كلمة في افتتاح دورة في علم مصطلح الحديث
كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في افتتاح دورة في علم مصطلح الحديث، تنظيم مركز عوامة بتريم.
ظهر يوم الأربعاء 7 محرم 1447هـ
نص الكلمة :
الشيخ محمد عوامة زاده الله وأولاده وطلبته وأعوانه على هذا الخير تأييداً منه سبحانه وإسعاداً ونصراً عظيماً، ينصرون به الشرع المصون وتركة الأمين المأمون في أمته، وفي زمنهم الذي كتب الله أن يقضوه على ظهر هذه الأرض في حمل هذه الأمانة، جزاكم الله خير الجزاء.
والأمر كما ذكرتم، ونصائحكم القيمة على بال، نسأل الحق أن يُوفِّق المهتمين بأمر هذا الدين ليتعاونوا على القيام بحقها وأدائها على الوجه المَرضي، فهي تحمل معنى التجديد لهذا الدين، والذي لا يكون إلا بهذه الإفادة والاستفادة التي أشرتُم لها على هذا الوجه المتكامل والقوي والراسخ المتين.
فإنه لا يمكن أن يتغير شيء من ثوابت الدين ولا من أصوله، ولكن هذا التجديد المُشار إليه فيما يتعلّق بحال الأمة في كل زمان وكل مكان، ورابطتها بهذا الدين، ووعيها لحقائق هذا الدين، وتطبيقها لشؤون هذا الدين، هو الذي يُجدَّد بأن يُلامس شغاف القلب، ويلامس الواقع في المعاملة وفي الحركة وفي الانطلاق في هذه الحياة.
ويُشير إلى ما ذكرتم تماماً حديث: "يحمل هذا العلم مِن كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
واجب أهل العلم في التبيين
المُهمة التي ذكرتموها في واجب أهل العلم في أن يُحسِنوا التبيين وردّ المشكلات، وكل ما اشتُبِه وكل ما يُثار من مشكلات واشتباهات والتباسات يتصيّد فيها عدو الله وجنده الزعزعة للثقة والطمأنينة ولليقين، أو يوقِع فيها كثيراً من الناس في حَرَج مع حقيقة الحق الذي لا يشكّون فيه، ومع القدرة على حُسن بيانه وأدائه.
وفي الكتاب العزيز يقول الحق لحبيبه: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وهذا التبيين بمعانيه الواسعة التي هي في فَهمكم وعلمكم الواسع مُتعددة المعاني والأطراف والمجالات، كذلك هو مُهمة من يأتي بعدهم، وبعد هذا النبي المصطفى ﷺ.
ولأجل عظمة الاعتناء بشأن التبيين لَمّا أوكل الحق إلى رسوله التبيين للناس، أيّدهُ بأنه سيكون معه في هذا التبيين معيّةً يصير بها الحق بنفسه هو المبيّن، لكن على لسان هذا الرسول، يقول: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
وكان هذا التنزيل بواسطة جبريل الأمين عليه السلام على قلب الحبيب المصطفى ﷺ، مع أن شأن التبيين للتفصيل موكول لرسول الله ﷺ، وما احتاجته الأمة في زمانه، بل وفي دقائق ما وضع وبيَّن ما ستحتاجه الأمة في الأزمنة المختلفة. فما مِن حاجة تطرأ على مدى القرون إلا والأصل فيها مِن وضع محمد ﷺ وإشارته في بيانه ما يحتاجهُ أهل ذلك القرن وأهل ذلك الزمان وأهل تلك الظروف التي تنشأ فيها على مختلف القرون وتواليها.
أهمية معرفة التاريخ الإسلامي
وجميل ما أشرتم إليه من مسألة معرفة التاريخ لهذا الدين وتاريخ هؤلاء المسلمين، وخصوصاً أكابرهم مِن علماء ومن قضاة ومن مُصلحين على وجه الخصوص، والنوادر أيضاً مِن ولاة الأمر والخلفاء الصادقين المخلصين الذين لم تخلُ الأرض عنهم في شرق الأرض وغربها.
إدراكنا لحقيقة هذه العظمة في هؤلاء العلماء وهؤلاء العُبّاد وهؤلاء المراجع للأمة في أمكنتهم وفي أزمنتهم أمر مهم وواجب، يتصل بتعظيم الشريعة وتعظيم الدين، بل يتصل بحقيقة التكبير لله جل جلاله الذي يختار لدينه رسلاً وأنبياء، ويختار للأنبياء وللرسل خلفاء ونواباً عنهم يقومون في الأمر هذا.. (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ).
فراجعٌ إلى إدراكنا لحقيقة التوحيد وتكبير الحق جل جلاله، وأن نعرف كِبَر مراتب المُنتمين إليه عبر وحيه وتنزيله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم وما بلَّغوا للناس، فهم لا شك خِيار الحق تعالى من الخلق في كل زمان وفي كل مكان، لكن يجب أن يُفصَح عن هذا ببيان واضح وواقعي وحُجج بيّنة وبرهان مبين.
التجديد في علم الحديث
فجزاكم الله خيراً على ما أشرتم إليه من هذا التناصح، وقد خصّكم الله تبارك وتعالى في هذا المجال - مجال الحديث - بخدمة وتجديد له، وبحمد لله برزت لكم آثار كثيرة وكبيرة ونافعة للأمة، وعندنا المجلس وهذا نعقده اليوم لنواصل هذه الأعمال الكبيرة والجليلة والاستفادة من هذا التجديد وهذا البناء وهذا الرجوع إلى الأصل.
ونسأل الحق تبارك وتعالى أن يُضاعِف الخير لكم وعلى أيديكم، وينفع بكل من اتصل بكم وأخذ عنكم ليكونوا من المرجعيات في أقطارهم وبلدانهم وأزمنتهم بهذه الأمة.
العودة إلى الأصول
على أن ما أشرتم إليه من وجوب أن نعود إلى الأصل في فهم ما تفرَّع، وهو من مثل المذاهب التي ضربتم بها المثال في الفقه الإسلامي، وكذلك جميع علوم هذا الشرع، المرجع فيها هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما انبنى عليهما من الإجماع والقياس، وهذا هو ديدن أكابر العلماء أجمعين.
وبذا كان يقول الإمام أحمد بن حسن العطاس عليه رحمة الله تبارك وتعالى: إن من عظيم الحكمة للعلماء المتقدمين في شؤون الفقه في الإسلام أن يربطوه بالكتاب والسنة، ويقولون في المتون التي كانت تُدرّس: "لقوله تعالى"، "لآية كذا"، "لقوله ﷺ"، "لحديث كذا وكذا"، قال: فيستفيدون من ذلك مع معرفتهم الأصل والاستنباط تنوير قلوبهم بكلام الله وكلام رسوله.
حتى كان يلاحظ ويقول: إني أجد بعض الذين توسّعوا في العلم في زماننا، فأنظر بالباطن فأجد في باطنهم ظلمة لقلّة اتصالهم بالكتاب وبالسنة الغرّاء، فاشتغلوا بتحرير الفرعيات في المذاهب، وكما أشرتم من "قال فلان وقال فلان"، ونحن نؤكد أن فلاناً وفلاناً ليسوا كغيرهم وأن قولهم مُستنبط، ولكن إذا تُوِّج بكلام الله وكلام رسوله كان أنوَر وكان أطيب وكان أطهر لباطن هذا المُتلقي لهذه العلوم، وأوثق لوصله بالدرجات العُلا واللحوق بخيار الملأ.
دعم طلبة العلم
فهذا جانب عظيم، وجانب ما أشرتم إليه والذي يجب أن تُوجّه إليه عقول جميع المهتمين بالدين، حتى من غير العلماء من الذين لهم خدمات، ومن الذين لهم بذل أو عندهم ثروة أو عندهم قدرة، أفراداً أو هيئات أو جماعات، أن يُخصِّصوا من تبرعاتهم ما يكفل طلبة العلم، ما يكفل الدارسين، وما يكفل المدرسين، وما يكفل القائمين بهذا الأمر. وسيعرض لكثير منهم ما يكفيهم الله بهم ويغنيهم.
ولكن كما أشرتم، هذه عقبة قوية واقعة في رُبُطنا ومعاهدنا ومدارسنا الإسلامية، أن كثيراً من نُبهائها وكثيراً من نُجبائها تصدمهم الحاجات المعيشية، فينقطع أحياناً وهو مضطر، وأحياناً وهو متأسف ومتألم، فينقطع عن العلم تماماً.
الاتصال بالشيوخ
وما أشرتم له أيضاً أمر مهم في الاتصال بالشيوخ مهما ارتقى رتبة الطالب واتسع في العلوم، اتصاله بالشيوخ هو الذي يوصله إلى حقائق الرسوخ، وهو الذي يحميه مما يُداخله أو ينازله مما يشعر به ومما لا يشعر به كذلك، فدوام اتصالهم بالشيوخ، ودوام استزادتهم في العلم، ودوام حسن إفادتهم وتبليغهم وتبيينهم، واختراعهم الوسائل والأساليب التي بها يوصلون حقائق الدين إلى الأذهان وللقلوب وللعقول وللنفوس، وتلامس شغاف القلوب.
هذا أمر يتسع المجال فيه إذا كُفوا المؤونة في كثير من الأمور، وإن كان النادر النادر هو الذي مهما كانت ظروفه وأحواله، مهما صعبت عليه، لا يتأخر عن حسن التقديم لأمر الله وأمر الرسول والبيان فيه، وهذا نوادر جداً في الأمة.
الأوقاف ودورها في نهضة العلم
فتعيَّن أن هذا الأمر الذي كان أيضاً عليه في القرون الأولى مِن سبب نبوغ الكثير وظهور النبوغ: أن أوقاف المسلمين كانت مصروفة في محلها، وكانت كافلة للمتعلمين وللمعلمين وللدعاة وللمصلحين من الأمة وللمتعبدين والزُهّاد، فكانت هذه الأوقاف تكفلهم في شؤون حياتهم، فلا يلتفتون إليها ولا يعوقهم شيء من هذه العوائق التي تعرض.
ختام ودعاء
فالله يأخذ بالأيدي ويُثبّت الأقدام، وأن يبارك لطلابنا وأحبابنا في افتتاح هذه الجلسة معكم لتكون نواة أيضاً لانتخاب واصطفاء جماعة من طلبة العلم يتوجّهون في هذا المجال لإحياء الدين من هذا الوجه، وهو الاتصال بصاحب الشريعة وخاتم الرسل ﷺ.
كان يقول الإمام الشافعي: "من كتب الحديث قويت حُجّته". الحجة كما أشرتم لها، سواء في علم العقائد أو في علوم الفقه وأصوله، أو في بقية العلوم المتصلة بالدين من علوم التزكية وما إليها؛ الحديث فيها هو الركيزة القوية في إقامة الحُجة وتوضيح المَحجة.
فالحمد لله الذي هيّأ هذه الأسباب، وأمتع الله بكم، وضاعف الخير لكم وعلى أيديكم، وشرح الله الصدور، وأحيا في الأمة ما مات، وردّ فيها ما فات من هذه الوجهات الصادقات والهمم الزاكيات.
والحمد لله تعالى، وقد سررنا بوصول ابنكم إلى الديار المباركة في حضرموت، وقضاء أيام وزيارته لأماكن العلم وللعلماء، وكان برفقته الشيخ ياسر ومن اهتموا بذلك الموضوع، وكانت هناك مجالسات وخيرات، ولا تزال الأمة في حاجة شديدة إلى وِصلة رحم العلم، والعلم رَحِم بين أهله.
ونتمنى إن شاء الله يسّر الله لكم قوة وصحة وعافية ومجيئاً إلى تريم وحضرموت، والتي قد أحطتم بالكثير من أخبارها وشؤونها على مدى القرون، جمعنا الله وإياكم في جمع بركة الشام واليمن بدعوة النبي المؤتمن، فيما جَمع من تلك الدعوة التي نرجو بها أن يتم تحقيق كبير في نُصرة الحق والهدى، وفي إقامة هذا الدين وتجديده.
شرح الله الصدور، وبارك لنا ولكم في البطون والظهور، ورعاكُم الله بعين عنايته، وجزاكم الله خير الجزاء، وسامحونا على ما تحدّثنا به وتكلمناه وتطفّلنا به في المائدة المباركة لهؤلاء الطلاب الذين نسأل الله أن يقوّي عزائمهم، ويُخلص بواطنهم في نياتهم ومقاصدهم، ويحيطهم بالعناية والتأييد والتسديد، حتى يخدموا خدمة قوية متينة للحق ولرسوله من خلال هذا الحديث وهذه الدروس التي سيتلقونها عنكم.
شرح الله صدورهم، ونوَّر الله قلوبهم، وألهمهم الرشد، ورزقهم التفاني في الخدمة لهذا الدين بكل ما أوتوا، وجعلنا وإياكم وإياهم من خواص الذين يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وشُكراً لكم على نصائحكم، وجمعنا الله وإياكم على الخير، والسلام عليكم أجمعين ورحمة الله وبركاته.
08 مُحرَّم 1447