(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس الثاني عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحجرات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
الحمد لله المتفضل علينا بالتوجيه والإرشاد والتنبيه، واسع المنن للفيض في السر والعلن، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الذي أحاط علمه بالإسرار والعلن، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدا جعله في بريته الأفضل والأجلّ والأحسن، اللهم صلَّ وسلم وبارك وكرم على المجتبى المختار جد الحسين والحسن، سيدنا محمد النبي المؤتمن، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الدرن، وأصحابه أولي الصدق والفطن، وعلى من تبعهم بإحسانٍ وبسنتهم استن، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ من أعظمت عليهم النعمة والمنن، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى جميع ملائكتك المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فإننا في نعمة تلقينا لتعاليم ربنا وتوجيهه وإرشاده لنا جينا في سورة الحجرات على موقف آداب توجب للعامل بها من حضرة الله الإقتراب، وتوجب صلاح الحال بين الخلائق وبين الناس العاملين بها في منهج الهدى والصواب، وتوجب السعادة في الحاضر والمآب، وتخلص من سلطات الأنفس الأمارة والأهواء، وكيد إبليس وزخرف الدنيا، يتم التخلص من كل هذه القواطع والعوائق الشديدة بالتأدب بهذه الآداب الأكيدة والأخلاق الحميدة، جعلنا الله من المتخلقين بها والمتأدبين بها في لطف وعافية.
قرأنا في أول السورة نداء رب الأكوان لأهل الإيمان؛ أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، وأن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وأنه يترتب على ذلك حبط الأعمال فتُحبط الصالحات وتنتهي بإساءة الأدب مع المصطفى -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فيا ويل مسيء الأدب على رسول الله، ولن ينفعهم مع ذلك مظاهر صلاة ولا قراءة ولا زكاة، يقول: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
وعلمنا مدحه للذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، فذكرنا من نماذجهم وأمثلتهم الكبرى أبو بكر وعمر وسيدنا شمّاس سيدنا ثابت بن قيس بن شماس -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عليهم رحمة الله ورضوانه، وأنهم الذين {امْتَحَنَ اللَّهُ} أي: اختبر قلوبهم {لِلتَّقْوَىٰ} فصفّاها للتقوى وخلصها من ما يخالف التقوى، وما أعد لهم من المغفرة والأجر، وذمه تعالى لمن ينادون رسول الله من وراء الحجرات وأنهم لا يعقلون.
ثم إنا وجدنا في تاريخ الأمة كما أشرنا فيما قال سيدنا عمر لمن يرفع صوته في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم أخذوا هذه الآداب بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فتأدبوا مع موطنه ومع مسكنه، وتأدبوا مع سنته وتأدبوا مع بلاغه، وتأدبوا مع ما جاء به عن الرب جل جلاله، ووجدناهم في مجالس الحديث كأن على رؤوسهم الطير، ووجدناهم في مجالس الحديث على الخشوع والخضوع، ووجدنا أمثال الإمام مالك ابن أنس إمام دار الهجرة -عليه الرضوان- لا يجرؤ ولا تسمح له نفسه أن يقضي حاجته وسط حدود حرم المدينة المنورة، وكان يخرج خارج حدود المدينة لقضاء الحاجة -عليه رحمة الله-، ثم لا يركب دابة وسط المدينة، ولا يمشي بنعل بل يمشي حافيًا في أزقة المدينة وشوارعها، ويقول: أستحي أن أطأ بحافر دابتي أو بنعلي مكانا تردد فيه جبريل بالوحي على رسول الله، ومشى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم وجدناه إذا أراد أن يحدّث أو سُئل عن الحديث يغتسل ويلبس خير ثيابه ويتطيب ويجلس بالخشوع والسكينة، وترى مِن حوله أثر ذلك الخشوع والإطراق -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، وكان يحدّث في الحرم الشريف ويسرد سنده إلى أن يصل إلى الصحابي فيقول: عن صاحب هذا الضريح -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-
ثم نقرأ في سيرته أنه كان يلقي الحديث يومًا، وحدثهم بعدد من الأحاديث بسندها وكان أثناء ذلك يتلوّن وجهه وعجبوا، فلما انتهى من الحديث قال: انظروا ماذا يلسعني؟ فجاءوا؛ وإذا بعقرب قد لسعه في ظهره أربعة عشر لسعة، قالوا له: يا مالك من أول ما تحسه؟! قال: كنت في حديث رسول الله فكرهت أن أقطعه، وتحمّل لدغة العقرب أربعة عشر مرة في ظهره ولم يتحرك، ولم يقطع الحديث الشريف -عليه الرضوان-
ثم وجدنا مجالس الحديث التي انتشرت في القرون الأولى، ووصل الحاضرون فيها إلى الأربعين الألف وإلى المائة الألف، وكانوا يبلّغون يتحدث الشيخ ويذكر الحديث فينقله من مبلغ وراءه على مرتفع وينقله المبلغ الثاني وينقله المبلغ الثالث، حتى يصل الحديث إلى آخر الجمع وكأن على رؤوسهم الطير، وهكذا لم يزل أخيار الأمة إذا قرأوا القرآن أو الحديث عظموا المجلس ولم يتحركوا فيه، ولم يرفعوا أصواتهم على كلام الله ولا على كلام رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهو يُقرء بينهم كأنهم يسمعونه من فم رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. فالله يحفظ في الأمة هذه الآداب وهذه الأخلاق، التي بها رضى الخلّاق -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ثم وجّه الخطاب أيضًا إلينا معاشر المؤمنين ربنا الرحمن سبحانه، لنتبيّن فيما ينتشر من أخبار بيننا، وأن لا نكون مُستفزين مستخفين بمجرد أدنى خبر نصدق وننشر، ونتكلم وكفى المرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع، وبمجرد أي خبر تُبنى قرارات وترتيبات وكلمات، تبيّن في الأمر فإن الله جَبلَ هؤلاء الخلق على كثير من النفسيات، وكثير من الدوافع، وكثير من عدم الإتقان في نقل الأخبار وإيصالها، بل لإبليس وجنده صناعة محكمة متقنة في تقليب الحقائق، وفي نقل الأخبار على غير هيئتها وعلى غير حقيقتها، بأساليب تراها كأنها رصينة متينة قوية وكلها زيف وباطل، وتفنّنوا في ذلك تفننات كثيرة.
لذا أرشدنا خالقنا -جل جلاله- لنتعامل مع ما يُنقل من الأخبار بهذا الأسلوب، وبهذا التعامل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} وذلك أنه لا يتعمد الكذب وخصوصًا فيما يتعلق به، ويترتب عليه إيقاع الأذى والفتنة بين الناس وإيصال الضرر فلا يكون ذلك إلا من فاسق فكما ابتدأ بتحريم أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وذاته الكريمة حرّم علينا أن نؤذيه في أمته، وأمرنا أن نكون مع أمته في صيانة وحراسة حتى لا يُؤذى رسول الله لأنه يتأذى ممن يُؤذي أمته عليه الصلاة والسلام، وإن عدم التثبت في الأخبار والتبين سبب من أسباب كثير من المقاطعات ومن المخاصمات ومن المضاربات ومن المقاتلات ومن البغضاء ومن الشحناء. أماني إبليس التي يتمناها في الأمة تنبثق عن قلة التثبت في نقل الأخبار وإبلاغ الأنباء، والتي تولتها اليوم بعض الهيئات وكثير منها في الفسق واقعة وكثير منها من أصل تبنيها لهذه الأخبار أقامته على أساس التلبيس والكذب والتحريف؛ لأجل أغراض معينة وسياسات معينة. وهكذا حتى أن منها ما لا يعبأ به العلية من قومهم والكبار من جماعاتهم، ويرون أن اتباع هذه الأخبار، والتصديق بها وإقامة المعلومات عليها تفاهة وسقاطة، ويستوي لهم طرق أخرى يستقون بها أخبار بعض الحوادث والأحوال، لا فيما يُنْشَر في هذه الوسائل، ولا فيما يُكْتَب في الصحف والمجلات وما إلى ذلك، أي أنهم أدركوا أن فيها الكثير المُلَبَس المكذوب المصطنع لأجل غرض من الأغراض فما يؤدي إلى إدراك حقيقة ولا إلى فوائد ولا منافع.
يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} خبر عن أحد من بعضكم البعض أو أحد من الناس ومِن مَن حولكم فتبينوا تثبتوا، وجاء في قراءة الجمهور قرأوا (فَتَبَيَّنُوا) استعملوا البيان غاية في التحري والانتباه، والوصول إلى الحقيقة (تَبَيَّنُوا) لماذا؟ حتى لا يحصل الخطر الكبير بينكم {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} تحكموا على أناس أو تعاملوا أناس أو تقاتلوا وتحاربوا أناس معاملة سيئة مسيئة لهم بناءً على تصديق هذا الخبر الكاذب. {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أو تسبوا أو تشتموا لا لكم حق ، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} نادمين على ما صدر منكم من السوء إما معجل الندم لكم في الدنيا إذا تبين الأمر لكم بعد ذلك وأنكم أخطأتم وإما مؤجل كذلك في العقبى والعياذ بالله تبارك وتعالى لأن هذا التصرف والإنطلاق بهذه الصورة يوقعكم في الإثم فتندموا على ما فعلتم وتندموا على ما قلتم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، وكان سبب نزول الآية والحكم عام لا يختص بالسبب أنه بعد أن آمن بني المصطلق ودخلوا في الدين واستقرت أمور الإسلام في حوالي المدينة والقبائل، وفد الوافد منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من سيدهم الحارث وتعلم الإسلام والزكاة قبل أمر الإسلام، وذكر أمر الزكاة قال قبل الأمر وقال هذا الذي يريده الله منا لمصالحنا وخيرنا ونحن نقبله وعندي يا رسول الله وقومي اعداد كبيرة من ما يلزم فيه الزكاة من الإبل والغنم، فقال صلى الله عليه وسلم قال: أنا سأذهب وأجمعها من قومي وأعلمهم ما علمتني من الإسلام والصلاة والزكاة وأجمع زكواتي يقول: إذا جاء الإبان وقت كذا فأرسل إليكم من يستلم منكم، قال: أنا أجمعها وأبعث إلينا من يستلمها مني عني وعن قومي زكواتهم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم وقت، وأرسل في الوقت صلى الله عليه وسلم أرسل ابن عقبة بن أبي معيط اسمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، الوليد هذا كان في السابق بينه وبين القوم في الجاهلية عداء ومشاحنة، وقد جاء الإسلام يجب كل هذا ويبعده فخرج إليهم ليجمع الزكاة ويوصل الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليقسمها، فلما سمعوا أن رسول الله أوفد إليهم أن يأخذوا الزكاة فرحوا وخرجوا لاستقباله، فلما دنى منهم ورأى أن القوم متجمعين حدثه الشيطان وقال له -ويبدو أَنَّ بينه وبينهم شيء-: بيغتنمون الفرصة الآن وبيقتلون، وأحسن أن أرجع إلى النبي واستعدي عليهم -لا حول ولا قوة إلا بالله ضحكه عليه من الشيطان والنفس-، رجع .. مالك؟ قال: رسول الله القوم في جاهليتهم تركوا الإسلام، ومنعوا الزكاة، وأرادوا قتلي ويتجمعون ليقاتلوك، ها ! ماذا تقول؟ قال: هذا هو! وأنا رجعت خايف أن يقتلوني وهم يجمعون ليقتلك.
أرسل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى خالد بن الوليد مع الجماعة، وقال له: أدخل في القوم ، ولا يشعر بك أحد. أَرْسَلَه -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال له: اسمع القوم، وانظرهم، فإن رأيت فيهم خيراً، خذ منهم زكاتهم و آتني بها، وإن رأيتهم قد أرتدوا، ورجعوا عن الإسلام، فما تتعامل مع الكفار المحاربين اعمل معهم، فخرج، وقرب منهم سمع آذان المغرب وقامت الصلاة وسمع آذان العشاء، لقى القوم ودخل، حسوا -شعروا- بسيدنا خالد وقالوا: ما شأنك يا خالد؟ قال: والله أنتم شأني، جاء الوليد بن عقبة ويقول: أنكم كفرتم وأنكم ارتددتم وأنكم منعتم الزكاة، بَكَوا .. وقالوا: حاشا أن نكفر بالله وبرسوله أو نمتنع عن الزكاة، وقد سمعنا بمجيء رسول من عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فخرجنا نستقبله فرحين، ومعنا أموالنا لنعطيه إياها، ثم بلغنا أنه رجع؛ فخِفنا أن يكون سخط علينا رسول الله لأمر، وإنه إنما رجع بأمر من عنده وكتاب من عنده؛ ولذلك خرج الحارث مباشرة، ووصل إلى عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: يا رسول الله سمعنا بأنك بعثت إلينا رسولا من أجل الصدقة ففرحنا بذلك وخرجنا نستقبله، ثم إنه رجع من الطريق فخفنا يا رسول الله أن تكون سخطة علينا، أن يكون عندنا شيء أحدثناه نحن بين يديك وما تريد منّا فإنّا على عهدك.
وكان قد أرسل النبي سيدنا خالد، وتأنَّى -صلى الله عليه وسلم- في الأمر، خبر هذا، أوخبر هذا الثاني، لم يجزم بواحد منها، تركهم حتى يرجع سيدنا خالد، قال: يا رسول الله القوم على الإيمان والإسلام وهذه صدقاتهم، فصدق الحارث وأكرمه، ونزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. فكان أن وصفه الجبار بالفسق، قال: فاسق، خارج عن الطريق القويم، خارج عن المسلك السوي، فلم يزل هذا مبتلى والعياذ بالله تعالى بالفسق والمعصية؛ حتى أنه في أيام سيدنا عثمان بن عفان ولّاه على الكوفة، فجاء يوما في الصبح وهو سكران صلّى بهم الصبح أربع ركعات، ثم قال: هل أزيدكم!؟ وعزله سيدنا عثمان بعد ذلك فاسق، {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا} وفيه خطر نقل الخبر على غير وجهه فسق، خروج من الطريق خروج من المسلك، {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} يعني: لأن لا تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} قال سبحانه وتعالى: استشعروا استحضروا أن صفوتي ومختاري بينكم يتلقى الأمر مني، ويتلقى الخبر مني، فلا تبلغوه الأخبار الغير الصادقة فأفضحكم وأوحي إليه بكذبكم، ولا تغالبوه على ما يدلكم ويهديكم ويرشدكم، بل انقادوا له واخضعوا له، {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} قال: حبيبي بينكم، وقد حضي الرعيل الأول والصحابة بوجوده جسدا وروحا، وبقي في أمته بروحه وهديه وسنته وبلاغه ورأفته ورحمته وانتباهه، وعرض الأعمال عليه من قِبل من أعمالهم عليه بواسطة الملائكة، ودعاؤه للمحسنين، واستغفاره للمسيئين، فينا رسول الله.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} ويا أيها الرعيل الأول ومن يأته بعدكم قدِّروا هذا الأمر، وارجعوا في شؤونكم وأحوالكم إلى هذا النبي، ولا تطلبوا أن تكون لآرائكم ولا لنظرياتكم سلطة على رسول الله، ولا على يأتي به، فهو عبدي الخالص يطيعني أنا، ويرعى أوامري، ويمتثل ما أوحي إليه، كما قال له: قل لهم {..إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي…} [الزمر:13]، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} [الأحقاف:9] من ربي، ومن كان بهذه المثابة فلا تعملوا بأفكاركم وعقولكم وأرائكم لتقودوه، أو ليطيعكم في شيء من ذلك؛ بل اخضعوا بعقولكم واخضعوا بأرائكم إلى ما يقولكم، وإلى ما يدلكم عليه، وإلى ما يهديكم، وإلى ما يُبيَّن لكم، فإن كان لكم من عقل فوظيفته أن يُستخدم في حسن تنفيذ ما قال، والإهتداء بالنور الذي يلقيه إليكم لتصلوا إلى المراد من كلامه، ومن أمره ومن بلاغه -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه وظيفة العقل.
