تفسير الإنفطار -4- من قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))
الحمدُ لله مولانا الكريم العظيم الرحمن الرحيم، الواسِع الجود الملِك الحق المعْبود، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي أرسل إلينا عبْده محمداً؛ فأرشدنا إلى طريق الحق والهدى، وجعله الأكرم عليه في جميع الخلق ها هنا وغداً، ثبّتنا الله على درْبِه وأدْخلنا في حِزْبه، وسقانا من شِرْبه، وجعلنا من أهل مُرافقته في يوم الوقوف بين يدي الرحمن، ونسأله -جلّ جلاله- أن يُكثر الصلوات والتسْليمات منه عنّا على حبيبه المُصطفى محمد، في كلِّ لمْحة ونفس أبداً سرْمدًا، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وتابعيهم أهل الأنوار، وعلى الأنبياء والمرسلين ذوي المراتب العزيزة الكِبار، وعلى آلهم وصحبهم الأخيار، وعلى ملائكة الله المُقرّبين، وجميع عباد الله الصالِحين، وعلينا معهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
ففي توديعِنا للشهر الكريم، وهو عازِمٌ على الرحيل، فإما يكون اليوم أو الغد آخر يوم من أيام الشهر، وإن شاء الله يكون غدُنا هو آخر أيام هذا الشهر الكريم، فنودّعه، ومن خير ما نودّعه به، إقبال حسَن على عاِلم السِرِّ والعلن، وتنقٍّ عن الدّرن، وإحسان في إخراج زكاة الفطرة، وختْم للشهر بِكثْرة الاسْتغفار، ورجاء القبولِ عند الكريم الغفّار، ونيّةٌ صالِحةٌ لما يكون بعده، ورغبةٌ صادِقةٌ أن يُعيده الله علينا، وإحياءٌ لليلة العيد، وكثْرة تكبير باستدعاء معاني التكْبير القلبي إلى القلب؛ حتى يصْحب تكْبير الألسن والأفواه، تكبير البواطِن والجنان والقلب لله -تعالى في علاه-، وهل مِن كبير إلا هو -جلّ جلاله وتعالى في علاه-؟.
الذين يُدرِكون سِرِّ التكْبير الذي هو شِعار أعياد المؤمنين، على أمثالهم تقوم نُصْرة الدين، ويفِرُّ الرجيم من تكْبيرهم لله، ويُهزم جُموع الكفّار بتكْبيرهم لله، ومِنهم طوائف يحْمِلون القُلوب التي تُحْسُن تكْبير الله، وسيرِدون على بعض مواطِن الكُفّار -عُيّنت في الحديث- فإذا كبّر الله اهْتزّت أراضيهم، واهْتزّت قُصورهم الشامخة بتكبير هؤلاء المُكبْرين لله -جل جلاله-.
وكان بعض الذي حضروا أيام جِهادٍ مع المُلحدين، من أهل روسيا في اعْتِدائهم على أفغانستان، يقول: إنه سمِع بعض الأسرى، وهم يسألونهم كيف انْهزمتم لعدد قليل لا سِلاح لهم ولا عُدّة، ودخلت هذه الدبابات كُلّها وسط دائرتهم؟، وتذللتم لهم!!، فكان يقول لهم: بعض الأسرى، إنّا نسمعكم تقولون كلام ترتجف قُلوبنا، وما عاد نقْدِر نتصرّف بما معنا مِن الأسلحة، ونقع في أسْرِكم، وخصوصًا كلمة واحدة تقولون فيها: بر بر بر.. يقْصِدون الله أكبر! قال: ترْجِف قُلوبنا عِندها، لا إله إلا الله، والله أكبر.
ثم مع الإنْتباه من إخراج صدقة الفِطر عن جميع من يسْكُن في بيتك، ومن تعْرِف مِن أقارِبك وجيرانك تنْبيهًا وتذكيرًا، فاسْتِعمال آداب العيد، ونيّة صيام الستة من شوال، وحُسْنِ المُعاملة مع ربِّ الأشهر كُلّها، والزمان كُلّه، والأرض والسماء، وربِّ كُلِّ شيء، ـجلّ جلاله- حتى تلْقاه، ولكن أُوحي إليّ -قال نبينا-: أن (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) اليقين: الموت بلِقائه سبحانه -رزقنا الله وإيّاكم حُسْن الخاتِمة للشهر الكريم-.
