شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -17- آداب الخلاء، وآداب الحمّام

الأدب في الدين -17- آداب دخول الخلاء
للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي،  آداب الخلاء، وآداب الحمّام.

فجر الأحد 6 شوال 1440هـ.

 

آداب الخلاء

التسمية ثم الاستعاذة قبل الدخول، وكشف الثوب برفق بعد قربه من الأرض، ومسح اليد بالتراب بعد الاستنجاء مع الغسل، والاستتار قبل الخروج، والحمد والشكر بعد الخروج.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بالشريعة الغراء وآداب النبوة سِرًّا وجهرا، و بها يُرتقى إلى أعلى الذرى، لك الحمد يا مولانا شكرا، ولك المنّ فضلا، فصلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك خير الورى، صاحب المعراج والإسراء، وعلى آله مَن طُهِّروا به طُهرًا، وعلى أصحابه من رفعتَ لهم به قدرًا، وعلى من سار في سبيلهم وجرى بذلك المجرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أعلى الخلائق منزلةً ومكانةً ومحلّةً وذكرى، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وصالح عباد الله الموهوبين من الله البشرى، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين أبدًا سرمدًا في الدنيا والأخرى.

وبعدُ، 

فنواصل تأمّل بعض ما ذكر الإمام الغزالي في الكتاب المنسوب إليه (الأدب في الدين)، بعض الآداب. ومضينا على آداب النوم وآداب التهجّد، ويذكر: "آداب الخلاء" و "آداب الوضوء"، وقد أشرنا أن عظمة شريعة ربنا أن بها تصبغ أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا وأعمالنا في مختلف شؤون حياتنا، فتُتابِعنا الآداب لقضاء حاجة الإنسان التي يضطر الناس إليها، وهي من جُملة الأشياء الضرورية التي تُذكّر الناس عجزهم وضعفهم وحاجتهم، وعظمة ربِّهم الغنيّ عن كل شيء -جلّ جلاله-، ولكنهم يفعلون كل ذلك وكأنهم لا يسمعون ولا يُبصرون ولا يعقلون. (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‎*‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف:105-106].

ينصبون أنفسهم وغيرهم مقام التأثير المستقل، وليس لشيءٍ استقلالٌ في التأثير بغير العلي الكبير السميع البصير الذي بيده التسيير والتدبير، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]، فمن جملة ذلك حاجة الناس التي جعل الله في تركيبته تعالى لأجسامهم، ركبها بهذه الصورة وأنهم يحتاجون إلى التغذية والطعام والشراب، وأنه يتحوّل لهم إلى خارج منهم من غائط وبول.

وبهذا أشار الحق إلى نفي وهم المتجرئين المتطاولين الذين ألَّهُوا سيدنا عيسى بن مريم المسيح وأمه، أشار الحق تعالى إلى أن الحس يكذب دعواهم بكلمة في القرآن يقول فيها: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖكَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ) [المائدة:75]، خلاص أنتم تعرفون تركيبة ابن آدم الذي يأكل الطعام، يحتاج إلى إخراج البراز منه، هل هذه صفة ألوهية أو صفة ربوبية؟! ما تكفيكم تذكير بأنَّكم عاجزون؟ وهؤلاء البشر كلهم جرى عليهم هذا القانون! ومن أجراه؟ لمَ جرى على البشر هذا القانون كلهم في هذه الحياة ومن الذي أجراه؟ ولماذا عمّم به البشر؟ ولم يخص بها أحد، ما هي القوة التي سيّرت التركيب البشري بهذا المسار؟ 

كل ذلك آيات ودلالات و علامات واضحات؛ ليعلموا أن فضائلهم ليس في أصل تركيبهم ولا أصل خلقتهم وأنهم بشر، وكلهم لآدم وآدم من تراب، وليطلبوا الفضائل من حيث رتب الحق، الفضل من التقوى والمعرفة به والقرب من حضرته، فليطلبوا هذا الفضل هناك، وأما هذه الشؤون البشرية والجسمانية عامة لجميع خلق الله تبارك وتعالى وهي دلالات واضحات ليس فيهم إلا عبد، بل من نُزِّه عن ذلك من مثل الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، ومع ذلك: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ‎* لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم:93-94].

