(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس السابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأحقاف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) }
الجمعة 12 رمضان 1445هـ
الحمدلله مُكرِمِنا بالآيات البيّنات، وحُسنِ بيانها على لسان خيرِ البريّات، مَن جعله سيِّدَ أهل الأرض وسيِّدَ أهل السماوات، عبده المجتبى المختار خاتم الرسالات، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات والبركات، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن سار على منهاجه بالمحبة والولاء والثبات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خزائن الرحمات ومعادن الفيوضات الربّانيات، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
أما بعد؛
فإننا في مِنّة الله علينا نتأمل كلامه الحق، الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] -جلَّ جلاله-، وأنتهينا في سورة الأحقاف إلى ما ذكر الله -تبارك وتعالى- من هلاك الكافرين من قوم النبي هود من عاد، وما نجى من العذاب الغليظ إلا هو والمؤمنون معه، وقد تكررت هذه الأمثلة على ظهر هذه الأرض، وينزل عذاب شديد وعامٌ؛ إمّا بحاصب أو بريح أو بغرق أو بغير ذلك من أنواع الهلاك، فيفنى كل الذين عاندوا وكل الذين تكبروا، وكل الذين ضادّوا الأنبياء، ويبقى الأنبياء ومن معهم، قال تبارك وتعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) [هود:58].
أمّا الكثرة الكاثرة والذين كانوا مُغترّين بقواهم وقوّاتهم المادية والعسكرية، فيما تَرجم عن ذلك سيدنا هود في قوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128-130]؛ فكان عندهم قوة معمارية وقوة عسكرية وقوة مادية ولكن لم ينفعهم شئ من كل ذلك، هؤلاء؛ قال سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود:59-60].
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود:96-97]؛ بالنهاية غرقوا في الدنيا، وفي القيامة: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود:98].
فالتبعيّة لأهل الجبروت والطغيان؛ هذه مصيبة البشر، ولن يُغنوا عنهم من الله شيء، وسيكونوا معهم -هم وإياهم- في سوء المصير -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فاجعل يا ربي هوانا تبعًا لما جاء به خاتم أنبيائك، وسيد رسلك وأصفى أصفيائك سيدنا محمد ظاهرًا وباطنًا، اللهم آمين.
يقول تبارك وتعالى:
(فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ.. (26)) وإذا عَلِقَ بالقلبِ المعاندة والجحود بالآيات؛ فلا تغني الأسماع ولا تغني الأبصار ولا تغني الأفئدة، ولا تغني التفكيرات ولا تغني الخطط ولا تغني الحضارات، ولا شيء يغني.
(فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ.. ) -والنهاية- (وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26))؛ فهلكوا ودُمِّرُوا وكانوا عبرة.
وهكذا شأنُ العارفين بالله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، والغافلون تَهب الريح ويطلع السحاب ويروح ويأتي، ولا حركة في الباطن ولا حِس ولا شعور ولا إدراك، غفلة عن عظمة المُدَبِر المكون، المقدم المؤخر، الرافع الخافض، الضار النافع، المُشقِي المُسعِد الذي بيده ملكوت كل شيء -جلَّ جلاله-، فالله يرزقنا الأدب معه ويملأ قلوبنا بخشيته ومحبته ورجائه ورضاه.
قال: (وَحَاقَ بِهِم..) -حلَّ ونزل بهم- (مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) من خبر هذه النبوة والرسالة، وما كان يُحذِرهم ويُنذِرَهم منه النبي هود؛ نزل بهم وحاق بهم وحلَّ عليهم، وهكذا ما هو نهاية عاد وحدها؟ والذين قبلهم والذين بعدهم.
قال: (وَلَقَدْ ..(27))، يقول سبحانه وتعالى يخاطب قريش الذين كان يبلغ الرسالة فيهم ﷺ وقد أرسل للعالمين، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ..(27))؛ ألا ترون في مدائن قوم صالح! ألا ترون بجانبكم أيضًا في الشام مدائن المؤتفكات وقرى قوم لوط! ألا ترون بجانبكم في سبأ وما كان فيها! ألا ترون ما كان من قوم عاد بجانبكم في الأحقاف!
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ ..(27))؛ نوّعنا وكرّرنا، وصنّفنا الدلالات والإنذارات والبيانات على أيدي الأنبياء والرسل ( ..وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27))؛ فكُلٌّ تَكبَّر وطغى، وكذّب بنبيه وبرسوله وحلَّتْ بهم المَثُلات.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ ..(27))؛ الأمر جعلناه مستفيضًا بينكم، وشائعًا بين صغيركم وكبيركم، يتلقَّاهُ الأبناء عن الآباء، فهو خبرٌ مُستَفيضٌ واضحٌ بَيِّنْ، لا يَشُكُّ فيه أحد، فأين ذهبت هذه القرى؟ ولماذا أهلكناها؟ أرسلنا إليهم رُسلًا فكذبوهم، فكيف تكذبون برسولنا هذا؟ أما تخافون المصير الذي صارت إليه تلك القرى؟ وأين ذهبت عنهم قواهم وآلهتهم التي كانوا يستندون إليها؟ فماذا ستصنع بكم أصنامكم هذه وآلِهَتُكُمْ أنتم؟ هؤلاء آلهتهم لم تنفعهم شيء!.
(وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)) رحمة من الله بعباده ينوع الآيات ويصنفها، والترغيب والترهيب، وسيدنا نوح يقول عن قومه: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح:8-9]، بكل أصناف وأنواع الترغيب والترهيب جاءهم.
قال: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ..(28)) الذين اتخذوهم آلِهَةً من دون الله يتقربون إليها، لماذا ما نصرهم؟ وأي شيءٍ منع هذه الأمم التي أبادها الله وأهلكها؟ أي شيء منعهم من عذاب الله؟ عقولهم! صناعتهم! كثرتهم! ما منعهم؟ ما حرسهم؟ ما حفظهم؟ ما وقاهم، أسلحتهم.. آلهتهم.. ما الذي كلهم وقع عليهم العذاب ما شيء منعهم من هذا، ما شيء حرسهم من هذا، ما شيء حفظهم من هذا، ما شيء وقاهم من هذا كل هذه الأشياء ما وقتهم العذاب هلكوا، فأنتم ما الذي يقيكم من عذاب الله؟، قال المؤمن من قوم فرعون: فمن ينصرنا من بأسِ الله إن جاءنا؟ من ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟.
قال: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ..(28))، والكوارث هذا التي تحصل، ولها مدى تحصل جزئية ويُخَبا منها ما يُخبى في أوساط الكفار الموجودين في زماننا، ما منعتهم قواهم ولا مكرهم ولا كيدهم ولا خططهم ولا ترتيبهم، ما تمنعهم من وقوعها بهم، حتى تأتيهم كوارث كبرى ينتهي فيها شأنهم، كما عمل الله في من قبلهم، وهم الآن من كارثة إلى كارثة، وشيءٌ يخفونه وشيءٌ ما يحبوا تحدث عنه وشيءٌ يبعدونه عن الأعلام وسائل الأعلام، وشيء كذا، ولا يمنعهم من ذلك لا قواهم ولا تكنولوجياهم ولا أسلحة نووية ولا قنابل ذرية، ولا هيدروجينية ولا شيء من هذا، ما شيء يمنعهم، ما منعهم من أطراف هذا العذاب فما الذي يمنعهم من عذابٍ كبيرٍ إذا نزل بهم؟.
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ..(28))؛
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ..(28)) أيّ يتقربون إليها آلهة تتخذوا آلهة؛ (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ)، غابوا عنهم ما وصلوا إليهم ما اهتدوا إليهم، ما عرفوهم؛ (ضَلُّوا عَنْهُمْ)، وذلك هذه النهاية وهذه النتيجة والحالة التي وقعت بهم إفكهم، هذا كذبهم، هذه دعواهم الباطلة؛ (وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28))؛ ينتحلونه من الكذب.
وكم من اتجاهات موجودة في العالم اليوم تبني أمورها على الكذب وترتب على الكذب، وقد كان حتى عوام المسلمين على مدى القرون يقولون: مطية الكذب زعفة الكذب يكذب بعدين يسقط معه يظهر كذبه بعض الكذب عندكم في أحوالكم الأخيرة التي مرت بكم، بعض الكذب عن اجهزة الاستخبارات والتنصت، وأنه بكل ذرة يحصونها، وأنه هناك الغلاف الجوي ما يمكن يمر منه شيء، وأنه قوة ما تغلب، جاء الله بنفر من المسلمين في غزة ثبتوا .. ثبتوا وظهر الكذب هذا.
(وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28))؛ ظهر أن الكلام هذا كله كذب، وكانوا قد نشروا بين الناس والإعلام وأصابوا به حتى المسلمين وصلوا إلى كثير، حتى من أخيار المسلمين صدقوهم في كذبهم، لا إله إلا الله؛ القوي واحد اسمه الله، هذا هو القوة عنده، والقدرة عنده، والملك له، والأمر له، والقهر له، بيد ملكه كل شيء.
قال: أقوى منهم قُرى قد أهلَكتَها، وإنما أردناك يا عبدنا المحبوب أن تكون مثالًا للجهاد في سبيلنا، والصبر على الشدائد من أجلنا، ليرى أُمَّتُك القدوة الكبرى العظمى وليهتدوا بهديك.
وهو الذي قال لسيدنا أبو بكر في الغار: "ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما"، (.. إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ..) [التوبة:40] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكان قد أَسرى به في ليلة إلى المسجد الأقصى، وفي الهجرة اختبأ في الغار وجلس عدة أيام ، وجلس في الطريق ذا، واذهب هنا، واهرب إلى هناـ وامشِ في الطريق هذه، واصبر وامشِ معنا ﷺ؛ فكان المثال الأعلى لمعرفة العلي الأعلى وحكمته في تسيير الملأ.
ومن ذلك ما أشار إليه أيضًا من أنه صرف إليه نفرًا من الجن: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ ..(29))؛ وكثير من الأنس تأَبَّوا عليك وآذوك وأتعبوك حتى رموك بالحجارة، وعند رجوعه من الطائف وكان بنخيل في الوادي وقام يصلي، وأرسل الله جماعة من الجن، جماعة من الجن كانوا آمنوا بالنبي موسى فكانوا من اليهود، فلما صُرِفوا إلى جهة النبي ﷺ رَأوا نور، ورأوا كلام عظيم.
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ.. (29))، عدد من رجال الجن وأشرَّفهم من جني -نصيبين-، وكان له عدد من اللقاءات بالجن ﷺ والاجتماع بهم والخطاب معهم في تبليغ رسالة. والقول الأرجح المشهور الذي تدل عليه الأدلة:
فقد كانت عُمِرت الأرض قبل تكوين أبينا آدم عليه السلام بطائفة من هؤلاء الجن، وعثوا في الأرض فسادْ وسفكُوا الدماء وعَصوا وأٌهلكوا، وبقي ممن نجا من ذاك الهلاك الأول؛ لحكمة إبليس؛ فإنه كان متظاهر بالعبادة والإسلام والطاعة، ويحتمل أنْ يكون وحده من جملة الجن أو بقي نفر من الجن المؤمنين لم يصبهم العذاب وهلك الكفار كلهم والفساق؛ ولهذا:
فلما هلكُوا بسبب الذنوب والمعاصي والفساد وسفك الدِّماء، قال الله للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة:30]، بتجيب كما اللي كانوا أولئك -يعنون من الجن- كما هؤلاء يصلحوا المشاكل في الأرض ويفسدون (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]، مع ما سيحصل من مفسديهم وضلالهم، إني جعل بينهم أسرار خلافتي ونبوة ورسالة وأصفياء وأوفياء وأولياء أُبرزهم أنتم تُبهرون من أنوارهم، (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].
وعرضوا أنفسهم على ربهم قالوا: هل تستخلفنا نحن في الأرض؟ سنقوم لك في العبادة وما تحب منا من أوامر ننفذها، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]، أنتم فيما سيرتكم فيه وفيما كلفتكم به أمضوا ولي إراده وحكمة وأسرار.
فكوَّن آدم يقول لهم: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:72]، ثم (وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ) [البقرة:31]، قالوا: ما نعرفها (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِم)، تعالوا تعلموا عند آدم: (فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) [البقرة:33]، سأجعل فيهم من يبهركم وأعلمهم ما لم تعلموا أنتم، فكان فيهم الأنبياء، وفيهم الأصفياء والأولياء، ولم تزل الملائكة منبهرة بأنوار أولئك إلى أيامنا هذه، ولم يزالوا ينزلون في مجالس الخيرات وينزلون في مناسبات وفي ليلة القدر خصوصًا.
في كل سنة في رمضان أعداد كبيرة من هؤلاء الملائكة ينزلون إلى الآدميين على ظهر الأرض، وإلى من هو موجود من ذرية آدم هذا الذي كان بينهم وبين الحق المناقشة عندما أخبرهم عن إرادة تكوينه وخلقه، ويُسلِِّمون على المؤمنين في منازلهم وفي أماكن صلواتهم ويدعوا لهم ويصافحونهم، حتى يكونوا في ليلة القدر؛ الملائكة النازلين من السماء عددهم أكثر من عدد الشجر والحجر في ظهرالأرض: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4]. وعندما ينزلون ويحضرون مجامع المؤمنين؛ الإمامة للمؤمنين هؤلاء من بني آدم هم يصلون مأمومين الملائكة يصلون مأموين حتى التقدمة في الدعاء لهؤلاء وهم يُأمنون على دعائهم … لا إله إلا الله.
