاغفر لنا، ونستفتحك يا مولانا ونسألك الفتح فافتح علينا، وتولّنا بما أنت أهله برحمتك يا أرحم الراحمين. 

 

بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي

 اللهم صلّ وسلم  وبارك عليه وعلى آله وصحبه

 الفاتحة

 

جَعَلَنا الله في المقبولين، جَعَلنا الله في الموصولين، جَعَلَنا الله في الموفّقين، جَعَلَنا الله في المقرّبين، جَعَلَنا الله فيمن ينظر إليهم بما نظر به إلى أهل بدر، ويطّلع عليهم الاطّلاعة التي اطّلعها على أهل بدر، ويرحمنا بيوم الفرقان وما فيه من سرّ، ويَرُدّ عنا كيد أهل الكفر والعصيان في الجهر والسرّ إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

تاريخ النشر الهجري

18 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

08 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام