(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الهدى، بمنطقة غيل بن يمين، وادي حضرموت، 16 محرم 1442هـ بعنوان: واجب المؤمن في وعي رسالة رسول الله وتنفيذ مقتضاها في الحياة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ للهِ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خالقُ الأرضين والسماوات، ومكوِّنُ جميعِ الكائنات، منه بدايةُ كلِّ شيءٍ وإليه النهايات، يجمعُ الأولينَ والآخرِين ليومِ الميقات، وهم فريقان، فريقٌ في السعيرِ وفريقٌ في الجنَّات. وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، ختمَ اللهُ به النُّبوَّة والرسالات، وجعلَه أكرمَ أهلِ الأرضِ والسماوات، وأعظمَهم لديهِ منزلةً وأرفعَهم في المراتبِ الرفيعات.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المجتبى المصطفى المختار المهاجر الناصر لك ولما أوحيتَ ولدِينِك سيدِنا محمد، وعلى آلِه وأهل بيتِه المطهَّرين وأصحابِه الغُرِّ الميامين، الأنصارِ والمهاجرين، ومَن والاهم فيكَ واتَّبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلى جميعِ الأنبياءِ والمرسلين وآلهِم وصحبِهم والتابعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، تقوى اللهِ التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا علَيها.
تقوى إلهِ العالمينَ فإنها عِزٌّ ** وحِرْزٌ في الدٌّنَا والمَرْجَعِ
فيها غنى الدارين فاستمسك بها ** والْزَم تَنَل ما تشتهيه وتدَّعِ
واعلموا أنَّ: مَن اتَّقى اللهَ عاش قويَّاً وسَارَ في بلاد الله آمنا.
ومَن ضيَّع التقوى وأهملَ أمرَها ** تغشَّتهُ في العُقبَى فنونُ الندامةِ
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: معنى تقوى الله: أن تَتَوَقَّى وتحذرَ سخطَه وغضبَه، بأن تمتثلَ أوامرَه وتجتنِبَ ما نهاكَ عنه، إيماناً به، وتصديقاً بلقائه واستعداداً لذاك اللقاء.
أيها المؤمن بالله جَلَّ جلاله: شرفُ الإيمانِ ما فوقَه شرف، ومَن لم يدركْ هذا الشرفَ فلن تُشَرِّفَه الديارُ ولا القصور ولا المنازل، ولا معادنُ الذهبِ والفضةِ والبترول والديزل، ولا الشركات ولا المؤسسات ولا دولُ الأرض؛ مَن فقدَ الإيمانَ بالله فهو خاسرٌ وهو شقيٌّ وهو حطبُ جهنَّمَ إذا بلغَتهُ دعوةُ الله فلم يَستجِب لها. فشرفُ الإنسانِ بالإيمانِ بربِّهِ وتصديقِه بما أوحاه إلى رسوله محمد، فهي أعظم نعمة يُنعِمُ الله بها على الإنسانِ على ظهرِ هذه الأرض {قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وكان الناسُ على كفرٍ وضلالٍ وبَغْيٍ وعدوانٍ وظلمٍ وزنا وفواحشَ وشُربِ خمورٍ وقتالٍ وحروبٍ بالباطلِ ولأجلِ المقاصدِ الدنيا، فبعث اللهُ ربُّ السماواتِ والأرضِ خاتِمَ النبيِّين نبيَّكم محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودينِ الحقِّ ليُعَلِّم الناسَ أنَّ خالقَهم خلقَهم لعبادتِه، وأنَّ شرفَهم في الإيمانِ به والعملِ بمنهاجِه وشريعته، وأنَّ لهم بعدَ هذه الحياة حياةُ برزخٍ ثم بعثٌ ونشورٌ وقيامٌ في الساعة ثم خلودٌ إما في الجنة وإما في النار؛ لهذا خلقَ اللهُ عبادَه. وقال في أولِ دعوتِه عندما جَهَرَ بها: (إني لكم نذيرٌ بين يدَي عذابٍ شديد، والله لتموتُنَّ كما تنامون ولتبعثُنَّ كما تستيقظون، وإنها الجنةُ أبداً أو النارُ أبدا).
هذا المصيرُ الأكبر، هذا المستقبلُ الأعظمُ الأخطر، خلودٌ إما في الجنة وإما في النار، فمَن كانَ مصيرُه النارَ أبداً أيُغنِي عنه أنَّه كانَ صاحبَ رصيدٍ في البنك؟ أنه كان صاحبَ حضارة؟ أنه كان يملكُ شركات؟ أنه كان رئيسَ دولة؟ أيُغنيه شيءٌ مِن هذا؟ هل ينفعُه شيءٌ مِن هذا؟ هل يفيدُه شيءٌ من هذا؟ ومصيرُه النار!
كلُّ مَن كفرَ باللهِ وماتَ على التكذيبِ بما جاء به محمدُ بن عبدِ الله فمصيرُه النار، فإن كانَ مؤمناً ولكنَّه يتركُ الصلاة أو يمنع الزكاة أو يَعُقُّ الوالدين أو يَزني أو يُرَابِي أو يَسرِق أو يعتدي ولم يتُب من ذلك عُذِّبَ على قدرِ ما لم يعفُ اللهُ عنه مِن ذنوبِه هذه، ثم يُنقَلُ إلى الجنةِ بعدَ عذابٍ شديدٍ لا يُطاق، أنت لا تُطيقُ جَمرَ الدنيا دقيقة ولو كُلِّفتَ أن تحملَ جمرةً مِن نارِ الدنيا دقيقةً واحدة بأعظمِ مبلغٍ ما رضيتَ بذلك؛ فكيف بنارٍ وَقودُها الناسُ والحجارةُ أشدُّ حرارةً مِن نارِ الدنيا بسبعينَ ضِعفا! قالوا لنبِيِّنا: إن كانت لكافيةً يا رسول الله، قال: (فإنها فُضِّلَت عليها بسبعين ضعفا) فُضِّلت على حرارةِ نارِ الدنيا بسبعينَ ضعفا، هي مأوى عصاةِ الله والكافرين بالله جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون: أنتم في جمعةٍ تجتمعُ فيها القلوبُ على الرَّبِّ الذي خلقَكم مِن أجل عبادتِه وطاعتِه وتذكُّرِ منهاجِه الذي بعثَ به نبيَّه المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال جَلَّ جلاله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يبلِّغهم دعوةَ الله ويتلُو القرآن. ما نصيبُك مِن القرآنِ أيُّها المؤمن؟ استقبلَكَ عامٌ جديد، كم قرأتَ من ختمات في العام الذي مضى؟ العام الحادي والأربعين بعد الأربع مائة والألف من هجرة نبيِّك المصطفى ودخلَك العام الثاني بعد الأربعين والأربع مائة والألف مِن هجرة هذا النبيِّ المصطفى.. ولماذا هاجر؟ مِن أجل أن تَنْعَمَ بـ "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله"، مِن أجل أن تُنقَذَ مِن النار، مِن أجل تبلغَك دعوة الله، هاجر مِن مكةَ وكان يحب مكة، ولكن خرج منها كُرهاً لأذى الكفار والمشركين له، فخرج مصابراً، وخرج مجاهداً، وخرج مُحتسباً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، حتى وصلَ المدينةَ ووجد المحبةَ هناك..
ما نصيبُك مِن تلاوتِه للقرآن؟ ما نصيبُ أولادِك مِن القرآن؟ أعندك فخرٌ أن يحفظ القرآن ويعمل به فتُلبَس أنت وأمه يوم القيامة تاجاً مِن نورٍ، ضوؤُه أحسن مِن ضوء الشمسِ في بيوت الدنيا.. تحب هذا؟ أم أنت فقط أُغريتَ بأن يكونَ ولدُك يَرُدُّ لك دخلاً بالعملة الجنبية، يرد دَخْلَاً بالدولار والريالات السعودية والدراهم الاماراتية والجنيهات الإسترلينية.. هذا مطلبُك!؟ تُشبِه الكافر!؟ تُشبِه مَن لا يؤمِن باليوم الآخر!؟ ما عندك مطلب أن يكون لك ولد يحفظ كتابَ الله ويعمل به!؟.. (من حفظ القرآنَ وعمل به أُلبِس والداه –أبوه وأمه- يوم القيامة تاجا من نور ضوؤه أحسن من ضوءِ الشمس في بيوت الدنيا). واللهِ إن هذا التاجَ أغلى مِن جميع دولارات الأرض وجنيهاتِها وريالاتها ودراهمِها، والله العظيم هذا التاج أشرف، هذا التاج أغلى وأثمنُ وأحسن، هذا التاج أنعمُ وأكرم لمن كُرِّمَ بهذا التاج يوم القيامة. قال نبينا: هذا لوالديه فما الظنُّ بالذي عمل؟. هذا نصيبُ وحظُّ والديه مِن حفظِه للقرآنِ، لأنهما فرَّغاه للقرآنِ وللعمل. لا قرآنَ وحفظَ مِن غير عمل، لا حفظَ للقرآن وسب للأحياء والأموات..لا، لا حفظ للقرآن وقطيعة للرحم..لا، فإنَّ القرآنَ يلعنُ قُطَّاعَ الرَّحِم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ}، لا حفظَ للقرآن واحتقارَ للمؤمنين، ولا تكفير، ولا إيذاء، ولا ضرر، لا حفظَ للقرآن وكبر في القلب، فإنَّ القرآن يربي القلوب والنفوس على الخضوع للهِ والتواضع {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} ، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} واخشَع لربِّك جل جلاله وتعالى في علاه {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} يقول من أُنِزل عليه القرآن: (لا يدخلُ الجنةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كبر). لكن حفظ قرآن وتواضع، وخشوع، وأدب، وترحُّم على الأحياء والأموات، وصلة للأرحام، وبر للوالدين، وقيام في الليل، وحضور في المسجد، وخشوع في القلب {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ودعوة إلى الله، هذا الحافظ للقرآن العامل به لوالديه تاجٌ مِن نور أحسنُ مِن ضوءِ الشمس.. فما الظنُّ بالذي عمِل ماذا يعطيه الله؟ وبماذا يكرمُه في يوم الموافاة!
يا أيها المؤمنون بالله جل جلاله: أحضِروا قلوبَكم، ما مقصودُ الجمعة إلا أن تُحسِنوا التفكيرَ في هذا الأمرِ الكبير الخطير، وهذه الحقائق التي جاءتنا مِن عند الخالق وإليها مرجعُ جميعِ الخلائق، مَن آمنَ ومَن كفر، من صدَّق ومن كذَّب، من أقبلَ ومَن أدبر؛ مرجعُهم إلى هذا وإلى هذا الحكم وإلى هذا الحال في الآخرة، إن كان مؤمن وإن كان ملحد وإن كان كافر وإن كان مجوسي وإن كان يهودي وإن كان نصراني وإن كان شيوعي وإن كان ما يكون مرجعُه إلى هذا {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ..} قيح وصديد يخرج مِن فروجِ الزنا والزناة في النار يتجمع فيُسقَونَه أهل النار، يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} الإبل العطشَى كم تشرب؟ قال مِن هذا الحميم تشربون شراباً كثير كما تشربُ الإبلُ العطشانة تأخذ حوض كامل وتشربه وأنت تشرب من الحميم والزقوم يا أيها المكذب باليوم الآخر {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ}
" نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ" أخلقوا أنفسهم؟ أم خلقهم آباؤهم وأمهاتُهم؟ أم خلقتهم الشركات؟ أم خلقَتهم الدول والحكومات؟ أم خلقتهم الحضارات؟ أم خلقَتهم التكنولوجيا؟ مَن خلقَهم؟! {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ} سبحان خالق السماوات والأرض.
خذ نصيبَك مِن القرآن، وتدبَّره، واجعل بيتَك معموراً بالقرآن، بيتُ المؤمن ما يمتاز بالتلفاز ولا بالفرش ولا بالثلاجة ولا بالمكيِّف؛ هذه موجودة عند اليهودي والنصراني والملحد والكافر؛ بيت المؤمن مِيزتُه قرآن، مِيزتُه سنة محمد، ميزتُه ذكر الله، قال نبينا: (البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يتراءى لأهلِ السماء كما تتراءَى النجومُ لأهل الأرض).
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} يُطَهِّر قلوبَهم، يُزَكِّي نفوسَهم مِن الكبر، مِن العجب، مِن الغرور بالدنيا والمتاعِ الفاني، مِن الرياء، مِن الحقد، من الحسد {وَيُزَكِّيهِمْ} صلى الله عليه وسلم.. يطهِّر قلوبَهم مِن الصفاتِ المذمومةِ التي يُخزَى أصحابُها يوم القيامة، قال سيدُنا خليلُ الله إبراهيمُ في دعائه للرب: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، لا يحقدُ على الناس، لا يتكبَّرُ على الناس، لا يرائي بأعمالِ الطاعات والعبادات، لا يغضبُ إلا لله، ولا يرضَى إلا لله.
هذا القلب السليمُ أيها المؤمنون بالله، صاحبُه لا يُخزَى يومَ القيامة، سيدُنا الخليل قال: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}، وقال الله عن نبيِّنا محمد: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} فالله يجعلنا مِن الذين آمنوا معَه {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}.
هكذا بعثَ اللهُ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم معلِّماً وداعياً ومزكِّيا ومربِّيا {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}. جعلنا الله وإياكم ممَّن أصغَى للآيات وعظَّمَها وعملَ بها وتزكَّى وتطهَّر عن القاذورات كلِّها.
اللهم طهِّر قلوبَنا عن جميعِ الأمراض واكفِنا العِللَ والأعراضَ والفتنَ والمِحَنَ والفيروساتِ والشدائدَ والأذايا في الظواهر وللخفايا يا ربَّ العالمين.
واللهُ يقولُ وقولهُ الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
باركَ اللهُ لي ولَكُم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيهِ مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِهِ وعذابه الأليم.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ فاستَغفِروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيم.
الحمد لله مولانا الذي خلقَنا وإليه مرجعُنا ومصيرُنا، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، بيدِه تدبيرُنا وتقديرُنا، لا إلهَ إلا هو، منه المبتدأ وإليهِ المصير، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويُميتُ وهو حيٌّ لا يموتُ بيدِه الخيرُ، وهو على كلِّ شيء قدير، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، مَن صلَّى عليه واحدةً صلى الله عليه بها عشرا، وآتاه فضلاً وأجرا، وهو القائلُ في حديثِه الصحيح فيما روى الترمذي وغيره: (إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة). اللهم أدم صلواتِك على خيرِ برياتك عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومَن في منهاجه سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادنِ الأنوار وعلى آلِهم وصحبِهم ومَن سار بمَسارِهم خيرَ مسار، وعلى الملائكة المقرَّبين وعبادِك الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله..
فاتقوا اللهَ، اتقوا اللهَ في أعمارِكم التي تمرُّ بكم، هل مَرَّ العام الماضي فلم يُغيِّب منكم وجوهاً كثيرة؟ بأسبابٍ متنوعةٍ متعدِّدة، والموت واحد، فيه لقاءُ الأحد الواحد، غابت وجوهٌ كثيرةٌ كانت في العام الماضي بين أظهرِكم وبين يديكم في الدنيا وهي الآن تحتَ التراب، وهذا مصيرُنا كلُّنا، وهذه نهايتُنا كلُّنا، مرجعُك إلى بطنِ هذه الأرضِ بعد أن كنتَ في ظهرِها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون بالله: اتقوا اللهَ في مرورِ الأيام، واعزِموا في هذه السنةِ أن لا يبقى في بيوتكم إلا تحكيمُ الحقِّ ورسوله محمد، وأن تقوموا بحسنِ الاستماع لتلاوةِ الآيات وتزكيةِ النفوس بواسطةِ العلم النافع {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
وفي سورة الجمعة أشارَ إلى كلِّ الأخيارِ الذين يأتونَ في الأمة قرناً بعد قرن، قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} بعد أن قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} قال {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} جيلاً بعد جيل من كُلِّ مَنِ استقامَ على أمرِ الله جل جلاله..
شرفُك بالإيمان، فتشرَّف بالشرفِ المؤبَّد الخالد، بتقوى الإله الواحد جلَّ جلاله، والعملِ بما جاء عن نبيِّك محمد صلى الله عليه وسلم في طهارةِ قلبِك ومحبَّتِك للمؤمنين {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
أيها المؤمنون بالله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، قال ابن عباس: "للعلماءِ فوقَ المؤمنينَ ثلاثُ مائةِ درجة، ما بين الدرجةِ والدرجة كما بينَ السماءِ والأرض". لمَن تعلَّم علمَ الشريعة مخلصاً؛ وعلامتُه أن يَكثُرَ خوفُه مِن الله وخشيتُه بشاهدِ ما قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
العلمُ بالأعمال يزكو وبالأحوال ** وليس بالأقوالِ وكثرة ِالجدالِ
"العلم خشية كُلُّه ** يُعرَف بذاك أهله"
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يشفعُ يومَ القيامة ثلاثة، الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء)، فأكرِم برتبةٍ تلي النبوَّةَ وفوقَ الشهادة "الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء". ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام الترمذي في سننِه وغيرُه: (مَن خرجَ في طلبِ العلم فهو في سبيلِ اللهِ حتى يرجع).
أيها المؤمن: وإذا تعلَّم ولدُك علمَ الشريعةِ وقام بحقِّها فقد كانَ خليفةً عن سيدنا محمدِ بن عبد الله (العلماء ورثة الأنبياء)، (اللهم ارحم خلفائي) قالوا: ومن خلفاؤك يا رسولَ الله؟ قال: (قومٌ يأتونَ مِن بعدي يتعلَّمون سنَّتي ويعلمونَها عبادَ الله) وفي رواية: (يتعلمون أحاديثي ويروونَها للناس). هؤلاء خلفاءُ النبي محمد، وأنعِم برجل عنده ولد خليفة من خلفاء رسول الله محمد لن يناله إلا بأخذ العلم بحقه بسنده.. علم الخشية، علم الإنابة، علم مقرونٌ بالعمل والإخلاص لوجه الله عَزَّ وجل، بذلك ترتفعُ الدرجات، وتُنَالُ المكرمات من ربِّ الأرض والسماوات، و: (إنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها لطالب العلم رضاً بما يصنع).
فاعلموا مهمَّتكم الكبيرةَ في الحياة، وتعاونكم على العلم، والعملِ بالعلم، وعلى الدعوةِ إلى الله تبارك وتعالى (فوالله لأن يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مِن حُمْرِ النِّعم). ترضى أن يمرَّ عمرُك ما اهتدَى بك واحد، كان لا يصلِّي فأصبحَ يصلي، كان عاقّاً والديه فأصبح بارّاً، كان شاربَ خمر أو مُسكِرات أو مخدِّرات فأقلعَ عنها وصارَ يشربُ الحلال.. يمرُّ عمرُك ولا يهتدي على يدِكَ واحد!! هذا عمرٌ أنتَ فيه مغبون! ما فائدة الحياة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (مَن دعا إلى هدىً كان له مِن الأجرِ مثلَ أجرِ مَن تبعَه دون أن ينقصَ مِن أجورهم شيء، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه مِن الإثمِ مثلَ إثمِ مَن تبعَه لا ينقصُ ذلك مِن آثامِهم شيء).
وعنوان الهدى: أدبٌ وتواضعٌ وخشوعٌ ورِقَّةُ قلبٍ وحسنُ ظنٍّ بالعبادِ وتجنُّبٌ للإضرارِ وبعدٌ عن السِّبَابِ والشتائم، هذه مظاهرُ الهدى. ومظاهر الضلال: كبرٌ وعجبٌ ورياءٌ وسَبٌّ وشتمٌ، روى البخاري ومسلم عن نبيِّنا محمد: (سبابُ المسلم فسوق وقتاله كفر) "سباب المسلم" سبَّك للمسلم فسوق، قتالُك له استحلالُك لدمِه كفرٌ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، (إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحرمةِ يومِكم هذا في بلدِكم هذا في شهرِكم هذا، ألا هل بلَّغتُ؟) قالوا: بلَّغتَ يا رسولَ الله. – وهو في مِنى في شهرِ ذي الحجة في بلدِ الله الحرام- قال: (ألا فلا تَرجعُوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) قال: هل بلغتُ؟ قالوا: بلَّغتَ يا رسولَ الله. رفع إصبعَه إلى السماء وردَّها عليهم يقول: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد). شهدَ اللهُ، ونشهدُ أنَّ رسولَ الله بلَّغ.. لكن كيف صِرنا مِن بعدِه!؟ رسولُ الله بلَّغ، فهل أخذتَ حقَّ البلاغِ وقُمتَ به؟
إنها مهمةٌ كبيرة ولن يُنجيَك منها صدِّيقٌ ولا صاحبٌ ولا نفسٌ ولا هوى، وستَرِدُ للوقوفِ بين يدي عالمِ السرِّ والنجوى {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ}
فتعاونوا على البرِّ والتقوى، واشكروا الذي جمعَكم على هذه الخيرات. وما أنتم فيه مِن أمنٍ أو طمأنينةٍ أو تيسيرِ شيء مِن الخيرِ أو الرزقِ فمِنهُ وحدَه لا شريكَ له.
والدنيا وجميعُ متاعها إن كان يأتي بمعصيةٍ لله فأُفٍّ له وتبَّاً له وبئسَ هو، والجوعُ خيرٌ منه، وما جاء مِن مرضاةِ الله وفي طاعةِ اللهِ وصُرِفَ لصِلَةِ الأرحام وللمحتاجين وللمتضرِّرين ولعمارةِ المساجد والخيرِ فأنعِم به وأكرِم به، ونعمَ المالُ الصالحُ للرجلِ الصالح.
ولا يدخلُ إلى يديك قليلٌ ولا كثيرٌ إلا ولكَ فيه سؤالان؛ مِن أين أخذتَه وفيمَ أنفقتَه؟ كل ريال ولو ريال واحد يمني دخل إليك تُسأَل: من أين أخذتَه وفيمَ أنفقته؟ (لا تزولُ قدما عبدٍ على الصراطِ يوم القيامة..) -ينصب الله الصراط؛ جسم دقيق أدقُّ مِن الشعرة فوقَ متنِ النار في طول ثلاثة آلاف سنة، المرور على قدرِ الإيمان والعمل الصالح.. هذه طائراتُهم وهذه سياراتُهم وهذه مراكبهم؛ الإيمان والعمل الصالح- (.. فمنهم مَن يمرُّ أسرع مِن لمحِ البصر، ومنهم مَن يمرُّ كالبرقِ الخاطف، ومنهم مَن يمرُّ كالجوادِ السريع، ومنهم من يمرُّ يجري، ومنهم من يمرُّ يمشي، ومنهم لضعفِ إيمانِه وضعفِ العمل الصالح لا يستطيع أن يقوم فيَحبُو) متى يصل هذا الذي يحبو!! (إذا وُضع الصراط) قال: (لا تزولُ قدمَا عبدٍ عن الصراطِ يومَ القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عمرِه فيما أفناه..) –العمر عامة، وخصوصا منه:- و: (عن شبابِه فيما أبلاه) -من سنِّ الخامسة عشر إلى سنِّ الأربعين ماذا أبليتَ في هذه المدة وهذا الوقت!؟ سؤال مخصوص عن الشباب- (، وعن علمِه ماذا عملَ فيه، وعن مالِه مِن أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه؟) بعد السؤال عن الأربع إما يمرُّ على الصراطِ أو يسقطُ في النار..
جعلنا اللهُ ممَّن يمرُّ على الصراط في أسرع مِن لمحِ البصر، قال ربي: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يعني بالمرور على الصراط وارد على النار {كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. وفي الحديث الصحيح قال سيدُنا أنس بن مالك رضي الله عنه -خادم النبي: يا رسولَ الله أسألكَ الشفاعةَ يومَ القيامة؟. قال: إني فاعلٌ إن شاء الله. قال: فأين أجدُكَ يا رسولَ الله؟ قال: اطلبني على الميزان. قال: فإن لم أجدْكَ؟ قال: اطلبني على الصراط. قال: فإن لم أجدْكَ؟. قال: فاطلبني على الحوضِ، فإني لا أخطئ هذه المواضع الثلاثة. صلى الله عليه وسلم..
لماذا عند الميزان؟ عند وزنِ أعمالِ أمَّته؟ لأجلِ الشفاعة لأمته، لماذا على الصراط؟ لأجل المرورِ والعبور، ولماذا على الحوض؟ ليسقي أمَّتَه. ما أرحمَه.. في يوم يهربُ الأخ مِن أخيه والأب من ابنه والأم من ولدها وهذا يقفُ في المواقف الصعبة ليشفعَ للأمة! كلٌّ يقول "نفسي" وهو يقو: "أنا لها"!..
ما أعظم مقامَ هذا الذي هاجر، ثلاث ليالي قضَّاها في غارِ ثور، الطلوع عليه الآن في الطريقِ المعبَّدة يستغرقُ ساعتين، وجلس النبيُّ وسطَ الغار لا فراش ولا سرير! ينامُ على الحجرِ وفوق رجلِ أبي بكر الصديق.. ثلاث ليالي وسطَ هذا الغار! هل تذكرُه أو لا تذكره وأنت على فراشك؟ ناسي نبيك؟ ناسي أنه بلَّغكَ هذه الرسالة بهذا التعب؟ صلى الله عليه وسلم، ووصلَ المشركون ونظرَ أبوبكر الصديق إلى أقدامِهم قال: يا رسولَ الله لو نظرَ أحدُهم موضعَ قدمَيه لرآنا! يا رسولَ الله إن أهلك أنا فإنما أنا ابنُ أبي قحافة لكن إن تَهلك تهلك الأمة!. قال: يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟ لا تحزنْ إنَّ اللهَ معنا.
اسألوا أبا بكر ونصرته، نصَّ الله على صُحبته بالقرآن { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} حتى قال علماؤنا: "مَن أنكر صحبةَ أي صحابي يفسُق؛ لكن مَن أنكرَ صحبةَ أبي بكر الصديق يكفر"، لأنَّ القرآنَ يقول {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فهو صاحبُ رسولِ اللهِ بنصِّ القرآن.
لمَّا أرادَ الدخولَ أولَ مرَّةٍ إلى الغار قال: انتظر يا رسولَ الله. تقدَّم ليتفقَّدَ الثقوبَ في الغار، يخاف أن يكون فيها حيوان يؤذي النبي.. معه رداء.. فقطَّعه وسدَّ الثغورَ كلَّها.. باقي واحد.. وضع رجلَه عليه وقال: اُدخل يا رسول الله. وجلس وألقمَه عقبَه -مؤخرة رجله- غطَّى بها هذا الثقبَ وسط الغار، إن كان فيها حيوان لا يصل إلى النبي فصادف أنه في هذا الثقب حيَّة -حنش- وسط هذا الثقب، ونام رسولُ الله من تعب الطلوع والصعود إلى الجبل على رجلِ أبي بكر، وإذا بالحيَّة تخرج وتنهشُ أبا بكر، ولدغَته أوَّلَ لدغةٍ، فصبرَ حتى لا يُكَدِّرَ على رسولِ الله نومَه حتى لا يزعجَه مِن نومِه تحمَّل لَسعةَ الحيَّة.
تعرف المحبة؟ تعرف الإيمان؟ تعرف الشعورَ نحو هذا النبي؟ لسعة حيَّة ما هو بعوضة ما هو نملة ولا ذرَّة؛ لسعة حيَّة! وثاني لسعة وثالث لسعة.. حتى من شدة الألم دمعَت عيناه ووقعت قطرةٌ على وجهِ رسولِ الله فانتبه، قال: ما لك يا أبا بكر؟. قال: حيَّة تنهشُني في رجلي يا رسولَ الله. قال: ناولنِي رجلك. فبصقَ عليه فكأن لم يكُن به شيء، وأخرجوا الحيَة وقتلوها.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
انصروا اللهَ ورسوله، وأحيوا سنَّتَه، وربُّوا أولادَكم على ذلك، وتعاونوا على البرِّ والتقوى.
شرح الله صدورَكم، وأدام الخيورَ في هذه المناطقِ والبلدان، وأقام أهلَها على التواصي بالحقِّ والصبرِ والإيمانِ والعملِ الصالح.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ومشائخنا وذوي الحقوق علينا وللمؤمنين والمؤمنات يا خيرَ الغافرين.
اللهم فرِّج كروبَ المسلمين وردَّ كيدَ أعدائك أعداءِ الدين مِن الكافرين والفاجرين والمنافقين والمعتدين والظالمين، اكفِ المسلمين جميعَ شرورِهم، وحقِّقنا بحقائقِ "لا إله إلا الله"، وأصلِح للمسلمين جميعَ أمورِهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على خيرِ الأنام فإنَّ ربَّ العرشِ بدأ بنفسِه وثنَّى بالملائكةِ وأيَّهَ بالمؤمنينَ فقال مُخبِراً وآمِرَاً تكريماً وتعظيماً: {إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
اللهم صَلِّ وسلِّم على عبدِكَ المصطفى سيِّدِنا محمدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسهِ في الغار، مُؤازرِ رسولِك في حالَيِ السَّعَةِ والضِّيق؛ خليفةِ رسولِكَ سيِّدِنا أبي بكرٍ الصِّديق. وعلى النَّاطِقِ بالصَّوَابِ، حليفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمر بن الخطاب. وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أمير المؤمنين سيِّدِنا عثمانَ بن عفان. وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أميرِ المؤمنين سيدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى الحسَنِ والحُسينِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنةِ ورَيحَانَتي نبيِّك بِنصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهِما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى وأمهات المؤمنين، وعلى الحمزةَ والعَبَّاس عمَّي نبيِّك وآله وأهل بيتِه الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ وأهل بدرٍ وأهلِ أحدٍ وأهلِ بيعةِ الرضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا مَعهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفِر لنا ولوالدينا ومشائخِنا وذوي الحقوق علينا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم وموتاهم أوسعَ المغفرة يا ربَّ الأرضين والسماوات.
اللهم بارِك في أعمارِنا واجعَل هذا العامَ مِن أبركِ الأعوامِ على أمَّةِ نبيِّك محمد، وارزقنا الإيمانَ والعملَ الصالحَ والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، واصرِفنا مِن هذه الجمعةِ والقلوبُ عليك مجموعة، والدعواتُ عندكَ مسموعة، وأعمالُنا الصالحةُ مقبولةٌ مرفوعةٌ، برحمتك يا أرحم الراحمين،يا مَن إليه يصعدُ الكلمُ الطيبُ والعملُ الصالح يرفعُه.
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} {وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
اجعلنا مِن أنصارِك وأنصارِ رسولِكَ المصطفى وأنصارِ شريعتِه وهَديِه وملَّتِهِ وسنَّتِه وصحابتِه وأهل بيتِه وخلفائه وورثتِه والخادمين لأمَّتِه والنافعين لهم بأعظمِ النَّفعِ يا ربَّ العالمين. جعلتَ أحبَّ الخلقِ إليك أنفعَهم للخلقِ والعبادِ فاجعلنا مِن أنفعِ الأمة للأمة، وأبركَ الأمةِ على الأمة، وأنفَعنا بالأمةِ عامَّة وبخاصَّتِها خاصة، يا رب العالمين.
اللهم اختِم لنا بـ "لا إله إلا الله"، واجعل آخرَ كلامَ كلِّ واحدٍ مِنَّا مِن حياتِه الدنيا "لا إله إلا الله" متحقِّقاً بحقائقِها، واحشُرنا في زمرةِ كُمَّلِ أهلِها وأنت راضٍ عنَّا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
ربَّنا أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا مِن كلِّ خير، واجعل الموتَ راحةً لنا مِن كُلِّ شَرٍّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
عبادَ اللهِ: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاثٍ ونهَى عن ثلاث:
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذْكُركُم، واشكروهُ على نِعَمهِ يَزِدكُم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبر.
19 مُحرَّم 1442