ونحن أيضًا فيما نخْتِم به الشهر مِن اسْتِمراريتنا في التعرُّض في بُكْرات الأيام المُباركة لفيض ربِّنا، وغفْر ربِّنا، ورحمة ربِّنا، ورضا ربِّنا، ونظر ربِّنا، وجود ربِّنا، وإحسان ربِّنا، وتجاوز ربِّنا، وعفو ربِّنا، وإفضال ربِّنا، وتطول ربِّنا، ومنح ربِّنا، وفتِح ربِّنا، وإحْسان ربِّنا ـجلّ جلاله-، في تأمُّلنا لمعاني خِطابه وكِتابه، ووحيه وتنْزيله، وما خصّ به أكْرم خلْقِه، يوّجهه إلينا، ويوصِله إلى قُلوبِنا وأسماعِنا، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2].
نواصِل هذا التعرُّض لنفحاتِ ورحماتِ ربّنا ولرِضاه، وقد تأمّلنا معاني في سورة الإنفطار واسِعة الأنوار، عظيمة الدلالات، على كبير الآيات في الدنيا والآخرات، التي يحكي لنا فيها الحقّ أخبار المعاد والمآب والرُّجعى والمُسْتقبل الأعظم، الأخْطر، الأجلّ، الأرْفع الأهم، مُسْتقْبل البرازخ، ثم مُسْتقْبل يوم القيامة، وما بعده إلا نتيجة ما يكون فيه، و(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105] (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7]، وما بعده إلا جنّة أو نار، لكل مُكلّف رضي أو لم يرضَ، أحبّ أو لم يُحب، أخْتار أو لم يخْتر، فليس لاخْتيار الناس، ولا لرِضاهم دخلٌ في تسيير الأقدار، ولا في صُنع المُستقبلات ولا في تطوير الأطوار، وإنّما الخلّاق يُقدّرها كما شاء.
قد حدّثنا ماذا سيصْنع؟ وماذا سيْعمل؟ لِما أنزل على أنبيائه ورسله؟ وحسْبُنا بذلك تذْكِرة، (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلً)، (إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) [الإنسان;29]، (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].
يقول جلّ جلاله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9))، الجزاء والمُحاسبة في يوم ما عرف لا الإنس ولا الجن ولا الملائكة، أدقّ وأعْمق وأجلّ تحقيقًا في الحِساب وإعطاء الجزاء، مثل ذلك اليوم، لا قامت مُحاكمات ولا مُتابعات ولا مُطاردات ولا مُخابرات ولا تسجيلات ولا تصْويرات بالضبط والتوثيق وتحقيق الأمر وإخراج الجزاء، مثلما يكون في القيامة، لذلك لا يسبق نعيم ما يؤول إليه أهل النعيم في ذلك اليوم مِثْله، ولا يسْبِق جحيم أشدّ ما يؤول لأهل الجحيم في مثل ذلك اليوم، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26].
جزاء وحِساب ما يُعْلم له نظير، بِدِقّة.. بقوّة.. بِعُمق، يقول الحق عنه:
- (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:49]،
- (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء:142]،
الفتيل: الذي إذا أخرجنا النواة مِن التمرة، وجدنا خيطًا صغيرًا في خط النواة المُستطيل -فتيل-، وإذا قلبنا النواة وجدنا دائرة صغيرة من وراء النواة -نقير- مثل هذا لا يفوت؛ لا نقير، ولا قطْمير، ولا فتيل. والقطمير: إذا يبِست نواة التمرة انْقشع عن أطرافِها قِطْعة خفيفة بيضاء، غِطاء رقيق أبيض، هذا قطمير.
ليس فقط النوى.. فتيل النوى.. نقير النوى.. قطمير النوى لا يفوت ليس نوى.. النوى شي كبير، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، فوالله إنّما ينْجو مِن رحمه الله -اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة-، وإذا جاءت الرحمة وحسُن التجاوز والعفو؛ جاء الحقُّ إلى الحسنات وضاعفها مِن عِنْده مُضاعفات (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء:40]، يضاعفها.. الله أكبر، قال: وهل في شي أعجب؟! (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ) ماذا؟! قال: من عندي مباشرة، أمر لا يدْخُل تحت حِساب الأعمال، قال: أترك أعمالك، هذا مِن عندي.. خُذْ.. خُذْ.. خُذْ (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:216]، فقد تزيدهم مُضاعفات، ومُضاعفات حتى تكون الحسنة الواحِدة ملايين ألوف، بمقدار كبير. لاإله إلا الله.
