تفسير سورة الزخرف -09- من قوله تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) } إلى الآية 83
الدرس التاسع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) }
صباح الأحد 9 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمدلله مُبَيِّن الحَقائق في الحاضِرِ وفي المَأٓب الذي يَؤوب إليه الخَلائق، على لِسانِ عَبدِهِ المُصطَفى وحَبيبه الصادق، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكَرَّمَ عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابِه الأخيار، وَكُلِّ مُقتَدٍ بِهم في سبيل الخير مُسابِق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسَلين صَفوَة الإلٰه الخالِق، وعلى آلِهم وصَحبِهم وتابِعيهم والملائكة المُقَرَبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنهُ أكرم الأكرَمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في نِعمَة تَلَقينا لإفاضَة مَولانا من وَحيه الذي أوحاه إلى نبيه ﷺ وإشراق أنوار ذلك الوحي المُنَزَّل في تأمُّلِنا وتَدَبُّرِنا لِكلامِ رَبِنّا تعالى وتَعليماته وبَياناتِه، انتهينا إلى أواخر سورة الزخرف، ومَرَرَنا على قوله جل جلاله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)) وابتدأ يَذكُرُ لنا:
-
مأٓل المتقين وما ينالون.
-
ثم يَذكُرُ شَأنَ المُجرمين؛ وما نِهاياتهم ومستقبلهم القوي الكبير.
ذَكَرَ لنا شأن الأخِلاء، وتأملنا بعض ما ورد في ذلك، وقد جاء أيضًا فيما روى الإمام أحمد في مسنده وغيره عن سيدنا علي بن أبي طالب عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "إنَّ كافِرَيْن ومُؤمِنَيّنِ كان كل منهما يُصاحِبُ الآخر،
-
فَتُوُفِّيَ أحدُ المُؤمِنَين قَبلَ أخيه، فأكرَمَهُ رَبُه فقال: يا رب، إنَّ أخي فُلانًا كان يأمُرني بِطاعَتِك والإيمان بك، ويعاونني على عبادتك، فَثَبِتهُ على ذلك، واحفظ عليه الإيمان حتى يَلقاك وتُنعِم عليه كما أَنعَمتَ عَلَي، قال: ثُم مات الآخر فالتَقَيا، فقال تعالى: لِيُثني أَحَدُكُما على صاحبه، فقال: نِعمَ الأخُ كنت، وَنِعمَ الصاحِبُ ونِعمَ الخَليل.
-
قال: ثم ماتَ أَحَدُ الكافِرَيّن ولَقِيَ العَذاب، قال: يا رب إن فلانًا كان يأمُرني بالكفر بك، ويَنهاني عن طاعتك، ويُعينُنِي على مَعصيتك، فلا تَهدِه ولا تُوَفِّقهُ؛ حتى يَلقى مِن العَذاب ما لَقيت، ثم مات الآخر، فقال تعالى: لِيُثني أَحَدُكُم على صاحِبه، فقال كُلٌ للآخر: بِئسَ الصاحِب وبِئسَ الأخ وبِئسَ الصَديق كُنت".
فَهكذا شؤون المُخالَلات والمُصاحَبات، وكُلُّ ما قامَ على غَيرِ قَصدِ وَجه الله والتعاون على طاعته، فَضُرٌّ وَشَرٌّ وآفةٌ -والعياذ بالله تعالى-، يَقومُ على هذا كُلُّ هذه العَلائِق بين أنواع العُصّاة والفُسّاق والكُفار على ظهر الأرض، ما بين أفراد وأفراد، وجماعات وجماعات، وهَيئات وهَيئات، ودُوَل ودُوَل، كل علاقة لَم تَقُم على أساس الإيمان بالله ومحبته وتَقواه فهي خُسرانٌ، وهي سوءٌ وشَرٌّ ينتهي أصحابُها إلى العِداء ولَعنِ بَعضِهم بَعضا.
وذَكَرَ في شَأن المُتَقين خِطابُهُم: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)) ماذا يُقالُ لهم وماذا يُخاطَبون؟ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)) مَن كانَ معكم من أزواجكم المؤمنات فَلَكم الحَبِرَة: عيشة الهناء والسرور والأُنس، الذي تَظهَر حَبرَتُهُ -أي: أَثَرُه- على وُجوهِكُم.
(أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ..):
-
(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ): جَمعُ صَحفَة أي: الإناء الوَسيع.
-
(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ) إشارة إلى المَطاعِم.
-
(وَأَكْوَابٍ) إشارة إلى المَشارب.
وبعد ذلك:
-
(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنفُسُ) من المَلابس والمَساكن والأزواج وما إلى ذلك، والأنهار.
-
(وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ترتاح الأرواح إليها من حَقائق القُربِ والمَحبة والرضوان والوِصالِ والنظر إلى وجه الله الكريم.
(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ) وفي قراءة أخرى: (تَشْتَهِي)
-
(بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ) وأيُّ عِيار لهذا الذهب؟ ولو جُمِعَ ذَهَب الدُّنيا من أولِّها إلى آخرها لم يُساوي صَحفَةً مِن هذه الصحائِف في قيمَتِهِ وَجَوهَرِه، (بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) ومِن ذَهبٍ كذلك، ومن فضة.
-
(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ) حتى جاء أيضًا في الحديث أنه:
-
قال صَحابيٌ لسيدنا رسول الله ﷺ: "يا رسول الله أفي الجنة خَيل؟ فإني أُحبُ الخَيل، قال: إنك إن تُدْخَل الجنة ثم تَشتهي خَيلًا مِن ياقوتَةٍ حمراء، يَطيرُ بِكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الجنة إلا فعلت".
-
قال: فجاء أعرابي قال: يا رسول الله هل في الجنة جِمال؟ أنا أُحِبُ الجِمال، قال: "إنك إن يُدخِلكَ رَبُكَ الجنة يا أعرابي فَلَكَ فيها (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)".
-
(يُطَافُ عَلَيْهِم) من قِبَلِ الوِلدان والحور، وبَعض المَلائكة (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ) جَمع صَحيفة مِن ذهبٍ وأكواب، (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) إذاً وراء المَطاعم والمَشارب أمور، ووراء مُشتهيات النفوس أيضًا أُمور، (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)، "وفيها ما لا عين رَأت، ولا أُذنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَر".
اللهم اجعلنا من أهل جَنَتِك، اللهم إنا نسألك الدرجات العُلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الدرجات العُلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الدرجات العُلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، فَهَب لنا يا وَهّاب، وأدخلنا جَنَتَكَ بِغَيرِ حِساب، واجعلنا في رُفَقاءِ سيد الأحباب.
قال: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا) وتِلكَ الدار الكبيرة العظيمة التي فيها ما وَصَفناه هي:
-
(الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: انتهى إرثُها إليكم بما دَأبتُم عليه من عَمَلٍ تُريدونَ وَجهَنا، وانتَهيتم في مَنهَج عِبادَتِنا أيام كُنتم في زمن التكليف والاختِبار.
-
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالعِباداتُ والطاعات سَبَبُ رِفعَة الدرجات في الجنة وكَثرَة نَعيمها، ويقول الحق للمؤمنين: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا بِأَعْمَالِكُمْ".
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72))، وقال ربنا سبحانه:
-
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [المؤمنون:1-11].
-
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)؛ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
-
(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) [الزمر:74]، أي: يُمَلِّكُهُم الله إيّاها تَمليكًا مُؤَبَدًا فسماهم الوارثين.ّ
قال: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) أنواع الفاكهة التي منها ما يُسَمى بأسماء الفواكه التي كانت تُؤكل في الدنيا من حيث الإسم، ثم من حيثُ حَجمُها وطعمُها فهي أعظم وأكبر وأَجل: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [البقرة:25] رُمان كنا نَأكُل في الدنيا رمان، طَلح موز كُنا نَأكُل في الدنيا موز، عنب كنا نأكل في الدنيا عنب، لكن هذا (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) من حيث الاسم فقط، أما الذوق والطعم واللون والحجم فشيء كبير.