ثم إن قوامهم أيضًا في أجسامهم النورانية بغذاء الذكر، وهو أيضًا مظهر من مظاهر عجزهم، ولا يستطيعون الاستغناء عنه لأنهم مخلوقون، فسبحان الذي لا يحتاج إلى شيء وكل شيء يحتاج إليه، -جل جلاله وتعالى في علاه-، رتب الله ذلك ولكن مع ذلك كله فإن في تدبِّرنا لأننا بشر وأننا محتاجون وأننا ضعفاء وأننا لا نقوى على تغيير سُنة الله في تركيبنا وأصل خلقنا، إن أحسنَّا النظر في ذلك ارتقينا معرفةً، وارتقينا أدبًا، وارتقينا خضوعًا فرُفِع قدرنا، وكان من جملة الوسائل المبسوطة للإنسان ليكسب بها الفضائل ويرقى بها.

ولذا إذا انصبغ قلب الإنسان بالإيمان صار كل شيء في حياته مقرِّب له إلى الرحمن، مفيد له في صلاح الشأن وطهر الجنان وارتقاء المنزلة والمكان، فالمُستفيد من كائنات الله من رسخ في قلبه الإيمان بالمكوِّن، وكل ما قوي ورسخ الإيمان بالمكوِّن كانت استفادة هذا المؤمن من كائنات الله تعالى، وعندها ربما انجلى له  معنى من معاني: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ) [الجاثية:13] -جلّ جلاله-، وفي معنى من معانيها المنطوية فيها يقول ﷺ: "إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها"، أن يكون ذاكرًا له، هو يطعمني ويسقين، ما هي المزارع ما هي الشركات ما هي المؤسسات ما هي الدكاكين، ما هم الآباء ما هم الأمهات؟ (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]، (فَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ‎*‏ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-64]. نحن نبشّركم بحَاجاتكم هذه ونكوّنها بسُنّتنا لكم، لا في قوة أحد منكم أن يصدرها، كيف تنسوني؟ كيف تغفلون عني؟! (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) جلّ جلاله وتعالى. إذًا؛ الفعّال هو والأسباب قائمة بتسبيبِه وبتَفعيله وبتَقويمه، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

وإذًا، يأكل ويزداد قربا ومحبة… عجب! وإذا قوي إيمانه ينال النصيب من هذا الازدياد والارتقاء في كل لقمة، في كل حبة من كل لقمة، يزداد تنويرًا، يزداد تَبصيرًا، لا مثل الحيوان يأكل ويشرب، والحيوانات تأكل وتشرب وهي مسبِّحة بحمد ربها مع ذلك، ولكن؛ إنما يوجد تشبيه هذا الإنسان في النزول والسقوط بالحيوان الذي لا يستطيع الوصول إلى الدرجة التي تهيأ الإنسان لها من معرفة هذا المكوّن والمُطعم السّاقي -جلّ جلاله- ولهذا قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد:12]، لكن المؤمن لا يأكل مثل الأنعام؛ يأكل باسم الله، ويأكل بالحضور مع الله، ويأكل بشهود النعمة من الله، ويحمد الله سبحانه وتعالى على ما أكل وعلى ما شرب، فيزداد حُبًّا وقُربًا ونقاءً وطُهرًا.