وإذا أراد أن يُحْبِط العمل بأي شيء أحْبطه، فما عاد يساوي شيء، كما أن مِن أظْهر ما يكون في ذاك الدِين والمُجازاة والمُحاسبة: حُقوق الخلْق، فتجيء الأعمال الصالِحة مهما كبُرت وكثُرت، تُصْرف في حُقوق الناس، فهذا الذي لا يتورّع عن الكلام على الناس، وإيذاء الناس، وظُلم الناس، مهما اجْتهد في العِبادة، يجْتهد للناس، لا يجْتهد لنفسه -مسكين-، مِن أجل أن يُحصِّلوا جزاءهم؛ يأخذون حقّه أمام عينه، يأخذون الزكوات والصلوات والقِراءات؛ هذا تكلّم عليه.. هذا سبْ، خُذْ خُذْ خُذْ خُذْ -لا حول ولا قوة إلا بالله-، وهو المُفلِس، سمّاه ﷺ المُفلِس؛ يأتي بأعمال صالٍحة كأمثال الجِبال؛ صلاة، صدقة، صوم، زكاة.. لكنّه يأتي قد شتم هذا، وظلم هذا، وسفك دم هذا، أخذ مال هذا؛ فيأخذ هذا مِن حسناتِه وهذا من حسناتِه.. وهذا من حسناته.. وهذا من حسناتِه -مسكين-، فكُلّ عاقِل يرْبى بنفسه، أن يكون عامِل لغيره، يعمل أعمال صالحة، ثم يتكلّم على هذا، و ويؤذي هذا، حسناتك ستذهب لهم، اعْقِل.. اعْقِل، احْفظ حسناتك لك حتى تنْفعك في (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
فنستودِع الله شهر رمضان، وما وفْقنا فيه مِن صِيام وقيام، نسأله أن يقْبل ذلك، وأن يحْفظه لنا، ويذخره ويدّخِره عِنده مُضاعفًا إلى ما لا نهاية.. اللهم آمين، ولا يخْرج بعد ذلك علينا، لا في حُقوق ولا في مُحْبطات أخرى، يا رب احفظ علينا ما أعطيتنا وما وفّقتنا وما أنْعمت علينا في رمضاننا هذا، ثم ما وّفقتنا له مِن الخير عامة احفظه اللهم عندك، وادّخره لنا عندك، واذْخره لنا عِندك، لِتوافينا به وتُرينا إياه، فلا تُرينا في القيامة إلا ما يسُرُّنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تُرينا ما يغُمُنا، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْملْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة:6]، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم:40-41]، اللهم أرِنا ما يسُرّنا ولا ترِنا ما يغُمُنا.. يا الله.
يقول: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)) جزاء عظيم ما مِثْله، ودِقّة في الحساب قال: (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت:49]، (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق:28-29]، والحال في ذاك اليوم بالنُسّبة للمصِيرين فالـ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) [ق:30] لازالت تريد أكثر:
- وقد قال الله للجنة والنار: ولكل مُنْكُما عليّ مِلْؤها، فطمِعت الجنة وطمعت النار، فقال الحق للجنة: "أنتِ رحمتي؛ أرحمُ بكِ من أشاء مِن عبادي" وقال للنار: "أنتِ عذابي؛ أُعذّب بك من أشاء مِن عبادي" أرضِيتا؟ فإذا جاء وقت العطاء امْتدّ الطمع، فتقول الجنة: "هل من مزيد؟" فيتجلّى عليها الجبّار، فتقول: يكفي يكفي!!
- والجنة تقول: يا رب لازلت أريد، بقي آخر واحد يدخل الجنّة من أهل الدنيا جُهينة، يخرج من النار بعد سبع ألف سنة، هذا آخر من يخْرج من أهل النار، ويخرج من النار إلى الجنة، وله في الجنة مثل الدنيا عشر مرات، فتقول الجنة: بقي أماكن كثيرة يا رب، وعدْتني تملأني"، فيخْلُق الله خلقًا يُسكِنهم الجنة، يقول لها: خذي، فيخْلُق خلقًا فيقول لهم: اذهبوا أدخلوا الجنة، لا إله إلا هو.
