شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -18- آداب الوضوء (1)

الدرس الثامن عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، يتحدث فيه عن آداب الوضوء.
فجر الإثنين 7 شوال 1440هـ.
آداب الوضوء
"السواك، ودوام الذكر مع الغسل، واستشعار الهيبة ممن يقصد والتوبة مما كان، والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلاة، والطهارة فى إثر الطهارة وأخذ الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، والاختتان، وغسل البراجم، وتعاهد الأنف، ونظافة الثوب والبدن".
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بالتنوير والتطهير والخير الكثير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآب والمصير. ونشهد أن سيّدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، الهادي إلى طريق الله العليّ الكبير، والمبيّن لشرائع الله تبارك وتعالى بأحسن البيان وأصفاه من غير ما غبشٍ ولا تكدير.
فصلِّ اللهم وسلم وبارك على من تركنا على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، عبدك المجتبى سيدنا محمد، وعلى آله الذين خُصّوا بواسطته بأعلى التطهير، وأصحابه الذين حازوا به أشرف التنوير، وعلى من تبعهم في مسلكه الأعجب ومنهجه والمسير، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الخير الكثير والمقام الكبير، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين من كل ذي قلبٍ منير، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا سميع يا بصير يا لطيف يا خبير.
وبعدُ،
ونختم أيام الست من بعد يوم العيد في هذا اليوم، لنُكمل ما نتدارس فيه من بعض الآداب التي ألمَح إليها في الكتاب المنسوب للإمام الغزالي (الأدب في الدين). ومررنا على جمل من الآداب ويذكر الإمام عليه رحمة الله: "آداب الوضوء".
والوضوء هو:
-
مفتاح الصلاة.
-
وهو سلاح المؤمن.
-
وهو الذي بملازمته يتهيأ المؤمن لأن تُدفع عنه أنواع الشرور.
-
وأن تُجلب إليه أنواع المنن والمواهب.
-
ويتوفر حظّه من تنزّلات الحق جلّ جلاله.
حتى جاء في الأثر: من أصابه شيءٌ من عين أو سحر أو غير ذلك وهو على غير وضوء فلا يلومنّ إلا نفسه. "والطهور شطر الإيمان" كما يقول ﷺ. ومن أحسن الوضوء أحسن الصلاة، ومن أحسن الوضوء والصلاة فقد حسُن دينه كله، وحَسُن حاله مع ربه.
وبذلك أثنت سيدتنا نفيسة -عليها رضوان الله- على سيدنا الإمام الشافعي عند موته بقولها: رحم الله محمد بن إدريس الشافعي إنه كان يحسن الوضوء. فانتخبت من جميع أوصافه ومزاياه قولها: إنه يحسن الوضوء؛ لأنه ينطوي على سر معاملةٍ مع الله. وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا علي بن أبي طالب إذا أرادا القيام لأي فريضة يتوضآن وإن كانا متوضئين فيجددان الوضوء ويقرأون قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ)[المائدة:6].
وهكذا؛ يأتي في وظائف السائرين إلى الله الراغبين في منازل القرب منه ملازمة الطهارة، وكلما أحدث أحدهم توضـأ ولازَم الوضوء. الوضوء الذي هو مفتاح الصلاة لحضور القلب فيه مع الله أثرٌ قوي في حضور القلب في الصلاة؛ فينبغي للمتوضئ:
-
أن يتوضأ في مكان طاهر
-
وأن يستقبل القبلة
-
وأن يُحضِر قلبه مع الرب
-
وأن يذكر الله
-
في بداية وضوئه بالبسملة
-
وفي أثناء وضوئه بالأدعية
-
وبعد وضوئه بالشهادتين والدعاء الوارد عنه ﷺ: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين".
-
ولقد جاء في الصحيحين: أنّ من واظب على هذا الذكر الخفيف اليسير بعد كل وضوء؛ أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيدنا محمد عبده ورسوله؛ "فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". وجاء في رواية: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين"؛ تفتح أبواب الجنة الثمانية على ذكرٍ يسير! سبحان المعطي الكبير -جلّ جلاله- الذي يقبل القليل ويعطي عليه الكثير. ولكن المواظبة والملازمة لذلك تقوّم شأن المعاملة مع الإله المالك، وتدل على حضور، وتدل على اهتمام، وتدل على إقبال، وتدل على تنبّه؛ المواظبة والمداومة على ذلك. فهو عمل يسير وثوابه كبير.
وذكر عليه رضوان الله تعالى في آداب الوضوء وأول ما ذكر: "السواك"؛ والسواك مأخوذ من معنى: ساكَ، بمعنى: دلك، يكون اسم للدلك ولآلة الدلك. والآلة التي يدلك بها يقال لها مِسواك، فالعود الذي يُستاك به يقال له مِسواك.
والسواك في الشريعة: عبارة عن استعمال أي خشن يزيل الأوساخ في دلك الأسنان وما حواليها؛ أي: تنظيف الفم. والفم مجرى الذكر لله تعالى فلذا ينبغي أن يُطيّب، طيّبوا مجاري الذكر باستعمال السواك. ومما يتعلق بطهارة الفم:
-
السواك
-
والخِلال بعد كل طعام.
السواك استعماله مستحب في كل حال، حتى قالوا في قواعدهم في الفقه: أن ما أصله الندب لا تعتريه الإباحة؛ فهو في كل حال استَكت يكون السواك مستحب، وتُثاب عليه إن نويت. أيّ تنظيفٍ نظفته الفم بأي آلة تنظف فلَكَ بذلك أجر إن نويت الاستياك واتباع السنة. ولهذا ورد في الخبر: "ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت على أضراسي".
وكان ﷺ معتنيا باستعمال السواك من الأراك، فأفضله عود الأراك. ولا يصير واجبًا إلا إذا:
-
نذره عند المهام أو عند المندوبات أو في أي حال.
-
وإذا تنجّس فمه فلا تزول نجاسة إلا بالسواك
يصير واجبًا عليه استعمال السواك لإزالة النجاسة أو للوفاء بالنذر إن نذر وإلا فهو مستحب وسنة.
وقد يكون السواك بعد ذلك مكروهًا؛ كأن يستاك بالسواك الرطب القريب العهد بالخروج من الشجرة الذي قد ينفصل منه شيء، فإذا استاك بسواكٍ رطب وانفصل منه شيء وهو صائم فابتلعه بطل صومه، ولذلك كره السواك الرطب أبو حنيفة وغيره للصائم سواءً أول النهار أو آخره كله سواء، هذا إذا كان رطبًا. أما إذا كان يابسًا فلا يُكره للصائم إلا عند الشافعية بعد الزوال، أما عند غيرهم فلا يُكره لا قبل الزوال ولا بعد الزوال. فهو كسُنيّة المضمضة متعلقة بالوضوء لا تُكره بعد الزوال ولا قبل الزوال بالنسبة للصائم.
"السواك" مظهرٌ من مظاهر السُّنن، ولا ينبغي الاعتياض عن الأراكِ حيث وجد بأي شيء آخر. وإن استُعمل غيره في شيء من الأوقات فلا يُترك أصل استعمال الأراك فإنه سنته ﷺ. وبغضّ النظر عما اكتُشف ووُجد في مادة الأراك من صلاحية قوية وتأثيرٍ بالغ في قتل جراثيم الفم وفي تنظيف الأسنان فإن الأصل الذي يحدونا إلى الحرص على ذلك اتّباع حبيب الرحمن الذي أُمرنا باتباعه وقد كانت تُقتنى له الأسوكة ﷺ.
وممن يعتني بإحضاره إليه عبد الله بن مسعود -عليه رضوان الله- حتى كان من لقبه: صاحب السواك والنعل والطهور. صاحب السواك؛ يجتني له الأسوكة ويُبريها ويقدمها إليه. وفيه أنه ﷺ كان يُجدّد السواك من وقتٍ لآخر، ويستعمل في أثناء استعماله في الأيام التي يستعمل فيها السواك يستعمل غسله وقد يدفعه إلى أم المؤمنين عائشة يقول اغسلي السواك، قالت: فكنت أبدأ فأستاكُ به قبل أن أغسله؛ تبتغي بركته ﷺ. فكأن البيوت النبوية كانت على مسلك التصوف، وإن كان اسم التصوف حدث فيما بعد، لكن هذا المسلك الذي هم عليه، فكانت تبدأ به أولًا ثم تغسله وتعطيه إياه ﷺ .
هذا السواك كان من تفكير الصحابة وحلّهم لمشكلة تأخّر الفتح عليهم في دخولهم إلى مصر. أنّ قادتهم وكبار الجيش اجتمعوا وقالوا: لماذا أبطأ الفتح علينا؟ ونظروا في الأمور بطريقة التفكير التي ورثوها وتعلموها، حتى قال أحدهم: إني أرى الجيش قصّر في استعمال سنة السواك فلعله لذلك أُخّر الفتح علينا! وأمر الأمير أن يقتنوا السواك، وكان حواليهم بعض شجر الأراك فأخذوا يحفرون ويخرجون أعواد الأراك ويستاكون. في اليوم الذي اعتنوا فيه بالسواك نقلت العيون من قِبل الكفار أن الجماعة يسوكون أسنانهم كأنهم يريدون أكلكم! ولا أكل الصحابة أحد ولن يأكلون أحد! وما أحسن من معاملتهم، ولكن الله قذف الرعب ببركة السُّنة ليتم الفتح، وتم الفتح لهم عليهم رضوان الله. فما وجدوهم يأكلون أحد، إنما أقاموا بينهم العدل والحكم حتى أنصفوا المظلوم وارتفع الظلم عن المنطقة بوصول الإسلام إليها، واستوى الناس تحت الأحكام العامة أمام العدل، وقام العدل فيهم ولم يزل المسلمون قِلة في القرن الأول والثاني والثالث، والمسلمون في مصر قلة ولكن حكم الإسلام الكل تحت مظلته في هدوء، في سرور، في إنصاف، في عدل، في طمأنينة... فكانوا تحت مظلة الإسلام وتزايد الإسلام تلقائيًا من خلال المخالطة ومن خلال المجالسة؛ فبدأوا يزيدوا المسلمين والنسبة كانت قليلة جدًا وقت حُكمت مصر بالإسلام، كانت نسبة المسلمين قليلة بالنسبة لبقية أهل مصر. وإلى القرن الثاني والقرن الثالث كانوا أقلية ثم تزايدوا فصاروا هم الأكثر لا إكراه ولا إجبار ولا وجدوا في الإسلام إلا كل الخير وكل الهدى والنور.
وهكذا فانظر منزلة السواك في عقول الصحابة، وأنه سببٌ للنصر المقصود سُننه ﷺ معظّمة في تلك العقول المؤمنة، ولا يمكن أن يُنصَر الحق ورسوله من دون قلوب تعظّم الله وتعظم رسوله، وتُجلّ ما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ.
ثم مع كونه أيضًا قد يكون حرامًا إذا أخذ سواك الغير بغير إذنه، أو بغير رضاه يستاكُ به. أو في أحوال أيضًا يحرم لمن يتيقّن أنه يدمي لثته وهو في الصلاة أو مقبل على الصلاة وما إلى ذلك، فيطرأ عليه ذلك الحكم.
ومع كون الأصل في حكمه الاستحباب فإنه في بعض المواضع أشد استحبابًا:
-
وذلك عند الوضوء لما جاء في الحديث.
لم يقل أحد من الأئمة الأربعة بوجوب السواك، لكن قالوا باستحبابه وسنيّته، يروى عن داود وإسحاق وجوب السواك، لكن ردّوا عليهم بنص الحديث الشريف: "لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء"، وفي رواية: "مع كل صلاة"، في رواية: "مع كل صلاة عند كل وضوء". وقال سيدنا الإمام الشافعي: لو كان واجبًا لأمرهم شقَّ أو لم يشق؛ لو كان فرض من الله او أراد أن يفرضه شقّ عليهم أو لم يشق عليهم سيفرضه، لكن كلامه دليل على أن لا وجوب ولا فرض، ولكن أيضًا دليل على تأكد الاستحباب وأنه يحب من أمته هذا، ويرغب أن أمّته لا تترك السواك عند الوضوء ولا عند الصلاة.
-
كذلك عند النوم؛ عند إرادة النوم.
-
وكذلك عند القيام من النوم، لما ورد عنه أنه أول ما يقوم من النوم يشوص فاه بالسواك ﷺ.
-
كذلك عند تغير الفم بسبب طول سكوت أو كثرة كلام، أو جوع في غير الصوم أو أي سبب آخر؛ عند تغير رائحة الفم.
-
وعند اصفرار الأسنان كذلك.
-
ثم عند دخول البيت، لما جاء في صحيح مسلم: أن السيدة عائشة قالت: أن النبي ﷺ كان إذا دخل البيت أول ما يبدأ بالسواك، يستاك عند دخول البيت، وهي من السنن المهجورة عند أكثر المسلمين.
-
عند قراءة القرآن وإرادة ذكر الله تبارك وتعالى، وجاء عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يتناول طعامًا إلا استاك بعده، بعد تناول الطعام، وهو من أوقاته المهمة؛ فالاستياك والتخلّل بعد الطعام من أقوى أسباب الصحة للأسنان وبقية الجسد؛ لأن صحة أي عضو تؤثر على صحة بقية الأعضاء.
فينبغي الاهتمام بالسواك وعند الوضوء على وجه الخصوص.
قال: "السواك، ودوام الذكر مع الغسل"؛ غسل الأعضاء. وقد بوّب أبو داود وغيره من أصحاب السنن: "باب الذكر عند الوضوء"، فجاء بحديث: "كان رسول الله ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"، ومنها الوضوء. ويُروى: "من ذكر الله عند الوضوء طهر جسده كله، فإن لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا ما أصاب الماء". والوضوء من المكفّرات للذنوب؛ تخرج مع آخر قطرات الماء
-
تخرج خطايا العينين واللسان عند غسل الوجه
-
وخطايا اليدين عند غسل اليدين
-
وخطايا الرجلين كل خطوة مشتها رجلاه
تخرج آثار الذنوب مع آخر قطر الماء. ومن هنا جاء في مذهب الإمام أبي حنيفة نجاسة الماء المستعمل، أن الذنوب فيه. إذا كان الماء قليل واستعمله في الوضوء فهذه الذنوب نجاسة معنوية أثّرت على الحِسّ في مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولكن يقول الشيخ الملا أنه الإمام أبو حنيفة رجع عن قوله بطهارة المستعمل وكونه طاهر غير مطهِّر هذا عند الأئمة أيضًا عند الشافعي وأحمد كما رجع إليه أبو حنيفة، ولكن عند الإمام مالك المستعمل طاهر مطهِّر لا تنتزع الطهارة إلا بالتغير. فهذا فيه تنبيه أن الإمام أبو حنيفة رجع عن هذا القول، بحيث المفتى به في مذهب الحنفية: عدم نجاسة المستعمل وإنما هو غير مطهِّر كما يقول الشافعية والحنابلة بذلك.
يقول: "ودوام الذكر مع الغسل" وأهمه البسملة في أول الوضوء التي قال بوجوبها الإمام أحمد -الذي روى حديثًا وضعّفه- ولكن قال به؛ قال بالوجوب على المعتمد في مذهبه، "لا وضوء لمن لم يُسمّ الله" فينبغي أن يُسم الله في بداية الوضوء.
وكيفية السواك المتقدّم معنا في السُّنة: أن يُمسك باليمنى، وبعض الذين نظروا إلى أنه إزالة وسخ، وبعضهم قالوا تجميل وإكرام.
-
فالذين نظروا إلى أنه مجرد إزالة وسخ قالوا باليسرى.
-
ولكن الجمهور اجمعوا على أنه إنما يمسك السواك باليد اليمنى.
وإذا أمسكه باليد اليمنى، فمن الكيفيات الواردة بالفضل: أن يجعل أصابعه الثلاثة من أعلى والخنصر والإبهام من أسفل. فيكون من الأسفل الخنصر والإبهام والثلاثة متوالية من فوق، ويبدأ بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر اتباعًا له ﷺ، فقد كان يحب التيامن في شأنه كله، في تنعّله وطهوره وترجّله وفي سواكه، جاء في الرواية ﷺ .
والذكر عند الوضوء لوحظ فيه على سيدنا الإمام النووي لمّا قال في (المنهاج): أنه لا أصل له، لمّا أورده الرافعي في (المحرر)، قالوا: بل يأتي بأسانيد لا تقِل عن الضعف، ولا تكون في حد الموضوع. والضعيف قد قال الإمام النووي نفسه -عليه رحمة الله تعالى- في مقدمة كتابه (الأربعون النووية): وقد اتفق الحُفّاظ على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. وجاءت فيها أحاديث في الدعاء عند غسل الوجه عند المضمضة والاستنشاق، وعند غسل الكفين، عند غسل اليد اليمنى عند غسل اليسرى وما إلى ذلك.
يقول من أعجب الآداب التي يذكرها: "واستشعار الهيبة ممن يقصد"، فإنه يقصد بالوضوء ربّه، ومقابلة ربه، والدخول إلى حضرة ربه، فيستشعر الهيبة عند الوضوء. ولهذا يُكره للمتوضئ أن يتكلم مع غيره، بل يكون مشغول مُقبل على عبادته. وفي بعض الآثار: إذا أخذ المسلم في الوضوء ضُرب عليه قبة من نور فإذا تكلم رُفعت. فلا يشتغل بكلام أحد لغير ضرورة، بل يُقبل على وضوئه بحضور، باستشعار الهيبة ممن يقصد.
وهكذا كان يظهر على سيدنا عليّ ثم على حفيده علي زيد العابدين عند التوجّه للوضوء، وعند إرادة الدخول في الصلاة أثر التغيّر وتغير اللون من الهيبة. وإذا قالوا لزين العابدين: ما لك يعتريك اصفرار في وجهك وتلوّن عند دخول الصلاة؟ قال لهم: أتدرون بين يديّ مَن أقوم ومن أناجي؟! أتدرون بين يديّ مَن أقوم ومن أُناجي؟!.. ولمّا كان تعظيم الدين والهيبة للحق أساس في الدين، قال بعض الحكماء من العارفين: الدين تعظيم الدين؛ الدين كله تعظيم الدين. والاستفادة من الصلوات على قدر تعظيمها، فإذا كان القلب فيه هيبة وتعظيم من حين الوضوء ويقوم بالصلاة بوجهها فيَعظُم أثر الصلاة، ونور الصلاة وبركة الصلاة، وتأثير الصلاة على قلب الإنسان. (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
قد كانت أسواق المسلمين في كثير من البلدان في القرون الأولى، ومستمرة إلى بعض الأخيار في بعض الأماكن إذا سمعوا النداء للصلاة وهم في أعمالهم، فكان صاحب الدباغة منهم يضع الإبرة في الجلد فيسمع الأذان: الله أكبر.. فيرمي الجلد بإبرته ولا يرضى بإخراج الإبرة من الجلد حتى يذهب للصلاة أولًا ثم يأتي! وإن الحدّاد منهم يحمل المطرقة يضرب حديده فإذا رفعها وسمع الأذان رماها من خلفه ولم يرضَ بضربةٍ بعد الأذان؛ تعظيمًا لشأن الصلاة؛ هكذا كانت أسواق المسلمين. حتى يُروى عن سيدنا علي أنه قال: سوق المسلمين كمصلى المصلين؛ كأنه مصلى لما فيه من:
-
تعظيم للشعائر
-
وفيه ذكر للرحمن
-
وفيه القيام بالأمر
"استشعار الهيبة ممّن يقصد، والتوبة مما كان، والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلاة"؛ أي: لا يشتغل بهذيان ولا بكثرة كلام ولا بشيء، إذا قد خرج إلى الصلاة خرج إلى الصلاة، إذا قرب وقت الصلاة خلاص يبعد الأشغال عن ذهنه، أما يكون خارج إلى الصلاة ويتشوف في اللوائح، والمجلات، ويتكلم مع ذا وذا…. أنت ذاهب إلى أين؟! إذا أحد قال له أنه سيقابل أحد ممن يعظمهم من الناس تجده مشغول ما عنده وقت يكلم أحد، وأنت متوجه بتقابل رب العالمين أين يروح شعورك؟ أين يروح الحس منك؟.
وهذا كان يقول الإمام الحداد لأصحابه: من عنده لنا سلام من أحد أو كلام أو خبر أو رسالة لا يسلمنا إياه ونحن خارجين للصلاة، ولا يكلمنا ونحن خارجين للصلاة، فإننا نخرج إلى الصلاة بجمعية على الله كاملة فلا تشغلونا بشيء، صلوا معنا وبعد الصلاة هات رسالتك هات خبرك، خلونا نصلي أول!.. تعظيمًا لشعائر الله جل جلاله.
رزقنا الله نصيب من هذا الإيمان واليقين وجعله من هداياه لنا في رمضان، ومن آثار قبولنا في رمضان أن يثبُت في قلوبنا تعظيم شعائر الله وندخل إلى الصلاة بحالٍ يرضاه الله، ونلحق بمن قال عنهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:2-1].
قالوا لسيدنا عروة بن مسعود، وكانوا قد اضطروا إلى قطع رجله حتى لا تسري الجراح إلى بقية الجسد، قالوا: لابد أن نعطيك شيء يُذهب حِسّك حتى لا تحسّ بأثر القطع، قال: معاذ الله أن أتناول ما يحجب عقلي عن التفكير في عظمة ربي! وكيف نقطع الرجل كيف نعمل؟ قال: إذا كنتُ في الصلاة فسأمدّ رجلي في التشهد وقتها اعملوا ما شئتم فإني لا أحس بشيء إذا كنت في الصلاة! ومدّ رجله وقطعوها وضمدوها وهو لم يتحرك حتى سلّم، فلما سلم قال: فعلتم؟ قالوا: خلاص أكملنا كل شيء. فلما حملوا الرجل ليدفنوها قال: اللهم إنك تعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط منذ أسلمت! رجل ما مشت إلى معصية..لا إله إلا الله، هذه أرجل الصالحين!
وفي ابتلاء واختبار له، رجع إلى البيت وكان له اثنين من الأولاد، فسقط أحد ولديه من على سطح البيت ومات، فسأل عنه فأخبروه، قال: اللهم إنك وهبت لي رجلين فأخذت أحدهما وتركت لي الأخرى فلك الحمد على ما أخذت ولك الشكر على ما أبقيت، ووهبت لي ابنين وأخذت أحدهما وتركت لي الآخر فلك الحمد على ما أخذت ولك الشكر على ما أبقيت.
هُم الجبال فسَل عنهم مُصادمهم *** ماذا رأى منهم في كل مصطدمِ
سبحان الذي قوّاهم ورقّاهم بتربية محمد ﷺ.
يقول: "واستشعار الهيبة ممّن يقصد، والتوبة مما كان، والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلاة"، والسكوت على وجه العموم له أثر في تزكية النفس إلا بذكر الله وابتداء السلام، ولغير ذلك للصمت أثر قوي. يقول: الصمت حكمٌ؛ يعني: علم وحكمة وقليل من يفعله. ومن صَمَت نجا، و"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". وكان خيار الأمة وصفهم: قليلو الكلام بغير ذكر الله؛ بغير الذكر كلامهم قليل، وأكثر كلامهم القرآن وذكر الرحمن جلّ جلاله.
قال: "والطهارة في إثر الطهارة"؛ الطهر في أثر الطهر حسنة فوق الحسنة ودرجة في الجنة؛ أن يتطهر فوق الطهارة، وإن كان متوضئًا يعيد الوضوء من أجل فرض جديد فإذا قد صلّى بالوضوء السابق شيء من الصلوات فيمكنه أن يعيد الوضوء فيكون في إعادة الوضوء حسنة على حسنة. وهكذا الوضوء أحد الخصال المتعلقة بالفطرة، وخصال الفطرة؛ خصال متعلقة بخِلقة الإنسان؛ تسمى خصال الفطرة، وقد جاءت بها السنة من قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وإعفاء اللحية وما إلى ذلك. فما أعظم الشريعة وأوسعها. وصلى الله على معلمنا الذي أحسن التعليم، وهدانا إلى الصراط المستقيم. والله ينظر إلينا به.
وكما مرت علينا الأيام رمضان ويوم العيد وست من شوال، نسأل الله يكتب لنا القبول ولكم والأمة فيها، وأن يجعل من آثارها صلاحًا لأحوالنا وأحوال المسلمين في شامنا ويمننا وشرقنا وغربنا، ودفعًا للبلايا والضر والآفات عن جميع المؤمنين، وتحويلاً للأحوال إلى أحسنها، وثباتًا على ما يحبه ويرضاه منا، ولا يجعله الله آخر العهد منا ولا منكم ولا من رمضان ولا من هذه المجالس، ويعيدنا إلى رمضان سنين عديدة في توفيقٍ لما يحب وعافية تامة وصلاحٍ لأحوال الأمة وكشف للغمّة وجلاء للظلمة ودفع للنقمة. اللهم يا محوّل الأحوال حول حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وبارك لنا في الأيام والليال، وبارك لنا في الأقوال والأفعال، وبارك لنا في الأهل والمال والعيال، وبارك لنا في العلوم، وبارك لنا في تطبيق العلوم، وبارك لنا في الدعوة إليك، وبارك لنا في جموعنا وبارك لنا في مجالسنا، وبارك لنا في أرزاقنا، وبارك لنا في أخلاقنا، وبارك لنا في مقاصدنا ونياتنا، وبارك لنا فيما أعطيت، كل ما أعطيتنا ظاهرًا وباطنًا بارك لنا فيه بركة تامة كاملة في خير ولطف وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
07 شوّال 1440