 وهكذا.. يدخل الخلاء ويزداد نورًا، وهكذا يتوضأ ويزداد نورًا، يصلي ويزداد نورًا، يتكلم مع أصحابه ويزداد نورًا، إذا انتهج في المنهاج الذي رضيَه المكوّن -جلّ جلاله-، فما شيء أعز من الإيمان يوضع في القلب، ولهذا يقولون: ما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين! ما ينزل إلى الأرض شيء أشرف من اليقين، أبدًا.. كل ما ينزل من السماء إلى الأرض رتبته في المكان والدرجة والمنفعة والرفعة دون اليقين، اليقين أعزّ شيء، أشرف شيء ينزل من السماء إلى الأرض اليقين، فهو أعلى وأغلى ما يمكن أن نكسبه في الحياة: خالص اليقين، تام اليقين، هذا أعلى ما يمكن أن تكسبه في حياتك، ما يمكن قط لأي مخلوق على ظهر الأرض أن يكسب شيء أعز من اليقين، هذا أشرف ما يكسبه ويحصله في حياته؛ لأن نتائجه قرب دائم ورقي مستمر ونعيم مؤبد.. نتائجه أمر عظيم، قربٌ دائم، ونعيم مؤبد، ورقي مستمر؛ كله في اليقين فما أعظم اليقين. اللهم وفر حظَّنا من اليقين، اللهم اجعل مستقر اليقين التام قلوبنا، ومستقر أربابه ديارنا.

فذكر أنه عند دخول الخلاء محل قضاء حاجة الإنسان، ويطلق عليه الآن: الحمام، وإنما كانت الحمامات تطلق على أماكن الغُسل، وخصوصًا المهيئة المُعدّة لذلك، لا لمواضع قضاء الحاجة، فكانوا يسمونها الحمامات في العهود السابقة، فغلب في وقتنا ذكر الحمام على موضع الخلاء الذي يقضي فيه الإنسان حاجته البشرية.

فيقول: "التسمية"، يسمي الله، أحوالك كلها مربوطة بمحوّل بمرتب مكوّن، هو الذي رتب هذا ما أحد غيره، وبعد الترتيب هذا لو اختل عندك الأمر وما وجدت خروج الخارج تبيّن أن عندك مرض فأنت تسعى بإمكانيتك لأن يبرز منك هذا الخارج وإن كان وسِخ.. وما يمكن أن تقول خلاص، أنا أحسن لي أكون نظيف، بل تمرض وتموت.. لا بد أن تمشي على السنة التي سنّها المكوّن، وعندما تتخلف عنك معناه أن المجرى عندك خطأ، الطريق غير صحيح، فيروح يسافر ليعالج نفسه من الإمساك ومن الانقباض ومن انحباس البول، ولو ينتقل من دولة إلى دولة.. الله أكبر! ما هذه العظمة؟ التدبير الإلهي.. والناس يمشون فيه وينسون، ما كأن شيء.. فكّر، انظر، تدبّر، تأمل، ولهذا يتعجب بعض الشعراء فيه من يرضى ينطلق مع نفسه في دواعي كِبرها وترفّعها على الناس وينسى نفسه يقول:

دع الكِـبر إن الكِـبر للّـه وحدَه *** وقـد لُعَـن الشـيطان لمّـا تكبّرا 

ومن أنت يا مسكين حتى تنازع ال *** مليـك رداء الكبرياء وتفخـرا

فمـا أقبـح استكبار عبـد بكفّه *** نهـاراً وليلاً يغسل البول والخرا

ألست كذا؟! لماذا الكِبر؟ يقول لك رب الليل والنهار: اخْضع، أعرف من فوقك، خلِّ الكِبر، وهو في هذا الحالة ولكن عنده صناعة، عنده زراعة، عنده معلومات يرفع نفسه.. توطّى شوي.. أنت تغسل البول والخرى في الليل وفي النهار.. نسيت نفسك؟! هذا وضعك، هذا حالك، تأدّب مع ربك -جلّ جلاله- ولا تتكبر بما أعطاك من أيّ شيء، هذا وصفك وحالك إلى أن تموت، لا إله إلا الله…

الغني هو وحده، لا صحة لإطلاق معنى الغني بكل معنى على غيره أصلا؛ ما تصحّ إلا له، ولكنها نسبب ورتب و تباين الناس بعضهم البعض فيها؛ فأطلق عليهم لفظ الغنى مجازًا، أما الغنى حقيقة ما يمكن لأي كائن ولا لأي مخلوق، الغني هو الذي لا يحتاج لشيء، أما غيره من إنس جن مَلائكة أرض سماء.. كلها محتاجة، كلها محتاجة، جنة نار كلها محتاجة، مخلوقة محتاجة وهو الذي يلصّيها -يُشعلها-، وإن أراد يطفيها، يطفيها.. والجنة وما فيها والملائكة، الكل محتاج، الكل فقير، الكل ما بيده استقلال بأمر قط إلا ما سبّبه له ويسّره عليه فقط، غير هذا ما يكون لا عند ملائكة ولا عند إنس ولا عند جن، الذي رتَّبه سبحانه وتعالى وسيرهم فيه هذا والذي يمشون فيه غير هذا ما يقدرون، الله أكبر.. 

فإذن العالم كله ناطق بالتوحيد، ناطق بعظمة الحميد المجيد 

إنّ الوجود بأسره *** بالأحديَّة معلِنا

يقول الإمام الحداد: 

بَهَرَت بدائعه العقول *** فغدا المُوفّق موقنا 

وتثبّط المتشككون *** فكأنهم ليسوا هنا 

 

يا أولًا يا آخرًا *** يا ظاهرًا يا باطنا 

فلك القِدم ولنا الحدوث *** ولك البقاء ولنا الفَنا 

 

فمنك كل خيرةٍ *** وكل نعمةٍ بنا 

 

ما كأنهم موجودون، ولا كأن الوجود قائم حولهم أبدًا، سُحقًا لمن يشك في الحق وقد تبيّنه! وهكذا.. لم تزل آياته ودلالاته في كل شيء. 

وفي كل شيءٍ له آية *** تدلُّ على أنه الواحد 

يسمّي الله عند دخول الخلاء: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

  • الخبث: جمع خبيث، خبيث خبيث خبيث.. خُبث، سرير سرير سرير.. سُرر.

  • الخبائث: جمع خبيثة خبيثة خبيثة.. خبائث. 

أعوذ بك من الخُبث والخبائث؛ 

  • منهم ذكور الشياطين وإناثهم، خبث وخبائث.

  •  منهم كل وصف خبيث، وكل خصلة خبيثة، أعوذ بك من الخبث والخبائث.

 تتذكر صلتك بالعلي الأعلى، وانتمائك إليه وطلبك أن ينزّهك عن الخَبث وإلا لصق بك، وصرت مع خَبث، ولكن إذا طهّرك ونقَّاك وأعاذك من الخبث والخبائث فلا يضرّك شيء، ولا يحوم حولك شيء من الصفات الخبيثة ولا الأفعال الخبيثة ولا ذكور الشياطين ولا إناث الشياطين. فتقول عند دخول الخلاء: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، قالوا: وهذا جاء فيه الأمر عكس المعتاد، المعتاد أن يقدّم التعوذ على البسملة؛ سواءً عند قراءة القرآن أو عند دخول المسجد، لكن عند دخول الخلاء تقدّم البسملة على التعوذ، بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، فهذا من الأدب عند دخول الخلاء، التسمية ثم الاستعاذة قبل الدخول.

ثم المحافظة على بقاء تشرّف الضمير بهيبة العلي الكبير، وبالبعد عن الانحطاط الإنساني بتعوّد العري، وتعوّد ظهور العورة، فجَاءتنا السُّنة حتى بحسب ما يحتاج يرفع ثوبه خفيفًا شيء فشيء، ما يقل أنا وحدي.. قال في الحديث: "الله أحق أن يُستحيا منه". 

