(233)
(536)
(574)
(311)
محاضرة الحبيب عمر لأساتذة أكاديمية المجلس الإسلامي السنغافوري في سنغافورا، عصر الخميس 20 محرم 1436هـ بعنوان: منهج العلماء في التعامل مع الاختلافات في العقيدة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مولانا الملكِ العظيم، مُكرِمِنا بهذا الدين القويم؛ وصلى الله وسلَّم على عبدِه المصطفى سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، ذي الخلق العظيم الموصوف في كتاب ربنا أنه ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد أكرمِ دالٍّ عليك وأعظمِ محبوبٍ لديك، وعلى آله وأصحابه وآبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ ...
فبارك الله تبارك وتعالى في المجلس الإسلامي وسماحة الشيخ المفتي والقائمين على العمل في هذا الميدان والمجال وبارك في اجتماعنا اليوم، في هذه الأكاديمية التابعة للمجلس الإسلامي بسنغافورة، لنتذاكر مسلكاً واجباً نسلُكُهُ نحرص به على إرضاء الرب جل جلاله وتعالى في علاه في خدمةِ الأمة وجمعِ قلوبها وتطهيرِها عن الشوائب، المؤدِّي إلى استقامةٍ حسنةٍ في التعايش والتعامل بينهم والذي يقع بظلِّه على إبراز صورة الإسلام لغير المسلمين الذين يعيشون بيننا ونعيش في مناطقهم أو بين ديارهم وحيث نوجد ويوجدون، بل الأمر أيضاً من حيث الواقع الجغرافي أو الواقع المكاني متعلِّقٌ بأوسع منه من حيث المبدأ، من حيث الدين، من حيث الشريعة التي جاءت للعالمين.
( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا )
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
إلا أنَّ خدمةَ كلِّ جزءٍ وكلِّ موقعٍ وكل بقعةٍ وكل مكان يندرجُ في الخدمة العامة لشأن هذا الدين وهذا العالم والرسالة التي حملَها نبيُّ العالم من ربِّ العالم إلى جميع العالم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ونعلم أن الذي ورد في ألفاظ الكتاب والسنة لفظُ الإيمان، وهو المتعارَف عليه في القرون الأولى، ثم جاء مصطلح العقيدة، والمراد ما يعقِدُ عليه القلب ويجَزِمُ به من المسائل الإيمانية أيضاً والعقليَّة.
فكان التعبير في القرآن والسنة بالإيمان.. رزقنا الله كمال الإيمان، وزادنا إيمانا.
وهذا الإيمان والإعتقاد الذي هو أصول الدين، كأصولٍ في علم الفقه، وأصولٍ في علم التفسير، وأصولٍ في علم الحديث. فهذه الأصول التي ترجع إليها الفرعيات :
* عموم الدين، الإيمان فيه أصل، ولكن عموم الإعتقاد فيه أصلٌ وفيه فروع.
فيه الأصل الذي لا يمكن الاختلافُ عليه بين طوائف المسلمين ومذاهبهم، وذلك ما جاء مشروحاً في الكتاب العزيز، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مِن مثلِ ما ذكرَ اللهُ في سورة الإخلاص أو في آية الكرسي أو في خواتيم سورة الحشر أو في أوائل سورة الحديد أو أوائل سورة الأنعام فهذا هو الإيمان وهذا الإعتقاد، وما تحدَّث الحق تعالى عن أنبيائه ورسله، وما تحدّث عن اليوم الآخر والمصير إليه وما ذكر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى )
فهي أمورٌ في محلِّ الإجماع ومحلِّ الإتفاق، لا يمكن أن يختلف عليها المؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
لكن تفرَّعَ عنها شؤونٌ أيضاً اعتقادية يقوم فيها النظر، ويقوم فيها لأهل الاجتهادِ اجتهادُهم، وقد اختار أكثر وعامة أهل السنة أن لا يُثبَتَ ويُجْزَمَ في جانب الاعتقاد إلا بما كان قطعيَّ الثبوت. وبذلك اختلفوا في مسألة الأحاديث الآحاد التي لم تبلغ مبلغَ التواتر، أيؤخَذ ما جاء فيها من اعتقادٍ أم لا ؟ إلى غير ذلك من مباحثهم العلمية الدقيقة في هذا الجانب.
وقد لخَّص الإمام الشافعي عليه رحمة الله صحةَ الإعتقاد عموماً، وقال وقد سئل عند ظهور بعض الأهواء والبدع والآراء: (آمَنْتُ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ، عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَآمَنْتُ بِرَسُولِ الله، وبِما جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ، عَلَى مُرَادِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وقوله على مراد الله وعلى مراد رسول الله قطعٌ لبلابل الأهواء والنفسيات والإثارات التي طرأت على الأمة مما لم تكن تعرفه.
وقد تكفَّل الله بحفظ الملة والدين في أصوله وفي فروعه، ولذلك نجد معانيَ التجديد والحراسة والحماية لهذا الذين جليةً واضحة، فقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الأمة على المحَجَّةِ البيضاء، ليلُها كنهارها وكان الأمر فيها بيِّناً واضحا جليّاً.
وجاء الصحابة عليهم رضوان الله وابتدأ من يتكلم في مسألة القدر.. فردَّ عليه الصحابة ورفضوا أقوالَه، وظهر من يأخذ الآيات فيكفِّرُ بها، فلم يقبل الصحابةُ ذلك، وتجاوز الأمرُ الحدَّ إلى أن الذين كفَّروا بالآيات قاتلوا الصحابةَ عليهم رضوان الله، وقام الصحابةُ بواجبهم نحو البيان والهدى.
وقد أرسل سيدنا علي ابن عباس ليناظر بعض الذين اشتبه عليهم الأمر في المسائل، وأرادوا إقامةَ تكفيرٍ عليها بفهم خاطئٍ باطل، وقالوا إن عليّاً حكَّمَ الرجال، وإن الحكم إلا لله، في فهمٍ سقيمٍ لمعنى ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِله ) فجاء ابن عباس يتلو عليهم من آيات الله: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )، ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ )، ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط ) أي بالعدل ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ) إلى غير ذلك. فوجدوا أنفسهم أمام بحرٍ من علمٍ لا تنفع فيه هذه المفاهيم الضيِّقة، فرجع الثلاثة الآلاف منهم، وبقي الآخرون على إصرارِهم وعنادِهم، فهذا مظهر من مظاهر الإنحراف من أول العهد، قد يستمر في الأمة في أماكن وأزمنةٍ تظهر هنا أو هناك.
فقال لهم فيما جادلهم سيدنا عبدالله بن عباس: إنكم عمدتم إلى الآيات التي نزلت على المكذبين برسول الله الكافرين بالله المشركين فصرفتموها إلى المؤمنين الموحدين المستجيبين الملبِّين، هذا صرفٌ للآيات في غير موضعها، ردَّهُ ذلك القرن الأول.
ثم استقر حالُ الناس وخمدت أمثالُ هذه الفتن، وابتدأ الضعف فيما يتعلق بجانب الإحسان، وهو جانب الخلُق، جانب رعاية القلب مع الله تبارك وتعالى وأحواله مع الله، وصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يقول لنا: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم.
فبرز في التابعين من يعتني بهذا الجانب كالإمام الحسن البصري والإمام علي زين العابدين بن الحسين والإمام سعيد بن المسيب والإمام سعيد بن جبير، وغيرهم في ذلك العصر من أولئك الأكابر، تبعهم عبدُ الله بن المبارك ونحوهم من أولئك التابعين وتابعيهم في الإعتناء بشأن حال العبد مع الله في باطنه وسلامة قلبِه وتخلُّصه من الشوائب الخفية مِن رياء، مِن كبر، مِن عجب، مِن غرور، من حسد، من حقد.. وما إلى ذلك. فكان ذلك مظهراً من مظاهر تجديد جانبٍ في الدين وهو جانب الإحسان.
ثم اتسعت رقعةُ الإسلام واحتاج الناس أيضاً إلى استمرار الاستنباط في فهمِ الأحكام من الآيات والأحاديث، حتى تُحمى من التطاول عليها والإدعاء، وأن يتقوَّل مَن ليس عنده الأهلية، فظهر وبرز الأئمةُ المعتنُون بهذا الجانب كأمثال الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام محمد بن إدريس الشافعي، على وجه الخصوص والذي أبرز وأظهر وانتشر على يده علمُ أصول الفقه، علم أصول الفقه الذي يبني الأسس في كيفية الاستنباط، في كيفية الاستخراج، حتى لا يتلاعب المتلاعب ويفعل كما فعل الخوارج قبل في إنزال الآيات التي نزلت في المشركين الذين يستكبرون إذا قيل لهم لا إله إلا الله، فيصرفونها إلى مَن عاش على لا إله إلا الله وحيِِيَ عليها وقام بها خير قيام، فكذلك في الأحكام هناك الضوابط كيف يستنبط الحكم ويستخرج من الآيات ومن الأحاديث، وكيف الجمع بينها في الموضوع الواحد، وكيف الترجيح عند التعارض، وكيف معرفة الناسخ من المنسوخ.. إلى غير ذلك من الأسس التي جاءت في أصول الفقه وخُدِمت، وكان للإمام الشافعي اليدُ الطولى في تبيينها وإبرازها للناس عليه رضوان الله.
ولذلك اشتهر بين الأصوليين أنه واضع علم أصول الفقه عليه رضوان الله ورحمته، فجاء الإمام أحمد الذي استفاد من هذا الفهم العميق عند الإمام الشافعي، ولقد قال له بعض الناس وقد رأى حرصَه على الجلوس مع محمد بن إدريس الشافعي: تُجالس هذا الغلام وتترك كباراً في السنِّ تروي عنهم الحديث بسندٍ عال!؟ قال: أما الحديث فإن أدركته بسندٍ عالٍ وإلا أدركته بسندٍ نازل، وأما عقل هذا الفتى مِن أين آتي به، وكذلك وعيُه للحقائق!؟ ليست المسألة رواية حديث فقط .. بل رواية حديث على بصيرة ،، كل من أخذ حديثا قال أنا محدِّث وأنا من أهل الحديث ..ليس الأمر كذلك!!
تعجب بعض العلماء من الذين زاروا هذه البلاد في القرن الماضي وهو الإمام أبو بكر بن شهاب عليه رحمة الله ولما ظهرت طائفة مِن قِبل نجد، وأخذوا يهتكون أستار العقائد للناس، ويدّعون أن الناس كفروا، وفي بعض كتبهم من ستمائة سنة الناس على الكفر والعياذ بالله وعلى الشرك إلى غير ذلك من الشؤون..
فأخذ يقول:
أرشد الله فرقة بني فلان ** لاعتقاد الصواب كي لا تعيثا
فرقة بالغرور والطيش ساروا ** في فجاج الضلال سيرا حثيثا
جسَّموا شبَّهوا وبالأين قالوا ** لوّثوا أصل دينهم تلويثا
من يعظم شعائر الله قالوا ** إنه كان مشركا وخبيثا
إلى أن قال:
وتسموا أهل الحديث وها هم ** لا يكادون يفقهون حديثا
قال الإمام أحمد الحديث يمكن أخذه بسند عالٍ أو نازل، لكن عقل هذا الفتى من أين آتي به!؟ الفهم الواعي لقراءة الآيات والأحاديث، العمق والإدراك وإلا للعب الناس بالأحاديث.
ما لنا نرى الناس في كل مكان يحترمون التخصص في مختلف العلوم، فلا يستطيع مَن لم يدرس الطب أن ينتقد على الأطباء المختصين، ولا أن يقول غلطوا في الوضع الفلاني ولا في العملية الفلانية، ولا يستطيع المهندس أن يفتح مكاناً ليصون فيه أمتعتنا وأجهزتنا حتى يأخذه من محلِّه وعن أهله ويُشهد له بذلك، وإلا تعرَّض الناس لفساد الأجهزة.
فساد الدين أعظم ،، كيف لا يُحترم تخصص الدين ؟ وكيف لا يُرجع إلى أهله ؟ وكيف لا تضبط فيه موازين الفهم والقياس وكيفية الاستنباط ؟ وإلا لتحول الناس إلى ألاعيب يلعبون بها بدين الله تبارك وتعالى، ودين الله أكبر من ذلك.
وبحمد الله تعالى شريعةُ الله ودين الله له حفظٌ وعناية ورعايةٌ من الله تبارك وتعالى يجب أن نفقه هذا.
ويجب أن نفقه أننا في مثل هذه البلد كنا على نعمة عظيمة فمن قرونِ دخول الإسلام إليها وانتشاره، إن كان الدخول في الأفراد قديما ربما وصل إلى عهد الصحابة وأواخر الصحابة ومن بعدهم، ولكن كأفراد، أما ظهوره وانتشاره فما كان إلا على أيدي أصفياء صلحاء من أهل السند في العلم، وانتشر أكثرُه في القرن السادس والقرن السابع الهجري، حتى الإسلام عمَّ المناطق وهذا الأرخبيل، وعمَّ ملوكاً ومملوكين، وحكوماتٍ وشعوبا، ومن ذلك الوقت والناس على مسلك قويمٍ في معرفةٍ بالدين على مسلك أهل السنة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى والسند في العلم والفقه والدين.
انتشر مذهب الإمام الشافعي عليه رضوان الله، والأصول في الدين على مسلك الصحابة والتابعين الذي خدمه أبو الحسن الأشعري عند ظهور الفتن والبدع في الدين والإختلال، وفلسفات غير المسلمين، فوصلت إلى الإيمان، انتضى لها من انتضى من أهل العلم فبرز أبو الحسن الأشعري، نسل سيدنا أبي موسى الأشعري من ذريته، حفيد أبي موسى الأشعري، الصحابي الجليل الذي لما قدم على النبي في المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية ) هكذا روى الإمام البخاري هذا الحديث.
فكان من ذريته هذا الإمام الذي قام ليرتفع عن تحكيم العقل في دين الله، وليكون عبداً خالصاً لله، حتى لما مرَّ بمرحلة وقد كان شيخه أبو علي الجبائي معتزليا، ومرَّ بمرحلةٍ لم يدرِ أين يذهب، فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فقال: عليك بسنتي، إرجع، فتدبر الأمر وأعلن وقام، فكان خير مدافعٍ عن الموروث من منهج الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في الإيمانيات وفي المعتقدات، قام عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
كما أنه في نفس الوقت في بلاد ما وراء النهر كما تسمى من خراسان وحواليها قام أبو منصور الماتريدي للذبِّ والدفاع عن مسلك الصحابة والتابعين وتابعيهم في شؤون الإيمان والاعتقاد فتجدّد بذلك وحفظ أصول الاعتقاد في هذه الأمة المحمدية.
وقام لذلك على منهجٍ واحد لا خلاف بين الأشاعرة والماتريدية إلا في شؤون لفظية ترجع إلى اللفظ لا علاقة لها بالمضمون والأصل.
إذا علمنا ذلك علمنا أن اللهَ تعالى حفظ على الأمة من القرن الأول شانَ المسالك في التزكية، ثم شان المسلك في كيفية الاستنباط في الأحكام، ثم شان المسلك في المحافظة على الإيمانيات والإعتقاد في شريعة الله تبارك وتعالى،
إذا علمنا ذلك يجب أن نعلم أن أهل السنة هؤلاء مع ما تعرضوا له مِن تطاوُل المتطاولين وظهور فرقة بعد فرقة تسلبهم، تسبُّهم، تكذب عليهم، ينسبونهم إلى العظائم والكبائر وقد يُكفِّرون ،، فهم الذين ثبتوا على مسلك البيان، حسن الإيضاح من دون أن يكفِّر أحداً، وراعوا حق الأمانة في المحافظة على أمر الدين وأهل الدين، ولم يرضوا أن يكونوا عناصرَ شقاق، ولا عناصر نزاع بين أهل الإسلام، من دون تقصير في البيان ومن دون قبولٍ لما خالف ما اتضح عندهم من الحق.
أما في المقطوع به بلا ريب ولا شك، وأما في ما مجالُه الإجتهاد فقد قلنا إن في بعض ما يُعتقد أصول، وفيها فرعياتٌ من المسائل تتعلق بمثل شانِ وصول ثواب القراءة إلى الأموات، هذا ليس من أصل الاعتقاد في شيء، هذا من الفرعيات المتعلقة بجانب الأحكام القائمة على الخبر فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فأن يتحول هذا أو غيره من المسائل إلى أصلٍ من أصول الدين يُعظَّم وتُعقد من أجله مناظرات، ويكفَّر من أجله.. هذا اللعب بالدين، هذا قِلُّ الحياء مع الله، هذه تبعيةُ الأهواء، هذا الانقياد لفئاتٍ تضرُّ بالدين، وتُسيء إلى الدين، بتحريكاتٍ من هنا ومن هناك، جاءت لتبلوَ الأمة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فنقول إن مع ما أوضحناه من أخطر ما بُليت به الأمة في تاريخها الأول من عهد الصحابة ذلك التجرؤ على التكفير، والعجب أن الذي كفِّرَ به مَن !؟ كفِّر به مَن أثنى القرآن عليه.. من !؟ السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كُفِّروا بالمفاهيم الباطلة، فبئس ما فعل المُكفُّرون لهم، حتى وصل الأمر إلى حالٍ غريب!!
من هذا الحال الغريب يمرُّ بعض الصحابة فيلقى طائفةً من هؤلاء الذين ابتليت أفكارهم بهذا الأمر والتكفير، فقالوا له: ممن أنت؟ يعلم أنهم يريدون قتله، فكان في نظرهم أنه من المشركين، وقد أخذ التوحيد عن النبي محمد، فهو أعلم بالتوحيد منهم..
والقوم في عصبيتهم قال لهم: أنا من الجماعة المشركين إلا أني قرأت آية في القرآن تقول ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ )، قالوا له: صح، قال: أنا منهم، فهل تُجيروني؟ قالوا: نعم، تعال نُسمِعك القرآن، تعال، نقرأ عليك القرآن، فجلسوا يقرؤون عليه القرآن ويُسمعونه، وهو أعرف بالقرآن منهم، وقد سمعه مِن فم النبي، لكن القوم في عقلياتهم هكذا وفي طريقة تفكيرهم. قالوا: إذن سمعت آيات الله، ثم أبلغه مأمنَه أي وصِّلوه إلى بلاده، فوصّلوه وتخلص منهم، وهو أعرف بالقرآن منهم، ولكن بهذا الأسلوب قابلَ هذه العقليات التي لا تقبل، الحقيقة، لا تقبل الدليل، لا تقبل إيضاح الاستناد والبرهان. وهكذا إذا دخلت العصبية على قوم.
لهذا ذُمَّ الجدلُ في أصله، وحدِّد وسط القرآن أن يكون الجدال بالتي هي أحسن فقط، فقال تعالى: ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
وجاءنا في الحديث ( ما ضلَّ قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل )، وحولوا دينهم إلى مجادلات، قال سبحانه وتعالى في ذكر المُحكم من القرآن والمتشابه ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) أي واضحات بيِّنات وهن أكثر القرآن وأم القرآن ويرجع إليهن القرآن، ويستطيع المؤمن أن يسلك بهنَّ إلى الله..
( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) فذكر لنا حال الأمة ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) شغلُهم المتشابه، ولا يريد إلا الكلام المتشابه، وقبل كل شيء الكلام المتشابه.. نقول له: تعال إلى المحكم الواضح البيِّن، يقول: لا، بل يريد هذا أولا، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) لماذا ؟
قال ( ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
فبذلك نعلم أنه ما كان من فرعيات الإعتقادات فلا يجوز التكفير عليه، من جملة ذلك ما كثُرَ الكلام عنه أخيراً لا في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا تابعي التابعين عليهم رضوان الله، ولكن في القرن الماضي وقبل الماضي، التوسل أهو شرك ؟ أهو كفر ؟
أولا قل لي: هل هو مكروه أو مباح ؟ جائز أو حرام ؟ يقول لك ما هو مكروه، ولا مباح، جائز، حرام، بل هو شركٌ.. يقفز إلى فوق إلى الشرك بالله..
الله يرحم الشيخ الشعراوي لما مر بآية التوسل، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة )، قال: أصلاً ما يبتغي الوسيلة إليه إلا مؤمن به ، أما المشرك به فيطلب المسألة مباشرة من عند الشريك، لا يرجع إليه سبحانه وتعالى، أما الذي يطلب الوسيلة إليه هو مؤمن به سبحانه، وأنه هو الفعال، فلِم نطلق أمثالَ هذه الألفاظ ؟
قضايا ليست من أصول الاعتقاد وليست من أساسيات الدين تحوّلت إلى الدين كله، والكلام فيها، والجدال عليها.. لماذا ؟ ولمن يسيء ذلك ؟ ومن أي جهة ؟ ولأي غرض ولأي سبب ؟
على طمأنينةٍ في قلوب أهل لا إله إلا الله بلا إله إلا الله ومعانيها، فأما أن نأتي باجتهاد واحد يريد أن ينقضَ به طمأنينةَ الأمة على مدى القرون، فيأتي بالكلام ويقول هذا يتناقض مع لا إله إلا الله، وهذا يتناقض مع لا إله إلا الله، إلى حدود سنن وردت عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. فهذه الإشكالية.
كان بعض علماء مصر وقد ظهر أثر من هذه الفتنة عندهم يقول: الدعاء إلى الله إذا قُرِنَ بالتوسل إليه بأحدٍ من عباده خلافٌ فرعيٌّ في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة، خلاف فرعي وليس من مسائل العقيدة أصلاً، ما هو من مسائل العقيدة.
والخلاف الفرعي مع تجوُّز الشيخ في ذلك وقوله لذلك، نجد أنه ما عُرف إلا في هذه القرون المتأخرة، ما عرفنا في القرون الأولى خلافاً عن التوسل..
عرفنا أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لما جاءه الأعمى يريد منه الدعاء، فعلمه النبي أن يدعو هو ويتوسل به، وفتحت عيناه لما صلى ركعتين وقرأ الدعاء الذي علمه رسول الله ( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعه فيّ ) فدخل على النبي وهو يبصر. جاء في رواية بسند صحيح ( فإن كان لك حاجةٌ فافعل مثل ذلك ).
ثم يروي لنا البخاري امتداد التوسل من ذات النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى التوسل إلى الله بذوات مقرَّبة عند الله، فيما جاء عن عمر بن الخطاب في عام الرمادة المشهور، وفي نص البخاري ( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا )
الخليفة الراشد عمر يقول هذا الكلام على الملأ، لا أحد في الصحابة يقول يجوز التوسل بغير النبي أو ما يجوز ؟ يصح أو ما يصح، فضلاً عن أن يقول شرك أو إيمان، شرك أو توحيد ، لا يخطر على البال في هذه القرون
فمن متى جاءت هذه المشكلة؟ هذه المشكلة التي جاءت متأخرة، وصارت أصلا من أصول الدين عند بعض الناس..
اتقِّ ربك..
قال الإمام أبو بكر الباقلاني صاحب الباع الطويل في علوم التوحيد ( إن إدخالك ألف كافر إلى الإسلام بشبهة إسلام واحدة أسلم لك عند الله من أن تكفِّر مسلما واحدا بألف شبهة كفر ) فما دامت المسألة شبهة فلا تكفِّر.
وفي هذا المسلك نرى الصحابة مع مَن كفَّروهم، ناس كفَّروا سيدنا علي والصحابة الكرام وقاتلوهم، قالوا لسيدنا علي: أكفّارٌ هم؟ قال: لا، بل من الكفر فروا، في نظرهم، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قالوا: فما نسميهم؟ لا رضيت نسميهم كفار ولا نسميهم منافقين ولا مقاتلين ،،ماذا نسميهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
انظر إلى الأدب .. هم يكفِّرونهم، لكن الصحابة ما كفروهم، قالوا إخواننا بغَوا علينا، هم إخواننا لكن بغوا في طغيانهم وكفرهم وبغوا على الصحابة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
هذا المسلك استفادوه من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ومن هدي النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن من نطق بلا إله إلا الله فهو معصوم الدم، معصوم المال، قال صلى الله عليه وسلم: ( أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يـشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى)
رأوا سيدنا أسامة بن زيد يقاتل مشركاً كافراً محارباً، ولم يزل يقاتله حتى تمكّن منه وهوى عليه بالسيف، فقال له: لا إله إلا الله، قال الآن!؟ فقتله، وبلغت القصةُ النبيَّ، والقصة مشهورة ومعروفة، قال: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله!؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوِّذاً، يعني القرائن تدل على أنه فزع من السيف ومن القتل فبيخرِّج نفسه في تلك الساعة، قال له: هلاّ شققتَ عن قلبه؟ ويحك فما تصنع بلا إله إلا الله ،، أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، ويحك فما تصنع بها، قال: فما زال يكررها علَي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ليأتي الإسلام ويمحو عني هذه الخطيئة.
فما رضي من حِبِّه وابن حِبِّه زيد، كان يحبه كثيرا، وولده أسامة بن زيد يحبه النبي كثيرا ويسمى حِبُّ النبي وابن حبِّه، ما رضي النبي أن يتحكم بعقله في عقائد الناس، قال إذا قالها اتركه،، هل تدخل قلبه!؟
حتى الأنبياء ما لهم حق يتحكمون على القلوب إلا بوحي، فكيف بغيرهم!؟
أمام رسول الله كذا كذا منافق، ويعلَمهم، ولكن قالوا لا إله إلا الله، فما قتل أحدا منهم، ولا عاملهم أنهم كفار، وبعد غزوة أحد جاء سيدنا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقول: فلان وفلان وفلان من اليهود يتكلمون، ويقولون لو كان هذا نبيا صادقا ما وقعت لكم هذه الشدة في الغزوة ولا انتصر المشركون، فأخذوا يتكلمون على النبي، وجماعة من المنافقين قاموا معهم وتكلموا بهذا الكلام قال فلان وفلان، قال: إئذن لي بهم؟ قال: بيننا وبينهم عهد. قال يقولون ويقولون !! قال: بيني وبينهم عهد، أنا لا أنقض العهد، حتى ينقضوا هم العهد، هم سبوا خُفية فاتركهُم، قال وفلان وفلان من المنافقين الذين تكلموا!؟ قال: أليسوا يقولون لا إله إلا الله، قال: نعم يا رسول الله يقولونها ولكن !!! قال: إني نهيت عن قتل من يقول لا إله إلا الله، ولن أؤمر أن أُفتِّش قلوبهم .. هذا مسلك النبي.
يجي واحد عند واحد عاش على لا إله إلا الله ويقول له أنت ما دمت عملت كذا فأنت مشرك أنت كافر!! يا أخي اتق الله، وخف من الذي يحاسبك على هذا القول، لو اعتقدته بقلبك ولم تقله بلسانك لخيف عليك أن يعاقبك الله، فكيف وأنت تصرِّح وتقول بلسانك.
إذاً نحن والأمة في غِنى عن اتهام بعضنا البعض بالسوء، وعن التكفير وعن التطاول على ذلك.. وهكذا، نحن في حاجة إلى ما يقربنا صدقاً إلى الله، إلى ما يرضي الله عنّا حقّاً
ولن يكون ذلك إلا بتبعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والإهتداء بهديه.
ونعلم بعد هذا الأمر، أنه لو ابتُلينا بواحد أخذ هذه الأفكار من هنا ومن هناك، وجاء يكفِّر، وجب علينا أن نبذل الجهد معه لنحتويه ولنخفِّف غلواءه، ولنبيِّن له الحق، فإن كان ذا إنصافٍ وعقل فالهداية منه قريبة، وإن كان ذا تعصُّب أو صاحب مصلحة وتبعيّة لقوى خارجية من هنا أو من هناك فحسابهُ على الله، لكن بجهدنا نبذل البيان ونخلط كلامنا معه بمعنى الرحمة والشفقة وبمعنى الوعظ والتخويف من الرجوع إلى الله فهذا الذي يمكن أن يخفف الغلواء ويُتجنَّب بها الشر، وبعد ذلك نُحسن البيانَ لمَن حوالينا دون أن نحوِّل الأمر إلى جدال ولا إلى إغلاظ في القول ولا إلى سب ولا إلى شتم، فإنَّ لعنَ المسلم كقتله، يعني في الإثم.
جاء في روايات عند الطبراني وغيره بأسانيد صحيحة ( لعنُ المسلم كقتله ) فكيف بتكفيره!؟ لعنه كقتله بل في صحيح البخاري ( سباب المسلم فسوق ) سبَّك للمسلم فسق، ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
كما حذّر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في صحيح البخاري أيضاً وغيره ( إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما ) إن كان كافراً وإلا رجع الكفر عليه والعياذ بالله تبارك وتعالى.
الأمة ليست في حاجة إلى هذه المسالك، ولا تخدُم الدين، ولا تخدم الأمة، ولا تخدُم الإسلام، بل تضر ثم تضر ثم تضر، وبدايةً بدأت مثل هذه الشؤون فتطورت في الأمة فتحولت إلى ما تسمعونه اليوم قائم في الشام في ليبيا في العراق، هذا الأمر القائم كان نتيجة بدايةً استهانة بتكفير الآخرين، وتطور إلى استحلال الأموال والدماء والأعراض إلى غير ذلك من الأشياء التي تسمعون عنها والعياذ بالله تبارك وتعالى.
لنا بعد هذا كله أمر، شان البيان واجب ونحرص أن يكون هذا البيان بلسان الرحمة والشفقة، وأن يكون مع الحرص ومطلوبٌ بشيءٍ من الوعظ، وكل ما كان بين الشخص المتأثِّر والمؤثِّر وبين من ينصحه أولى، أولى من إعلان ذلك والنشر عن ذلك.
أما استعمال النت والإذاعات في النَّيل من هذا والسب من هذا والترقب لهذا وتتبُّع لعورات هذا فمسلكٌ الله يكرهُهُ ،، ( ومن تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته )
لا تكن متتبعاً لعورات الناس، أحسن الظن بعباد الله تبارك وتعالى.
لنا بعد ذلك كله معايشة سواءً مع من يخالفنا في الإعتقاد وهو مسلم يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ومع من لا يصدِّق بلا إله إلا الله أصلاً ، ما يصدق بلا إلا إله الله، ما يقولها، ما يؤمن بها، فإذا هناك علينا واجب وحقوق مع الذي لا يقولها فلا يجوز لنا أن نعتديَ عليه، ولا نظلمه ولا نفتح السِّباب معه هذا، وهو ما يعتقد أن لا إله إلا الله كيف مع المسلم ؟ بأي حق، بأي منطق، لهذا الجار ولهذا المُعايش حقوقٌ وهو غير مسلم، إلى حدود يقول النبي في صحيح البخاري في المعاهَد والذمّي ( من قتل معاهداً - يعني كافر لكن بيننا وبينه عهد - من قتل معاهداً أو ذميّاً لم يُرَح رائحة الجنة ) هكذا روى البخاري في الصحيح.
كيف لما يطغى العقل بالإنسان.. يقولون له: تريد الجنة؟ هذا حزام ناسف واذهب إلى عند هؤلاء، كفار ذميين ومعاهدين، أو اذهب إلى جماعة من المسلمين المخالفين لنا في الرأي إنسف نفسك بينهم واقتل نفسك وتدخل الجنة!! النبي يقول ( لم يرح رائحة الجنة ) وهؤلاء يصلِّحون فتوى، يقولون يدخل الجنة، إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف تدخل الجنة من باب قال النبي إن صاحبه ما يروح رائحة الجنة!؟
ولكن هذا وقع فينا وحصل في واقع الأمة.. مَن وراء هذا؟ ما سبب هذا؟
في صحيح الإمام مسلم: ( إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبُدَهُ المصلون في جزيرة العرب، فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم ) وقد ذكر بعض وقائع الفتنة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وذكر جزيرة العرب لأن في فترة من الفترات تبدأ الفتن هناك وتقوم هناك من ناحية، من ناحية أخرى أعداء الدين يعلمون أن مهد الدين من هناك فيهتمون بإثارة الشر والفتن في البلاد هذه أكثر من غيرها، ولهذا يظهر فيها مثل ما يظهر من هذه الأشياء، ولكن كلها لها فترات، تختلط الأمور في بعض المواقف إلى حد أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أرشد أن اعتزل تلك الفرق كلها، أي لا تكون طرفا في الصراع ولا في النزاع، لأنه ليس الأمر قائم على وضوح في الرؤية ولا على أمانة من الدين وتدخل فيه الأهواء والسياسات والرعايات من الخارج للتحريش ( إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبُدَهُ المصلون في جزيرة العرب فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم )
إذا علمنا هذا فعندنا مع هذا التراث العظيم من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان مسلكٌ قويم يجب أن نرجع إليه ونعظِّم أمره، لنا مع هذا شانٌ في التعامل مع مَن يخالفنا، يخالفنا الرأي في الفكر في التفسير في الحديث في ما يتعلّق بالمعاملة بين الناس، في شيءٍ من الأخبار والآثار، لا مجال لتكفيره ولا لتفسيقه ولا أن نستحلَّ عرضَه ولا دمَه مع مَن يخالفنا، ومع مَن لا يؤمن أصلاً لنا آداب ولنا واجبات جاءت من الله ورسوله وجب علينا أن نؤديَ حقها.
عندنا في الكتاب العزيز بيانُ أصناف الكفار، ومنهم الذين لا يؤذون ولا يقاتلون ويلقون السَّلم، قال فيهم سبحانه وتعالى ( فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ما في إذن منّي، فلا تؤذوهم، ولا تضرّوهم، ولا تتكلموا عليهم، ولا تظلموهم، ولا تضربوهم.. فضلاً من أن تقتلوهم، ( فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً )، ما في نظام في العالم يرعى السلام وحسن التعايش بين الناس مثل القرآن، مثل سنّة النبي محمد عليه الصلاة والسلام (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً )
( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً )
هؤلاء مقاتلون معتدون تجرَّدوا لحرب الدين والشريعة حاربوهم، لكن لا تعمِّم هذا الأمر والحكم على ذا وذاك..
ولذا نقرأ أيضاً ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ )
لا توالِ هذا الذي يحارب الإسلام ويحارب الدين ويقتِّل المسلمين، هذا الذي نهاك الله عن أن تتولّاه، ثم أنظر الفرق الكبير بين الولاء والمحبة والمودة، وبين البِر والقسط..
الولاء والمحبة والمودة خاصة للمؤمنين، (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )
لكن البِر والقسط ( أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) بِر وقسط ومعروف داخل في البر وإنصاف وعدل للكل.
ولهذا يقول (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) ليس بين المسلمين (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله )
ولهذا القضايا التي ترافعَ فيها للنبي مسلم وغير مسلم، وقف فيها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مع العدل، مع الإنصاف، مع البر، وما جعل القضية على الثاني لكونه غير مسلم، بل حكم بالعدل صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
إذا علمنا ذلك فنحن في غنى عن الجدل الذي لا يفيد، ومحتاجون إلى أن نتجالس، إلى أن نتحاور، لكن برحمة، بشفقة، بنية صالحة، بإرادة للخير، بأدب الحوار.. هل تعرف أدب الحوار؟ هل تعرف أدب المناظرة؟ اسمعه من الشافعي.
قال الشافعي: " ما ناظرتُ أحداً إلا وددتُ أن يكون عليه من الله رعاية وحفظ، ولا ناظرتُ أحداً إلا أحببتُ أن يظهر الله الحقَّ على لسانه"
هل تعرف تناظر هكذا؟ تفضل، وإذا ما تعرف هذا فاذهب وأصلِح قلبك، ينظر ربُّك إلى قلب صافي، أترك المناظرة، أترك الجدال، أصلح قلبك، إذا تحب أن يظهر الله الحق على لسان الثاني وتحب أن يكون عليه من الله رعاية وحفظ، فأهلاً ومرحباً، أنت صاحب أدب، أنت صاحب صدق مع الله في المناظرة، وإذا ما وصلت إلى هذا الحد فأصلِح نفسك، زكِّ نفسك، طهِّر قلبك، حتى تصلح لهذه المناظرة، وحتى تصلح لهذه المناقشة، فصلاحُ قلبِك بينك وبين الله أحسنُ لك من كذا كذا مقابلة مع ذا ومع ذاك، ولن يعاقبك الله يوم القيامة على فلان ولا على فلتان، ولكن عليك وعلى قلبك، سيخاطبك وسيحاسبك سبحانه وتعالى. فالله يتولانا وإياكم.