أما أن تستحسنوا أنتم أمر ثم تريدون أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- يطاوعكم فيه ويمشي على استحسانه، فما هذا الدين وما هذا الإيمان، الدين الذي تحكموه فيما شجر، وترجعوا إليه، هذا الخطاب موجه للرعيل الأول ومن يأتي بعدهم، من الناس من يظن أن في آرائه ونظره وفكره خيرًا للإسلام، من حيث هو فكره ورأيه، ولو وصل إلى لَيِّ بعض النصوص وحرفها وقلبها ليصل إلى رأيه، ويظن أنه بذلك يخدم الإسلام، أتخدم الإسلام بالتنصل عن حقيقته؟! أنت تتنصل عن حقيقة الإسلام، وتريد أن الدين والشريعة فرع لرأيك وفرع لعقلك، هذا التنصل عن الإسلام، أ تخدم الإسلام بالتنصل عن الإسلام؟! لا يكون هذا؛ إنما خيرنا وصلاحنا وحقيقة نصرتنا لربنا أن نخضع، وننظر ما قال الله ورسوله ونمشي وراءه، ما نحكم آراءنا ولا نحكم أفكارنا ولا عقولنا.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} يقول: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ} الذي تطرحونه عليه والذي تميلون إليه والذي تحبوه لنفوسكم لعنتم، لوقعتم في الإثم والعنت: المشقة والعقاب والعذاب، لعنتم وصلكم العنت الإثم والمشقة والتعب، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: منتهى آرائكم وأطروحاتكم لو عملتم بها لجلبت لكم المشقة والتعب، وأوقعتكم في الإثم، لكن أكرمناكم أرسلنا إليكم نور، أوصلنا إليكم أمين، أوصلنا إليكم معصوم، أوصلنا إليكم أصدق خلائقنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فاغتنموا الفرصة واخضعوا، وامتثلوا الأمر وامضوا.
ولذلك قال شاعرهم كسيدنا عبد الله بن رواحة في وصف رسول الله وفينا رسول الله {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ} قال:
وَفينا رَســــــولُ اللَهِ يَتلو كِتابَـــــهُ *** إِذا اِنشَقَّ مَعروفٌ مِنَ الصُبحِ ساطِعُ
أَرانا الهُدى بَعدَ العَمى فَقُلوبُنا *** بِهِ موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقِــــــــعُ
يَبيتُ يُجافي جَنبَهُ عَن فِراشِهِ *** إِذا اِستُثقِلَت بِالكافِرينَ المَضاجِعُ
فهذا صفوة الرحمن وحبيبه الذي يوحى إليه جاء عندنا، القول قوله والكلام كلامه والخبر خبره، وقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع، عاد نحن بنتخبر أنفسنا ولا نتخبر أحد من أهل الشرق ولا من أهل الغرب! رب المشارق والمغارب جاب لك هذا، وأوحى إلى هذا، وقال لك اتبع هذا -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وقعتم في العنت والمشقة والتعب والإثم، وتوصلتم إلى العذاب، ولكن منة الله على عامة وأكثر الرعيل الأول ومن يتبعهم من بعدهم بإحسان واصلين إلى هذه الدرجة و الرتبة الشريفة {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} الذي هو محبوب له ويحبه منكم، فأكرمكم بموافقة الحق والحقيقة، وأحببتم ما أحب، وعظّمتم ما عظّم، ورغبتم في ما رغّبكم فيه، وأكرمتم ما هو كريم عند الله، {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} حتى لا شيء عندكم في الدنيا أحسن من الإيمان، {زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} فرأيتموه الزين الحسن الأغلى في هذا العالم، نعمة من الله عليكم.
{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} المكروه عنده، المبغوض له، إذن وفقتم واصبتم ورشدتم، أحببتم ما أحب وأبغضتم ما أبغض، فنعم العباد أنتم للرب، وهو نعم الرب، {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} زينه: كل من يجيب لكم فكرة تخالف الشريعة والدين، تقولون: زينه؟ زينه من أين زينه؟! هذه خبيثة، هذه ساقطة هابطة، الزين: هو الزين عند الله، ما كان زين عند الله. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} بأصنافه وأنواعه والفسوق واقتحام الكبائر والخروج عن سواء السبيل، وعن المسلك الحق، والعصيان كله صغير وكبير كرهه إليكم، نعمة كبيرة، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ} من عملت بهم هذا، ومن أعطيتهم هذا، ومن سلكوا هذا المسلك {هُمُ الرَّاشِدُونَ} هذا الرشد وحده والباقي غي، الباقي في العالم ما خالف هذا غي، هؤلاء هم الراشدون، {أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم.
كيف حصلوا هذا أنبياء وخواص أتباعهم في كل أمة وفي كل زمان إلى أن جاء خاتم الأنبياء، وهؤلاء الخواص الأخيار من المؤمنين على مدى القرون إلى الموجودين في زماننا من أهل هذا اليقين، وأهل هذا الإيمان والمحبة لله ورسوله حتى يبيتون ويصبحون ويحيون ويموتون والله ورسوله أحب إليهم مما سواهم، {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ما يأثر فيهم إغواء ولا تهديد، ولا ترغيب من الفجار والكفار، لا باغراء على شيء ولا بتهديد من شيء ما يتأثرون به {كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
بما نالوا هذا وتميزوا عن الملايين من البشر على ظهر الأرض؟ وقعوا في قبضة إبليس والنفوس والأهواء والشهوات، من أين حصلوا هذا؟ قال: {فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} ؛ ولما كان هذا الطلب هو الذي يحوم في قلوب العابدين للرب رأيت مما رتب السلف عندنا في صلواتنا في التراويح فضلا من الله ونعمة؛ لأننا قلوب ترغب أن تكون أن تنال هذا المنال، أن يتحبب إلينا الإيمان ويتزين في قلوبنا، ونكره الكفر والفسوق والعصيان، وندخل دائرة الراشدين، فضلا من الله ونعمة، وكلما صلينا وركعنا لو ذكرنا هذا المطلب وهذا المراد، وقلنا فضلا من الله ونعمة. اللهم أكرمنا بالفضل والنعمة {فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بحقائق الأمور علمه محيط بكل شيء، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] -جل جلاله- حكيم فيما شرع وفيما خلق، وفيما أمر وفيما نهى، خلق الخلق لحكمة، وطوى عليها علمه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} -جل جلاله-
اللهم علمنا وآتنا الحكمة، {يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] آتنا الحكمة وعلمنا من لدنك علما، اللهم إنا نسألك العلم اللدني و المشرب الصافي الهني ربنا زدنا علما وارزقنا فهما وتولنا بما أنت أهله وأصلح لنا الشأن كله برحمتك يا أرحم الراحمين.
13 رَمضان 1444