ولكل واحدة مُنْكُما عليّ مِلْؤها، وهذه تمْتلئ.. وهذه تمْتلئ، حتى أن هذا الأخير لما يجي يُخيل إليه أنها ملْأ، ما عاد له شيء مكان، يقول: يارب أين أدخل؟ -لمْ يأذن له بالدّخول في آخر محاورة-؟ يقول: أدخل، قال: أين؟ قد نزل الناس في منازِلهم وأخذوا، ما بقي لي، قال: هل تحب -ترضى- أن يكون لك مثل مُلِك ملِك من أهل الأرض؟ قال: نعم، قال: لك ذلك ومِثلُه معه.. ومِثلُه معه.. ومِثلُه معه، أدُخل، فإن لك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات!!، فيدخل بمِنْظاره الواسِع الذي أعطاه الله إيّاه؛ ينْظر فيما أعدّ الله له، فلا يستوعب كل ما أُعدّ له، مثل الدنيا عشر مرات، إلا بعد سنة، سنة كاملة وهو يتفرج، وهذا لي؟! وهذا لي؟! وهذا.. وهذا لي.. وهذا.. وهذا لي مُلْك، (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الانسان:20]، قال: وإنه لأدناهم منزلة، قال حتى يقول: لا أحد أُعْطي مِثْلي في الجنة، وهو أقلّهم، أدناهم منْزِلة -سبحان الله-. ويقف على رأسِه كل يوم ثلاث مئة من الوِلْدان، وِلْدان مُخلّدون، خُدّام في الجنّة، (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) [الانسان:19]. لا إله إلا الله، اللهم أسْكِنّا جنّتك، وأدخلنا جنّتك واجعلنا من أهلها.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))، حافِظين؛ فلهم مِن الحِفظ شأن كبير، إذا أعطى الله تعالى حافِظات في ذواكِر، حتى الطيور والحيوان والإنسان، وبهذه الحوافِظ التي أعطاهم الله إيّاها يخترِعون ذواكر وحافِظات -أجهزة وشاشات- ولكن ما ينْتهون إليه، فالذي يحفظ ذاكرات كثيرة، إذا نُسب إلى ذاكِرة حمامة، تزيد ذاكِرة الحمامة على ما يظُمّه هذا الكمبيوتر -سبحان الله- عطاء من الله تعالى، وهذا محْكوم بما يُدْخل إليه؛ إن صحّ.. إن خطأ.. إن كذا، ومُمكن يُمْحى في أي وقت، ويمكن فايروس يجيء إليه، ويدخل، لكن الملائكة حافِظين مِن نوع خاص، لايوجد فايروس يدخل عليهم، ويحْفظون الأمر كم هو، يعني مأمونين؛ زكّاهم الربّ، ويشهد التزْكية للملائكة الذين يكْتِبون؛ لأن الجزاء عظيم، فيقول مُكوّن الوجود، وخالق الخلْق، مِن أجل الورود عليّ ومُحاسبتُكم على الأعمال؛ اخْتار لكم صِنف مِن خلْقي: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) وهذه التزْكية كُلّها لهذا لأن الجزاء كبير، لأن الجزاء عظيم، فأختار الله أن يكْتُب وأن يحفظ مسائل المُكلّفين، صِنف مخْصوص مِن كِبار خلْقِه، من عُظماء خلْقِه -جلّ جلاله- الله أكبر.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))، في الحديث أنه: ﷺ نهى عن التعرّي وقال: "أكرِموا مرافِقيكم من الملائكة الكرِام الكاتبين" قال: "أكرموهم"، "فإنهم لا يُفارِقونكم" -يقول-، إلا عند الخلاء، أو إتْيان الأهل، لأنهم كِرام، ينْصرِفون ويغضّون بصرهم، ومع ذلك (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) إن الأمر قائم على العِلم، حتى يقول ﷺ في الشهادة: ترى الشمس تطلع واضحة، يقول: على مِثْلها فاشهد، هل يوجد شيء مُتيقّنهُ كما هذا؟ وإلا انْتبِه لنفسك.
فإن قول الزور وشهادة الزور من أعظم الكبائر، وقد قال ﷺ -مرة يحدث بعض أصحابه وهو متكئ- يقول:
- "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ"، يعني نخاف أن يغضب وينزل علينا شيء وهو يحمل التخويف من هذه المهاوي قول الزور وشهادة الزور، لأن الناس يعتدي بها بعضهم على بعض، يقْتطعون بها الأموال، ويهْدرون بها النُفوس والحُقوق.
- "ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ"؛ ولذا جاء في الخبر: "أنه لا يقف أحد في شهادة فيزيد كلمة أو ينقص كلمة -يعني تخلُّ بالشهادة- إلا لم يرفع رِجْله من مكانه إلا وقد حلّ عليه سخط الله" لا ينزع رِجْله من المحل الذي كان فيه بهذه الشهادة، إلا وسخط الله على رأسِه -والعياذ بالله تعالى-، لهذا قال على مِثْلها فأشهد..