ومسؤوليتكم في مثل ذي البلدة أنتم الدولة كلها محصورة في مساحتها وفي سكانها ومعكم من غير المسلمين الكثير، فأنتم أولى بأن تُحسِنوا صورة الإسلام أمام البقية، وأن تتعاونوا على ما يظهر معاني الألفة والمحبة والرحمة والأخوة، وذلك يقرِّبكم إلى الله، يقرِّبكم إلى الله، وتؤدون به الواجب أمام هذه المخاطر، في وقت اليوم إعلام الكفار يشتغل تماماً على أعمال داعش، وما تقوم به هنا وهناك، وينشرونه بين أوساط شعوبهم هذا الإسلام، وأنت تقوم وتتنازع أنت وصاحبك، في فهمٍ عندك اختلف عن فهمِه، وتزيد الطين بلَّة ؟ وتريد أن نصل إلى ما وصل إليه أولئك!!
اليوم كلام كثير عن الإسلام أنه الشدة وأنه العنف وأنه القسوة وأنه الكراهية، ويدللون عليه بالصور!! في وقائع كثير وقعت في مواقع سياسية قبل هذه الحركة اليوم حتى في نفس الجزيرة العربية وغيرها، فكانت هناك جهات تمنع الإعلاميين أن يبثوا هذه الصورة، ممنوع أن يبث هذه الصورة ،، ويقولون: هذه حقوق إنسان، وكذا، ولما جاءت اليوم هذه الحركة هم أخذوها ونشروها كلها.. لماذا!؟
لأنها أول كان عليهم، واليوم على الإسلام، قال هذا الإسلام يعمل كذا، هم يعملوا أشد من هذا، ولكن ممنوع نشره ،، ممنوع تصور !!
إذا هذا الذي يعمل هذه الفعلات هو منطلق بعقليته وبنظرِه عن دين، من صوَّرُه؟ كيف يتصوَّر؟ كيف يرضى بالصورة؟ وبعدين ينتشر في الموقع حقُّه، عجيب!! عليه أن يحرص على ستر نفسه شوية!! إلا ويكشف ويفضح أكثر، وبعدها الكلام ليس عليه!! الناس يقولون: هذا الإسلام، الدين!! حتى ما قد ذكروا دولة واحدة من دول المسلمين في إعلامهم في الغرب وقالوا دولة الإسلام، الدولة الإسلامية إلا حركة هؤلاء المتشددين ( الدولة الإسلامية ) هم الآن في الإعلام يقولون هكذا، الدولة الإسلامية في الشام والعراق، دولة إسلام !! جاءت بماذا، عملت ماذا، قامت على أي أساس!؟
ولهذا يجب أن نكون على وعي، وعلى إدراك ومسؤولية كبيرة بيننا وبين الله، والمحاسِب للكل هو الله تعالى، لكن أنت محسوب عليك خطواتك وكلماتك ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد من الثريا ) فحاسب نفسك وانتبه.
وقد كان أخيار الأمة يقولون مما حصل في وقت الصحابة: " أولئك قومّ طهَّر الله أيدينا من دمائهم فلا نلطِّخ ألسنتَنا بأعراضهم "
وكان الناس يتكلمون على الحجاج، وكان ظالما، لكن لما يزيدوا الكلام عليه قالوا: إن الله تعالى سينتصف للحجاج ممن يتكلم عليه كما ينتصف للمظلومين من الحجاج، سينتقم للمظلومين من الحجاج، وسيأخذ للحجاج ممن تكلّم عليه.
وحضر واحد عند سيدنا عبدالله بن عمر قال الحجاج فعل وفعل، فقال: إذا كان هو حاضرا هل تقول هذا الكلام؟ قال: لا، قال: كنا نعدُّ هذا نفاقاً على عهد رسول الله.
ما هذا الإسلام؟ قال: إذا عندك نصيحة لواحد فاذهب إليه وكلِّمه، أما أن تأتي لشخص آخر وتتكلم عليه عنده، فهذا نفاق.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، وأنتم عليكم واجب كبير في المحافظة عليها، وفي المحافظة على هذا الوجه الجميل لدين الله تعالى الذي يُراد تشويهه من هنا ومن هناك.
الله يحفظ بلدتكم ويحفظ هذه المنطقة ويحفظ بلاد المسلمين، ويحفظ المسلمين في المشارق والمغارب، ويحوِّل الحال إلى أحسنه، والفتن لها وقت وستنجلي وستظهر راية الحق في الشرق والغرب على رغم الأنوف، وإن خطَّط الكفار وإن عملوا ما عملوا فإن الله وعد وعداً وهو لا يخلف الميعاد، ويأتي على الناس زمان لا يبقى في بيتُ مدر ولا حجر ولا بر إلا ودخله ديني هذا، بذُلِّ ذليلٍ أو عزِّ عزيز.
اللهم أعزَّنا بدينك، واجعلنا من الصالحين، وأصلِح قلوبنا، ونوِّرها وطهِّرنا عن الأكدار والأقذار، يا أرحم الراحمين
والحمد لله رب العالمين.
26 مُحرَّم 1436