قال: (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ (73)) ما تَستَوعِبونها لكن (مِّنْهَا تَأْكُلُونَ) ماشي كمثلها؛ لكن منها، منها ، منها؛ دائمًا من بعضها، فلا يَأخُذُ ثمرةً ولافاكهة من شجرة في الجنة إلا نَبَتَ مكانها مِثلَها مَرَتين في نفس الوقت، لا شيء ينقص، ولهذا يقول: (مِّنْهَا تَأْكُلُونَ).
حتى جاء في الخَبَر أن أدنى أهل الجنة مَنزِلة -أَقَلُهُم- مَن يَقِفُ على رأسه كل يوم من الولدان ثلاثمائة، ويُزَوَّج باثنَتين وسبعين حورية غَيرَ أزواجه اللاتي في الدنيا، قال: "ويَقِفُ عَليه كُلَ يوم ثلاثمِئة وَصيفة مع كُلِ واحدة إناء، فيه طَعامٌ أو شَراب، فيأتي على الآنية كُلَها يذوق لآخرها ما يَذوق لأوَلِها، ويقول: يا رب، دَعني أُطعِم أهل الجنة، فإنَ ما عندي يَكفيهم" -ما يَنقُص شيء مما عِندي-، لِما يَراه من الزيادة، وهذا أَقَلُهُم، أدناهُم مَنزِلَة.
(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20] نِعمَ المُلك، فما أعقل الذين تَرَكوا المُلك الظاهري هذا، وأعرَضوا عما الناس يَتصارَعون عليه في طَلَبِ هذا المُلك، ما أعقَلَهُم! وما أعظم ما حَصَّلوا!.
(لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ (73)) ولا ينقُص منها شيء، وهكذا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)) أهلُ الإجرامِ من الذين يَموتون على الكفرِ -والعياذُ بالله- (فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ):
-
النار الموقَدَة (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:7] تَحرِق الجلد بِغِلَظِهِ، والجلدُ يَغلُظُ للداخلين إلى النار، حتى أن الكافر يَصيرُ مَسيرَة جِلده دونَ اللحم والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وَراءهُ اللحم والعَظم، فتحرقُ النار جلده مع عظمه ولحمه وتَصدع قلبه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
-
(نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:7-6] تَصدَع قلبه، وتعود بسرعة، الجلد واللحم والعظم، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56] نعوذ بالله من عذاب الله وغضب الله.
قال: (فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)) ما يُخرِجهُم أحد، (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها)، لا إله إلا الله، (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:22] والعياذ بالله تباارك وتعالى.
يقول: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) هذا العذاب المؤلم الشديد ما يُخَفَّف ، ما يُنقَص، ما يَفتُر، ما يَقِل، (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)) آيِسونَ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيِسونَ من الرحمة، آيِسونَ من الخُروجِ من النار.
-
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76)) بِعنادِهِم وطُغيانهم وكُفرِهم وتكذيبهم لأنبيائنا ورُسُلِنا، وقد خلقنا كل واحدٍ منهم وجَعَلنا له سمعًا وبصر وفؤادًا وعقلًا يَعقِلُ به الأمور، وآتيناه أنواعًا من النِّعَم وأرسلنا إليه الرسول، وبَلَغَتهُ دَعوة رَسولي ونَبِيّي؛ ومع ذلك كُلِه لَم يَعرِف قَدرَ الخالِق ولا المُنعِم ولا النِّعَم واتبع الهوى والشهوات وكَذَب بالمُرسَلين.
-
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)، ومع مُرور الأزمنة المُتطاولة في هذا الأبد الذي لا نِهاية له، يَصيحونَ صَيحات وإنهم لَيبكون الدموع، فالدماء، ولو كانت سُفُنٌ لَجَرَت في دُموعِهم، لو كانت سُفُن لَجَرَت في دُموع أهل النار من كَثرَتِها.
لا إله إلا الله، ما ينفعهم شيء، ولو كانوا عَرَفوا الحق تعالى وخَشَوه دمعة واحدة من أعينهم تَخرج لها قيمة وقدر وَرِفعَة درجات.
قال: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ)، خازن النّار الذي وُكِّلَ بشؤونِها وتَبَعُهُ الملايين مِن الملائكة خَزَنَة جهنّم، وقد جاءنا في القرآن أنّهم يُنادون الخَزَنَة وَلَا يَجِدُون لهم فائدة وَلَا يجدون لهم غاية؛ فيرجعون يُنادون مالك ولا يجدون الفائدة، يرجعون ينادون المَلِك، يا ربّ!.