فإذا عرف حقّاً يضيع إن لم يشهد يقول: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]، يُضيّع حُقوق الخلْق؛ يكْتُم الشهادة، قال سبحانه وتعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]، فكما لا يجوز الاسْتِعْجال وتشهد بما لا تعْلم، فعند الحاجة إلى شهادتك بما تيقّنت، يجب أن تشهد، حتى تُساعِد على وصول الحُقوق لأصحابها وأهلها.
يقول جلّ جلاله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)) ملائكة، أكثر ما خلق الله عدد من هؤلاء الكائنات هي الملائكة، حتى أنّهم في الأرض، الذين ينزلون فقط ليلة القدر، أكثر مِن عدد الشجر والحجر في الأرض، ينْزِلون ملائكة إلى الأرض (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:4-5].
طول الليل يكونون على الأرض مِن غُروب الشمس في مكة المكرمة، وأرض الحجاز، إلى طلوع الفجر في مكة المكرمة، يكونون مالئين الأرض، ثم يصعدون، وكان من جُمْلة علامات ليلة القدر، أن تُصبح الشمس صبيحتها ضعيفة الشعاع، لكثرة من يصعد في الهواء من الملائكة، فترى الشمس كأن السحاب موجود، ضوء الشمس ضعيف، تكون ليلة لا بارِدة ولا حارة؛ يعْتدل فيها الجو، مع اختلاف الأماكن، إلا أنه يكون اعتدال بحسب الزمان والمكان الذي هو فيه، لا يكون شدّة حر ولا شدّة برد، وهكذا ملائكة الله تعالى مُنوعين، من أعجب ما خلق الله هي الملائكة، وأوجب علينا الإيمان بهم، قال سبحانه: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة: 285]، آمنا بملائكة الله.
- ومنهم المُوكلين بنا،
- ومنهم ملائكة في الأرض،
- ومنهم ملائكة في السماء،
- ومنهم ملائكة يترددون بين الأرض والسماء،
- ومنهم المُعقِبات هؤلاء، الذي قال الله عنهم: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، قال ﷺ : "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ"،
- ومنهم رقيب وعتيد؛ من لحظة البُلوغ إلى حين الوفاة، يلازمون الإنسان،.
وكان إذا جاء للخلاء سيدنا عثمان بن عفان، أخرج رداءه وفرشه ويقول: هاهنا فاقْعُدا أكرمكُما الله، ويدخُل إلى خلائه، يسْتشعِر مشي الملكين معه ورقابتِهما، فيُحسِن مُصاحبتِهم ومُجاورتهم.
إن عند موت الإنسان يقولون:
- للصالح إذا قُبِر: كم مجلس خير احْضرتنا، كم منْظراً صالحِا اشهدْتنا، كم كلاماً طيباً أسمعتنا، جزاك الله عنّا مِن رفيقٍ خيرًا، نحن ذاهبان إلى قبْرك نُصلّي عليك إلى يوم القيامة، يقولون للميت عند احتضاره.
- ويقولون لصاحب السوء،: كم كلِمة خبيثة اسمعتنا؟ كم مجْلس سوء احضرتنا؟ كم منظراً قبيحا اشهدتنا؟ لا جزاك الله عنّا مِن صاحِب خيراً؛ نذهب إلى قبْرك فنلعنك إلى يوم القيامة، -نعوذ بالله من غضب الله-.
فأحْسِنوا مُصاحبة الملائكة، أرسلَهم الله لكم مُسخّرين بأمر الله، وإلا سيترِكونكم ولا يبالون، ولكن بأمر الله تعالى؛ مع المسلمين ومع الكفار، حتى جاء في بعض الآثار، إذا كذب ابن آدم تباعد عنه الملكان مسافة ميل من نِتن ما يخرج مِن فيه، الكذب شأن وخيم مُنتِن يؤذي الملائكة، يبْعِدون مِن نِتن ريح الكذِب مسافة ميل كامل، حتى يخِف الريح ثم يرْجِعون، فالذي يكْذِب في اليوم، عِدة مرات، كم يؤذي الملائكة هذا؟
يقول: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10))، في أعلى درجات الحِفْظ ومع ذلك يكْتِبون أيضًا، ومع كونِهم حافظين، يقول: كِرام؛ أرفع عن الخيانة، أرفع عن التقوّل، أرفع عن الكذِب الباطِل، أرفع… عليهم السلام.
(كِرَامًا كَاتِبِينَ (11))، ويكون الكِتابة مُساعِدة أيضا لِحفظهم في الشهادة يوم القيامة، هم حافِظون، لكن ما كتبوه كان أوثق أن يشهدوا عليه يوم القيامة.