يقول: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ..(29)) صرفنا وجهتهم وقلوبهم ليسمعوا منك ما أنزلنا عليك من الذكر الحكيم المهيمن على الكتب.
(قَالُوا أَنصِتُو.. (29)): وأنصَتوا فحصلتْ لهم الرحمة وربي يقول لنا: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204]، وهكذا:
(فَلَمَّا قُضِيَ.. (29)) كمل التلاوة ﷺ، فرغ من تلاوته تحولوا إلى رسل لرسول الله يبلغون شرع الله فبسرعة عَلِمُوا وعملوا وعلَّموا فصاروا من العظماء. كان سيدنا عيسى يقول: "من عَلِمَ وعَمِلَ و عَلَّمَ فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماوات"؛ فهذه المهمة الكبيرة فقهوها من جلسة مع نبينا ﷺ؛ فواجب كل واحد منا وقد أعطاه الله السمع والبصر والفؤاد وهيأ له الجلسات أن يَحمل هذا الهَّمْ أن يحمل هذا البلاغ أن يحمل هذه الرسالة.
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)) محذرين لهم: من غضب الله، من سخط الله، من البعد عن الله، من التكذيب بأنبياء الله.
(وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)) أصحابهم من الجان، ثم تواعدوا مع النبي ﷺ ثم كان لهم أيضًا لقاء من قبل بالحجون فتعددت لقاءات ﷺ ثم جاء ذلك في أحاديث عن ابن مسعود وغيره.
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا ..(30)) -أي من كتب الله- (أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ ..(30))؛ هذا دليل أنهم كانوا يهود، (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ..(30)) يصدق جميع الكتب المنزلة والرسل الذين مضوا كلهم. (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ..(30)) انظر كيف عرفوا؟ في جلسة مع الحبيب ﷺ ورجعوا دعاه وعاه يعلمون المهمة والواجب وكيف يقومون بها؟ وكيف يحسنون أداءها؟
(يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)) أي تحُوزون حقيقة السعادة أو سعادة الأبد غفران الذنوب، والإجارة من العذاب، فيجيركم من العذاب؛ فتحُوزون دخول الجنة (وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)).
(وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ) ممن غرُّه هواه وشهواته وشهوات الدنيا؛ (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ.. (32)) قد أهلك الله قبله كثير مثله ويهلكه ولا يعجزه الله في شيء (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ) -من دون الله- (أَوْلِيَاءُ ..(32))؛ مانعين يمنعونه ولا حراس يحرسونه ولا وقاه يقونه الأمر، (وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ.. ) -الذين لا يجبون داعي الله- (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32)).
جعلنا الله على الهدى المبين والصراط المستقيم والحق المبين، وأعاذنا من الهوى والضلال في جميع النيات والمقاصد والأقوال والأفعال والحالات والأحوال. ارزقنا الاهتداء بهدي نبيك والاهتداء به والاقتداء به، والاتباع له والنصرة له وتبليغ رسالته على خير الوجوه، يا حي يا قيوم.
فلا يزيد عليكم نَفر من الجن؛ سمعوا وأنصَتوا وقاموا دُعاة، وأدّوا حقّ الرسالة وصدقوا مع الله، فليكُن كل واحد منكم: مُصغي، مُنصِت، مُلَبّي، مُجيب، قائم بِحَقّ الرسالة والأمانة، موقِن بالحقيقة (.. أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ) (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32)).
الحمد لله على الحق والهدى، جعلنا الله من أنصاره، وناشري أنواره، في لطف وعافية وتهجيد وتمكين مكين اللهم آمين، وأصلح شؤوننا والأمة أجمعين، وادفع البلاء عنا وعن الأمة أجمعين برحمتك يا أرحم الرحمن، واجعل هذه الجمعة الثانية من جمعة شهر رمضان مباركة علينا وعلى أهل الإسلام والإيمان، عجل بالفرج وارفع الضيق والحرج وقوم كل معوج، وأذن بظهور رايات الحق ورايات رسولك المصطفى الأصدق، ونشرها في الآفاق وظهورها في الأقطار واجعلنا من خواص أنصارها، وثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، واختم لنا بأكمل حسنة وأنت راضي عنا في خير ولطف وعافية.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
12 رَمضان 1445