وذكر لنا القرآن أن بروز هذا الجزء من جسد الإنسان إنما جاء عقوبةٌ له على معصيته؛ (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، ما كانت تبدو في أول ما خلق الله آدم وحواء، كان من الكرامة أن غطى مواضع العورة بالنور فما يروا شيء، فلما عصوا كشف عنهم العورة سبحانه وتعالى، فرأوها فبدت لهم، ما كانت تبدو (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ) [الأعراف:22]، لهذا يبقى في مراتب الكمال عند الإنسان أنه يتحرّزُ من كشف عورته ولو في الخلوة إلا للحاجة، أو للضرورة، والضرورة بمقدارها، وكان كثير من خيار الأمة ما يغتسلون وهم في الخلوة وحدهم إلا بأُزُرهم، حياءً من الحق -جل جلاله-، ومن هنا أيضًا قال الفقهاء: 

  • أن العبث بالعورة حرام.

  •  والنظر إليها من غير الحاجة حرام.

 لقول الحبيب ﷺ: "اللَّهُ أحقُّ أن يُستحيا منْهُ".

فهذا المعنى الجمالي والكمالي يلعب إبليس وجنده على إنزاله، ولهذا زيّنوا لهم كشف عوراتهم وتصويرها ونشرها وبثها وما إلى ذلك، يعني انحطاط إلى أتفه مستوى، بُعد عن كرامة الإنسان شرف الإنسان وقيَمه تمامًا، وهكذا.. وحبَّبوا لهم شؤون التَّكشف، مع أنه جاء في كشف العورات "لعن الله الناظر والمنظور إليه"، وسمو الإنسان فِكرًا وذوقًا على قدر سموّه نظرًا وسمعًا، إذا سما ما يسمعه وينظره، سما فِكره وسما مساره وقَدره وقيمته، وإذا كان الذي ينظره والذي يسمعه هابط يهبط، يهبط فكره، يهبط تصوّره، يهبط طريقة نظره إلى الأشياء.

ولذا لما وصف ساداتنا الصحابة صاحب الرسالة ﷺ قالوا: "كان أشد حياء من العذراء في خدرها" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. ولم يكن في مجتمعاتهم تلك أحسن تشبيها في الحياء من العذراء في خدرها، لأنه ما وصلت حالة الإنسانية للتدهور التي وصلت عليها في وقتنا، وإلا بيشوف الصحابة مَثل ثاني لو رأوا عذارى زماننا، أكثرهن يعني إلا من رحم الله.. بيضربون مثل ثاني لحياء النبي، لأن من العذارى مَن مِن وراء الأهل من تصور نفسها حتى في الحمام!! وترسل الصور إما للنساء وإما للرجال، أعوذ بالله من غضب الله! انحطاط.. لكن كانت الإنسانية محفوظ فيها أصل القيم، فما وجد الصحابة تمثيلًا لقوة حياء النبي إلا قالوا العذراء في خدرها، وكان هذا مَثلًا سائرًا بينهم يعرفون به قوة الحياء.

يعمل أعداء الله على العبث بقيَم الإنسان لينحطّ الإنسان، وكان مهمات بعثة المرسلين ذات الإنسان قبل بقية الكائنات، والكائنات المسخّرة يعلمونه كيف يتعامل معها، لكن مهمتهم الأولى ذات الإنسان يقوّمونها ويصفّونها ويزكّونها، وتنزل منزل كرامتها التي أكرمها الله بها، هذه مهمات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2].

يقول: والبعد عن الوسواس مع التنزه بواجب الاستبراء من البول؛ لأن عامة عذاب القبر من التساهل بالبول وعدم المبالغة، يستعجل على الاستنجاء ويخرج، تبقى قطرات تخرج بعد الوضوء أو بعد الاستنجاء فتنجّسه وتنقُض وضوئه إذا كان قد توضَّأ، وتنجّسه.. ويصلي في النجاسة فيتسبب هذا في عذاب القبر، فدينُ النظافة قال لك: لا، انتبه من النظافة.. نعم من دون وسوسة، حتى يقول بعضهم: أن المبالغة في الاستبراء ربما أودت إلى السلس، لا تبالغ ولا تتهاون.