يقول: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))، يعني يكْتِبون بِعِلْم، يعلمون الأمر ويكْتِبونه، وهم كِرام و يحفظون.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)) ومنهم حفظة، يصونون الإنسان مِن الجن، ومن الحيوانات والحشرات، إلا أن يصْدُر قضاء من الله، فيُخبِرونه في الساعة الفُلانية، في المكان الفُلاني، يتسلّط فلان على فلان، تتسلّط الحيّة الفُلانية على فُلان، يتسلط الجنّي الفُلاني على فلان، فيتخلّى عنه الملائكة حسب القضاء.
لذا لما جاء حرس لسيدنا علي أول ما تولّى الخِلافة، جاءوا قال: ماذا؟ قالوا: نحْرُسك، قال: ممن تحْرِسونني؟ مِن أهل الأرض أم مِن أهل السماء؟ قالوا: ما لنا طاقة نحْرُسك مِن أهل السماء؛ نحْرُسك مِن أهل الأرض، قال: فاذهبوا فإنه لا يحْصِل من أهل الأرض شيء حتى يتخلّى حرس السماء -لا يقدرون- يعني هو هو في ساعة معينة سيجي واحد سيضربه في مكان، حتى مكان الضربة محدد بإصْبعِ النبي، حدّده!! قال له: أشقى الآخرين الذي سيضْرِبُك على هذا! ووضع إصْبِعُه فوق محلِّ الضربة، قال: فيخْضُب مِنك هذه -لحيتك- بالدم؛ فما جاء الشقي في ليلة سبعة عشر رمضان كذلك، إلا ضرب في نفس محلِّ الذي حدّده ﷺ، هذا قبل كم سنة، قبل أكثر من ثلاثين سنة، قال له هذا، قبل شي وثلاثين سنة، فضربه في نفس المكان وخضّب لحْيته بالدم.
وكان في آخر أيامه يقول: أين هذا الذي يضربني على هذه فيخْضُب منّي هذه؟ أراه قد أبطأ!، فلمّا كانت الليلة التي صبحها سيُقتل، نظر في السماء، قال: إنها الليلة التي وُعِدت، ولمّا ضربه، وقد معه خبر من النبي، وأنه أشقى الآخرين، كلّم أولاده الحسن والحسين يقول: إنْ أنا بقيتُ رأيت رأيي فيه، وإنْ أنا مِتّ فاقْتُلوه بي ولا تُمثِّلوا، قال: لا تتجاوزوا حدّ الشريعة، الله.. وأيضاً يوصي أن لا يُمثِّلون به، وهو يدري أنّه أشقى الآخرين من زمان، لم تنفعه صورة العبادة، يقول: أشقى الأولين -قُدار- عاقر ناقة النبي صالح -ناقة الله-، وأشقى الآخرين الذي يضْرِبُك على هذه!! فيخْضُب مِنك هذه!!.
- ولكن أنظر إلى أدب الإسلام، والتربية النبوية؛ يوصي؛ إذا أنا مِتّ لا تُمثِّلوا بالرجل، ولا تعْملوا به شيء، نفس بنفس، اقتلوه فقط، ما أعجب مدرسة سيّدنا!! ما أعجب مدرسة نبيّنا!! ما أعجب مدرسة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم!!، وهل عرفت البشرية مِثْلها؟
- نعم نسمع الذين بالألسُن يتشدّقون، وبالأفعال والسيوف يؤذون، هذا نسْمع.. هذا نرى ونُشاهد، أما حقائق ما وجدْناها إلا عند خير الخلائق، فصلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في المكارِم والشيم، وفي معرفة حُقوق الإنسانية وغيرها ﷺ ورزقنا حُسن مُتابعتِه.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) أيضًا إلى حدود بعيدة، كيف إلى حدود بعيدة؟ الإحاطة في العِلم بالأشياء مخصوصة بواحد هو الله، ولكن هؤلاء يعْلمون كلّما يكتبون، ويعْلمون إلى حُدود بعيدة، حتى أعمال القُلوب تظهر علاماتُها، ويعرفون هذا قَصدَ فلان، هذا قصدَ كذا، وهذا مُراده هكذا، فيلُاحظون؛هذا مُتكبّر لدرجة كذا من الكِبر، هذا مُعْجب لدرجة كذا من العُجِب، هذا مغْرور، وهذا حاسِد وهذا حاقِد، فيرقبون هذه الأعمال.
