شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -16- آداب النوم، وآداب التهجّد

الدرس السادس عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، آداب النوم، وآداب التهجّد.
فجر السبت 5 شوال 1440هـ.
آداب النوم
"يتطهّر قبل النوم، وينام على يمينه ويذكر الله عزّ وجل حتى يأخذه النوم، ويدعو إذا استيقظ، ويحمد الله تعالى."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله، مزكي من يشاء، ورافع درجات من يشاء، وهو وحده على الحقيقة الرافع الخافض، والقابض الباسط، والضار النافع، والمقدّم المؤخر، والأول الآخر، والظاهر الباطن، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، سعادة كل مخلوق في معرفته بعظمته وصفاته وأسمائه.
وخصّ العقلاء من مخلوقيه بإفاضة معارف تتعلق بأحكامٍ منه ومسالك يسلكون بها لطلب رضاه. وشرّف بني آدم بإرسال الرسل والأنبياء منهم إليهم، وختمهم بأجلّهم وأكملهم وأفضلهم عبده المجتبى المختار سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل المجد والسؤدد، وعلى من تبعهم بإحسان في المنهج الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات العلا فهم خيار الملأ، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين المرتفعين في الدرجات العلا، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا من عزّ وجلّ وعلا.
وبعدُ،
فإننا نتأمل بعض ما جاء في كتاب (الأدب في الدين) المنسوب للإمام الغزالي عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وقد ذكرّنا بآداب الواعظ وآداب المستمع، والله يؤدبنا بشريف الآداب، ويعيد علينا عوائد الاقتداء بسيد الأحباب الذي قال: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تخلّق بأخلاقه وتأدّب بآدابه.
ويقول في ذكر الآداب: "آداب النوم"، وهو مظهر من مظاهر الحياة الذي يتأمل فيه العاقل عجزه وضعفه وحاجته، وأنه يحتاج إلى هذا النوم ويؤثر فيه، وسبحان من لا تأخذه سنة ولا نوم. وجعل الله هذه الفطرة في كل الحيوانات، فأنواع الحيوانات في البر والبحر لها أوقات تنام فيها، حتى لا يترفّعون عن جمادٍ ولا سِواه مما خلق الله تبارك وتعالى فإنه تأتيهم حالات يشبهون فيها الجمادات، ولتبقى الكائنات في حدودها الخلقية معظِّمة للخالق سبحانه وتعالى.
وجعل حاجة الناس لهذا النوم في هذه الحياة الدنيا والحيوانات كذلك، وقد يصحبهم شيءٌ من هذا النوم في بعض أحوال أهل البرزخ. ولكن من بعد يوم الساهرة لا نوم، في مواطن القيامة كلها، وفي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة لا نوم. ثم في الجنة لا نوم لحسن التركيب وعظمة التنعيم العجيب. وأهل النار لا نوم لشدة الألم وشدة التعذيب. فكيف ينامون؟! فلا ينام هؤلاء ولا ينام هؤلاء، ومن يحتاجون إلى النوم في هذا التركيب الخلقي الإنسي والجني والحيواني على ظهر الأرض، يحتاجون إلى منام وجعله الله تبارك وتعالى آية من آياته، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ) [الروم:23].
وتجد الذي فقده يُنسب إلى المرض، ويقول عنده الأرق ويتطلب النوم. وتجد أيضًا من زاد عليه النوم أفسد كثيرًا من أعماله وشؤونه وحياته وضيّع كثيرًا من عمره، فاحتاج إلى الميزان في أخذ الاعتدال في نومه، كما يحتاج إلى الاعتدال في طعامه وشرابه وبقية شؤون حياته. فكلها تحتمل الإفراط والتفريط، والمسلك الأفضل والأجمل واللائق هو الوسط الذي جاء به الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم- وأنزلوا الأشياء منزلها بتعليم الله تبارك وتعالى لهم.
فما دام الإنسان يحتاج إلى نوم، فهل حالة النوم إما استعدادًا له أو إفاقة منه خليت عن شأن الشريعة وشأن الرسالة؟ لا، والرسالة جاءت تقول إذا أردت أن تنام فافعل كذا، وإذا قمت من النوم فافعل كذا، لتكون في كل أطوارك في الحياة على ارتباط، على اتصال، على إقبال، على انتظام، على اهتداء، على اقتداء، فما أعجبه من نظام رباني يحتوي كل الحال الإنساني.
فجائتنا الشريعة بالآداب للنوم، ومن جملة ما أشار إليه من قول: "يتطهّر قبل النوم"، فينام على طهارة، ويكون في حفظ الحق وكلائته، ويكون متهيئًا للرؤى الصالحة وبعيدًا عن أن يتخبّطه الشيطان، وبعيدًا عن المرائي التي يحضرها الشيطان. ويبقى على حسب تعلق قلبه بالتسبيح، الروح والقلب مسبحًا وهو في النوم. بل ومن عباد الله الأخيار المؤمنين من يكون في نومه ذاكرًا وقد يسمع الذكر منه، ومن يكون تاليًا وقد تُسمع التلاوة منه وهو في منامه؛ لتعلق قلوبهم بذلك الأمر العظيم، والمرء من حيث قلبه.
فجاءت هذه الآداب والطهارة سواءً:
-
طهارة عن الحدث وهنا يأتي عند الشافعية بالنسبة للمتزوجين منهم القول عند الأئمة الثلاثة بأن اللمس لا ينقض الوضوء، فيكون في وضوءٍ على هذا الحال ويكون ذلك أفضل له.
-
وتطهر آخر وهو طهارة القلب عن الغش، فلا يبيت في قلبه غلٌ على أحد من الناس.
والنوم بهاتين الطهارتين سبب لعلو وسمو والروح. ولما كان الروح حالة النوم يضعف شدة علاقة الجسد بها، كان لها مسرح تسرح فيه، ولهذا يرى في المنام ما لا يرى في اليقظة. وإن كان الذي صَفَت روحه، وقوي سلطانها على الجسد، يرى في اليقظة ما يراه غيره في النوم، قد يحصل مثل ذلك. ولكن شؤون الروح وخصائصها، غطّاها سلطان الجسد لما حبست فيه، وجُعل السلطان في عالم الدنيا للجسد. ولكن من مضى مسلك الاعتدال، فيما يتعلق بالمآكل والمشارب والمطاعم وأنواع الشهوات والتعامل مع الدنيا، خفّت ضغوط الجسد الكثيف على الروح اللطيف، وأخذت الروح مجالًا أفسح في خصائصها؛ خصائص الروح: حقائق السمع حقائق البصر حقائق القرب والدنو حقائق المعرفة تتعلق بالروح، لا بالجسد. بل لما حُبِست في الجسد انحصر بصرها بواسطة العين التي رتبها الله وخلاياها، وانحصر سمعها بواسطة الأذن التي خلقها الله تعالى وخلاياها. وإلا فكانت ترى الروح بجزء معين منها، ترى بكلّها وتسمع بكلها. ولكن لما وُضعت في قفص الجسد، صار للسمع محل معين، والبصر محل معين، وللكلام محل معين، وهكذا رُكِّبت تركيبا بقدرة الحكيم العزيز العليم جلّ جلاله وتعالى في علاه.
لكن خصائصها العجيبة تظهر عند تخفيف العلائق بهذا الجسد، حتى أن من يجتهد في بعض الأعمال الروحانية ويُقلّل من شأن الاتصالات بالكثائف المادية، ولو من الكفار، ربما ظهرت له بعض خصائص الروح، حتى ربما تمكّن بعضهم من شيء من الطيران أو من إيصال شيء إلى محل بعيد، أو شيء من الخصائص المتعلقة بالروح. ولكن الوصول إلى خصائص الروح بالطريقة السببية العادية يشترك فيه المسلم والكافر، فتجدهم كفار يصومون ويجوعون ويقللون الطعام ويقللون الشراب ويبتعدون عن الشهوات، هندوس أو نصارى أو رهبان وغيرهم ويطلبون شيء من مزايا الروح وصفات الروح ويحصل لهم من ذلك شيء.
ولكن الوصول إلى خصائص الروح بطريقة نورانية التبعية للتعاليم الربانية والاقتداء بالأنبياء أهل الهدى شأنه آخر نوراني، يُوصل فيه إلى خصائص الروح ممزوجًا برضى الرحمن ورعاية منه وقوة أخرى يُعطاها أصحابها، عبّر عنها الحق بما جاء في الحديث "كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به"، "فَبِي يسمع وَبِي يُبصر" إلى غير ذلك مما يتولّاه به الرحمن جل جلاله. لكن بطريق اتباع السنة، بطريق الاهتداء، بطريق الاقتداء، بطريق الحضور الدائم مع الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ومن هنا جاء لنا شَرْعُ الذكر في مختلف الأحوال ليكون مفتاحًا لمن أراد أن يحضر مع رب الأرباب في مختلف الأحوال. فشُرع الذكر منه عند النوم، عند الاستيقاظ من النوم، عند دخول البيت، عند الخروج من البيت، عند دخول المسجد، في المشي في الطريق إلى المسجد، عند دخول السوق، عند لبس الثوب، عند الفطر من الصوم، عند ابتداء الأكل، عند الانتهاء من الطعام، عند ابتداء الشراب، عند دخول الخلاء ذكر، عند الخروج من الخلاء ذكر، كل هذا فيه ربط وتهيئة لمن عشق ورغب أن يتصل بالرحمن ويحضر معه، يكون هذا مدخل وباب له. ولا يزال عمل السنن مرقٍّ ومزكٍّ ومطهرٍ للقلوب وكاشف للحُجب. وكل سنة من سننه ﷺ لها نور وهكذا.
كان يحدثنا بعض أهل الهند عن نصراني كان راهب من الرهبان وهداه الله للإسلام وأسلم، وصار بعد ذلك مقبلًا على الإسلام. تحدث مع جماعة جلس معهم يوم قال: إنكم تجهلون كنوز الحق تعالى التي معكم فيها هذا الدين! إنكم تذكرون أداب للنوم والطعام والشراب أجد في الواحد منها قوة في روحي وباطني ما حصّلتها أيام أغرقت في الروحانية والتزكية أيام النصرانية حتى وصلت إلى حدّ لو أشرت على شيء من بعيد بقوة الروح يسقط ذلك الشيء. قال أنا وصلت إلى هذا الحد من قبل الإسلام، لكن الآن والله بعدما أسلمت فإن سُنّة واحدة من سنن النبيّ في الطعام والشراب اكتسب بها قوة أكثر من هذا كله، ونور ومعرفة أكثر من هذا كله! قالوا: كيف وصلت إلى ما تقول؟ قال: أرأيت الرجل هذا قائم وأشار بيده هكذا فسقط الرجل هناك. قالوا اصبر ربما كانت صدفة، قُم يا فلان وهذا واحد شاب قال له: اذهب هناك، هيا أشّر عليه، وذاك أشار بيده كذا وذاك هناك سقط! قال قوة الروح وتأثيرها، لكن سُنّة واحدة من سنة النبي محمد أعظم وأكسب من هذا كله وخير من هذا كله، وجدتُ فيها لذة للروح وطمأنينة ما وجدتها في هذه الأشياء كلها.
لأن خرق العادات يكون للأنبياء معجزة، وقبل النبوة إرهاص، وللأولياء كرامة، ولعموم المؤمنين معونة، ويكون للكفار أيضا نوعًا من الاستدراج أو الإهانة. إن كان على مرادهم فهو استدراج، وإن كان مخالف مرادهم فهو إهانة.
ثم قد يكون منه قسم سابع باستعمال طلاسم واستغاثات بالشياطين والجن وما إلى ذلك يسمى السحر والشعوذة، فتخرق بعض العادات كما قال (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ) [البقرة:102].
فليس كل خرق عادة كرامة ولا معجزة. لذا يفتتن بعض الناس حتى بالدّجال، يأتي ويفعل أشياء مخالفة للعادة، هو دجال خبيث أعور من أخبث من خلق الله، مكتوب بين عينيه كافر ولكن يقول للسماء أمطري فتمطر، قِفي تقف. في بعض الأحيان وبعض الأماكن يقول للأرض أثمري فينبت مع أصابعه شجرة تُملي المكان فتنة، يختبر الله الناس.
ليس كل ما خرق العادة يرجع إلى الكرامة. وبالنسبة لخرق العادة بالنسبة للسُّنة الكونية التي جعلها الله سبحانه وتعالى سائدة في الكون ومنتشرة فيه، وإلا كله الكون من أول إلى آخره معجزات وآيات، أمر غريب وبديع؛ خلق السماء خلق الأرض وجود الهواء وجود الأكسجين وجود الطعام نفسه والشراب كله معجزات، كله أمور غريبة، كيف تمّت؟! وكيف قامت؟!... ولكن الإنسان ما ألفه واعتاده رآه أمرًا عاديًا، وما لم يألفه يراه كبير! ومع أن الذي ألفته أغرب من الذي استنكرته.. والله قادر على كل شيء جلّ جلاله وتعالى في علاه.
يقول: "يتطهر قبل النوم، وينام على يمينه" شقه الأيمن مستقبل القبلة اتباعًا للنبي ﷺ، وكذلك يُضجع الميت في لحده أن يكون على اليمين مستقبلًا للقبلة. وهو من أهم الواجبات على الأحياء للأموات، حتى أن من غُفل عن توجيهه إلى القبلة في القبر، وَجَب نبش القبر ما لم يتغير، ينبشوه حتى يوجّهوه إلى القبلة لأن في ذلك التوجّه معنى لأجل هذه الفطرة وهذه الملة والتبعية لدين الحق. وهكذا يُحترم جهة القبلة وجهة الكعبة، حتى نُهيَ من حضره نخام أو بصاق أن يتنخم إلى جهة القبلة. ويروى في بعض الآثار: أن الذي يتنخم ويبصق إلى جهة القبلة يعود عليه نخامة وبصقه على وجهه في القيامة؛ لأنه لم يعظم شعائر الله، ما عنده أدب. (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [ الحج:32].
وفي هذا الأدب كما يأتي في آداب الخلاء، يقول ﷺ: "لا تستقبل قبلة ببول ولا غائط، ولكن شرّقوا أو غرّبوا" هذا بالنسبة لأهل المدينة المنورة لأن القبلة عندهم جهة الجنوب. فمن كانت القبلة عنده إلى الجهة الجنوبية أو جهة الشمال فشرّقوا أو غربوا، ومن كان إلى جهة الشرق أو جهة الغرب يقابل الجنوب أو يقابل الشمال؛ أي: ينحرف عن القبلة.
وهكذا يقول: "وينام على يمينه"، ومن كيفيات منامه ﷺ كثيرًا أن يضع كفّه الأيمن على خده، ويرسل يده اليسرى فوق رجله. ووُجدت هذه الكيفية من خيار كيفيات النوم وأصحّها للإنسان .وكان إذا كان في استعجال؛ في مكان غزو أو سفر ولا يريد أن ينام كثير ينصِب يده الشريفة نصبًا ويضع خده على كفه واليد منصوبة فوقها، ينام قليلّا ويقوم ﷺ. ومن هنا ينبغي في تطوّر الناس لما تطوّروا وصلحوا لهم أسرة للنوم وغيرها من حين ما يضع السرير يوجّهه توجيه صحيح بحيث إذا نام على يمينه يكون مستقبل للقبلة، وإلا مجرّد ديكور عنده كما يسميه البعض.
بعض المسلمين جعل واحد من المهندسين يصلح له مسجد وهو غير مسلم في بعض المزارع حقه، ثم أخذ بعض أصحابه وجاء بيفتتح المسجد حصل القبلة في جهة ثانية، فشعر بالخزي على نفسه. يقول للمهندس لمَ صلّحتها هكذا! فالمهندس ظن أن القبلة وهذا المحراب الذي في المسجد مجرد ديكور يعني هو يظنها كذا، فقال: أنا كمهندس رأيت أن هذا أنسب مكان نضع فيه هذا المحراب. قال: أنت مجنون! نحن نستقبل القبلة. ولكن إذا المسلمين ما عرفوا حتى يبنوا مساجدهم وجاءوا بمهندسين غير مسلمين بيحصل مثل هذا من إهمالهم من إغفالهم. هذا نفسه كم عنده من الأولاد؟! والبلدة فيها كم من الشباب غيرهم ما فيهم واحد يعرف يبني المسجد حتى يجيب مهندس كافر؟! ولكن غفلة المسلمين وغرورهم وبُعدهم. تركوا مهماتهم وواجباتهم يقدرون يقوموا بأمورهم على أمور حسنة جميلة، ولكن نتيجة إغفال الأوامر والوقوع في النواهي وإهمال السنن أن الحال كله يصبح مرذول ويتسلط عليهم من لا خلاق له، لأنهم لم يسلطوا على أنفسهم نورانية التنزيل فتسلطت عليهم ظلمانية كل حقير ذليل (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون:8].
يقول "وينام على يمينه ويذكر الله عز وجل حتى يأخذه النوم" ومنها: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه. وفيه أن المؤمن منصبغة حياته بالانتماء إلى الأدب مع الحق والخضوع إلى الحق، حتى وضع الجنب ورفع الجنب باسم الله؛ باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه. فصارت حركات المسلم وسكناته باسم ربّه جل جلاله وتعالى في علاه.
كما ترى خطيب يخطب باسم الحزب، وهذا باسم الدولة، وهذا باسم الشركة وهذا باسم المؤسسة، مسافر يسافر باسمها، وهذا يحرر رسالة باسمها، وهذا يخاطب الجهات المخصصة باسمها. المؤمن باسم ربه، ينام يقوم يأكل يشرب يلبس يدخل باسم الله.. إيش هذه العظمة! باسم الله، باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فاغفر لي ذنبي فتعرف من هذا سراية حقيقة معنى: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
ويذكر الله عز وجل بمثل هذا الذكر وعدد من الأذكار الواردة في السنة المطهرة، ومنها:
-
آية الكرسي قبل النوم
-
ومنها آخر كلمات يقولها قبل النوم: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رهبة ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت.
-
وفي بعض الروايات: يقرأ سورة الكافرون، وقال في هذه تجعلهن آخر ما تقول فإنك إن مت مت على الفطرة.
-
كما علم ﷺ التسبيح قبل النوم، علمه سيدتنا فاطمة وهو:
-
سبحان الله 33
-
والحمد لله 33
-
والله أكبر 34
قبل النوم. وهذا التسبيح من فائدته أن تُمدّ بقوة ونشاط تستغني به عن خادم يعينك في كثير من أحوالك.
-
لأنه لما كثر عمل السيدة فاطمة في البيت وقيامها بشغله، وطحنت على الرحى حتى ظهر أثر جرح في يدها، وباشرت الخبز والطحن وما إلى ذلك. قال لها سيدنا علي: إن أباك ورد إليه عدد يوزّعهم من الخدام على الناس فلو طلبتي خادمًا يخفف عليك هذه المؤونة في البيت. فحثّها سيدنا علي، ذهبت، فما وجدت النبي ﷺ في بيته فرجعت. فلما جاء النبي إلى الحجرة قالت له أم المؤمنين أن فاطمة كانت هنا سألت عنك. فخرج وذهب إلى بيت فاطمة وجدهما تهيئا للنوم دق الباب واستأذن فقال على رِسلكم محلكم، فجلس بينهم على فراشهما. وقال: يا فاطمة أخبرتني أم المؤمنين أنك جئت تسألين عني فلماذا جئتِ؟ سكتت استحيت قال سيدنا علي: يا رسول الله علمت بمن توزعهم من الخدم وهي تعاني في البيت كذا وكذا وكذا قال: لا، هذه توزع في فقراء المسلمين. ألا أدلكما على ما هو خير لكما من ذلك؟ قالا: بلى يا رسول الله. قال: إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين واحمداه ثلاثا وثلاثين وكبّراه أربعا وثلاثين فذلك خيرٌ لكما من خادم. علمهم التسبيح وتحدث معهم وخرج.
يقول سيدنا علي: فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله. قال بعض أصحابه: ولا ليلة صفين؟ -المعركة- قال: ولا ليلة صفين، نسيتها من أول الليل فأتيت بها في أثناء الليل. فما تركها ولا ليلة واحدة فكان خيرٌ لهم من خادم يخدمهم. يمدّهم الله بعون وقوة في الجسد أحسن من وجود خادم يساعدهم.
"يذكر الله عز وجل حتى يأخذه النوم"، وإذا أراد أن يستيقظ في ساعةٍ من الليل فليقرأ آخر سورة الكهف: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107] إلى آخر السورة إذا قرأها لأي ساعة يريد أن يستيقظ يستيقظ. ويقرأ بعضهم للاستيقاظ آية (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) [الحشر:5] قالت السيدة عائشة: كان رسول الله ﷺ يذكر الله على كل أحيانه.
يقول: "ويدعو إذا استيقظ" من النوم، أول ما يستيقظ يستاك؛ يُسن السواك أيضًا قبل النوم وعند القيام من النوم كان ﷺ أول ما يقوم من النوم يشوص فاه بالسواك ويذكر الله تعالى: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور". وإلى آخر ما جاء من الأذكار عند الاستيقاظ من النوم. "ويحمد الله تبارك وتعالى".
والعامل بهذه الآداب، الذي ينام بمقدار الحاجة، يصير نومه كأنه يقظة وله الثواب على هذا النوم الذي استعان به على طاعة الله. والذي يضيّع الآداب والسنن تصبح يقظته كأنها نوم! وقال القائل ليصف حال واحد كان مضيّع لنفسه يقول:
يخبّرنا البواب أنك نائمٌ *** وأنت إذا استيقظت أيضًا فنائم
قال حتى لما تستيقظ تمشي بيننا نائم؛ يعني غافل عن السنن عن الآداب ما لك حضور مع الله، ما لك عمل بالمنهج النبوي. ولأن للقلب يقظة إذا استيقظ من نومه ما عاد ينام خلاص يستقر. فالله يوقظ قلوبنا من سبات الغفلة وسِنة الغفلة.
آداب التهجّد
آداب التهجّد
"تقليل الغذاء، ونقصان الماء، وإصلاح النهار باجتناب الغيبة والكذب واللغو، وترك النظر في المحرّمات، والقيام من النوم بفزع وخوف، وإسباغ الوضوء، والنظر في ملكوت السماوات، والدعاء والحضور في الصلاة لفهم التلاوة."
يقول: "آداب التهجّد"، يقوم من النوم وينبغي أن يكون للمؤمن نصيب من التهجد في لياليه ولو يسير.
-
والتهجّد معناه: الصلاة بعد نوم؛ لأن الهجود هو النوم والتهجد ترك الهجود.
-
فإذا لم ينم أصلا يُقال: قام الليل، أحيا الليل. لكن ما يُقال تهجد
إلا إذا نام وقام بعد النوم إلى الصلاة هذا تهجد (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].
وإنما يقوى على التهجد من:
-
خفّف كثرة الأكل
-
وخفّف كثرة الشرب
-
وصلُح حاله بالنهار.
شكا بعضهم ما يقوم بالليل قال له عصيته بالنهار فكبّلك عن قيام الليل؛ كبّلتك ذنوبك، ما قدرت تقوم. قلّل من الذنوب حتى تستطيع القيام.
قال: "وإصلاح النهار باجتناب بالغيبة والكذب واللغو"، ويساعد على التهجد والقيام: الاستغفار قبل غروب الشمس آخر النهار، تستغفر وتسبح قبل الغروب، "وترك النظر في المحرّمات".
"القيام من النوم بفزع وخوف" بإجلال وإكبار وتعظيم لله سبحانه وتعالى وخشية منه، "وإسباغ الوضوء"؛ إحسانه "والنظر في ملكوت السماوات"، فكان ﷺ إذا قام من النوم ردّد البصر في العلو، وقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190]، يذكر الآيات إلى آخر السورة يقرأها كلما قام من النوم ﷺ.
ليلة أنزلت عليه جاء سيدنا بلال يؤذنه بحضور صلاة الفجر والحبيب ﷺ يبكي. وهكذا قالت السيدة عائشة فيما جاء في بعض الأخبار وقد دخل عليها بعض الصحابة يقول حدثينا بأعجب ما رأيتِ من أحوال النبي؟ قالت: بمَ أحدثكم! كانت كل أحواله عجبا ﷺ ثم حدثتهم قالت: كان إذا جنّ الليل وخلا كل حبيب بحبيبه خلا هو بحبيبه وقام يناجي ربه. وقد ورد عليّ في ليلة في ساعة متأخرة من الليل، فعمد إلى ماء في قربة، توضأ ثم قام يصلي فلم يزل يسجد ويبكي حتى طلع الفجر. قالت: ثم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فرأى عليه أثر البكاء. قال له بلال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! قال: يا بلال أُنزلت علي البارحة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها، وتلى عليه (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ*رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:190-192] إلى آخر الآيات إلى آخر سورة ال عمران، وهذا مما يستحب تلاوته عند القيام من النوم في الليل.
الله يكرمنا بيقظة القلوب واتّباع المصطفى المحبوب، ويؤدّبنا بآدابه ويخلّقنا بأخلاقه، ويجعل لنا بركة إن شاء الله من خروجنا من رمضان تستمر لنا أنوار الإقبال والإحسان في كل شأن وفي كل آن حتى نلقى الرحمن، ويطول لنا الأعمار في الطاعة والبر والتقوى، ويصلح لنا والمسلمين السِرّ والنجوى بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
وجاء رمضان وكمل، والست جاءت وقالت أنا ما بقعد لكم كذلك.. باقي معنا أحد واثنين وتقول مع السلامة، كلٌّ ينتبه لنفسه ويعد ليوم القيامة، والله يكتب لنا الكرامة والاستقامة، ويتحفنا بما هو أهله في الدنيا والقيامة ودار المقامة والحمد لله رب العالمين.
06 شوّال 1440