حقيقة المستقبل الأخطر ودعوة الأنبياء للإعداد له
محاضرة في الجلسة السنوية في ذكرى الإمام المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، في دار الصفا، بحارة الرحبة، مدينة تريم، ليلة الأحد 18 محرم 1447هـ بعنوان:
حقيقة المستقبل الأخطر ودعوة الأنبياء للإعداد له
- 1:54 تنقية القلوب
- 3:40 خطورة الغفلة والإعراض
- 4:50 المستقبل الحقيقي والمستقبل الوهمي
- 6:20 الاستعمال الصحيح للدنيا ومعاني العز الأعلى
- 13:19 أهل القرآن وخاصته
- 16:25 حقائق تخفى على الكثير
- 18:30 منافع الإمام محمد صاحب مرباط للناس
- 20:15 الهمة العالية وغايات السفر
- 22:44 النَّدى والنِّداء
- 24:21 التحذير من الحروب الخفية
- 25:46 الاكتفاء الذاتي
- 28:00 الدعاء
نص المحاضرة:
الحمد لله الحيّ القيّوم الوَصول، البرّ اللطيف ذي الجود والطَّول، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيدهِ القوّة والحَول، فلا حول ولا قوة إلا به تبارك وتعالى في كُلِّ دفعٍ وفي كل نَيل. ونشهد أن سيدنا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ذي الجاه الوسيع الطويل، والمجد الشريف الأثيل، أكرم الخلق على الخالق، وأحبّهم إليه سبحانه وتعالى في جميع الخلائق مِن جميع الخلائق.
فَصَلِّ اللهم وسلم وبارك على مفتاح أبواب رحماتك، وواسطة كريم تجَلِّياتك، عبدك الصَّفِيّ المصطفى خير خلقك سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، وعلى من والاهم فيك واقتدى بهم واتّبع الآثار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين أعلَيتَ لهم الشأن والمنزلة والمُقدار، وجعلتهُم معادن الهداية والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين الأخيار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا غفار، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
تنقية القلوب
وفي ساحات التَّلَقِّي لفائضِ جود الله تبارك وتعالى، واستمطار رحماته التي بها الإسعاد على مدى الآباد، في سَنَن الذكرى لأرباب المنزلة والبُشرى، والمكانة لدى الحق سبحانه وتعالى جهراً وسِرّاً، في اتصالنا بموروثٍ نبوي محمدي يتعلّقُ بتنقية الفكر والضمير والقلب عن كل غواية وعن كل ظُلمة وعن كل ضلالة، بل وعن كل غفلة وعن كل ران وعن كل كدر.
فالشأن يدور مع ما ينظر إليه العَلي الأكبر مِنا، وما ينظر منا إلا إلى قلوبنا وما حلَّ فيها، وشأنها سواء كان في عبادة مفروضة أو مسنونة، أو أي عمل ولو مباحاً قُصِد به وجه الله تبارك وتعالى، من حيث الاستعانة به وتسخيره للمقاصد العُلا والمرادات الساميات بالنِّيات الخالِصات الصحيحات، كلها جوامع على الحق تعالى ينزل بها غيثهُ الهامع، ويشرق في الصدور نوره اللامع.
خطورة الغفلة والإعراض
وإنما ما يصيب الإنسان في خلال حياته؛ مِن غفلة أو إعراض أو تولٍّ أو ترك واجب أو قصد مُحرَّم في النية أو الصفة أو القول أو الفعل أو النظر أو الاستماع وما إلى ذلك، هي القواطع التي شؤمها إذا تكاثر يؤدّي إلى سوء الخواتيم وإلى العذاب الأليم وإلى الحجاب عن الرب جل جلاله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) بعدما قال ربنا جل جلاله وتعالى في علاه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) نعوذ بالله.
وهذا خطاب الإله الحق الخالق لنا؛ يربط الأشياء في مشاعرنا ومداركنا بالمآل والمصير الكبير والمستقبل العظيم الجليل.
المستقبل الحقيقي والمستقبل الوهمي
فهذا الهراء الذي يتحدث به الناس عن المستقبل على ألسنة الكَفَرة ومن شايعهم أو اغترَّ بكلامهم، الذي سمّوه مستقبل هو الأمر الهَّيِّن واليسير الماضي الذي يمر حتماً على الكل من دون اختيار بكل ما فيه، ما أسرع انقضاءه وفناءه!
ولكن الذين علّمنا الاستعداد للمستقبل والإعداد للمستقبل والتهيُّؤ للمستقبل الكبير الخطير العظيم هم الأنبياء، بأمر الله الأعلى جل جلاله. هُم الذين علَّموا الاستعداد للمستقبل والتهيئة للمستقبل والانتباه من المستقبل. المستقبل الذي هو في الحقيقة مستقبل: مُستقبل سعادته أبدية وشقاوته أبدية، مستقبل نعيمه مؤبد وعذابه مؤبد، مستقبل رضوان أبدي أو سخط أبدي.
ما أكبر من هذا، وهو مُقبل على الكل! من آمن ومن كفر، من صدَّق ومن كذَّب، كلهم يقبلون على هذا المستقبل، وهو الذي نبَّهنا الأنبياء للاستعداد له والتزود من هذا الحاضر العاجل الفاني الزائل.
الاستعمال الصحيح للدنيا
استعداداً يرفعنا عند تناولنا لشؤوننا، أو انطلاقنا في أسبابه أو القيام بمِهَنه وبحرفه وما إلى ذلك، يجعلنا على حال رفيع شريف، لسنا بمحبوسين ولا محصورين في هذا المتاع ولا في شؤونه، ولكننا نَعبُرُ عنها ونعبُرُ إلى استعماله مستخدماً لا مُستخدَماً، ولاستعماله مملوكاً لا مالكاً، ولاستعماله مُسَخَّراً لا مُسخِّراً، ولاستعماله مقهوراً لا قاهراً، ولاستعماله وسيلة لا مقصداً ولا غاية.
استعماله بهذه الصورة وبهذه المثابة هو الذي يجعل المستعمِل لها مستخدِماً لها، ويأخذ منه نعمة التسخير الذي جعله فيه مُكوِّنه إكراماً، إكراماً لهذا الإنسان المستخدم فهو يُكرَم.
فهؤلاء مَن كان منهم مع علمهم ومع تقواهم ومع الصفات الحميدة التي عندهم، مَن كان منهم صاحب زراعة أو صاحب مِهنة أو صاحب حِرفة أو صاحب تجارة، هُم في حرفهم تلك شاركوا في الصورة المغرورين بالدنيا المُستخدَمين لها وخالفوهم بالحقيقة، فلم يكونوا مُغترّين ولم يكونوا لها قاصدين، ولا فيها محبوسين ولا عندها مقصورين، ولا إليها ملتفتين، بل مستخدمين ومُسخِّرين ومستعملين لها استعمالاً يليقُ بتكريم الذي خلقها لهم (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ).
العز الحقيقي للمؤمنين
بذلك رأيتَ معاني هذا التسخير فيما كسبوا من العز الكبير: عز رضوان العلي الأعلى جل جلاله، عز المعرفة الخاصة به، وعِز محبته - المحبة منه والمحبة له، وعِز رضوانه الأكبر الذي لا شيء أكبر منه (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) كما قال جل جلاله وتعالى في علاه، وعز البشارة عند الموت، وعز حُسن المقابلة في البرزخ، وعِز عقد الاستقبالات البهيجة لوصول روح أحدهم، حتى منهم من يتصل بأن يهتز له عرش الرحمن، أن يهتز لموته عرش الرحمن!
وهكذا، يقول الجد عبد الله بن حفيظ عليه رحمة الله، خرج في جنازة الحبيب عبد الله بن عيدروس العيدروس، وكثير من الذين حضروها قالوا سمعوا الآلات السماع تُضرب فوق النعش في زف يزفونه، قال: أنا ممن سمعته، أنا كنت في الجنازة وسمعتهم، استقبال هذه الروح التي أقبلت إلى برزخها!
هذا العِز العجيب والشأن الفخيم الضخم ما يُمكن يدلنا عليه مُفكرين بشر بفكرهم البشري، ما يمكن يدلّونا عليه من أحضروا لنا تكنولوجيا أو صنعوا لنا أجهزة دوَّخت عقول البعض.
استخدام الأجهزة في الخير
هذه الأجهزة التي صُنِعَت على أيديهم كانت من إملاء الصانع الذي صنعهم وصنع عقولهم وصنع أفكارهم وصنع المادة لهم جل جلاله؛ لا تدلّ على شرف ولا فخر لهم مِن قريب ولا من بعيد، بل لسوء نياتهم أكثر استعمالها فيما ضَرَّ البشرية، وفيما كان فُرصة لأهل العصابات الساقطة، ولعبوا بها على الكل وآذوا بها الكل، وخَرِبت بها وفسدت مجتمعات كثيرة.
لذا كان الإمام عمر بن أحمد بن سميط عليه رحمة الله يقول: اغنموا ما تقدرون عليه من هذه الأجهزة ومن هذه الآلات المستعملة، ومنها حتى السيارات التي جاءت، قال: فإن صانعوها عامتهم لا هم أهل نيات صالحة ولا لهم مرادات حسنة، فصنعوها لدنياهم ولفسادهم ولِما لهم فيه.. فاغتنموها أنتم، حوِّلوها، صرِّفوها واغنموا ما غنمتم منها؛ لتصرفوها في خدمة الحق وخدمة الدين وخدمة الهدى وخدمة النور الذي بُعث به المصطفى، فهذه غنيمتكم منهم. إنما سخرهم الله لكم تسخيراً.
العز الحقيقي والذل لله
وهكذا عند إدراكنا لحقائق هذه الشؤون ومعاني العز الأعلى، الذي يتحدث عنه الحبيب أبو بكر في منظوماته كثير، يشير إلى ممرّ هذه الحياة وأن الأصناف الذين يمرون فيها عامّتهم مآلهم الضُّر والشر والفساد والعذاب والانقطاع والحجاب والبُعد، فما عندهم مستقبل ولا هم بمغبوطين على شيء مِما عندهم، بل هم الذين نُودينا أن ننظر إليهم بالمنظار الذي شرعه الله لنبيه المصطفى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ).
وكررّ له: (لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، (لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) وهو أبعد القلوب عن أن يلتفت إلى غير الله - صلى الله عليه وسلم - لكن يُخاطبه الله فيُخاطبنا فيه، ويخاطب أحبابه فيه ويخاطب أحبابه فيه ويخاطب المؤمنين به فيه ﷺ، ويوَجِّه الخطاب ليدرك من تعلّق وارتبط بذلك الجناب سِر التأديب من العلي الأعلى جل جلاله، وشرف هذا الخطاب وما يحمله لنا مِن أسباب الترقية والاعتلاء في المراتب الرفيعة.
أهل القرآن وخاصته
لذا وجب علينا أن نفتح أسماع قلوبنا لسماع هذا الخطاب الشريف من الإله الكريم اللطيف جل جلاله وتعالى في علاه، كان سيدنا جعفر الصادق يقول: إن الله تجلى لخلقه في كلامه ولكنهم لا يعلمون، وفي لفظ: فإنهم لا يسمعون، تجلى لهم في كلامه جل جلاله، حتى كرر مرة آية وحتى أُغمي عليه وحُمل، ولما سُئل قال: ما زلت أكررها حتى سمعتها مِن المتكلم بها، حتى سمعتها من المتكلم بها!
ترونه يذكر في المنظومة عن سيدنا صاحب مرباط حفظه للقرآن في صغره، وهذا وصفه وأبوه كذلك وأولاده كذلك، ما أحد من الأربعة الأولاد ما حفظ القرآن وهو صغير، عنده علي وعلوي وعبد الله وأحمد، كلهم حُفاظ القرآن من الصِّغر. ليس حفظ القرآن فقط، حُفَّاظ نور القرآن، حُفَّاظ سر القرآن، حُفَّاظ أدب القرآن، حُفَّاظ وصل القرآن.
وهكذا كان الشأن فيما قبله، حتى يقول الأمير شكيب أرسلان - في بيروت كان في لبنان - أنه لفت نظره: "ولد بتريم وحفظ القرآن العظيم" ، قال: لو عندي مزيد من الوقت لألَّفت رسالة: الحَجَر الكريم فيمن ولد بتريم وحفظ القرآن العظيم. قال: أكثر من ثلاثمائة ترجمة مررت عليها بهذه الصورة، والذي في باقي الوادي من أهل هذه الطريقة كم أعدادهم؟ كانوا مربوطين بالقرآن ربطاً قوياً!
يقول بعض الذين بات عند الحبيب عبد الله بن عيدروس يُكبِّس رجله، وبقي يُكبِّس إلى نصف الليل.. انتبه الحبيب قال: ما لك عادك هنا؟ قال: منتظرك تقول يكفي، قال: أنا نمت، قال: نمت؟ أنا أسمعك تتلو القرآن! طول نومه وهو يقرأ القرآن، قال: كيف؟ أنا أسمعك تقرأ ما نمت! هو نائم من حين ما نام إلى أن استيقظ وهو يقرأ القرآن! قال له: قم قم الآن خذ راحتك، وقبل الفجر أنا سأنبّهك اذهب، عليهم رضوان الله تعالى.
امتزاج القرآن بلحومهم ودمائهم! في المتأخرين عندنا شيخنا الشيخ علي بن سالم الخطيب عليه رحمة الله تعالى، كان مُولّعاً بحفظ القرآن وبالذكر للرحمن، يمشي وهو يقرأ، ويقعد وهو يقرأ، وكلما غفل من حواليه وهو يقرأ، فإذا نام قرأ! يذكر الحبيب مشهور عليه رحمة الله قال: الأغرب أنه لما ينتبه عند آية، لما ينام المرة الثانية يقرأ من حيث وقف، من حيث وقف! فهذه الختمات حق النوم وحدها، ختمات يختمها في النوم، يبدأ من حيث وقف المرة الأولى يقرأ المرة الثانية، وهذا الكبار هؤلاء كلكم الموجودين عرفوه، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
حقائق تخفى على الكثير
سر القرآن الذي اتّصل بهم وغاصوا عليه شيوخ الوادي الميمون ورجال هذه المدرسة، بذلك اعتلى لهم الفخر في الملأ الأعلى، وهذه حقائق تُذكَر، نصوص المُنزَّل من الوحي وأقاويل الأنبياء والمرسلين، ثم أقاويل خواصّ أتباعهم وورثتهم، كلها تشير إلى هذه المعاني، والحقائق قد تخفى على الكثير، ولكن لا يحِق لمؤمن صَدق في إيمانه واتّصل بِسَندٍ إلى المُنزَل عليه الرسالة ﷺ أن يكون مُغيَّب الذهن والإدراك والشعور عن هذه الحقائق، وعن أن ينال نصيبهُ من العشق العُلوي والتولَّع الرفيع في القلب مِن أثر محبة الله!
يهوى الاجتهاد، يهوى المجاهدة في سبيل الله، يهوى الطاعات والصالحات قُربة إلى الله تعالى، يهوى أن يذِل نفسه من أجل الله، كان يقول سيدنا جعفر الصادق نفسه: ما أُحِب أن لي بنصيبي من الذُّل حُمر النَّعَم.. قال ما أحب أن يعطوني حُمر النعم وأفقد نصيبي من الذُّل.
قال الله في وصفهم: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) في تذللهم لله جل جلاله وتعالى في علاه، وانكسار قلوبهم من أجله، حاط بهم حصن الإعزاز الإلهي: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، و "من تواضع لله رفعه" ، و "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي"، يقول جل جلاله وتعالى في علاه.
منافع الإمام محمد صاحب مرباط للناس
لذلك سمعنا في هذه المنظومة ما قام به هذا الإمام محمد صاحب مرباط؛ مِن منافع للعباد والبلاد وللأمة، وتأمين الطريق ما بين مهرة وظفار وما بين حضرموت، إلى المهرة إلى ظفار، بجاهه أمَّنها من دون أن يضع نقاط في الطريق، ولكن تمشي القوافل باسم محمد صاحب مرباط ولا أحد يتعرّض لها، لا بدو ولا سرق ولا نهَّابين، فأمَّن الطريق وأمِن الناس، حتى تحركت التجارة للناس، كانوا ما بين مرباط وظفار في ذلك الوقت كانوا على مخاطر يمشون، وبعدما أبرز الله تعالى وجاهته وانتهت المسألة.
وجاهته هذه كان ما يُقابله ملك من الملوك إلا ارتعد الملك، إلا ارتعد السلطان! يرتعدون عند رؤيته، ما عنده سلاح ولا معه جنود ويمشي وحده.
كأنهُ وهو فردٌ مِن جلالته ** في عسكر ٍحين تلقاه وفيه حَشمِ
فكان يهابونه، ومع ذلك حسده من حسده، وسقوه السم أول مرة ولم يؤثر فيه شيء، وسُقِي سم قاطع قوي مرة ثانية ولم يؤثر فيه شيء، صرف الله عنه ضره وشره.
وهذا المائة البيت الذين أشار إليهم في المنظومة.. قالوا أن هؤلاء ليسوا من الإنس، هؤلاء من خصوص الجن! أما من الإنس بيوت كثيرة كانت تعيش على نفقاته، فهم من الجن دون الإنس مائة بيت يعيشون على نفقة محمد صاحب مرباط، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
الهمة العالية وغايات السفر
في هذا السمو المعنوي؛ في تذلّله، في تواضعه، في خشوعه، في إنابته للمولى جل جلاله وتعالى في علاه، واهتمامه بأمر هذه الأمانة وأمر هذا الدين، وما كان مثل ما يصدُر الآن من الناس محبة الخريف لعُمان هناك في صلالة وحوالي مرباط ولا لشيء من النزهة، ما كان يخرج للنزهة، ولكن كان حامل همّ الأمانة هذه، وتحمَّل! تحمُّل السفر وتحمُّل الانتقال.
والده استقر في تريم، وواصل صِلاته بالشيوخ والعلماء الموجودين في الوادي عموماً وفي تريم كذلك، وكان لهم الالتفاف، أخذ عن من قبله من كبارهم وأخذوا عنه، أخذوا عن علي خالع قسم بل وعن ولده صاحب المرباط كبار شيوخ الوادي الموجودين في وقته عليهم رضوان الله، في اتصالات والتحامات والتئامات وتعاونات على ما غاصوا عليه من سر الأمانة ومن سر تحقيق العبودية والقيام بحق الربوبية وخدمة الرسالة النبوية، في تعاونهم على ذلك.
وما الخروج رغبة ولا بمحبة للسفر، ولكنها مهمات، وإلا نحن نعهد إلى العهد القريب كان السفر يعد مشكلة من المشاكل، ومن حُكم عليه بالسفر... ولهذا حتى في أصل التشريع جاء أن تغريب العام على الزاني غير المحصن، تغريب عام عقوبة، يعد السفر عقوبة ليس رحمة ولا نزهة، عقوبة عليه يعاقبونه ويبعدونه من البلد، إلى جانب حِكم أخرى.
وكنا نعرف ذلك عند الناس يعدون السفر مشكلة، وكان بعض المشايخ الأخيار الصالحين يقول هو ما يخرج إلا للحج من وقت إلى وقت، يقول: ما يخرجنا من تريم إلا ذنب ومعصية، قال: إلا بسبب ذنوبي أنا أخرج من هذه البلد، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. فكانت الأسفار فيها مقاصد ونيات في خدمة هذه الشريعة وخدمة هذا الدين.
النَّدى والنِّداء
وكان ما كان والحمد لله الذي أوصَل إليكم هذا النَّدى والنِّداء، النَّدى ندى معارفهم ومكارمهم وسراية أسرارهم وأنوارهم، ونداؤهم الذين ينادون به من سر نداء الله ورسوله (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
وهو شأن إذا قمنا بِحَقّه جمعنا على التهذيب والتأديب والتطهير والتنقية للبواطن والضمائر والتصفية للسرائر، ونحوز بذلكم حقائق هذه الأسرار التي لا يُمكن أن توجد عند أهل الشرق ولا عند أهل الغرب، ويعلم الحق تعالى بعلمه المحيط بكل شيء أنهم محتاجون إلى هذه المواريث التي عندكم بجميع مصانعهم بجميع أسلحتهم، هم محتاجون!
(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) ولكنهم مُعرّضون لهلاك الأبد، ومعرّضون لسوء المصير في الدنيا قبل الآخرة، وحالهم حال من قبلهم ممن انتصب لمعاداة الأنبياء وما بُعِث به الأنبياء ثم أهلكهم الله، (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) والأمر أكبر من ذلك (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ).
التحذير من الحروب الخفية
فلا يجوز أن نُضيِّع ونُفوِّت كنوز الصِّلات العُلوية بالرب جل جلاله، وشرف الاتصال بالجناب، وذوق حلاوة الإيمان، مقابل الاغترار بشيء مما يطرحه علينا هؤلاء، والذين درجوا الآن.. ترون هذا الحرب الحسي الذي قام الظاهر والظُّلم الكبير، ولكن أيضاً أدوات حروبهم في منازلنا وعندنا أيضاً، وبواسطة مُنظمات وبواسطة مساعدات وبواسطة تطوير.. بهذا الاسم تأتي سموم،! سموم انتزاع القِيَم، سموم انحراف.
النساء الآن في حضرموت، النساء والأطفال استهدافهم خاص، وفي خصوص حضرموت مستهدفين من نواحي كثيرة، يرسلون واحد مُدرَّب مُحنَّك مُخرَّج من عندهم، تريده يعمل عمامة سيلبسها، تريده في الصف الأول، تريده يقوم آخر الليل سيقوم.. ومهمته إفساد! ومهمته إبعاد عن رب العباد، ومهمته تحريش بين الناس، والله يكفينا شرهم وضرهم إن شاء الله.
لكن إذا انتبهنا نحن وقُمنا بالأمر (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ)، وإلا هم واصلين اليوم بوسائل مختلفة إلى وسط قُرانا. فما الحرب الذي يعملونه في غزة وفي الضفة الغربية بأخطر ولا أشد من هذا الحرب الذي يعملونه أمام قِيَمنا وشرف أخلاقنا وصلتنا بربنا وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وما يلعبون به على الأفكار وعلى السلوكيات في واقعنا، كُله خبيث وكله حرب شديد وشنيع وآثاره خبيثة، والله يدفع شرهم عنا.
ألعاب مختلفة الآن ومُطورة للأطفال وسمّها فيها، ونحن نستطيع نقوِّم ألعاب ونقوّم ملاعب ونقوّم رياضة، لكن من دون ضر ومن دون شر، فما الذي يُسلّمنا لهم؟ وما الذي يجعلنا تحت رحمتهم؟ وما الذي يجعلنا أتباع لهم؟ وهم ما يصلُح الاتّباع لأحد منهم! تتّبع من؟ (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ).
الاكتفاء الذاتي
ونحن نستطيع نكفي أنفسنا في مثل هذا، سمعتم الحبيب أبو بكر يتكلم عن الاكتفاء الذاتي، والذي كان مُحقّق في حضرموت، ما كانوا محتاجين لأحد، كانوا يستوردون الإبرة والكحل فقط، وهذا ما يترتب عليها قوة حياة، بقية حياتهم كلها مكفولة من وسط بلادهم، وما يستطيع أحد يُهدّدهم ولا يفرِض عليهم شيء، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ولا تزال حضرموت كغيرها من بلاد المسلمين بخيرها ونورها فيها، إذا توجّه التوجه الصحيح أهلها للقيام بما هو أنفع وأرفع، ولابد أن يتولاهم الحق، يقول: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
قال هؤلاء يهدِّدونكم بشيء ويقولون سيعملون عليكم حصار وسيقاطعونكم في شيء؟ قال: فأنا سأفتح لكم! (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، من يقدر يردها بعد ذلك؟ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) ولا يقدر يمسكها دول ولا يمسكها جيوش، (فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) جل جلاله.
الدعاء
فالحمد الله على جمعنا وإياكم، وإن شاء الله ننتفع ونرتفع، وسراية السيرة تسري فينا، ونور السريرة تمتلئ به بسرائرنا، وننال حظنا من ذوق حلاوة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة الخاصة والمحبة الخالصة.
اللهم لا تحرِمنا هذه المِنن، وأمتِعنا بعلمائنا ومناصبنا وصلحائنا وأهل السر فينا، وأطِل أعمارهم فينا في عافية وسرور وأنس وحبور، وبارك في مجامعنا هذه وزدنا زيادات، وأسعدنا بها على السعادات يا مجيب الدعوات، واجعلها من المجامع التي تُذكر في الملأ بخير ما تُذكر مجامع محبوبيكَ من أهل الأرض، واجعل لنا به يا مولانا كسباً وخيراً في يوم العرض، وفي الحياة وعند الوفاة وفي البرازخ، وزِدنا من نوالك ما أنت أهله، وادفع عنا وعن الأمة الشر والسوء وأهل الشر والسوء ظاهراً وباطناً. والحمد لله رب العالمين.
20 مُحرَّم 1447