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) مع مُراقبتِهم لهذه الأعمال أيضاً إلى حُدود، حتى يصِل الحدّ الذي اسْتأثره الله به يقِفون عنده، فقد يظنّون في أحد لا يظهر لهم شيء من قصِد غير الله في عمل هذا الإنسان يكْتِبونه، وإذا وصلوا عند الحق قال: أنتم الحفظة على أعمالِه، وأنا الرقيب على قلْبه لم يُردْني بهذا العمل، الله.. ما ظهرت عليه علامة أنه يُشرك! قال: أنا الرقيب على قلْبِه -إنا لله وإنا إليه راجعون-، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12))، إذا كان الآن في المُتابِعين من الناس من يجعل آلات المُراقبة هُنا وهُناك ويبقون من محلّ بعيد مِن منْطقة بعيدة، من دولة إلى دولة، من قارة إلى قارة، يراقب الذي يجري في غرفة فلان في بيت فلان، وهو في محلّ القارة الفلانية، يراقب من مكانه، فالملائكة عِلْمهم أوْسع من ذلك.
- (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ))، في الوقت الذي تدخل فيه إلى بيتك وغرفتك وتغلق عليك، أو تدخل في الخلاء فيجلسون في الخارِج.
- (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، هكذا كشف الله لهم وعلّمهم و(…لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:32].
- وقال: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، فيكْتِبونه ويوافونكم به في القيامة، ويشهدون عليكم.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) مِن هؤلاء الملائكة أقسام خصّصهم الله إذا وجدوا مجْلِس ذكر أو علم، يحْضرون، كم؟ كثير، إذا جلس قوم يذكرون الله تعالى مُخلِصين لوجه الله، أحاطوا بهم حلقة فوق حلقة فوق حلقة فوق حلقة إلى السماء، كم سيسع؟ ما شاء الله، كم سيسع مِن هُنا إلى السماء؟ حلقة فوق حلقة فوق حلقة، فيجلسون على رؤوس أهل مجلس الذكر، فوقهم مثلهم.. فوقهم مثلهم.. حلقة فوق حلقة إلى السماء الدنيا، فإذا انْفضّ أي مجْلِس فهؤلاء الذين كانوا فوق المجْلِس إلى السماء يسألهم الله: "كيف وجدْتم عبادي؟" يقولون: يحمِدونك يُكبِّرونك يُهلِلونك، ويذْكُرون له، فيُحاوِرهم حتى يقول: "أُشْهِدكم يا ملائكتي أنّي قد غفرتُ لهم"، في الصحيحين: "إنَّ للهِ ملائكةً سيَّاحينَ يلْتمِسون مجالسَ الذِّكرِ، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوْا، هلمُّوا إلى حاجتِكم".
وإذا كنتم تذكرون الله عند المُصافحة يشتغلون معكم بالمُصافحة كذلك وهم يتصافحون معكم، فترى إنسان امامك يُصافحك، وهو معه اثنين ثلاثة أربعة خمسة عشرة ملائكة معه في المُصافِحة، لأنهم لا يُفارقون مجالس الذّكِر، يحْضِرون مع الذاكِرين، إذا تصافحوا تصافحوا معهم، إذا سبّحوا سبّحوا.. إذا حمِدوا حمِدوا، إذا هلّلوا هلّلوا، إذا دعوا أمّنوا على دُعائهم، هذا وظيفتهم صِنف من الملائكة،
- وصِنف في الفضاء،
- وصِنف في الكواكب، في كل كوكب،
- وصِنف في السماوات،
- وصِنف من يوم خُلِق أحدهم قائم في العِبادة إلى يوم القيامة،
- والثاني راكِع إلى يوم القيامة،
- صِنف من الملائكة ساجِد منذ خلقه الله وهو في محلّه في السجدة إلى يوم القيامة.
فإذا كان يوم القيامة ونزلوا مع الملائكة يقولون: سُبْحانك يا رب ما عبدْناك حقّ عِبادتِك ولا عرفْناك حقّ معْرِفتك" هذا الذين مرّت أعمارهم كُلّها في سجْدة وفي طاعة يقولون: ما عبدْناك حقّ عِبادتك ولا عرفْناك حقّ معْرِفتك، لا إله إلا الله. وهكذا كلّ من عرف الله علِم مِن عظمته وعلِم أنه ليس بشيء مهما كان، فما هم معه إلا أن يسْتحيي من الرحمن ويتذلل. يا ربنا ارحمنا.