واجب الاستبراء، وتختلف طبيعة الناس فهذا ينقطع عنه البول تماما بمجرد ما يمشي بعض الخطوات، أو بمجرد ما يمسح، لكن بعضهم يحتاج إلى مدة حتى ينقطع حد الخارج عنه، فهو يعرف طبيعته ويعرف نفسه، ولا يصل إلى حد الوسوسة ولا يقصر في التبرّي والتنزّه عن البول، "استَنْزِهُوا من البول؛ فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه".

حتى يقولون: أن أقارب سيدنا سعد بن معاذ سألوا النبي لماذا اشتدت عليه ضغطة القبر؟ فقال لهم: من البول، مع أنه صاحب محبوبية ومكانه عند الله، واهتز لموته عرش الرحمن، ومع ذلك كُفّرت خطيئته فيما يتعلق بالبول بالضغطة. حتى عندما وقف ﷺ على قبره بعد الدفن احمرّ وجهه و سبّح، و سبح بتسبيحه من معه، ثم سُرِّي عنه واستنار وجهه وكبّر وكبّروا معه، وقال: هذا العبد الصالح ضُيّق عليه في القبر، فساعة فُرِج عنه كبّرت، فجاءه بعض أقاربه يسألون النبي لماذا؟ -بالنسبة لسيدنا سعد بن معاذ-، قال لهم: من البول، لأن في بعض المرات ما انتبه من الاستبراء من البول. إذًا؛ فلا وسوسة ولا تهاون، لا يصل إلى حد الوسواس ولا يتهاون بحسن الاستبراء والاستنزاه من النجاسة.

 ويسَّر الحق تبارك وتعالى للناس المياه موجودة 

  • والجمع بينها وبين الحجر مستحب.

  • ويقوم مقام الحجر هذه المناديل الموجودة، فينبغي أن يضع في محل الخلاء المناديل هذه الموجودة. 

قد كانوا يعتنون بمجيء بعض التراب المجمد وبعض الحجر ويضعونه في أماكن الخلاء، ولكن الآن مع توفر المياه الحمد لله وهو الأفضل، لكن الأفضل: قبل استعمال الماء أن يستعمل أي جاف يقلع النجاسة ثم يستنجي بالماء، غير العظم.. يحرم الاستنجاء بالعظام، غير العظم وغير الروث؛ فلا يصح الاستنجاء به وهو رجسٌ نجس، وغير ذلك من كل قالع للنجاسة غير محترم يصح الاستنجاء به، كل:

  • جامد 

  • طاهر -إذا سيكتفي به-

  • قالع للنجاسة 

  • غير محترم

 فإذا أراد الاقتصار على الاستنجاء بالحجر فلا بد أن يكون طاهر.

يقول: "والاستتار قبل الخروج، والحمد والشكر بعد الخروج"، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، فهي من جُملة الآداب.

 

آداب الحمّام

 

آداب الحمّام

ستر العورة، وغض البصر عن العورات، وطلب الخلوة، وترك التكلم، وقلة التلفت، ومنع السلام، وقلة الجلوس،  وغسل الجنابة من قبل الدخول، وغسل القدمين إذا خرج بالماء البارد فإنه يذهب الصداع.