قال في نداءهم للخَزَنَة: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ)، يوما واحدا نَسْتَرِيح قليلا، أنتم اسْتَمَرَّيْتُم على الكُفْر والمَعْصِية! (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:49-50]؛ لا يُسْتَجاب لهم.
يرجعون إلى مالك، يقولون: يا مالك! جاء في بعض الرّوايات، يا مالِ..! لا يَقدرون أن يُكْمِلوا الكلمة، يا مالِ! (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، يعني ادْع ربّك يقضي علينا، يُمِيتُنا، يُخلِّصنا مِن هذا العذاب الذي نحن فيه والشّدّة، النّار المُحرِقة والزّقّوم والحَمِيم والحَيَّات والعَقارب والضَّرب بمَقَامِع مِن حديد، مَن يُطيق هذا العذاب! فَلِمَا يُحدِّثُون أَنفسهم بهذا العذاب! اللّهمّ أجرنا مِن عذابك! اللّهمّ أجرنا من النّار!
قالوا: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، يعني ادْع ربّك يَقضي علينا، يُمِيتنا، يُخلِّصنا مِن هذا العذاب؛
-
فَيُنَادونه 40 سنة.
-
في رواية 1000 سنة، ما يُجٍيبُهم.
بعد ذلك يُجِيبُهم يقول: ما لكم يا أهل النّار! قالوا: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، ادْعُ ربّك يقضي علينا، (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77))، محلّكُم هنا، اجْلِسوا، لا يوجد موت، لا يوجد هذا، مَحَلُّكُم هنا، (إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)، ويَرجعون يُنادون الرّبّ: يا الله! يا الله! يا الله!، وبعد ألف عام يُجِيبُهُم الجبّار: ما لكم يا أهل النّار! (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)، أنتم كُنتم تتبجّحون أنّكم وأنّكم وأنّكم وعِنْدكم وعِلم ومَعْرفة وثَقَافة واخْتِرَاع، (غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)، ويُجِيب بجواب شديد الصّعب، (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106-108]، قالوا فما يَنْبِسُون بعدها بكلمة إلّا الزّفير والشّهيق، (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود:106]، مثل صوت الحمار أوّله زفير وآخره شهيق، زفير وشهيق، زفير وشهيق ، والعياذ بالله تبارك وتعالى، نعوذ بالله.
(قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77))، يقول الحق: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ)، نبوّة ورِسالة ووَحْي مُنزل مِن عندي، (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ)، النّبوّة والرّسالة والهُدَى، (كَارِهُونَ (78)).
-
يقول الله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا)، خَطّطُوا خِطّة، رَسَمُوا تَكْتِيك.
-
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا)، قالوا سيقضون عليكم، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال:30]، يصلّحون اجْتماع وتَرتيب وتَخْطيط.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا)، في عِندهم خِطّة وأَمر وكَيد ومَكر، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79))، قال: أنا الذي رتّبت نصر أنبيائي وهلاك أعدائي؛ فَلْيَنظروا ماذا ينفع كَيْدُهم أو كَيْدِي، وما الذي يَحصل القضايا الذي قَضَيْتُهَا أم أَمْرَهُم الذي يُبرمون ويَقضون ويُصمّمون عليه ويُريدون تَنْفِيذه.
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ) -يظنّون- (أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ)، ما يُحدّثون بِه أَنفسهم أو يُسَارّ به الواحد منهم أخاه، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم)، ما يَتَحَدَّثون ويَتَنَاجَون به في مجالسهم؛ (بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)).
-
قال الله لحبيبه: (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون) َ[يس:76].
-
قال لنا: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْۚ) [النساء:45]، اصْدُقُوا معه، وقُومُوا بِأَمْرِه، وَلَا تقولوا أعداؤنا أعداؤنا، قال لنا: أنا داري بهم، ايش هم؟ مَن هم هؤلاء أعداؤكم؟ قال لنا: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا) [النساء:45]، الله! لا إله إلا الله.
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80))؛ لِيُحاسبون على كلّ ما كادوا، وعلى كلّ ما قالوا، وعلى كلّ ما فعلوا، وعلى كلّ ما خَطّطوا وخَبّطوا، سيُحاسبون عليه. (بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
وقُلْ لهؤلاء الذين يَنسبون الولد إلى الواحد الأحد: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:3-4]، (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81))، أنا أوّل مَن عبدَ الله، ومَن دَعاكم إلى عِبادته، فأنا المُنزِّه له عن أن يكون له ولد، جلّ جلاله وتعالى في علاه، كيف يكون له ولد؟ (أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام:101]، جلّ جلاله.
(فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81))
-
وقال بعضهم على الافتراض: لو كان للملك الأعلى ولد، لَسَبَقتُكم أنا إلى معرفته وإلى الإقرار به، ولكنْ الأمر غير موجود أصلاً، ومستحيل، ولا يكون.
-
وقال بعضهم: (أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قبل أن يَخلُقَ الله الملائكة والإنس والجنّ، خلق نور محمّد فعبد الله، فقال، لو أردت أن يتّخذ ولداً، من يأتي بغيره)؟ أنتم مجانين! وحاشا وكلّا، الأمر مستحيل. (أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، ولكنّي عبده ورسوله، ولا أزال كذلك، وكلّ ما سواه فهو عبده، (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم:93-94].
(فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81))، وجاء في التّفسير تأتي في العربية معنى العابد بمعنى الآنف، فأنا أوّل من يَأنَف نسبة الولد إلى الإله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، ويَشمئزّ منها، قال سبحانه وتعالى:
-
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا) [مريم:90-91]،
-
(لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) [مريم:89-90].
(فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81))، أَعْلِم لهم توحيدي، وأُعْلِمْ لهم تنزيهي وتقديسي، (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، مُكوِّنها وَخَالقها ومُسيِّرِها ومُدبِّرِها، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]، يعني مَا أَمْسَكَهُمَا مِنْ أحد مِن بَعده، وتُنادون أحد مِن جيوشهم هؤلاء، يُمسك كوكب ولّا يمسك سماء كلّها ولّا يمسك حِتّة -جزء- في الأرض، وإذا قليل زلزلة روّح فيها؛ هو والتّكنولوجيا حقّه روّح وانتهى، لا إله إلا الله.
(سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ)، ما فوق السّماوات، سُبحانه تقدّس وتنزّه، (عَمَّا يَصِفُونَ (82)) مِن أقاويلهم وأباطيلهم، جلّ جلاله.
قال الله لحبيبه: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا)، بألسنتهم وأقوالهم الفاسدة، (وَيَلْعَبُوا)، في دنياهم الزّائلة الفانية المُزَخْرَفَة، (حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83))؛
-
(قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91].
-
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
-
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:98-99].
فهذا المنهج القويم الصحيح في الحياة، ما في غيره؛ الموجب للسّعادة الأبديّة.
اللّهمّ وفِّر حظّنا مِن القرآن ومِن عبادتك يا رحمن، وارْزُقنا صِدق الإقبال عليك، وصِدق الوِِجْهة إليك، وحُسْن الأدب معك، برحمتك يا أرحم الراحمين! ارْزُقنا كمال التّوحيد، كمال الإيمان، كمال اليَقين.
يا من كفانا عِلْمك بنا *** توّلنا في جميع شأننا
واجْعل لنا الأرواح التي صَفَّيْتها ونَقَّيْتها فَمَلَأْتَهَا بِحُبِّك.
ويقول عن هذه الرُّوح الخالصة سيّدنا الثّوبان: "وَللَه رُوحٌ خَالَطَ الحُبُّ كُلَّهَا". كما سَمِعْتم قصّة سيّدنا ثوبان وأمثال من الصحابة؟! "إِنِّي قَدْ أَذْكُرُكَ وَأَنَا بَيْنَ أَهْلِي وَوَلَدِي فَلَا يَطِيبُ لِيَ الحَالُ وَلَا أَقْدِرُ حَتَّى آتِي وَأَنْظُرُ إِلَى وَجْهِكَ".
وَللَه رُوحٌ خَالَطَ الحُبُّ كُلَّهَا *** وَمَا زَجَّهَا حَتَّى صَبَتْ لِلصَبَابَةِ
وَخَامَرَهَا خَمْرُ الغَرَامِ فَأَصْبَحَتْ *** وَأَمْسَتْ عَلَى حُبِّ الحَبِيبِ مُقِيمَةِ
(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54].
يَظُنُّ بِهَا مَنْ لَيْسَ يَدْرِي بِشَأْنِهَا *** بِأَنَّ بِهَا سُكر الخُمُور الأَثِيمَةِ
لها أبدًا شَوقٌ إلى خير مَعهَدٍ به *** خيرُ عهدٍ في العصور القديمةِ
حيث تجلّى الرّحمن وقال لهذه الرّوح: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟) [الأعراف:172].
يُذكِّرُها العَهد القديم سَمَاعُها *** لِتَرْجِيِعِ تَاٍل لِلْمَثَانِي الكَرِيمَةِ
كلّما سمعت كلام الله والآيات، تذكّرت عَهْدها مع مُنْزِل القرآن جلّ جلاله.
يُذكِّرُها العَهد القديم سَمَاعُها *** لِتَرْجِيِعِ تَاٍل لِلْمَثَانِي الكَرِيمَةِ
وَرَنّة أذكارٍ وصوتُ مُسبِّح *** ونغمةُ حادٍ بالمَطَايَا المُجِدَّةِ
وَتَغرِيدُ وُرْقٍ فَوْقَ أَغْصَانِ دَوْحَةٍ -كلّه يُذكِّرُه، كلّه يَشُدّ إحساسَه ومشاعره نحو الرّبّ-
وَتَغرِيدُ وُرْقٍ فَوْقَ أَغْصَانِ دَوْحَةٍ *** وَتَلحينُ شادٍ بالأغاني الرّقيقة
و كلّ نسيمٍ هبّ أو بارقٌ شَرَى *** وَأَشْيَا أَرَى في سَتْرِهَا حِفْظُ حُرمَةِ
حِذَارَ غبيّ أو حسود مُوَلَّعٍ *** بإنكار أسرار العلوم الدّقيقةِ
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
خَلِيلَيَّ هَل مِن مُسعِدٍ مِنكُمَا على *** سلوكٍ سبيلِ دارسٍ و خفيَّةِ
تَأخّر عنها الأكثرون فأعْرَضُوا *** لِمَا عَلِمُوا فِي قطْعها من مشقّةِ
ما هي؟.
رياضةُ نفسِ واعتزالُ عوايدِ *** وَقمعُ حظوظِ للنّفوسِ مُمِيتَةِ
وترك الأماني والمُرادات كُلّها *** و كلّ اختيارٍ والتّدابير جملةِ
وكَنْسِ ضمير القلب كي يَبْقَى فارغًا *** مِن الحبّ للدُّنيـــا الغرور الدّنِيّةِ
وتَطهيره سبعاً عن المَيْلِ للسِّوَى *** بماء الفَنَــــا باللَه عنه وَغَيْبَـــةِ
وجمعٍ على المولى العظيم بِتَرْكِ ما *** عن الذِّكرِ يُلْهِى والْتِزَامُ العِبَــادَةِ
فإنْ تُسْعِدَانِي بالوِفاق فإنّ لِي *** به بعض أُنْسٍ وارْتِيَاحٍ وقوّةِ
وإلّا فأمــرُ اللَه عندي مُعظّــمٌ *** وعندي بحمد اللَه يا رُبَّ بُغْيَةِ
وكـم تُحفَةٍ كـم طُرْفَةٍ كـم عَطِيَّةٍ *** به دونها بَسطِى وروحِي وراحتِي
ما معاك؟ قال: عندي مسلسلات عُلْوِيَّة، ما عِنْدك! قال:
أُطالِع أمر القَبضتين فَقَبْضَةُ ال *** يَمِين وأخرى لليمينِ الأخيرةِ
خلقنا وأرواحنا جميع المكلّفين، قبض قبضة قال هؤلاء إلى الجنّة ولا أبالي، وقبض قبضة، وقال هؤلاء إلى النّار ولا أُبالي:
أُطالِع أمر القَبضتين فَقَبْضَةُ ال *** يَمِين وأخرى لليمينِ الأخيرةِ
فَسَبْــقُ سعادات وسَبْــــقُ شقاوة *** بِمَحْضِ اختيار دون سعيٍ وحيلةِ
وَأَعْمَالُهُم تَجْرِي عَلَى وِفْقِ سَابِقِ *** لَهُم عِنْدَهُ والخَتْمُ كالأوّليّـــةِ
ايش عاد عندك في المسلسل حقك! قال:
ومسح يد الرّحمن ظهر صفيِّهِ *** فأخرجهم كالذّرِّ يوم الشّهادة
في نعمان -الأَراك- مسح الرّحمن ظهر آدم؛ فخرجت جميع النّسمات، رأتهم الملائكة، قالوا: "يا ربّنا! لا تَسَعُهُم الأرض"، قال: "إِنِّي جَاعِلُهُمْ مَوْتًا"، ميِّتين هؤلاء كلهم، هذا يموت وهذا يموت، قالوا: "فكيف يهناهم العيش والموت بينهم؟"، قال: "إِنِّي جاعل أملاً".
ومسح يد الرّحمن ظهر صفيِّهِ *** فأخرجهم كالذّرِّ يوم الشّهادة
فَأَشْهَدُهُمْ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَاۛ) [الأعراف:172]، يقول:
فَأَشْهَدَهُم والكلّ منهم مُوحِّدُ *** هناك وَبَعد الأمرِ نَافٍ ومُثبِتِ
فقط لمّا جاؤوا للدّنيا أحد كذا وأحد كذا، وإلّا هناك كلّهم أقَرًّوا وكلّهم وَحَّدُوا، لهذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء:137]، وقال على المُنافقين: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون:3]؛ ما آمنوا أصلاً في الدّنيا، آمنوا أوّلا، آمنوا في عالم الرّوح، بعد ذلك كفروا في الدّنيا،
وَسِرًّا خَفِيّا حَارَ فِيهِ أُولُو النُّهَى *** على صُورَة للصّورة الآدميّةِ
فَنَزِّهْ إلـــه العَالمين وقدِّسَــنْ *** عن الصّورة الحسيّة البشريّة
وغُصْ في بحار السّــرّ إن كنت *** عارفاً بساحاته الدريّةِ الجوهريّةِ
وكُــنْ في أحاديث الصِّفات وآيِهَــا *** على مذهب الأسلاف حيث السّلامةِ
واشْهَدْ لطف الفضل في كون آدم *** من الطّين مَخلُوقَ اليَدَيْنِ النّزيهَةِ
فَسَوّاه والنّفخ الكريم معقَّبٌ
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [ص:72]،
معقَّبٌ *** به ثم بعد النّفخ أمرٌ بسجدَةِ
وَإِبْليس لَم يَسجدْ فأَسْخَطَ ربّه *** وحلت به من مَقْتِهِ شرُّ لعْنةِ
وهكذا، يواصل ذكر المسلسل الذي يُطالع فيه صاحب هذه الرّوح الطّاهرة، وهذه المُسلسلات كثيرٌ ما تُطالع في رمضان عند أهل الإقْبال والنّقاء والصّدق مع الكبير المُتعال جلّ جَلاله، وَتَسْرَح أرواحهم في مُطالعة الجلال، والجمال، وأسرار الإرادة في التّكوين والتّعيِين، والتّقريب والإبْعاد، والإشْقَاء والإسْعَاد، والرّفع والخَفْض، والعطاء والمَنع، الله أكبر!.
وَفِي كلّ شيء لَهُ آيةٌ *** تَدُلُّ على أنّه الواحدُ
-جلّ جلاله-
ارْزُقْنا كمال الإيمان، كمال اليَقين، كمال التّوفيق والاستقامة على أقوم طريق، واللّحوق بخير فريق، والشُّرب يا ربّي من أحلى رَحِيق، في لطفٍ وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي ﷺ
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
10 رَمضان 1446