يقول: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))، فليس مِن الملائكة، ولا غيرهم ممن علّمه الله كثيرًا من عُلوم الغيب مُحيط، ليس فيهم مُحيط بعِلم الغيب لا الملائكة، ولا الأنبياء ولا الأولياء ولا سحرة ولا إنس ولا جن ولا غيرهم، الإحاطة بعِلم الغيب من كل جانب لواحد هو الله؛
- (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ) -يعني مُحيط بجميع جوانبه- (إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65]،
- (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) [الجن:26-27]، من الملائكة واحد،
- ثم قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:225]،
- ثم يقول لهم كلّهم: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85]؛
فالعِلم لله، ويقول لهم: في هذه الحقيقة (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، ما علمتم من شؤون الأجساد والذوات والحيوانات والهواء والفضاء والجولوجيا والأرض والبِحار والأعصاب والعُروق والدماء والأشجار والنباتات؛ مجموع علمكم الأولين والآخرين وعلم الملائكة معكم عند علم الله قليل، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85]، هو أعْلم بالفضاء.. بالجو.. بالعروق.. بالأعصاب.. بالعيون.. بالعدسات.. بالبحار.. بالحيوانات، هو أعْلم، كل ما علِموا عِلم عنها، فهو قليل بالنُسبة لما علِم -جلّ جلاله- (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] -سبحانه- (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)).
يخْتم الحق الكلام فيقول: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13))، وجاء في بعض الأخبار في الحديث؛ سُمّوا أبرار؛ لأنّهم برّوا الأباء والأبناء، يعني لا يُعرف منهم إلا البّر، كما سمعتَ في كلام بعضهم يقول لك: إنما هم أبرار لا يؤذون شيئا حتى الذّر، أهل مبرَّات كلهم بِّر، لا شي عندهم، برُّوا وصدقوا في عهدهم مع الله وفي قِيامهم بأمر الله، فما يشتكي مِنهم حتى الذر.. الله الله.. هؤلاء الأبرار. يقول (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13))، في نعيم، هم في نعيم، نعيم نهايته وغايته جنان، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ونظرٌ لوجه الله الكريم، فهم في نعيم؛
- إذًا من البداية أدركوا لِم خُلقوا فهو نعيم.
- قاموا بما خُلقوا له؛ نعيم.
- عرفوا خالقهم، الله أكبر! نعيم.
- عبدوه، هؤلاء في نعيم.
- أحسنوا معاملته، فضاعف أجورهم، فهم في نعيم.
- تولاهم بحفظه، وزادهم من لطفه وعطفه، ما هم في نعيم؟ الله..
- لم يتعرضوا لما يوجب الكدر في القبور، ولا يوم النشور، هؤلاء في نعيم.
إذًا هم في نعيم في الحياة، وهم في نعيم عند الوفاة، وهم في نعيم في البرازخ، وهم في نعيم يوم القيامة، وبعد ذلك نهاية النعيم الأكبر؛ جنة الله "يُنادِي مُنادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا".
اللهم ألحقنا بالأبرار واجعلنا من الأبرار (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران:191-193]، آمين، يقول تعالى (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [آل عمران:198].
جعل الله لكلِّ واحد رقيب وعتيد، يقول: لمّا يموت أين يذهب؟ وقد سمعت في الكلام عندنا أنهم يتصِلون بقبْره؛ إمّا يدعون له، أو يدعون عليه، على حسب مصاحبته إياهم في الدنيا، حتى يحشروا معه في القيامة بعدين (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21].
كذلك ما يحصل من السؤال في القبور، موكّل بمُنكر ونكير وملايين مِن الملائكة، يقومون بهذا السؤال للموتى بأمر الله -تبارك وتعالى-، عالَم الملائكة من أعجب العوالِم، وأعظم العوالِم، ولا يُحصي عددهم إلا الله -تبارك وتعالى-، وهم أكثر خلْق الله عدداً، وقال الله في الجنة: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ) [الرعد:23]، وقال في النار: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، فسبحان الذي خلقهم وكوّنهم وصوّرهم.
الله يُكرِمُنا وإيّاكم بِبركة خاتِمة الشهر، ويجعل حظّنا وافرًا من سِرّ الخاتمة، وحُسن الخاتِمة، وجمال الخاتِمة، ويجعل الحظّ وفير مِن جوده وبِرّه الغزير، وفضْلِه الكبير، يا ذا الفضل الكبير، صلِِّ على من قُلت له (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) [الإسراء:7-8]، وصلِِّ ياذا الفضل العظيم، صلِّ على من قلت له (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113]، واعطنا من كِبر وعظيم ما أتيته من الفضل نصيباً، وقرّبنا إليه حتى يتحقق كلٌّ منا بأن يكون حبيبك له حبيبا، اللهم واجعلنا منه في الدنيا والبرزخ والآخرة قريبا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
29 رَمضان 1437