 

ويذكر بعد ذلك: "ستر العورة"، عند دخول الحمّام، وهذا الذي يحتاجه الناس الآن في الألعاب أو عند بعض المسابح عند الاغتسال، يجب أن يستروا عوراتهم فما يجوز أن يلعب رياضة ويكشف فخده! ما بين السرة والركبة عورة، في الحديث الصحيح: "غطِّ فخذك فإن الفخذ عورة"، فلا يجوز يستعملون لهم ثياب سموها رياضية وتكشف عوراتهم، بل لا ينبغي أن تحجّم فضلًا عن أن تكشف، أن تكون ضيّقة محجّمة مكروه، وقد تصل إلى الحرمة إذا اقترن بها ما يؤدي إلى الحرمة. لكن الكشف ما يجوز أن يكشف ما بين السُّرة والركبة، يجب أن يكون مستور سواءً إذا يغتسل أمام أحد من الناس أو يلعب أمام أحد من الناس ويستعمل الرياضة يكون مستور ما بين السرة والركبة.

وهكذا جاءنا الشرع الشريف بالستر، ولهذا كان قلَّ الحياء والحرص على التستر في قوم بني إسرائيل، قوم عندهم سيدنا موسى، ويقولون: لماذا موسى ما يغتسل في النهر إلا مستور ستر كامل، الظاهر  فيه عيب.. فيه شيء لا يريدنا أن نراه! وتكلموا عن سيدنا موسى وكان ممّا آذوا به موسى، قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب:69]، كان حريصًا على ستره، وهم يقولون: ما يفعل كذا إلا فيه عيب، وهو ما فيه عيب، العيب فيكم أنتم بلا حياء!! ولكن دائما صاحب العيب إذا رأى الكامل ينسب العيب إليه، كما قال فرعون: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، من المفسد في الأرض؟! 

من يقول اعبدوا الله وحده واخضعوا وتكونوا إخوان، ومن يقول أنا ربكم الأعلى.. فمن مفسد؟! أين المفسد؟!.. وقال لهم: هذا موسى يظهر فساد في الأرض، ملأتم الدنيا فساد، قتلت وتكبرت وقلت أنا ربكم الأعلى وهذا جاء يصلح، تقول هو المفسد! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‎*‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12]، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

ذكر الإمام البخاري في صحيحه والوارد عنه عدد من القصص، والخلاصة أنه وضع ثيابه يوم على حجر ففرّ بها الحجر حتى بدا على القوم لا عاهة فيه، فقالوا: ليس بموسى آفة ولا عاهة. وجماعة من الذين آذوه ادّعوا عليه كذبًا، واتفقوا مع عاهرة تقول أن موسى فعل بها الحرام! فقالوا: يا موسى أنت جئت بالحد لمن زنى؟ قال: نعم، قالوا: لو كان  أي واحد ولو كان أنت؟ قال: ولو كان أنا! خلّوا المرأة جاءت تتكلم، أرادت أن تتكلم قالت: هؤلاء استأجروني بكذا وأرادوا أن أقول عليك كذا وكذا، (فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُوا۟ۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِیهࣰا) [الأحزاب:69]، وهكذا دائمًا الكذّابين يصلّحون بلايا لنا، حتى الأنبياء ما خلّوا لهم حالهم، ولكنهم هم الخائبون، والأنبياء والمطهّرون هم الفائزون، يبرئهم الرحمن جلّ جلاله.

فالحمد لله على دين الكمال، ودين الشرف والكرامة، ودين الستر والحياء، الدين الذي مآله ستر جميل في يوم الجمع، ونعيم مؤبد في دار الخلد، هذه نتيجة العمل بهذا الدين الكريم العظيم.

اللهم لك الحمد يا من أرسلت إلينا محمدًا بالهدى، فثبّتنا على دربه فيما خفيَ وفيما بدا، وادفع عنا شرور أهل الكفر والفسوق والفجور في أفكارهم وأنظارهم وجميع أسوَائهم، واجعلنا تابعين لك ولرسولك ولتنزيلك وما جاء عنك، نحيا على ذلك ونموت على ذلك، ونلقاك ونحن نحب لقاءك وأنت تحب لقاءنا، وأنت راضٍ عنّا برحمتك يا أرحم الراحمين، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

06 شوّال 1440

تاريخ النشر الميلادي

09 يونيو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام